02 December 2009

ابقى راضيني


بينما كنت أتمنى أن ينقضي سريعا كابوس وجودي في الشارع في يوم عيد ما، قبل عدة سنوات، وأنا محشور في ميكروباص محشور في إشارة على الكورنيش، استمعت لأول مرة إلى أغنية "دنجا دنجا" أو "سوق بينا يا إسطى على الكورنيش ناكل درة ونشرب مانجه".
بخلاف أن لحنها كان جميلا ببساطة، فالكلمات التي تتغنى بلحظة الفسحة على الكرونيش جعلت من ضوضاء الزحام خلفية متوقعة ومتناغمة. لكن صوت المطرب أو المطربة - لم أستطع أن أحدد- كان غامضا بعض الشيء وكأنه محشور أيضا وسط الأغنية أو هكذا شعرت.




فيما بعد، وبعد أن تكرر إعجابي واستمتاعي بها، وفي الغالب كانت أيام أعياد أو مناسبات نشاط الكورنيش، بحثت عن الأغنية لأعرف أنها كات في ألبوم "هاي كواليتي 7" وأن اسم المطرب أو المطربة هو "روح الفؤاد".
لا يهم، حصلت على الأغنية من موقع ما وأصبحت أستمع إليها أحيانا. وبعد فترة ضاعت الأغنية مني وسط زحام الملفات، ثم جدد عيد ما علاقتي بها فبحثت عنها مرة أخرى فكان أن وقعت على صفحة في منتدى "سماعي" مخصصة للفنانة روح الفؤاد تقول أنها مطربة اسكندرانية وأن لها اسطوانتين سجلتا وطبعتا في ألمانيا إحداهما بعنوان "دنجا دنجا" وقام بتوزيع الأغاني لها الموسيقار هاني مهنا الذي كان منتج الاسطوانتين.
حصلت من "سماعي" على التسجيل الأصلي لأغنية "دنجا دنجا" والذي ظهر فيه بهاء صوت روح الفؤاد، وأمتعني التوزيع الذي جعل الإيقاع أقرب لخطوات مسرعة لخيل الحناطير، لا يمكن أن أتخيل ان الأسطى في الأغنية هو سائق أي شيء آخر إلا حنطور.

قبل هذا العيد تذكرت الأغنية عندما انطلقت من كاسيت التاكسي الذي كان سائقه يقلب في محتويات مشغل أغاني إلكترونية ويبدو أنه ليس ملكه، لأنه بعد انتهاء الموال ضحك ساخرا من أن تقول أغنية "ناكل درة ونشرب مانجه" وقال إنها كانت من أوائل الأغاني الهابطة. سألته عن المشكلة تحديدا في أن نغني للفسحة على الكورنيش وأكل الذرة وشرب المانجو وعما يقصده بالأغنية الهابطة. نظر لي مستغربا وبدأ يشرح أن الأغاني الهابطة هي أغاني الهيصة والأفراح والأعياد والرقص، لكن "الأغاني الحقيقية" هي أغاني أم كلثوم وعبد الحليم. وعندما سألته ماذا يحب أن يسمع في الأفراح والأعياد التفت بسرعة ضاحكا: "الأغاني الهابطة طبعا !".
ضحكت وقلت له أن هناك مقطعا في الأغنية أحب أن يسمعه معظم المصريين الذين يفتقرون الآن للطف والذوق - الخاليين من المصلحة - وأخص بالذكر "المتجاهلين" من سائقي التاكسي. انتظرنا إلى نهاية الأغنية ولكني انتبهت إلى أن بعض كوبليهات الأغنية غير موجودة في نسخة هاي كواليتي وفيها الجزء المفضل عندي الذي أقصده: "لما أندهك ابقى راضيني، وتقول لي حاضر وآديني".
أخبرته بذلك فضحك: "مالكش نصيب بقى تقول حاجة!" ابتسمت قائلا له: "طب مشّي واحدة واحدة.. مشينا دنجا دنجا".






27 November 2009

يا بني إحنا عندنا ناس متسولين !


لأسباب شخصية، ربما، يبهرني الاعتراف البسيط بارتكاب الشر مع تسميته كذلك، اللجوء إلى سلوك مع وصفه بالانحطاط بلا مواربة. يبهرني أن غريزة ما تفصح عن نفسها بلا أي محاولة للتبرير في الوعي ولا أي محاولة للتحايل على اللغة المسكونة بالأخلاق. الغضب طاقة عظيمة تفجر الصراحة وتهدر اللياقة والمجاملة والتغاضي.
أعتقد أن كل هؤلاء - اللغة والأخلاق واللياقة والمجاملة والتغاضي- كادوا أن يوقفوا الشاب الجزائري صاحب الفيديو الشهير عندما وصل إلى نقطة مهمة : "دلوقتي مع وصول التذكرة إلى 5000 دينار جزائري، اللي راح يروح السودان دول ...". يتوجب عليه هنا أن يصف وصفا غاضبا مخيفا وملوحا بالشر والانحطاط المرعب، هو لن يتراجع ولكنه تخفيفا سيعتذر عن تخليه عن التغاضي عما يعتقده من انحطاط بعض أشقائه:" يعني إخواتي الجزائريين ما يتضايقوش من هذه النقطة .. راح يروح حثالة المجتمع ! اللي ما يشتغلش، اللي أمه مش هاتبكي عليه!".
كان هذا الفيديو بالطبع قبل المباراة الفاصلة في السودان. التي أخذ "المصريون" فيها على حين غرة، في كرة القدم وفي الانحطاط. أعرب الكثيرون من المصريين على شاشات الفضائيات وفي الصحف عن أسفهم من أننا لم نتمكن من حشد انحطاطنا المقابل، "لم نحشد أبناء إمبابة وبولاق وشبرا"، "أرسلنا جمهورا مهذبا وطريا".
الشاب المصري الذي رد عليه أكد أن "حثالتهم" ليسوا شيئا مقارنة بـ"حثالتنا" ويبدو أن أمر الخمسة آلاف دينار جزائري قد استفزه فقال: "يابني إحنا عندنا ناس متسولين!". ربما يقصد لدينا مستوى خاص من الانحطاط - بحسب نفس التصنيف الطبقي الذي اعتمده الجزائري - لا يملك حتى هذه الدنانير. ولكن المشكلة أن الحكومة المصرية لم تدعم الانحطاط - ويلومها الكثيرون الآن بوضوح على ذلك- ولذلك لم يتمكن "المتسولون" من الذهاب إلى الخرطوم لمواجهة أقرانهم.
لا يبدو لي هذا التفسير كافيا. نحتاج الآن للتسليم أن "حثالتهم" أكثر انحطاطا وشراسة من "متسولينا" الذين لم يتمكنوا هنا سوى من كسر زجاج سيارة المنتخب الجزائري، وحتى هذه الواقعة مشكوك في أمرها. ولكن الواضح وضوح الشمس أن طاقة الغضب التي فجرت طاقات النخب الإعلامية والفنية والثقافية في الجانبين قد أظهرت بما لا يدع مجالا للشك أن "حثالتنا" الحقيقة هي التي تتقاضى عشرات ومئات الآلاف والملايين لكي تعبّر.
لقد كان الإعلام المصري دائما رائدا، في كل العصور والاستعمالات والأغراض. وعندما حان الوقت ظل أيضا رائدا ومبهرا، على الأقل بالنسبة لي، في اللجوء لصراحة الغضب التي تطفح بما في القلب بلا لياقة أو مجاملة أوتغاض، في "تسوله" المزيد والمزيد من الطاقة المبهرة للغضب من "الحثالة التقليدية" التي لا دنانير لديها لتذهب ولا منابر لديها لتعبّر، في تعبيره بدلا منهم وباسمهم عن الأسف لعدم التمكن من اللجوء للشر مع تسميته بذلك، واستبداله بالانحطاط مع وصفه بذلك،.
"إحنا عندنا فعلا ناس متسولين!"



الصورة لعمرو أديب ومصدرها منتدى "المصريون الآن".
الفيديو من موقع المصري اليوم من إخراج بسام مرتضى

10 November 2009

حمولة زائدة

قبل أسبوع تقريبا في طرقة قسم الفلسفة بجامعة القاهرة وجدت إعلانا عن منح بحثية في سلوفاكيا. وقفت أقرأ الإعلان، عقلي يحدثني بأنها ليست الفرصة ولا هي اللحظة، لكن مشاعري تتمنى أن أجد في فقرة ما قرارا بترحيلي قسرا من هذه المدينة.
أنا لا أعلم ما الذي قد يكون جديدا وقبيحا - زيادة - حدث الأسابيع الماضية، ولا يمكن لأحد أن يؤكد أن شيئا ما بعينه حدث، ولكن بالتأكيد هناك شيء ما. لا يمكن أن يكون بلا سبب أن يحدثني كل من أحب عشرتهم عن تفكيرهم في الهجرة وبسرعة لأن المكان لم يعد يطاق، إما بجد أو بسخرية مريرة. والبعض الآخر يخبرني من تلقاء نفسه أنه سيحتمل هذه المدينة رغم كل هذا القرف، وكأن فكرة الابتعاد قد تم طرحها مؤخرا كاستفتاء عام.
هل لذلك علاقة بأن القاهرة هذه الأسابيع بدت وكأنها ديكور مقهى شعبي يشهد تصوير مشهد مبتذل في فيلم عربي قديم، يتشاجر اثنان لسبب تافه فيهب كل اثنين ويمسكان بخناق بعضهما ولو كانا جالسين على طاولة وحدة يتبادلان الحديث الودي قبل ثوان. أحمد شوبير ومرتضى منصور، بلال فضل وفاطمة ناعوت، مدحت شلبي وعلاء صادق، مهدي عاكف ومكتب الإرشاد، الجبهات المتناحرة داخل 6 إبريل - لم أستطع إلى الآن تمييز جانبين بوضوح- رفعت السعيد وأبو العز الحريري، الناشرون والكتاب الشبان. والشابان الذين خلع كل منهما قميصه وغرس أظافره في وجه الآخر وتبادلا السباب بالآباء وأعضاء الأمهات والدين والملة وخدش صدريهما بالآلات الحادة والقذف بالحجارة من مسافة قريبة جدا أو تفتيتها بحقد على الرأس قبل أن يهدهما التعب فينطرحا على الرصيف جبنا إلى جنب للحظات ثم يرتدي كلا منهما قميصه ويمضي وهو يترنح ويتحسس جروحه ويرفع وجهه إلى السماء ألما ويغلق عينيه ويطلق سبابا مركبا يجمع عضو الأم ووصفها بالعاهرة مع سب دينها.
غيظ مكبوت وعنف بلا طائل، مساحات ضيفة ونفوس ضائقة، فظاظة في اللفظ والإيماءة، سوء ظن وانتهاك نظر، قبح منظر وعفن رائحة، إذعان بلا رضا وتسلط بلا ثقة و كبر بلا كبرياء، تجمع بلا اجتماع وافتراق لا يصنع فارقا. اعتياد على القذارة والدناءة والإساءة، أصوات نافرة ومتنافرة وخرائب متناثرة وسافرة، كلام بلا تواصل وسعي بلا وصول، أكوام بلا تراكم وأعداد بلا نظام، زحام بلا حشود وأعداء لا يعرفون بعضهم إلا ساعة مواجهة تبدأ بلا داع وتنتهي بلا معنى.
عندما وقفت مرة أخرى بعد أيام أمام لوحة الإعلانات في نفس الطرقة كان موعد التقدم لنيل المنحة السلوفاكية قد فات. اختفى إعلانها وحل مكانه إعلان منحة أخرى لهونج كونج. وأنا لن أذهب إلى هونج كونج.

31 October 2009

تحت السلم


أحاول ألا أعتاد ذلك المنظر اليومي، مدخل حجرة بواب العمارة الذي يضطره عند دخوله إلى الانحناء.
هذا ليس منظرا استثنائيا لمن يعرف تصميمات العمارات القاهرية الجديدة، حتى الفاخر منها. ولكنه فقط مجرد تجسد ظاهر للحالة غير الآدمية التي تردى إليها "الحد الأدنى" الذي يستحقه هؤلاء الذين يقبعون في أدنى سلم العرض والطلب.
حاولت بهذا التقرير ألا أنسى، وأن أسجل أن الغرفة الواحدة الضيقة فوق سطح العمارة التي تجمع أسرة البواب، قد أصبحت في العمارات القديمة في وسط البلد سكن بعض شباب المثقفين والفنانين أو الطلاب القادمين للدراسة من المحافظات الأخرى للدراسة في الجامعة. أما الحد الأدنى فقد تحول إلى جحر حقير تحت سلم. صاحبة العمارة التي أسكنها لا تفوت أي مناسبة تمكنها من تذكير الجميع أنها تضحي بهذا الجحر من أجل البواب. من المؤسف - بالنسبة لأصحاب العقارات- أنه لا يمكن ترك البواب وأسرته ينامون في الشارع. النوم في الشارع فقط هو ما يتجاوز "الحد الأدنى" إلى حد غير مقبول. ولكن مساحات الجحور جعلت البوابين وأسراتهم يعيشون فعليا في الشارع.
أثناء إعداد التقرير، انحنيت للمرة الأولى ودخلت أكثر من جحر، بعد أن وصل حواري مع أحد البوابين إلى درجة ودية تسمح أن أطلب ذلك دون أن يسبب له ذلك حرجا، وبعد أن علمت أن زوجته وأولاده بالخارج. وأثناء إعداده أيضا كدت أشتبك بالأيدي مع مجموعة بوابين. طلب أحدهم مني إبراز كارنيه الصحافة، فحاولت أن أجيب بود أنني أكتب لجريدة جديدة- كان ذلك قبل بدء صدور "الشروق"- وأنني لا أطلب منه غير أن نتحدث لدقائق إن كان يريد، ومازحته بأنه هو نفسه لا يملك كارنيه بواب! ولكنه كان عصبيا ومتشنجا وأمسك بتلابيبي وصرخ: "إنت مين إنت؟ وعاوز إيه؟" وصاح مناديا زملائه وكأنه أمسك لتوه جاسوسا.
فشل الود فعدت بسرعة إلى شرنقة "وضعي الاجتماعي" ونهرته بقوة وبعض التعالي - للأسف- وأظهرت له بطاقتي المدون فيها أنني مهندس، موضحا أنني أحاول أن أكتب لجريدة جديدة عن أحوالهم و"حقوقهم"، وكأن نصا مكتوبا للمشهد يدفعني لأن أقول "التي لا تستحقونها يا غجر!" ولكن لم أقل ذلك. كان ذلك التوضيح فيما يبدو بالغ التأثير لأنه سارع بالابتعاد عني خطوة وكذلك فعل زملاؤه الذين تجمعوا. اندهشت أن تشنجه وانفعاله اتخذا مسارات أخرى فكادت الدموع تطفر من عينه وهو يقول: "معلش يا بيه. إحنا يا ما بنشوف. إحنا تعبانين والله". وانحنى قليلا وهو يكرر اعتذاره: "حقك على راسي يا بيه".


الصورة لـ محمد الميموني

19 October 2009

إنت بتقول إيه ؟


دعوة مررها صديق إلى بريدي الإلكتروني عن ندوة مع أكاديمي عن "الهجرة الداخلية في مصر" ينظمها السيداج في المركز الثقافي الفرنسي بالمنيرة. كمواطن نابه وصحفي ثمين الوقت أحيانا أتصل لأتأكد من موعد الفاعليات. أكثر الأشياء التي أكرهها هي أن أتكبد عناء الرحلة عبر هذه المدينة القاهرة لأجد الموعد قد تأجل أو تم إلغاؤه.
تليفون المركز الثقافي الفرنسي يقودك لتضغط العديد من الأرقام لكي تصل إلى بغيتك، أسلوب لطيف لحفظ وقت المواطنين والموظفين. خضت الرحلة في أكثر من مسار ولم يرد أحد إلا عندما أخذت مسار طلب التعرف على نبذة عن البرنامج الثقافي. رد على أحدهم ....
- مافيش ندوة يا أستاذ
- الندوة اللي منظمها السيداج ؟
-آه، دي في مقر السيداج يا أستاذ
- متأكد
- أيوه، في مقر السيداج اللي في وسط البلد
- آه، أعرفه. شكرا، كويس إن أنا أتصلت اتأكد، في الدعوة مكتوب أنه عندكم.
- أي خدمة
أمام مقر السيداج في السادسة إلا خمس دقائق، موظف يجلس خلف زجاج يبدو عليه نوع من القوة توهمك أن صوتك لا يصل ولكن هناك فتحة ما.
- مافيش ندوة يا أستاذ
- إزاي؟ ندوة الهجرة الداخلية ؟
- مافيش أي ندوات النهاردة.
- السيداج هو اللي منظمها.
- آه، صح فيه ندوة النهاردة. لكن تقريبا في فندق مش هنا.
- فندق إيه؟
- ما أعرفش
- طيب عاوز أكلم حد يعرف.
- مافيش حد هنا. كلهم مشيوا.
- مين المسئول عن تنظيم الندوات دي؟
- نقريبا راحوا هم كمان الفندق
- فندق إيه؟
- اللي فيه الندوة
- طيب ما عندهمش تليفونات ؟
- .... ( يهز رأسه نفيا ببلاهة وهو يتفحصني بعينيه وكأنه يختبر نفسه كممثل)
- طيب، أنا هاتصل بحد يعرف
أرفع الموبايل وأتصل بصديقي الذي مرر إليّ الدعوة.أعتقد أنه يعرف أحدا هنا، صديقي لا يرد، يبدو أن مشغول. ولكن قبل أن أغلق الخط يائسا كان الموظف قد ظهر عليه القلق، وربما خاف أن أتصل بشخص يمكن أن يكون من رؤسائه، فرفع سماعة تليفونه.
- ثانية واحدة يا أستاذ
- نعم
-هاكلم السكرتيرة وهي تقول لنا الندوة فين
- ... !؟
لم يستغرق ذلك عشرين ثانية
- بتقول الندوة في المركز الفرنسي في المنيرة
- سألت هناك قالوا هنا !
يعود إليها ويخبرها، فأسمع صراخها في التليفون: الندوة في المركز ومكتوب في الدعوة إنها في المركز !
- في المركز يا أستاذ في المركز
- طيب ممكن نمرة المركز أتأكد (اتصلت أول مرة من المنزل)
يهز رأسه ثانية ويقول ببطء
- مش عندي
-...... ( أحدق فيه لثلاث ثوان)

- طيب ثانية واحدة أشوفه
يخرج دفتر ضخم يقلب فيه ويخبرني بالرقم. أسجله على هاتفي وأشكره في اقتضاب وأنا أبتعد.

أطلب المركز وأنا أحاول إيقاف تاكسي يأخذني إلى المنيرة حيث المركز
- المنيرة يا أسطى ؟
- فين في المنيرة؟
- شارع علي يوسف
- لا ، ما أعرفوش

وينطلق مسرعا !
واحد آخر ...
- المنيرة ؟
- فين ؟
- على يوسف
- تعالى
أركب وأنا أسأله :
- إنت تعرف مين على يوسف ده ؟
ينظر إلىّ ويضحك ...
- لا والله ، أعرف مكانه بس.

أواصل الضغط على الأرقام لأصل إلى "نبذة عن البرنامج الثقافي"، يرد واحد، لا أدري هل هو نفسه أم غيره، ولكن لا وقت لذلك ...
- مافيش ندوة يا أستاذ

- ندوة السيداج ؟
- في مقر السيداج يا أستاذ
- أنا لسه جاي من هناك، وبيقولوا إنه في المركز الفرنسي في المنيرة
- لا يا أستاذ، مافيش ندوة هنا

- إنت متأكد
- أيوه
-طيب أنا جاي لك !
- ..... ؟
- سلام
السائق: أكمل على المنيرة ولا إيه ؟
- أيوه
- لا إله إلا الله !

أمام بوابة الفرنسي أسأل رجل الأمن عن الندوة...
- الندوة بدأت من نص ساعة يا أستاذ
- متشكر جدا! هو مين بيرد عندكم على التليفون ؟
- (مستغربا وممتعضا) مش عارف
- طيب، هي فين الندوة ؟
يشير بيده : أول باب على الشمال.
عشرة أشخاص متناثرين في القاعة الواسعة، والأكاديمي فوق المسرح يتحدث بلهجة ريفية عن معدلات الهجرة الداخلية إلى القاهرة وخطورة ذلك ومحاولات الدولة للحد منه. يرص أرقاما وبيانات ورسومات وإحصاءات. بعد إنتهاء فقرة الأرقام، يسأله الحضور استفسارات معظمها يتعلق بعلاقة الأرقام بظواهر اجتماعية فيجيب بترديد الأرقام مرة أخرى - أو أنني لاحظت ذلك عمدا لأني متحامل. يسأله رجل يعرف نفسه بأنه سوري، لكنته فرنسية وتبدو عليه الهيبة: لماذا يستمر معدل تحول الريف إلى حضر في مصر- كما قلت- بينما توقف ذلك في معظم الدول العربية بعد عقود تحديث من أجل الحفاظ على المساحة الزراعية ؟
يصمت الدكتور لعدة ثوان وينظر إلى السوري ...
-معلش، ممكن السؤال تاني ؟
- سؤالي واضح ..
ويعيد السؤال. يصمت الدكتور وينظر هذه المرة للسقف وملامحه تتقلص ..
- أيوه، معدل الهجرة الداخلية إلى الحضر يؤثر على المساحة الزراعية.

بعد الندوة أذهب إلى الدكتور زاهدا في أي سؤال، أعرفه بنفسي وأنني صحفي وأكتفي بطلب البيانات والأرقام التي سردها في سرعة، فينظر إليّ بريبة ويعاملني كمندوب مبيعات ...
- خلينا على اتصال
- طيب ممكن رقم تليفونك؟
- ممكن تعدي عليّ بكره في الجامعة وتاخد البيانات من على الكمبيوتر
لم يكن قد أغلق الكمبيوتر أمامه بعد ...
- أنا معايا فلاش ميموري وممكن آخدها دلوقتي
ينظر إليّ مرة أخرى بريبة عظيمة
- لا عديّ علي بكره في الجامعة أنا عندي ورق مطبوع
(اللهم طوّلك يا روح)
-ممكن أعدي على الساعة كام؟
- أي وقت بعد الساعة 12 ظهرا
- تمام، لحد كام ؟
- ما تتأخرش عن الساعة 2 لأن عندي سيمينار

-طيب كويس الساعة 1 ؟
- مممم، مش عارف والله احتمال آجي على السيمنار الساعة 2 على طول
- .... ؟!
-.... !
- طيب ممكن رقم تليفونك علشان لو حبيت أستفسر عن رقم معين ؟
ينظر إليّ نفس النظرة ...
- الشريحة بايظة من يومين، ومش شايل موبايل
- ..... !
- ..... !
- طيب، سلام عليكم
- وعليكم السلام
- أنا متشكر جدا
- ..... !

يلقي إليّ بنظرة أخيرة وهو يلتفت إلى بعض الفتيات اللاتي يبدو عليهن أنهن تلميذاته، وأنا أبتعد أسمعه يسألهن: هو الراجل السوري كان عاوز يقول إيه ؟




- أعتذر لميريام فارس عن إقحامها في هذه المسائل الشخصية.

17 October 2009

البحث عن مكان للمعنى


أنا أعتبر نفسي صحفيا محظوظا بقدر كبير، فالذين التقيهم دائما أثناء انتقالي من مكان إلى آخر في عالم الصحافة هم أشخاص استثنائيين. يساعدني في ذلك أنني لم أتنقل كثيرا في الحقيقة لأن وجود استثنائيين - بالمعنى الإيجابي- في وسط تسيطر عليه الرداءة الاستثنائية - واسألوا ميزو!- هو ما لا يمكنني تفسيره بأقل من عناية إلهية.
إحدى آيات ذلك أن كان أول من التقيت هو الأستاذ أسامة عفيفي، الذي أعتقد أنه لا يوجد كثيرون مثله لديهم ما يقولونه فيما يخص "فن الصحافة". ولذلك أجد - كلما تنقلت- شبابا وكهولا يخبرونني أنهم تلاميذ "الأستاذ أسامة" ويذكرونه بالخير، في الوقت الذي أتفرج فيه دائما على نماذج متوافرة من آخرين يتطاولون في الأعمدة على حواف الصفحات بينما هم خارج الورق يتوجسون ممن تبدو عليهم أمارات الموهبة ويحاولون بكل ما أوتوا من "فن السخافة" أن يحافظوا على مكانهم بإبقاء المساحة المحيطة بهم مستنقعا خالصا إلا من كل ما هو ضحل ولزج.
لذلك كان أيضا من حسن حظي عندما توجهت إلى "البديل" قبل عامين أن عرفني صديق إلى د.محمد السيد سعيد، أثناء رئاسته للتحرير، وكانت أول معرفتي الشخصية به، وكان أول معرفتي بـ"البديل"- رحمهما الله.
كنت أسمع من الأصدقاء الباحثين والحقوقيين عن دماثة "الدكتور محمد" التي لا ينافسها إلا مكانته كمفكر وباحث وكاتب، ولذلك توقعت ما لقيت من الترحيب والإنصات إلى أفكاري واقتراحاتي ولكن لم أتوقع منه، وهو يعتذر لي لأن المزيد من المكاتب ستتوفر قريبا في غرف أخرى، أن يخبرني في أريحية وبساطة أنه يمكنني أن أقوم بعملي من خلال غرفته نفسها، وحتى وصلة الإنترنت يمكن أن نتبادلها وقت الحاجة !
كان ذلك ملهما جدا والمرء يبدأ عمله متحمسا في جريدة يسارية تريد أن تقدم بديلا. وظللت قرابة أسبوعين تقريبا أجلس يوميا معه في مكتبه، ظن البعض ممن لا يعرفني أنني من قيادات الجريدة، وقبيل انتقالي السريع من الجريدة - قبل توقفها بفترة- علمت أنني كنت محسوبا على "الإدارة" بعد أن اشتعلت في "البديل" الحرب الصامتة بين الشلل المختلفة وتردت العلاقة بين الإدارة والتحرير وصولا إلى أزمة توقف الجريدة. وذلك كان جانبا واحدا من الهوة بين القيم التي كان من المفترض أن تقوم عليها التجربة وهي قيم حملها قسم من قادة التجربة بالفعل وبين ما انتهت إليه هذه التجربة. والجوانب الأخرى من الهوة أجدها في الكلام الذي يتردد دائما في الجلسات الخاصة لكن عند الكتابة والخطابة - للتاريخ والجمهور- تجد التجربة قد تحولت إلى كلمات زاهية وناصعة، وعداها العيب إلى التاريخ والزمن الرديء الذي لا مكان فيه لجريدة محترمة أو الجمهور الذي افتقد حس المقاومة فلم يدعم التجربة.
مع النسيان ولدواعي الاستعمال، تتحول التجارب - صحف، تجمعات سياسية، منظمات- إلى أوسمة على صدور شهدائها، وبعضهم يحتاجون ذلك بشدة، ولكني لا أظن أن د. محمد في حاجة لذلك. فلا يضيره أن نتحدث عن أن أسباب بنيوية داخل "البديل" التي رأس تحريرها أو "كفاية" التي كان من أبرز أعضاء لجنتها التنسيقية، كانت سبب انهيار هذه التجارب. فهو دائما كان ممن لا يخجلون من نقد مكانه السابق وتجاربه السابقة بعد أن يلزم نفسه بالمخاطرة وارتياد الأماكن الجديدة بدلا من الارتكان إلى أماكن دافئة يبررها بعض أقرانه بأنهم باحثون ومفكرون لا ناشطون أو صحفيون.
بدا لي دائما أن محمد السيد سعيد وعبد الوهاب المسيري يمثلان نموذجا واحدا رغم اختلافهما الفكري، فكلاهما كان يضع نفسه في مكان خارج التصنيفات السائدة، ولكنهما كانا متجاوزين لحالة آخرين يسمون أنفسهم كذلك لكي يكتفوا بالمراقبة ويبتعدوا عن أي التزام أوجهد أو تجمع، وفي الوقت نفسه لا يقدمون جديدا ولا أصيلا على مستوى الفكر. فالراحلان كانا من الأنشط في مجال التعامل النقدي مع الأفكار وفي الوقت نفسه الأكثر التزاما وجهدا وأكثر ميلا للحركة مع جماعة لكي تجد الفكرة مكانا لها على الأرض.
ارتبط باسم د.محمد السيد سعيد بوصف "يساري بين الليبراليين، ليبرالي بين اليساريين" إلا أنه بوضوح كان يساريا نقديا، ناقدا لليسار نفسه في المقام الأول، لكنه لم يتراجع عن خوض مغامرة تأسيس أول جريدة يسارية يومية. لا أعتقد أنه من السهل القول أن وجوده على رأس التجربة لم يكن موفقا لأنه كان مفكرا وباحثا أكثر منه صحفيا أو إداريا، ولا يمكنني الدفاع عن العكس. ما تركه محمد السيد سعيد من جهد فكري وبحثي ومكانه في قلوب أقرانه وتلاميذه وأبناء جيله وما بعده يكفي وزيادة لحفظ مكانه ومكانته، وما يمكن أن يكون مزعجا بشأن ذلك هو أن المزيد من الاستثنائيين يجربون ويرحلون وتخلد ذكراهم ولكن قبل رحليهم تنتهي أو تتجمد التجارب الجماعية وهي التي تنفع عموم الناس أكثر وتمكث في الأرض.
خرجت من عزاء الدكتور محمد في مسجد عمر مكرم الأربعاء الماضي بعد ما بدأت القاعة تزدحم وبدأ المرور يتعطل قليلا، ربما بسبب الوجود الكثيف للأمن ترقبا لوصول شخصيات هامة وفقا لتخمين سائق التاكسي الذي ركبته. سألني السائق: عزاء من؟ أجبته. فاستفسر: وماذا كان يعمل؟ وأنا أجيبه كنت زاهدا في بعض التفاصيل التي أعتقد أنها لا تعنيه- وإن كانت تعنيني جدا وكل مهتم بالسياسة والفكر السياسي - ولكني فكرت أنه لو كانت "البديل" - أو أي تجربة أخرى - نجحت في أن تبقى حية وارتبطت ببعض من قامت لتعبر عنهم كنت سأجيبه بحماس بوصف واحد سيعني له شيئا.

23 August 2009

أن تكون فردا .. لكن ليس وحيدا



كبرق خاطف مرت "قضية هبة نجيب". الدهشة شملت الجميع: هؤلاء الذين تعجبوا مما فعلت واستنكروه، وأولئك الذين انبهروا بشجاعتها وساندوها.
ولكن الأكثر إدهاشا في رأيي، وما لا أود أن ينقضي أثر دهشته سريعا كالبرق بل أتمنى أن يظل كضوء مزعج مسلّط على الأعين المحدقة المستنكرة، هو تحديدا ما لخصته هبة في عنوان ما كتبته على مدونتها: "لماذا أريد العودة .. ببساطة لأنني أريد".

العنوان يحمل رسالة واضحة وقاطعة وجذرية لا تتوسل بظروف استثنائية سيئة ، بل تطلب الانحياز غير المشروط وهي تعلن أن هناك "فردا" يتمسك بفرديته التي تعلو على كل اعتبار آخر ويطالب بالتضامن معه في أن يحرر تلك الفردية ويحرر اختيارها باعتبارها شرطا أول للحياة غير قابل للتفاوض ولا يحتاج لمبرر .
مضمون الرسالة كان سبب الانقسام السريع بين أولئك الذين انحازوا لهبة وإعلانها عن نفسها كـ "فرد" وحقها في أن تكون كذلك، وبين هؤلاء الذين فكروا فيها كـ"ابنة" يجب أن نسمع رأي أبيها، أو فكروا فيها كـ"أنثى" يجب أن نتوجس من استقلالها بحياتها أو يجب أن نقلق عليها بأبوية ، أو ربما فكروا فيها كـ"مظلومة عادية" - مثلهم- تساءلوا مستنكرين لماذا تتذمرعلنا بينما يعانون هم ويعاني آخرون من مظالم أخرى- أشنع ربما- بينما تتمتع هي بحرية الحركة لكي تطالب بحقها أمام جهات مختلفة وبحرية الاتصال بالإنترنت لكي تطلب التضامن معها.

الأمر لا يتعلق بأن هؤلاء يدركون حقيقة ما لم يدركها أولئك، أو العكس، فالإنسان يوجد فردا كما يوجد ابنا وأخا وقاطنا بمنطقة ما محكوما بقوانينها وظروفها. ولكن يبدو لي أن الأمر متعلق بـ"الخيال". يمكن للإنسان أن يتخيل لنفسه أوصافا وأماكنا ومهاما أخرى، عقيدة أخرى وتدينا آخر، أهلا وأصدقاء آخرين، إلا كونه فردا وذاتا عاقلة مريدة. "الإرادة" ركن آخر، أن يتخيل الإنسان مصيرا لنفسه وهوية يختارها ثم يريدها ويتشبث بها. أولئك الذين انحازوا لحقها سريعا إنما انحازوا لأنفسهم ولحقهم في الفردية والخيال والإرادة على خلاف الواقع والمتاح الضيق. انحازوا لحق الصوت الواحد المنفرد أن يكون ما يريد، بينما انشغل الآخرون بتخيل حق الأصوات الأخرى في تقرير مصيرها.

الانحياز إلى "الفردية" والحق في الخيال وحرية الإرادة، لا علاقة له بإيمان مسبق بالمنظومة العالمية لحقوق الإنسان أو قيم الحداثة. بل على العكس، تثبت مثل هذه المواقف أن خيال وإرادة الأفراد والجماعات وخوضها الشجاع لمعارك من هذا النوع هو الذي يفتح الباب - إن كان هناك آخرون مستعدون لتكرار المعركة - لكي يتم إقرار الحقوق وكتابتها وتثبيتها بعد جدل وصراع وتفاوض اجتماعي. أو ليتم تفعيل الحقوق المجمدة والمسطورة نصا في الدساتير والقوانين بينما الكل مستعد لتجاهلها.

محاكمات قضايا التعذيب نشطت بعد شجاعة عماد الكبير في أن يعلن أنه تم انتهاك حقه كمتهم وتم الاعتداء عليه جنسيا وأنه يطالب بعقاب من انتهك حقه. ليخرج حق المتهم المجمد من أسر نظرة المجتمع التي تتغاضى عن كل الانتهاكات بحق "الأوباش المسجلين خطر" الذين يجب أن يعاملوا بقسوة لكي يرتدعوا. تشبث عماد الكبير بفكرة أرادها: "أنه فرد له حقوق حتى لو كان مجرما مدانا"، وكان ذلك خيالا وإرادة أخرجا القواعد القانونية المجمدة إلى العمل.

قضايا التحرش الجنسي، احتاجت لشجاعة نهى رشدي لكي تخرج من أسر نظرة المجتمع التي تدفع الفتاة لأن تخجل من نفسها لو تم التحرش بها. خيال وإرادة نهى دفعاها لكي تتجاهل السيناريوهات النمطية لمثل هذه المواقف وتتشبث بفكرة أن تسوق من تحرش بها إلى الشرطة لتضع النظام القانوني في موقف يبحث فيه عن نصوص تصلح لمحاكمة هذه الجريمة بينما لا ينص إلا على عقوبات لهتك العرض.

الحقوق والقوانين "الحية الفاعلة" ليست تلك التي يتم الاتفاق عليها في قاعات كليات الحقوق أو يقترحها المفكرون في مقالات، بل التي يخوض من أجلها الأفراد والجماعات الصراع والجدل بخيال وإرادة لتجاوز الواقع إلى غيره.

حالات عماد الكبير ونهى رشدي وهبة نجيب، كانت مشكلة فرد، وكان ممكنا أن يتحول كل منهم إلى "حالة متشابهة" وسط حالات: متهم يتم تعذيبه فيسكت، فتاة يتم التحرش بها فتسكت، فتاة تكره على اختيار مكان لحياتها لا تريده فتتكيف. ولكن كل منهم آمن بفرديته وحقه في أن يريد شيئا آخر. وبالإضافة إلى ذلك هذه الفردية التي جعلت من نفسها قضية عامة وخرجت إلى ساحة الجدل في المجتمع، لم تكن فردية وحيدة، بل كانت وسط جماعة وبعد معركتها فتحت الطريق إلى آخرين يريدون أن يسلكوا نفس الطريق.

من حسن حظنا أننا أبناء هذه اللحظة في التاريخ، حيث يتيح التواصل السهل للفرد أن يجد مساحات واسعة أمامه لكي يعمل خياله ويختار أن يكون شيئا آخر غير الذي يفرضه عليه المكان والأهل والمحيط الاجتماعي، بل ويختار أن يكون مع هؤلاء الأفراد أو هذه الجماعة أو تلك ويرتبط معهم بصلات مختلفة أو يطلب مساعدتهم ومساندتهم. عماد الكبير خاض معركته وسط قانويين وصحفيين ومدونين. ونهى رشدي كانت محور تضامن نساء لم يعرفنها ولا سمعن عنها قبلا ولكن فقط لأنها عبرت عنهن. والمتضامنون مع هبة نجيب إما كانوا من عرفوها من مدونتها أو من عرفوها على البعد وتواصلوا معها تضامنا مع حقها، بينما لم تلتق بمعظمهم وربما لن تلتقي.

هذه اللحظة مناسبة جدا لأن نسخر من هؤلاء الذي صدعونا بتأثير وسائل الاتصال الحديثة على التواصل والاجتماع الإنساني الحميم. في الواقع لم تفعل وسائل الاتصال هذه، على رٍأسها الانترنت بالطبع، إلا إنها أتاحت مساحات بديلة للأفراد لكي يجدوا فيها أقرانا لهم وروابط اجتماعية وجماعات اهتمام غير التي كانت متاحة وفق الظروف والإمكانات المحدودة. لا تؤثر هذه المساحات الجديدة إلا على الروابط الاجتماعية الهشة التي لا سند لها إلا الادعاء أو الإكراه. فبديلها يصبح بمرور الوقت أقوى وأقرب: أن تكون فردا ولكن ليس وحيدا.


نشر في "ولاد البلد".
اللوحة لهنري ماتيس.

16 August 2009

عشر ملاحظات وتحية


يوم 2 أغسطس بدأ المتضامنون مع حق هبة نجيب في العودة إلى مصر الكتابة على مدوناتهم بعد أن أنشأت بنفسها مجموعة على الفيس بوك، وفي يوم 9 أغسطس كانت هبة نجيب في مطار القاهرة.

قد يوحي ذلك أن المشكلة كانت بسيطة، أو أن حملة التضامن صادفت قرب انتهاء المشكلة وحلها على مسار آحر، ولكن لا شاهدا أفضل من هبة لينفي ذلك وليقول لنا أن التضامن معها بالفعل قلب المعادلة وأنهى أزمة 3 سنوات في أسبوع.
الصورة الأكثر دقة- كما يبدو لي- أن محاولات هبة المتواصلة وتمسكها الشديد والمدهش بحقها هو العامل الأساسي الذي أتاح أن تنتقل حملة تضامن من خانة أضعف الإيمان لتكون عاملا مساعدا في تغيير فعلي على الأرض.
هذه الصورة تدفعنا لألا نبالغ في قدرات وإمكانات حملات التضامن على الإنترنت أو في الإعلام، ولكنها تدفعنا أيضا لأن نعرف أنها ليست بلا تأثير، والتفاصيل قد تكون فيها ملاحظات جديرة بالتأمل لكل من يهتم بالإنترنت كمساحة للنشاط والتضامن والتشبيك بين المهتمين بمناصرة قضايا أو قيم مشتركة.

أولى هذه الملاحظات أن السعي على الأرض في مسارات مختلفة للمطالبة بالحق أو الاعتراض على مظلمة كان ضروريا لتحديد وجهة الحملة الإعلامية، التي لم تخرج كنداء في البرية بل حملت مطلبا محددا موجها إلى جهة محددة: حق مواطنة مصرية في العودة لبلدها ومسئولية الخارجية المصرية عن ذلك، بالإضافة لتحديد العقبات التي تعترض نيل هذا المطلب رسميا وتهدد كسب التعاطف مع القضية: نظام السعودية المستند للتقاليد الأسرية المحافظة التي لا تقبل استقلال البنت بحياتها.

ثانيا، هناك دور كبير لشجاعة هبة وقرارها بتحمل تبعات حملة تضامن إعلامية ستتعرض بسببها لاتهامات أخلاقية، وقرارها بخوض معركتها من زاوية حقوقية صارمة: حقي كمواطنة في العودة لبلدي، فقط لأنني أريد، كما كتبت في مدونتها. ورفضها التركيز على ظروف سيئة أو استثنائية لجلب التعاطف، رغم اضطرارها لذكر بعض التفاصيل تحت إلحاح الإعلام الذي يريد قصة أكثر إثارة وحيوية من قضية حقوقية تستند لحق قانوني مجمد في السياق الاجتماعي.

ثالثا، هناك الآلاف من شكاوى المصريين في الخارج يتململ الإعلام المؤسسي قبل النشر عنها. القاريء مل من هذه المظالم ولم يعد هناك ما يثيره في حالة بعينها بعدما تحول الأمر إلى مظلمة واحدة كبيرة لا تثير إلا الأسف على حال البلد وقيمة الإنسان فيه.
ما حدث إن الإعلام بالفعل تململ وتلكأ في نشر قضية هبة، إلا بعدما وجد في حملة الإعلام الشعبي- المدونات، فيس بوك، تويتر- قصة جذابة وجدلا مثارا بالفعل دوائره بدأت في الاتساع. وحضور ذلك واضح في عنوان مداخلة برنامج 90 دقيقة : تشتكي والدها عبر الفيس بوك وفي تفاصيل خبر المصري اليوم وفيديو موقعه.

رابعا، الإعلام الشعبي أكثر جرأة وحرية في إثارة القضايا التي تصطدم بالقيم التقليدية والأفكار السائدة متحررا من أجندات رأس المال أو معيار الجاذبية الجماهيرية التي تحدد خيارات الإعلام المؤسسي. ولكن هذا الأخير يمكنه متابعة الإعلام الشعبي والتعلل به أحيانا لإثارة مثل هذا النوع من القضايا، كما حدث في بدايات الاعتراف بوجود التحرش الجنسي.

خامسا، لا يمكن أبدا تجاهل أن الإعلام المؤسسي لا يزال صاحب التأثير الأكبر والقدرة الأكبر على طرح قضية على قطاعات أوسع من الرأي العام والضغط على المؤسسات الرسمية ومساءلتها. في قضية هبة كان لنشر المصري اليوم التاثير الأكبر في الضغط على أطراف القضية (الخارجية، السلطات السعودية، الإخوان المسلمين، وأسرة هبة) لكي يصل الأمر لاتفاق سريع وحل للمشكلة.

سادسا، تبعا للملاحظة الخامسة تبرز أهمية المساحات المخصصة في الإعلام المؤسسي لنقل أو عرض محتوى التدوين. فقد تكون هذه المساحات هي الجسور الأسرع لتفعيل حملة تضامن تبدأ في ساحة الصحافة الشعبية. وهو ما يمكن أن يكون مدخلا لإعادة النقاش حول التصلب في قضية الملكية الفكرية فيما يخص إعادة نشر محتوى من المدونات.

سابعا، ما يمكن قوله مختصرا "لا تحقرن من التضامن شيئا"، فما قدمه كل واحد ظانا أنه أضعف الإيمان كان جزءا من دائرة تتسع لتزيد من تأثير وقوة الحملة. حتى الذين كتبوا متشككين أو ومعترضين ساهموا في ذلك ووسط كثرتهم ازدادت الهالة على دائرة التضامن التي استفادت من النقاش والجدل لتبدو واضحة أكثر في خطابها وفي بلورة القضية بفضل كتابات مميزة وجريئة.

ثامنا، اتصال حملة التضامن بموضوعها يزيد من جديتها. كانت هبة في قلب حملة التضامن بشجاعة، رغم تبعات ذلك.
والتواصل معها أتاح لمتضامنين تقديم خدمات جانبية على الأرض كانت عظيمة الفائدة.

تاسعا، عندما أثارت حملة التضامن تغطية إعلامية نشطت جهات ومؤسسات كانت تتعامل مع الحالة باعتبارها صفحة في ملفاتها، ولكنها لم تعد كذلك بعد اقترابها من أن تكون قضية جدل عام.
التشبيك مع الجهات والمؤسسات ولكن عدم الاعتماد عليها بشكل كامل يساعد في تنشيط حركتها ومعاونتها. وفي قضية هبة، الجهات التي اهتمت بالأمر لفترات مختلفة بأقدار متفاوتة كانت تستعد للدخول على خط المعركة الإعلامية والقانونية التي نشطت من جديد لولا الانتهاء السريع للمشكلة.

عاشرا، في مثل هذه اللحظات تبرز أكثر أهمية وفاعلية كل الجهود التجميعية، سواء التي تهدف لتقوية تأثير التدوين مثل مجمع "العمرانية" الذي خصص واجهته طوال الحملة للتدوينات التي تناقش القضية، أو مجموعات الاهتمام المتعلقة بالأمر مثل مبادرة "كلنا ليلى"، التي شهدت مجموعتها البريدية النقاش والتحضير للحملة وساهم عدد كبير من أعضائها في الكتابة أو المساعدة بطرق مختلفة .

أخيرا، هذه اللحظة وغيرها تؤكد دائما على أهمية حركة 30 فبراير المباركة بكل أجنحتها المفتوحة والمنفتحة على كل المجموعات والمتقاطعة معها والمتغلغلة داخلها وداخل الإعلام المؤسسي والمجتمع المدني وكل شيء حي.

08 August 2009

يا له من نهار !


ألا يبدو غريبا، بل وغرائبيا، أن نبتهج بقرب حصول مواطنة على حق العودة إلى وطنها، وبنجاح أشخاص في استخراج بطاقة شخصية ؟!

ولكني سأفرح مع محمود درويش ، الذي لما تذكرته ذكّرني :

حين تبدو السماءُ رماديّةً

وأَرى وردة نَتَأَتْ فجأةً

من شقوق جدارْ

لا أقول : السماء رماديّةٌ

بل أطيل التفرُّس في وردةٍ

وأَقول لها : يا له من نهارْ !


03 August 2009

حق العودة .. إلى مصر !


قبل عدة سنوات تعرفت على مدونة هبة نجيب "منحدرات"، ولفت انتباهي ما كتبته عن ضيقها من أسلوب التربية في الأسر"المتشددة دينيا"، كما لفت انتباهي نبرة الحنين إلى الحياة في مصر.
كان ذلك منطقيا عندما عرفت منها أن أسرتها تركت مصر لتقيم في السعودية منذ 1983 وحتى الآن. ولكن منذ 3 سنوات تقريبا تخوض هبة معركة مستمرة من أجل حقها في العودة واستكمال حياتها في بلدها.
لا تحتاج مصرية تبلغ من العمر الآن 27 عاما أي مبررات لتحظى بحرية أن تختار مكان حياتها بدون أن يكون ذلك بالضرورة تبعا لرجل ما. هذا حقها وفق الدستور والقانون المصريين ولكن القانون السعودي ونظام الكفالة يجعلان أي امرأة هناك بشكل رسمي أسيرة ولي أمرها وكفيلها. وهذا جزء من مبررات هبة لخوض هذه المعركة، هي تشعر بما يشعر به كثيرون في هذا العالم، أن السعودية من أسوأ الأماكن التي يمكن أن تحيا بها النساء. بالإضافة إلى مبررات خاصة بها، فهي منذ فترة طويلة تعيش سوء تفاهم طويل مع والدها وأسرتها بسبب إعلانها عن اختلافها مع طريقة تفكيرهم وحياتهم وممارستها لبعض ما رأته حريتها أثناء تواجدها في مصر للدراسة الجامعية.

لم تذهب هبة بعيدا، فهي تقول أنها فقط ارتدت بدلا من الخمار حجابا عاديا مثل الذي ترتديه المصريات، وتستمتع للموسيقى وتكتب في مدونتها أنها تحب الأوبرا، ترفض طريقة معاملة النساء في السعودية وتنتقد خطاب الشيوخ السعوديين. ولكن ذلك بحسب ما تقول أدى إلى صدام عنيف بينها وبين والدها الذي ينتمي إلى جناح سلفي بالغ التشدد في الإخوان المسلمين، ووصل الأمر إلى الاعتداء البدني والاتهام بالردة لأنها تريد إسلاما "على طريقة الإمام محمد عبده" بحسب ما تنقله عن والدها.
طوال السنوات الثلاث حاولت هبة بأشكال مختلفة أن تجد طريقة للعودة إلى مصر، تقدمت بشكاوى وطلبات إلى القنصلية المصرية في جدة والسفارة في الرياض. وطلبت منهم استصدار جواز سفر جديد أو استلامه من الوالد، لتمارس حقها في الرجوع إلى مصر. الديبلوماسيون المصريون قالوا أن ذلك نظام السعودية ولوكان متعارضا مع حقا كمواطنة مصرية، القنصل السابق في جدة قال لها: "ما دام بتاكلي وتشربي عاوزة إيه؟ تنزلي مصر تصيعي ؟!" مع قنصل آخر تحسن الأمر وقال لها: "يجب أن تذهبي إلى طبيب نفسي!". هذا فضلا عن إهانتها من قبل بعض موظفي القنصلية واعتبارها "منحلة" لأنها تريد العودة إلى مصر والعيش وحدها.
طوال 3 سنوات واصلت هبة محاولات للعودة طرقت فيها كل الأبواب: محامين وحقوقيين، الخارجية المصرية وهيئات حقوق الإنسان السعودية والمصرية والعالمية، بل وطلبت وساطة بعض قيادات الإخوان المسلمين في مصر.
في النهاية، بعد مثابرة منها نجحت هبة في إجبار القنصلية على أن تستخرج لها وثيقة سفر مؤقتة بدلا من جواز السفر الذي يحتجزه والدها ولكن لكي تتمكن فعليا من السفر تلزم موافقة الوالد عليها، وتقول أن السلطات السعودية ألمحت لها أ- بعد مطالبتها المستمرة - أنه في حالة تقدم القنصلية المصرية بطلب رسمي بتمكينها من العودة لمصر يمكنها أن تعود بهذه الوثيقة المؤقتة ويتم تجاوز شرط موافقة الوالد. القنصلية المصرية لا زالت متمسكة بأن الأمر شأن عائلي رغم أن ما تطالب به حق قانوني ودستوري.

هي تعتقد أنها وصلت إلى نهاية الطريق وفشلت كل المحاولات القانونية والرسمية، وهي تطلب مساعدة كل المنظمات والأفراد في الضغط بكل أشكاله على الحكومة المصرية لمطالبتها بتمكينها من حقها كمواطنة مصرية. ولكي يكون ذلك عونا لها بجانب أنها تنوى رفع دعوى قضائية تختصم فيها الخارجية المصرية وتطالبها بالقيام بواجبها في رعاية حقوق المواطنين في الخارج.
قد يختلف البعض مع قرار هبة بترك أسرتها والعودة إلى مصر، ولكن أعتقد أن مثل هذه الأمور تسوى وديا داخل الأسر وللأفراد حرياتهم. ولا يوجد لا شرعا ولا قانونا ما يمنعها من ممارسة حقها في اختيار مكان حياتها والعودة لبلدها وهي البالغة الراشدة.


31 July 2009

شويكار



السيدة
بوسعها ان تخفض رأسها
إذا ما قال لها الحبيب القديم على الهواء
"وحشتيني"
بعدما تخطت الستين بعقد ونصف.
تطرق برأسها
كيلا نلمح، نحن المشاهدين الأشرار،
الحيرة الممتزجة بالخجل
في عينيها،
لكن المخرج الشاب
يفسد اللحظة الفاتنة
بمشاهد الأبيض والأسود
حيث السيدة يافعة جدا
وجريئة
تعرف كيف تقول لحبيبها
"خذني"


19 July 2009

"يا أهل الله ياللي فوق .. نظرة للي تحت"


"شوف يا رحّال. الفن مرآة المجتمع، ولما المجتمع يبقى فيه تشوهات لازم تظهر في الفن" بهذا الرأي للفنان محمد نوح اختتم المخرج الشاب أحمد رحال فيلمه التسجيلي "شعبي" الذي نزلت تتراته مع صوت أحمد عدوية يغني: "يا دي الزمان الردي اللي كترت فيه المغنواتيّة!".
وبسبب ما يوحي به هذ الاختيار اضطر رحال - في كلا الندوتين اللتين ناقشتا الفيلم في مكتبة الإسكندرية ثم في جمعية النقاد - إلى توضيح أن هذه الخاتمة لا تعبر عن وجهه نظره في "الغناء الشعبي" بل إنه بالعكس يحب سماعه ويرى أنه اللون الغنائي الوحيد الذي يمكن القول أنه "خرج من هنا، ومن هنا فقط" على حد تعبيره، ويدعو المشاهدين إلى اعتبار خاتمة الفيلم تضم إلى جانب رأي نوح، ما سبقه من رأي الفنان مودي الإمام المختلف تماما، والذي يذهب إلى أن دور هذا الفن مثل تأثير تزيين السائقين لسياراتهم يابانية المنشأ بالأشياء والكلمات التي تنتمي إلى عالمهم لتبدو في النهاية سيارات مصرية صميمة.
محمد نوح كان ممتعضا من الأشكال الجديدة من الغناء الشعبي يتذكر في حنين "الشعبي القديم" الفلكلوري أو كما عبر عنه سيد درويش، بينما كان مودي الإمام مرحبا ومتفهما لـ"الشعبي الجديد" الذي يعبر عن حياة "الشعب الجديد" وإيقاع شارعه الذي لم يتجمد عند الحالة التي سجلها باحثو الفلكلور أو عبر عنها درويش قبل عقود.
منذ أن تركت الطبقة الوسطى المصرية لما دونها وصف "شعبي" أصبح اصطلاحا يعبر عن كل شيء أقل جودة ومستوى وخارج نطاق الاهتمام والحفاوة. وطريقة تعامل نقاد هذه الطبقة مع " الغناء الشعبي" جماليا يتجاهل سؤال: جميل بالنسبة لمن؟
القليل فقط من النقاد هم من يحاولون النظر من زاوية جمهور هذا الفن: سكان محيطات العشوائيات التي كانت قبل قليل جيوبا ريفية، وحياتهم الخشنة الصعبة الجامحة، مهنهم غير الرسمية غالبا غير المضمونة دائما "حبة فوق وحبة تحت". حياة اللحظة الفانية المقتنصة في لحظة فرح راقصة وغناء يندفع في مرح جامح كما يفعل عماد بعرور أوحزن وألم يصرخ في مرارة كما يفعل عبد الباسط حمودة. أصوات الفنانين مثل أصواتهم قوية وخشنة – لا مكان هنا مثلا لمصطفى قمر - وتنطق بطريقتهم التي تبدو للطبقة الوسطى طريقة سوقية. حتى الأصوات الأنثوية لها طابع مميز فيه دلال ولكن لا يفتقد بعض الخشونة: أمينة صاحبة الحنطور مثلا.
"شيال الحمول يا صغير" أو "من حق الكبير يتدلع"، تعبيرات لا مكان لها في شعبيات الطبقة الوسطى الغارقة وسط طوفان الأنغام المكررة مع مدائح وبكائيات العيون والجفون الرموش. تعبيرات الطبقة الغائبة التي لا مكان لها في الإعلام إلا ليتم السخرية منها أو الضحك عليها مثل "اللمبي"، وغنائها الغائب عن الإذاعات والتليفزيونات إلا في سياق التندر على الغناء الهابط أو "التهييس" قليلا معه. ربما لهذا السبب رفض المنتج خالد عمر التصوير في فيلم رحال ولكنه ساعده على التسجيل مع الليثي وعربي الصغير اللذين ضحك جمهور الندوتين عليهما بينما كانا يشرحان بكل جدية تفاصيل اعتنائهما بالغناء. يبدو أن خالد عمر كان يتوقع ذلك، وبسببه رفض حتى مجرد التصوير الفوتوغرافي قائلا في سخرية العالم ببواطن الأمور:"أتصوّر؟ هو إنت فاكرني اللمبي!".

من : شعبي

شاهد فيلم "شعبي" اليوم في ساقية الصاوي ضمن المهرجان الخامس للأفلام التسجيلية

06 July 2009

هل هي خطوات نحو حافة الهاوية ؟


ماحدث في إيران لا يمكن اختزاله في صدام بين إصلاحيين ليبراليين موالين للغرب وبين محافظين أصوليين معادين له، أو بين مرشح الفقراء ومرشح الطبقة الوسطى. ولكنه "عودة المكبوت" بعد أن أغلق النظام الإسلامي في إيران طاقة المشاركة الشعبية الخلاقة التي أبدعت في إنجاز الثورة الإيرانية.
هكذا قرأ سلافوي جيجيك الأحداث الإيرانية الأخيرة في مقاله التالي، الذي أراه جديرا بالقراءة والنقاش. وأشكر الصديق سامح سمير على ترجمته إلى العربية.
لا يمكن فهم موقف جيجيك إلا على خلفية انتقاده لأنماط الديمقراطية الليبرالية التي توفر انتخابات دورية ولكن تتقلص فيها روح المشاركة الشعبية إلى حد أدنى بشكل يجعله متعاطفا مع "العنف الشعبي"، ويجعله يرى في كل من بيرلسكوني ونجاد نموذجا للفاشي الشعبوي ولو وصل إلى السلطة بانتخاب "ديمقراطي".
لم يسهب جيجيك في هذه النقطة، ولكني أظن أن زاوية تناوله تفتح الباب لأسئلة ضرورية عن علاقة كل نظام ديمقراطي بمعانيه الأساسية: المشاركة وما يلزمها من الحريات. وكيف يمكن أن تفرغ سلطوية "إجراءات ديمقراطية" معنى وروح الديمقراطية في نظام ليصبح مثل القط الذي يمشي فوق هاوية. خاتمة المقال توضح أن جيجيك يرى أن هذه الأزمة ليست فقط إيرانية.

هل يسقط القط الواقف على حافة الهاوية؟

سلافوي جيجيك
ترجمة: سامح سمير

عندما يدنو نظام شمولي من أزمته النهائية فإن تحلله، كقاعدة عامة، يتم على مرحلتين. قبل أن يسقط فعليا يحدث انقطاع غامض: فجأة يدرك الجميع أن اللعبة قد انتهت، ببساطة لم يعد يخيفهم شيء بعد الآن. لا يفقد النظام القائم شرعيته فقط بل إن نمط ممارسته للقوة يتخذ المظهر العاجز لرد فعل مذعور.
نحن نعرف جميعا هذا المشهد الكلاسيكي من عالم الكارتون: يصل القط إلى حافة الهاوية لكنه يستمر فى السير متجاهلا حقيقة عدم وجود أرض تحت قدميه، ولا يبدأ في السقوط إلا حين ينظر لأسفل و يرى الهاوية.
عندما يفقد النظام سلطته يغدو كقط على حافة الهاوية: لكي يسقط يجب فقط تذكيره بالنظر لأسفل . في "الشاهنشاه"- والذي يعتبر شهادة كلاسيكية علي الثورة الخومينية - حدد " رزار كابوسنسكي " بدقة لحظة هذا الانقطاع : في مفترق طرق بطهران رفض أحد المتظاهرين أن يتزحزح من مكانه عندما صاح به شرطى كي يتحرك، فما كان من الشرطي الذى أسقط في يده إلا أن انسحب ببساطة .
في خلال ساعات قلائل كانت طهران بأكملها على علم بالواقعة وعلى الرغم من المعارك الدائرة في الشوارع على مدى أسابيع أدرك الجميع بشكل ما أن اللعبة قد انتهت. هل يحدث الآن شي مشابه لذلك؟
ثمة العديد من الروايات للاحداث الجارية فى طهران . البعض يرى في هذه الاحتجاجات تتويجا لجهود حركة الإصلاح الموالية للغرب على غرار الثورات البرتقالية في أوكرانيا و جورجيا .. إلخ، رد فعل علمانى ضد ثورة الخوميني. ويؤيدون الاحتجاجات باعتبارها خطوة أولى نحو ايران جديد ليبرالي - ديمقراطي علماني خال من الأصولية الإسلامية.
فى المقابل ثمة متشككون يعتقدون، علي العكس امن ذلك،أن أحمدي نجاد قد فاز بالفعل: إنه صوت الأغلبية في حين ن موسوى يعتمد علي دعم الطبقات الوسطى وشبابها المضلل. باختصار: فلنكف عن الأوهام و لنواجه حقيقة أن ايران قد عثرت مع أحمدى نجاد على الرئيس الذى تستحقه.
وثمة هؤلاء الذين لا يعولون كثيرا على موسوي على اعتبار أنه مجرد عضو في مؤسسة رجال الدين لا يميزه عن أحمدي نجاد سوى فروقات شكلية: فموسوى يعتزم أيضا مواصلة البرنامج النووى، و هو ضد الاعتراف بإسرائيل بالإضافة إلى تمتعه بالدعم الكامل للخوميني عندما كان يشغل منصب رئيس الوزراء خلال سنوات الحرب مع العراق.
وأخيرا، فإن أكثر هذه المواقف إثارة للأسى هو موقف اليساريين المؤيدين لأحمدى نجاد: ما يعنيهم في المقام الأول هو استقلال إيران. لقد فاز أحمدي نجاد بالانتخابات لأنه دافع عن استقلال البلاد، فضح فساد النخبة، واستخدم عوائد النفط لتحسين دخول الأغلبية الفقيرة.
هذا هو- هكذا يقال لنا- أحمدي نجاد الحقيقي خلف الصورة التى يروجها الإعلام الغربى، صورة المتعصب الذى ينكرالهولوكست.
إن ما يحدث بالفعل في إيران الآن، طبقا لتلك الرؤية، هو تكرار لانقلاب 1953 ضد مصدق: انقلاب ممول من الغرب ضد رئيس شرعى .
هذا التوصيف لا يتجاهل الحقائق فقط : النسبة المرتفعة للمشاركة الانتخابية - قفزت من نسبة 55% المعتادة الي 85%- لا يمكن تفسيرها إلا كتصويت احتجاجى.
بل هو يعكس عجزا بالغا عن إدراك مثل هذا التجلي الأصيل للإرادة الشعبية، مفترضا باستعلاء أن احمدي نجاد هو الشخص المناسب تماما لقيادة الشعب الإيراني المتخلف الذى لم ينضج بعد بما يكفى كي يحكم بواسطة اليسار العلمانى.
بالرغم من التعارض القائم بينها، تتفق هذه التفسيرات كلها في قراءتها للا حتجاجات الايرانية من خلال محور الإسلاميين المتشددين في مقابل الإصلاحيين الليبراليين الموالين للغرب مما جعلها تجد صعوبة بالغة فى تحديد موقع موسوى : هل هو إصلاحي مدعوم من قبل الغرب يرغب في منح المزيد من الحريات الشخصية واقتصاد السوق ، أم هو عضو في مؤسسة رجال الدين لن يكون لفوزه، حال حدوثه، أى تأثير جدي على طبيعة النظام؟
يؤشر هذا الـتأرجح الشديد بكل وضوح على قصور هذه القراءات جميعها عن إدراك كنه هذه الاحتجاجات.
فاللون الأخضر الذى يتخذه أنصار موسوى شعارا لهم و صيحات "الله أكبر" التي تتعالى من فوق أسطح المنازل بطهران في ظلام الليل تشير بوضوح إلى أنهم يرون فى ما يقومون به تكرارا لثورة الخومينى عام 1979، عودة لجذورها، و تصحيحا لما اعتراها من فساد فيما بعد .
لا تتعلق تلك العودة للجذور بالبرنامج فقط، بل تتعلق أكثر بنمط فعالية الجماهير: الوحدة المتينة للشعب، تضامنهم الشامل، التنظيم الذاتى الخلاق، ارتجال أساليب للتعبير عن الاحتجاج، المزج الفريد بين التلقائية و الانضباط، على سبيل المثال المسيرة الرهيبة التى ضمت آلافا من البشر يسيرون في صمت تام.
نحن بصدد انتفاضة شعبية أصيلة للذين غرر بهم من أنصار ثورة الخومينى. ثمة نتائج بالغة الأهمية يمكن استنباطها من هذه الرؤية. أولا، أحمدى نجاد ليس بطلا شعبيا للفقراء المسلمين بل هو إسلاموي-فاشستي شعبوى فاسد بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
النسخة الإيرانية من بيرلسكونى، يجمع في مزيج فريد بين سلوكيات بهلوانية وسياسة القوة الخشنة ويسبب حرجا حتى للغالبية العظمى من آيات الله. علينا ألا ننخدع بما يقوم به من توزيع ديماجوجي للفتات علي الفقراء: لا يوجد خلفه أجهزة قمع بوليسى و جهاز علاقات عامة علي النمط الغربي فقط، بل أيضا طبقة قوية من الأغنياء الجدد تعتبر افرازا طبيعيا لفساد النظام.
(الحرس الثوري الايراني ليس ميليشيا للطبقة العاملة بل مؤسسة عظمي، أقوي مراكز الثروة في البلاد)
ثانيا، يتعين علينا أن نفرق بوضوح بين المرشحين الرئيسيين ضد أحمدى نجاد: مهدى كروبى و موسوي.
فكروبى إصلاحى بكل ماتحمله الكلمة من معنى، يطرح بصفة أساسية النسخة الإيرانية من سياسة الهوية ويتعهد بمراعاة مصالح كل الجماعات الخاصة.
الأمر مع موسوي مختلف كلية، فاسمه يقترن بمشروع إعادة إحياء - بكل ماتحمله الكلمة من معنى- للحلم الجماهيرى الذى ساند ثورة الخومينى. حتى وإن كان هذا الحلم محض يوتوبيا، علينا أن ندرك ما ينطوى عليه من يوتوبيا أصيلة للثورة. ما يعنيه ذلك هو أنه لا يمكن اختزال ثورة الخومينى عام 1979 الى مجرد تولي متشددين إسلاميين مقاليد السلطة، لقد كانت أكثر من ذلك بكثير.
لقد حان الوقت كي نتذكر الفوران العظيم للعام الأول الذى تلا قيام الثورة و ما صاحبه من تفجر، يحبس الأنفاس، في الإبداع السياسى و الاجتماعي و التجارب التنظيمية و المناظرات التى كانت تعقد بين الطلاب و الناس العاديين. وحقيقة أن هذا التفجر قد تعين كبته دليل واضح على أن ثورة الخومينى كانت حدثا سياسيا أصيلا، انفتاحا لحظيا أطلق قوى تحول اجتماعى- لم يسمع بها من قبل - من عقالها لحظة " بدا خلالها كل شيء محتملا".
ما حدث بعد ذلك كان بمثابة إغلاقا تدريجيا عبر تولى "مؤسسة الإسلام" مقاليد السيطرة السياسية. بمصطلحات فرويدية تمثل الاحتجاجات الراهنة "عودة المقموع" فى ثورة الخومينى.
أخيرا و ليس آخرا، ما يعنيه هذا هو أن الاسلام ينطوى علي طاقة تحريرية – لسنا بحاجة إلى العودة الي القرن العاشر كي نعثر على الإسلام "الجيد"، فهو حاضر هنا أمام أعيننا.
وأن المستقبل غامض، وأغلب الظن أن القوى المسيطرة سوف تتمكن من احتواء الانفجار الشعبى والقط لن يسقط في الهاوية بل سيتمكن من استعادة الأرض تحت قدميه . و مع ذلك فالنظام لن يكون هو ذاته بعد الآن بل مجرد نظام أوتوقراطي فاسد بين آخرين .
أيا كانت النتائج فإنه لمن الأهمية بمكان أن نعي أن ما نشهده الآن هو حدث تحريري عظيم لا يمكن استيعابه في إطار الصراع بين الليبراليين الموالين للغرب والأصوليين المعادين للغرب.
لو أننا - بسبب من براجماتيتنا العدمية- فقدنا القدرة على إدراك هذا البعد التحريرى إذن فنحن- فى الغرب- مقدمون بالفعل على عصر مابعد –ديمقراطي وعلينا أن نستعد من الآن لاستقبال نسخنا الخاصة من أحمدى نجاد . الإيطاليون يعرفون اسمه بالفعل: بيرلسكونى. الآخرون ينتظرون فى الطابور.

--------
* سلافوى جيجيك: فيلسوف و عالم اجتماع ماركسى ولد عام 1949 فى سلوفينيا . اشتهر بتوظيفه لأعمال عالم النفس الفرنسى الشهير جاك لاكان فى إعادة قراءة منتجات الثقافة الجماهيرية . كتاباته تشمل مجالات عديدة وتغطي حقول معرفية متعددة من فلسفة وعلم اجتماع و نقد ثقافى وتحليل نفسى . كتب في العديد من الموضوعات مثل الحرب على العراق والأصولية والرأسمالية والتسامح والعولمة وحقوق الانسان و مابعد الحداثة و التعدد الثقافى ، و يصف نفسه كمفكر شيوعى ماركسى . أهم مؤلفاته "شيء الأيديولوجية السامى" الذى أكسبه شهرة عالمية .
** الصورة من
Andy Miah .

02 July 2009

ماركسي على سنة الله ورسوله


يوحي هذا التعبير- الذي كان يحلو لعبد الوهاب المسيري أن يصف به نفسه في حواراته الأخيرة - أن إنتاجه الفكري كان من عينة محاولات متواضعة شائعة للتوفيق بين عناصر مختلفة بدلا من تحمل كلفة الانحياز لأحدها.
ولكني على العكس، أجده قبل كل شيء دالا على حسه المرح في التعبير عن موقفه المركب والمميز. انحيازاته الأخيرة واضحة في إنتاجه، ومما أحبه فيه أنه كان يتحلى ببساطة الانحياز وحراراته سواء في فكره أو حركته، ولكنه أيضا كمفكر أصيل ذي تجربة لا يمكنه إنكار تأثير كل جوانب التجربة على موقفه النهائي.
الهوية - كما يقول تيري إيجلتون- هي ما لا يمكننا أن نتخلى عنه. هذا إن صحت ذاكرتي لأني لم أستطع الرجوع الآن إلى مصدر قوله هذا.
المسيري أيضا كان كثيرا ما ينسى الإحالة للمراجع في كثيرا من أعماله الفكرية- أو يتجاهلها عمدا في رأي نقاده الأعنف- ويمكن أن نلومه على ذلك. ولكن المفاهيم الكثيرة التي اقتبسها من الفلسفة والفكر الغربيين، لا تمنع اعتقادي أنها في سياق أفكار المسيري كانت تنبض نبضا مختلفا، ربما بسبب أصالة همه الفكري، الذي لم ينفصل عن تجرية كشف عن جوانبها في سيرته الذاتية/ الموضوعية. وهي من أكثر السير التي قرأت إمتاعا وثراء.
التعبير عن هذا تحديدا كان طموح مقالي عن المسيري، الذي حاولت فيه أن أركز على التشابك ما بين التجربة الشخصية والإنتاج الفكري، وبين جوانب هذا الإنتاج الفكري المترابط والمتناغم. وأتمنى أن يكون خطوة تحضيرية للتعامل النقدي مع أفكار وأطروحاته.
المقال كتبته بعد وفاة المسيري مباشرة، كمشاركة في ملف عنه تعده مجلة "القافلة" السعودية. ولم ينشر بسبب سوء تفاهم حول المساحة المخصصة. ولكني أشكرهم على التعامل مع سوء التفاهم هذا بقدر فائق من الاحترام. وهو ما يندر تواجده في عالم الصحافة اليوم.
مرور عام على وفاة المسيري، قد يكون لحظة مناسبة لنشر المقال، وهو حجة أيضا لأعلن عن مدونتي الجديدة: أشغال عامة. والتي أجمع فيها كتاباتي الصحفية التي لا تشجعني طبيعتها على إضافتها هنا إلى ما بدا لي. كنت أود تأجيل ذلك حتى أستكمل إضافة أرشيف ما كتبته في صحف ومجلات أخرى قبل الشروق. ولكن يبدو أن ذلك بعيد الأمد، والله المستعان.
كما أني أتمنى أن تحقق هذه المدونة هدفها وأن أحظى بآرائكم وتعليقاتكم إن كان في محتواها ما يثير اهتمامكم، وبالطبع تصويباتكم ومراجعاتكم بخصوص ما لا يعجبكم.

أشعر الآن أن هذه التدوينة مثل: "كوهين ينعى ولده ويصلح ساعات"! ولكني كثيرا ما أستخدم هذه المدونة للدعاية لكل ما يبدو لي أن أنحاز إليه. وياء المتكلم في عنوان هذه المدونة هي بالطبع أكثر ما أنحاز إليه، لأن غير ذلك في الحقيقة لا يمكن أن يكون، وعلينا أن نتحلى ببساطة الاعتراف بهذا الانحياز البسيط المشروع الذي لا يمكن الفكاك منه.

26 June 2009

22 June 2009

لنناقش أهمية الهواء




’’ بنى اليسار الشعبوي سورا عاليا بين النضال من أجل الديمقراطية والكفاح ضد الإمبريالية، حيث تم إخضاع الأول لصالح الثاني واعتبر الكفاح ضد الإمبريالية أولوية. وعموما أجاد " آية الله المناوئ للإمبريالية" فعل ذلك جيدا فأصبحت المعركة من أجل الحريات في الشوارع والجامعات والمصانع - والتي فى جوهرها معركة ضد الحكام الإسلاميين- تلهي، بل وتعوق، الكفاح ضد الإمبريالية و أصبح علينا أن نضحي بكل شيء في سبيل كفاح مزيف ضد الإمبريالية يديره في القمة الحكام الإسلاميون لإيران.

لكن حتى هؤلاء الذين لم يقتنعوا بهذه الفرضية خففوا من حدة النضال الديمقراطي. لذا أدار اليسار رأسه للجهة الأخرى عندما خرجت النساء بالآلاف في يوم المراه العالمى الاول بعد الثورة (مارس 1979) في مسيرة ضد اشتراط ارتداء الحجاب لدخول المكاتب الحكومية : فبعد كل شيء ما هؤلاء بالنسبة لهم إلا نساء "معطرات" مدللات من الضواحي الأغنى . كذلك صمت اليسار مرة أخرى بعد أشهر قليلة عندما نهب مجموعة من البلطجية مكاتب صحيفة أيانديجان اليومية، فهي صحيفة "ليبرالية" وبالتالي لا علاقة لنا بها. في خلال سنة تم كذلك إغلاق صحف تقدمية مثل بختار إيمروز، وفي النهاية تمت تصفية صحافة اليسار السرية ودخل المشهد الصحفي الإيراني في ظلام كامل لخمس عشرة سنة.

اعتبر اليسار أن الديمقراطية السياسية تنتمي للبرجوازية، و عصر "الثورات البرجوازية" في أحسن الأحوال ما هو إلا سلم يقود للاشتراكية. الحريات الشخصية مثل حرية التعبير مطالب "ليبرالية" يمكن تجاهلها أو تحملها –في الوقت الحاضر- ولكنها ليست على رأس أجندة الأولويات، وبالفعل استعمل لفظ "ليبرالي" للاستهجان، كأنه سُبة. أما الملالي "المناهضون للإمبريالية" فكانوا أفضل كثيرا بالنسبة لليسار ، وهكذا حفر اليسار قبره بيده جراء ذلك التصنيف

الديمقراطية والحريات السياسية، بما فيها الحريات الفردية، هي الهواء الذي يتنفسه اليسار ‘‘

لا ينقص الكلمات السابقة لكي تكون معاصرة جدا إلا فتح قوس بعد اليسار الشعبوي في أول جملة ليضم أيضا معظم التيارات القومية والإسلامية ونخبها التي تزدري الآن احتجاجات الشباب الإيرانيين من الطبقة الوسطى والمدن، لأنها لا تنتمي لحركة جموع الفقراء في الريف والأقاليم ولأنها في مواجهة أحمدي نجاد المقاوم الشرس للغرب وأمريكا.
توجيه اللوم تحديدا لبعض فصائل اليسار يرجع إلى أن هذه الملاحظة كتبها - كنوع من المراجعة ذاتية - مهدي كيا، الكاتب والناشط اليساري الإيراني، عام 1999 في مقال بعنوان "دروس من الثورة الإيرانية"، وترجمته مريم النقر ونشر في العدد الخامس لـ"البوصلة" تحت عنوان "ثمانية دروس لليسار من الثورة الإيرانية".


21 June 2009

أبعد من نجاد وموسوي

بدلا من الاستسلام للدعاوى التي تنظر لما يحدث في إيران وتتذرع بالشرعية الشعبية لنجاد، متناسية سياق هذه الشعبية، أوشرعية مقاومته للغرب والإمبريالية، متناسية الهدف الأصلي من هذه المقاومة، يطرح الصديق محمد نعيم القناوي - في ما كتبه سريعا كملاحظة على صفحته على الفيس بوك - نقاطا موجزة وبعض المعلومات المنسية أو التي يتم تجاهلها ويقترح أن نضعها في اعتبارنا لرؤية صورة أوسع .

لنتمهل ونتأمل المشهد في إيران

في الشأن الإيرانى، قد ينسى الكثيرون من اليساريين والتقدميين والوطنيين التقليديين الحقائق القديمة والبسيطة عن معنى أن تمضي حياتك تحت حكم الإسلاميين، لأنهم لم بدركوا أبدا تبعات أن تولد وتشب تحت نير حكم كهذا.

فى ظل حكم تلك النظم تكف كأحد أبناء الطبقة الوسطى من تلقاء نفسك عن تذكر فسادها، لأنك تناضل يوميا فى مواجهتها من أجل لون لباسك أو طول شعرك أو شكل حجابك أو نوع الموسيقى التي تهواها.

تفاصيل الحياة اليومية بطعم القهر والوصاية. شوارع شمال طهران نظيفة وآمنة ولكنها آمنه ضد الجميع . المجال العام مغلق إلا فى ستاد آزاد الدولي الممنوع على النساء دخوله قانونا، والمتنفس إن وجد - وقطعا هو لفئات بعينها- لا يتعدى الحفلات الصاخبة داخل المنازل لأبناء الطبقة الوسطى، وأحيانا لا تكتمل إلا برشوة منتسبى الحرس الثورى الإيرانى كي لا يقتحموا المكان بحجة اختلاط الجنسين فى خلوات غير شرعية عقوبتها تتفاوت بين الغرامة والجلد والسجن.

الطبقة العاملة في إيران تعيش وحيدة وتموت وحيدة وتبعث وحيدة. وما تلاقيه من قهر تجاوز حتى حدود معرفته.
منذ عام ونصف نظم عمال النقل العام فى إيران إضرابا استمر أسبوعين، رفعوا خلاله شعارات مستجدية من نوع: انصفونا فنحن أبناء الثورة الاسلامية أيضا، ومن نوع اشفع لنا يا خمينى من الآخرة. ثم أعدم ثلاثة من قادة الاضراب!
ترى هل يتذكر أحد ؟ عفوا! هل عرف أحد ؟

هل يعلم الكثيرون أن رواتب العاملين فى جهاز الدولة فى إيران أضعاف أقرانهم فى القطاع الخاص . هل تناسى البعض أن إيران بلد بترولي سخي الانتاج شأنه شأن السعودية، وأن المنتسب للجهاز الحكومي فى بلد بترولي "مؤمَّم البترول"، هو من فئة الناجين من عذاب الدنيا فى بلد نامٍ .
هولاء هم من يدعمون أحمدي نجاد باللباس المدني و المسدسات والرصاص الحي فى الشارع، كما دعموا شاه إيران بنفس العنف من قبل، قلة محظوظة وفية لنظام يرفعها ماديا وحياتيا بما لا بقاس بعموم الناس. نفس القلة القادرة - ولكن بدون مرتبات مجزية هنا - على تعبئة الريفيين البسطاء بخمسين جنيها مقسومة نصفين أو بوجبة أو فرصة عمل موعودة فى المجالس البلدية . تلك هى الآلية فى إيران، وشدة شبهها بمصر هو ما يجعلنا نتأمل ما يدور هناك، فهى الدولة الكبيرة الاخرى فى الشرق الاوسط.

اختزال الأمر فى مظاهرات ناتجة عن دعاوى تزوير فى انتخابات رئاسية بين عدة مرشحين هو بلاهة مقصودة.
فموسوي أو ما يسمى بالإصلاحيين فى إيران يرتجفون خوفا من إحكام سيطرة المركب العسكرى " الحرس الثورى والباسيج " على منظومة السلطة الايرانية. يرتجفون لأن العسكر قد يقدموهم كبش فداء فى سلسلة مسرحيات ضرب الفساد والمفسدين فى مصالحة مع قطاعات من الجماهير باسم قطع أيدى سارقى قوت الشعب، وهم كذلك بالفعل.
هولاء العسكر يريدونه حكما كالذى تعلمونه جميعا تعلمونه جيدا وبدون أى هوامش حركة من تلك التى سئمنا حتى كراهيتها فى مصر.

الذين يقتلون فى الشوارع أخذوا مسألة التزوير ضد موسوي مطية، الأمر تخطى موسوي الذى طالب قبل أيام مؤيديه بعدم المشاركة فى المظاهرات، فنزل مئات الآلاف بعد ساعتين! الإيرانيون ببساطة منفجرون والسلطة الاسلامية الجهول أكثر غباء وغرورا من أن تقدم تنازلات، وسوف تراهن على الوقت.

العجيب أن بعض ممن يخشون وصول التيار الإسلامي للسلطة فى مصر يؤيدون أكثر تياراته رجعية داخل مركب السلطة فى إيران، ولم لا ماداموا هناك يصحنون كفوفهم ويخرجون لسانهم للولايات المتحدة، وسحقا للشعب الإيرانى فله رب يحميه، وليعانى هو الآخر فلماذا ننفرد نحن بالمعاناة!

من ينظر لتطور الاحداث بروح المتابع لمناكفة انتخابية عليه أن يتمهل . من يرى أحمدى نجاد رئيسا منتخبا وأن انصار موسوى يريدونها ثورة برتقالية على غرار أوكرانيا فليضحى بالقليل من وقته على ويكيبيديا، ليتعرف على المعلومات الأساسية عن نظام الحكم فى إيران.
ومن يتناسى أو يتنطع فليتذكر 40 ألف حكم بالاعدام على مناضلين يساريين ومثقفين تقدميين، فليتذكر أن احمدى نجاد ومير حسين موسوي كلاهما- وهما فى ريعان شباب سلطتهما- عطلوا الدراسة بالجامعات الإيرانية 4 سنوات من عام 1980 الى 1984، حتى لا تتسرب إليها عناصر غير اسلامية، فلنقرأ ونتأمل و نتمهل حينها قد نتفاعل.


19 June 2009

حفلة




رغم أني نمت مبكرا جدا، في الثامنة من مساء أمس، إلا أني أعتقد أنني رأيت كل ما حدث لاحقا في تلك الليلة بشكل أوضح ربما مما كان عليه.
لقد كانا - هي وهو- يحتفلان بكونهما معا، فى أعلى نقطة من مبنى يشبه القصر يحتل منتصف المدينة. وفي اللحظة نفسها عمت الفرحة المدينة واحتفلت كلها معهما.
لقد كنت نائما فلم أعرف أن المدينة فرحت، ولم تكن رغبتي في الحياة قوية بما يكفي لأطيع المنبه وأحظى بفرصة أن أكون معهما على قمة الفرح.
ولكن ماحدث أني استيقظت بشكل لا إرادي، وبحكم عادة بضع شهور، في الثانية بعد منتصف الليل -بالضبط- وفتحت التليفزيون على قناة إنفينيتي وشاهدت "فريزر" وتابعت أخبار المدينة سريعا على الإنترنت خلال فواصل الإعلانات، فعرفت ما فاتني وعدت للنوم وأنا أحلم بالمشهد.
حتى أني رأيت ملامحها وهي تحييهم كأميرة وتريهم دبلة الخطوبة من فوق ثمانية طوابق- تقريبا - بينما هم في الأسفل يلوحون بالأعلام الملونة ويرقصون.

17 June 2009

منطق الإمبراطورية

المزيد من الكلام عن زيارة أوباما وخطابه ربما يكون مملا أو سيبدو كمبالغة في تقدير أهميتهما. ولكني أدعوكم إلى استثناء مقال شريف يونس عن "المنطق الإمبراطوري" والمنشور في العدد الأخير من أخبار الأدب. فهو ينقل مفهوم "الإمبراطورية الأمريكية" من مجاز انتقادي أو تهويلي إلى أداة لتحليل وفهم التحول من سياسات الصدام البوشية إلى السياسات الاحتوائية لأوباما. كما أنه يقدم ما أراه أفضل تحليل لتفضيل أوباما توجيه خطابه إلى "العالم الإسلامي" تحديدا، ودلالات ذلك.

منطق الإمبراطورية

شريف يونس

وجه أوباما خطابا سياسيا مهما، يتناول الخطوط العريضة للسياسة الأمريكية المقبلة فى "الشرق الأوسط الكبير" وأشياء أخرى، إلى كيان عام هلامى يسمى المسلمون، أو سكان البلدان الإسلامية. لماذا يتجه رئيس أقوى دولة فى العالم لإلقاء خطاب "علاقات عامة"، كما أسماه البعض، غير موجه لرئيس الدولة المصرية، ولا لمجموع الرؤساء العرب، أو رؤساء "الدول ذات الأغلبية المسلمة"- بتعبير أوباما، ولا لمؤسسات إسلامية بعينها؟ ولماذا قوبل هذا "التخطى" بارتياح وسُمح به أصلا؟

هذا حدث لا يمكن فهمه بغير وضع مجموعة من الاعتبارات الخاصة بالمنطقة ووجود الولايات المتحدة فيها، فى العراق وغير العراق. أهمها أن ما يُعرف بالإرهاب الإسلامى لم يكن بمبادرة من حكومات فى المنطقة، بل من بعض سكانها. وأن أعمالهم لقيت نوعا من الاستحسان، ولو المتحفظ أو المشروط، من قبل قطاعات واسعة، كضربة موجهة للولايات المتحدة، راعية إسرائيل. من وجهة نظر أمريكية، هذه الظاهرة لا يمكن مواجهتها بمجرد الحفاظ على المصالح الاستراتيجية لبعض النظم الحاكمة فى المنطقة مقابل تعاونها. بعبارة أخرى.. لقد دخل الرأى العام فى المنطقة بقوة إلى ساحة السياسة الأمريكية، وبالتالى أصبح قوة يجب على الولايات المتحدة أن تتعامل معها.

منطق بوش فى المواجهة لم يكن سوى منطق المنتصر فى الحرب الباردة، الذى يعيب على غيره من التيارات السياسية فى الولايات المتحدة عدم اقتناص الفرصة وترسيخ سيطرة أمريكية عالمية. وأتت أحداث 11 سبتمبر لتقدم له تحديا وفرصة فى نفس الوقت لتجربة هذا النهج. غير أن التحدى كان أكبر من منطقه الدولتى (غير الإمبراطورى، وسنرى الفرق لاحقا). فكما ذكرنا، لم يأت التحدى من الحكومات، حتى يمكن قهرها. بحثا عن حكومة، وجد بوش فى عراق صدام نموذجا صالحا، فنهشها نهشة قاتلة. ولكن التحدى لم يأت أساسا من الحكومات، وهكذا واجه بوش، مرة أخرى، بعد "انتصاره"، جماعات مسلحة وراءها رأى عام ساخط يحميها، ويستحيل تحطيمها تحطيما تاما، وتنتهز دول مختلفة الفرص لزيادة مشاكل الولايات المتحدة بتدعيمها. باختصار أصبح الرأى العام فى المنطقة قوة على درجة من الاستقلال، بما اجتذب أطرافا مختلفة سعت لاستعماله فى الصراعات الدولية (مثلا جهود الدولة المصرية فى إثارة قضية الرسام الدانمركى بعد نشر الرسوم بستة شهور كهجوم مضاد على الضغوط الغربية).

أدركته الإدارة "البوشية" قضية صعود الرأى العام الساخط بقوة بعد أن استمرت مصاعبها بعد تحطيم حكومتى طالبان وصدام، ولكن استجابتها كانت الضغط على الحكومات المعنية لإفساح مجال للرأى العام والمعارضة، لامتصاص السخط. ولكن الصيغة التى تم بها "دفع" قضية الديمقراطية انطوت على تحدٍ للنخب الحاكمة المحلية، ولم تثر أى تعاطف واسع فى المنطقة. فقد بدت الديمقراطية فى التصور "البوشى" كمجرد مصلحة أمريكية خاصة لا تعنيها بأية درجة مصالح الشعوب نفسها. وبالتالى أثارت عداء النظم المحافظة فى المنطقة، وأتاحت لكل القوى المعادية النفخ فى العداء للولايات المتحدة، ليس فى المنطقة فحسب، بل فى كثير من أنحاء العالم الأخرى.

سياسة أوباما بنت تحالف مختلف فى المجتمع الأمريكى، جاء به إلى السلطة. وبالتالى كان من الطبيعى أن يأتى خطابه متحررا من الافتراضات البوشية، وجديدا بشكل نوعى (دون أن يعنى هذا أنه لم يستفد من انتصارات بوش). النقطة الجوهرية هى أن خطاب أوباما خطاب إمبراطورى، بالمعنى العميق للكلمة. الإمبراطورية تختلف جوهريا عن الدولة القومية، فهى تقوم وتستمر وتقوى على مراعاة واحترام التوازنات المحلية، والتصرف كنوع من الحكم المقبول فى النزاعات. كل إمبراطورية تقوم على مجموعة رئيسية من السكان (الأموية على عرب الجزيرة العربية، العباسية على الفرس فالترك، مثلا)، ولكنها لا تحكم بغير تعاون المجموعات السكانية الأخرى، ونخبها المحلية. لهذا السبب تقبلت الحكومة المصرية، وغيرها من الحكومات التى خاطب أوباما شعوبها مباشرة هذا "التخطى" لها، بغير أن تشعر بأنه يمثل أى اعتداء على سيادتها. فالإمبراطورية المطروحة توافقية.

ولكن لماذا حظى الخطاب الجديد أيضا بالقبول على نطاق واسع من الجمهور نفسه، المستهدف الأساسى به؟ ببساطة لأن السياسة "البوشية" جعلت الناس يشعرون، وبعضهم يدركون، أنه لا يوجد حتى الآن أى حل خارج الإمبراطورية، فالعولمة تفرضها فرضا، والعولمة ليست اختيارا، بل واقع، وبالتالى الحل المتاح هو ممارسة الصراع من داخل منطق الإمبراطورية، وبهدف تعديل توازنات القوى داخلها.

لا أدل على ذلك من أن الرؤى المختلفة فى المنطقة دخلت بدورها فى طريق مسدود فى الحقبة "البوشية". الراديكاليون، سواء بشعارات إسلامية أو قومية، كانوا يروجون صراحة أو ضمنا لهدف خيالى، هو "مواجهة" أو "مقاومة" تفضى إلى "تحرير فلسطين من النهر للبحر"، معتمدين على ما تثيره سياسات بوش من ميل قوى إلى التقوقع والدفاع عن النفس بأى طريقة كانت. ولهذا فإنهم يميلون بشكل طبيعى إلى التقليل من شأن خطاب أوباما. فالاعتماد متبادل بينهم وبين "البوشية"، بمعنى أن كلاهما تعتمد مصداقيته على وجود الآخر كعدو. أما منطق الحل الوسط مع إسرائيل، أو طريق السلام، فلا مصداقية له فى الحالة "البوشية"، التى يفتقر العرب فيها إلى أى تحالف يستطيع أن يضغط على إسرائيل.

طريق "الديمقراطية" فى بلدان المنطقة، ليس أقل انسدادا. فالشعار ترفعه قوى تنادى بـ"ديمقراطية فى حدود الشريعة"، أو "ديمقراطية فى حدود الخط السياسى القومى"، أو "ديمقراطية بلا إسلاميين". والدعاة الإسلاميون متحمسون لتوطيد "سيادة إسلامية" خالية من أى محتوى: عرقلة بناء وترميم الكنائس، ورفض حق البهائيين فى أبسط حقوق المواطنة، والإصرار على رفض حرية العقيدة الفردية وحرية الإبداع، أى خليط من "ديمقراطيات" سلطوية بطبيعتها. أما حدود "أزهى عصور الديمقراطية" فى ظل النظام الحاكم فمعروفة للجميع. باختصار، ليس صحيحا أن الحلول متوافرة ولا ينقصها إلا أن تبتعد عنا الولايات المتحدة، وبالتالى المجال مفتوح بطبيعته ذاتها .

على خلفية الإفلاس العام (الذى يطول أيضا السياسة الإسرائيلية، ولكن المجال لا يتسع لشرحه) طرح أوباما اقتراحه الإمبراطورى تحت عنوان الإنسانية، أو ما أسماه "عقيدة الإيمان بالآخرين"، ومطالبة ببدء صفحة جديدة بناء عليها. ومن هنا الطابع المتوازن العام للخطاب. غير أن ما يعنينا هنا أنه بصرف النظر عن الاختلاف مع سياسة أو أكثر من السياسات التى جاءت فى الخطاب، وبعض حججه، فإن المبادئ العامة التى بُنى عليها الخطاب تبدو الأنسب والأجدر بالتشجيع، لأنه يمكن معارضة ما يتم الاختلاف عليه فى خطاب أوباما بناء على نفس المبادئ التى وردت فيه: الشراكة والبحث عن أرضية مشتركة، الحرية الدينية والتسامح واحترام حقوق الأقليات، تحالف الحضارات، قبول التعددية السياسية، رفض التعذيب وقتل المدنيين، حقوق المرأة وحريتها الدينية.

وعلى سبيل "العربون"، قدم أوباما اعترافا بأخطاء الولايات المتحدة فى المنطقة، منها المسئولية عن الانقلاب ضد مصدق فى إيران فى 1951، والتعامل مع المنطقة كمجرد مخزن للبترول، وغزو العراق "الاختيارى"، والمعتقلات والتعذيب، وترويج صورة نمطية للإسلام كمرادف للإرهاب. كما قدَّم بعض الوعود، مثل عدم الإبقاء على قواعد عسكرية أمريكية فى العراق أو أفغانستان، أو المساعدة على مسارات التنمية الاقتصادية. وفى هذا السياق استطاع الجمهور أن يتخلى عن التعصب العربى الدفاعى، بتقبل، ولو دون قبول كامل، إدانة مذابح دارفور، أو صواريخ حماس، أو الإشارة إلى الأقباط. باختصار، نجح أوباما فى تقديم خطاب يبدو موجها لفئة دينية (المسلمين)، ولكنه يتضمن قيم الحداثة ويسعى لفك توترات هذه الفئة مع الغرب وفى المنطقة، وفى منافسة الخطاب القومى والدينى على قلوبها وعقولها.
ما لم يكن المرء يجرى وراء وهم نهاية الولايات المتحدة كالقوة العالمية الأكثر تأثيرا فى المنطقة، أو يتخيل أننا على وشك أن نرى عالما يخلو من التباين الشاسع بين قواه، يبدو أن رفض هذه الأسس والمبادئ، وهذا السعى لاستخراج جمهور المسلمين من الجب القومى/ الدينى، مجرد دفاع من جانب قوى منتهية الصلاحية تاريخيا، ورفض لصعود رؤى عربية جديدة قادرة على الاشتباك الإيجابى مع رؤية أوباما الإمبراطورية واستثمارها لصالح شعوب المنطقة وحل قضاياها.

06 June 2009

أوباما جاء ليكلمنا لا ليقول شيئا



لست ممن توقعوا أن يفاجئنا أوباما بانعطاف جذري تاريخي ليصبح "أوباما الأول" الذي اكتشف أن القضية الفلسطينية هي "ماستر كي" أبواب الوصال بين أمريكا والعالم الإسلامي/ العربي، فقرر استخدامه وجاء ليبلغنا ذلك.
ولكن التعبيرات بين المزدوجتين، التي أستعيرها من مبدعها محمد علي إبراهيم رئيس تحرير "الجمهورية" في مقاله بـالعدد الأسبوعي الصادر صباح الزيارة، أراها تعبر عن تصور هو بالفعل مفتاح أساسي أو "ماستر كي" لفهم طريقة تفكير مهاجمي أوباما وزيارته.
أصحاب هذا التصور كانوا متأكدين مثلي أن الانعطاف الجذري بشأن القضية الفلسطينية لن يحدث في هذه الزياة وهذا الخطاب. وعليه - وهنا سنفترق- بما أنه لن يشهر توبته ليكون معنا إذن فهو ضدنا. فقرروا استقباله ببوسترات الشباشب أو بمحاولة غرائبية للاعتصام في ميدان التحرير، بل استبقت اللجنة المصرية لمناهضة الاستعمار والصهيونية خطابه ببيان يدين مقدما الخطاب، وهو الظهور الأول فيما أعلم لظاهرة الإدانة مقدما ولا يفوتني أن أهنيء اللجنة.
اليقين المسبق في الإدانة المقدمة أو الاعتصام قبل الخطاب أو في بوسترات الشباشب هو يقين موفق إلى حد كبير، فلا أحد كان يتوقع أن هذا الخطاب سيشهد تحول أوباما من رئيس منتخب للولايات المتحدة الأمريكية إلى شاب هيبي أو ناشط في حركة مناهضة للعولمة سيطلب- وهو يضرب بقبضته على المنصة - نسخة من "وثيقة تفكيك إسرائيل" ليوقع عليها ثم يخرج من الجامعة محمولا على الأعناق.
تصور أمريكا كإمبراطورية لا يعني أن أوباما إمبراطور يمكن له أن يغير دينه فيتبعه قومه ويتغير مسار الإمبراطورية كما فعل من قبل امبراطور روماني. الكل يعرف ذلك، ولكن يبدو أن أصحاب الشباشب والبيان والاعتصام يعتبرون أن هذا وهذا فقط هو ما يمكن اعتباره شيئا جيدا يمكن الترحيب به.
وكأنه لا يمكن أن نرحب بأقل من ذلك اتساقا مع وضع أقدامنا المنغرسة في هذا المستنقع، واتساقا مع ما يمكن توقعه من رئيس منتخب ليعبر عن مصالح شعب آخر لا مخلص للبشرية، واتساقا مع التوقعات المتبادلة بين أفقين حضاريين أحدهما -رغم كل شيء- سمح لشخص ينتمي لأقلية عرقية أن يصبح رئيسا في حين أن الأفق الآخر تناضل فيه أقلية دينية من أجل بطاقة شخصية.

في هذا السياق، عندما يأتي أوباما ليلقى خطابا يدعو فيه إلى "إعادة تقييم العلاقة المتبادلة بين الأفقين الحضاريين" فإن هذا ما ينبغي التوقف عنده رغم أنه ليس جديدا يقال. الدعوة لتجاوز حالة "صدام الحضارات" أو كما عبر هاني شكر الله "وقف إطلاق النار في حرب الحضارات" أشار إليها أوباما سابقا في أكثر من مقام.
الجديد هنا هو أن أوباما لم يكتف بموقفه المعلن، بل أراد أن يقوله هنا في مقام أكثر قربا. أراد أن يسجل: "سآتي بنفسي لأقول ذلك". وهو هنا يؤكد مكانته الشخصية والاعتبارية، كما يؤكد على أنه رغم هذه المكانة سيأتي ويقول قولا لينا. بل وسيختار مكانا يعبر عن دور حضاري وليس سياسي مباشر.
ورغم أن دلالة المكانين الذين فاضل بينهما أوباما- جامعتي القاهرة والأزهر- عند من يعرفهما جيدا تختلف عما أراده أوباما. لكن اهتراء الدور الحضاري لكلتا المؤسستين لا يزال يخدم خطاب أوباما، فهما مكانان ارتفعت فيهما المصاحف في المظاهرات واختلط فيهما الاحتجاج السياسي على سياسات أمريكا بتصور عن حرب تقودها ضد الإسلام.
"الإطار الحضاري" الذي اختاره أوباما له دلالات عدة. فهو من ناحية مناسب لاعتذار عن حماقات تسبب فيها سلفه والتيار الذي يمثله، ولكنه أيضا هجوم على الحماقات المقابلة عند قطاعات مماثلة في هذه المنطقة من العالم وافقت سياسات بوش هواها واعتبرتها تأكيد لصدق نظرتها الثنائية للعالم، ونظرّت لكون الصراع الديني أو القومي هو الإطار الحتمي لقراءة كل تناقضات وصراعات السياسة.
بخلاف المجاملات الديبلوماسية، فإن كل إشارات التقدير الموجهة لـ"العالم الإسلامي" كانت موجهة لماضيه، بينما كل الإشارات الإيجابية موجهة لحاضر أمريكا أو ما يتعهد أوباما بالالتزام به. التسامح واحترام الأقليات هما من التراث الماضي للعالم الإسلامي، الذي يدعوه أوباما الآن لاحترام التنوع وحسن معاملة أقلياته. وحتى حجاب المرأة لم يتركه أوباما للعالم الإسلامي بل أكد على أنه ضد أي انتقاص من مكانة المرأة بسببه، ويدعم كلامه وجود مستشارته المحجبة، في الوقت الذي لا يمكن أن تلتحق فتاة محجبة بالسلك الديبلوماسي المصري.
هو أكد على أن أمريكا ليست في عداء مع دين ما لأن المسلمين فيها مواطنون ينعمون بالحرية الدينية، وبالتأكيد يحظى الأمريكيون بحرية التحول إلى الإسلام، بينما أعداد لا تتجاوز أصابع اليد تتحول عن الإسلام تثير القلاقل في العالم الإسلامي المعاصر، والجامعة التي كان يخطب على منبرها تواطئت لإقصاء باحث هو نصر أبو زيد لأن أساتذتها اعتبروه مرتدا عن الإسلام بسبب اجتهادات أكاديمية قدمها.
يبدو لي هنا أن الوجه الآخر لاعتذار أوباما هو توبيخ وتقريع عنيف. بدا لي أنه يقول لنا: "أنتم تطلبون عدالة واحتراما وسياسة أخلاقية لا تكيل بمكيالين. ولكنكم فيما بينكم بلا عدالة ولا احترام للأضعف، كما أنكم لا أخلاقيون وبألف مكيال. فكروا قليلا، عليكم الكثير من الواجبات قبل أن تتنتظروا شيئا".
هاجم البعض خطاب أوباما لأنه لم يقل شيئا جديدا انتظروه. أوباما لم يأت هنا مع خدمة توصيل الطلبات للشعوب. بل على العكس كان واضحا في إشارته إلى العلاقة الوثيقة بين أمريكا وإسرائيل، ليحبط منتظري "أوباما الأول"، كما قال بشكل واضح أن خطابا لن يقدم حلولا للمشكلات المعقدة التي أدت بنا إلى هذه اللحظة.
لم يأت أوباما أصلا ليقول شيئا جديدا، ولكنه جاء إلى هنا ليتكلم ويؤكد على ما قاله سابقا من أن إدراته تريد أن تعتمد سياسة لا تكون فيها أمريكا إمبراطورية تهتم بمصالحها بشكل ضيق الأفق. ولكن على العكس تدرك أن بينها وبين العالم مصالح مشتركة هي أساس التفاهم والحوار، وهناك بالتأكيد انحيازات ومصالح متعارضة – أعلنها بوضوح وصدق- يمكن للتفاهم والحوار أن يسهما في التفاوض حولها، حتى في وجود الصراع.
التفاوض أو "الكلام الممكن" هو ما أراد أوباما أن يعبر عنه بقدومه إلى هذه المنطقة، لكي يكرراختياره لسياسة ترفض اعتبار اختلاف الإطار الحضاري، الديني وغيره، هو أساس الصراع أو مانعا للتفاوض والتفاهم. بل ويدعو هذه المنطقة أن تحترم أقلياتها وتنوعاتها من نفس المنطلق.
لا يمكنني أن أفهم تحركات أوباما إلا باعتبارها خطوات رئيس أمريكي يرعى مصالح أمريكا، التي يقف كثير منها ضد انحيازاتي. وفي هذا السياق أختار الترحيب بأوباما، بصفته الرسمية "رئيسا خصما" يريد أن يخلص الصراع من جهالات مدمرة للطرفين، وبصفته الشخصية كفرد تحمل مسيرته الخاصة داخل أروقة الامبراطورية الملامح الجيدة لما يسمى بـ"الحلم الأمريكي" المتعدد الوجوه، كما لا يضايقني أبدا أن يكون خطابه هنا استعراضا لبهاء هذا الحلم متمثلا فيه أو تقريعا لحالة الانطفاء في هذا الجانب من العالم والتي تزيد من جاذبية بهائه. لعل الغيرة تنهشنا.

31 May 2009

حسناً



استيقاظي مبكرا اليوم
سأعتبره دليلا على الحياة

لن أضيع وقتا
سأجلس إلى مكتبي
أفسح لنفسي
- ولكوب الشاي-
مكانا بين الأوراق المبعثرة
وأفكر..

كيف سأعيد ترتيب هذه الحياة
وهذه الأوراق.


08 April 2009

السياسة هي في مكان آخر



في الواقع أنا أتحمس...
صباح أول أمس، استمعت إلى "قوم يا مصري" مرة من سيد درويش ومرة من "اسكندريلا"، وأنا أرتدي التي شيرت الكحلي – أنا عادة ما أرتديه لكن ذلك الصباح ارتديته عمدا بينما كان بإمكاني أن أرتدي الزيتي – ثم ذهبت إلى الجريدة وأنا أتوقع أن أرى بعض الآخرين يرتدون ملابس غامقة، سيتابعون أخبار يوم هاديء بشغف في أول اليوم ثم بملل في منتصفه وربما بسخرية في نهايته. لم أتوقع أكثر من رمزية أزياء أنصاف المتحمسين ومحاولات احتجاج الأكثر حماسة، ولا أكثر من طبعة مكررة من يوم لـ"الغضب العام".
لست ضد فكرة يوم "الغضب العام"، ولكن لا أتوقع أبعد من استجابة رمزية من "المناضلين العموميين"، ولكن على الأقل عليهم أن يتفقوا بشأن هذا اليوم. ولست ضد رهان شباب 6 إبريل على المواطن العام الذي سيفيق من سباته لأنه تلقى دعوة للغضب على الإنترنت، ولكن لا يمكن أن أتحمس بدرجة كبيرة لمثل هذا الرهان ولا لنتائجه.
أنا أيضا لست ضد فكرة "المناضل العام" – يسمى أيضا في ديباجات حركية بـ"المناضل الطائر" – ولا ضد الأهداف الرمزية للفعل السياسي. السياسة في النهاية هي الصراع الذي يقدم تفاعلا بين الواقعي والرمزي، فالعلاقات والتوازنات بين القوى على الأرض تشتبك في لحظات بعينها – الحرب / الانتخابات – ولكن في باقي اللحظات تظل الحالة السياسية تلخيصا لنتائح الاشتباكات بشكل رمزي ومجازي: سلطات تدعي الشرعية وممثلين لإرادة الناس، أو لحظات مقاومة يجري فيها صراع مستمر على أرض الواقع أو على مستوى المجاز والرمز والأفكار في محاولة للوصول لأرض معركة كبيرة جديدة ثم الوصول لتوازن جديد.

أعتقد أن العديد ممن تحمسوا لتجربة "كفاية" وفورة آمال التغيير وأنا منهم- حتى لو لم يكونوا يطمحون إلا لزحزحة الأسوار قليلا للتمتع بمساحة أكبر من البراح – قد خرجوا من التجربة بقناعة أن "الاحتجاج العام" ليس أكثر من فعل رمزيّ، له دوره في لحظات سياسية معينة. ولكنه إما أن يتحول لفعل حقيقي في ساحة السياسة في حالة وجود قوة مناسبة وخطة محددة لهدف محدد يمكن الرهان عليه بهامش معقول من المغامرة، وهو ما يحدث في الاحتجاجات المطلبية للعمال والمهنيين والطلبة. وإما أن يكون الاحتجاج العام جزء من سعي تيار أو قوة تعبر عن مصالح فئات متنوعة وتطالب ببرنامج سياسي واجتماعي – لم يتم صياغته كديباجة حلوة مثل "إعلان القاهرة" يكتبها ويلقيها أحدهم مدفوعا بقريحته السياسية – بل يعبر عن اتفاق وتلاقي قوى بالمعني الحقيقي، ويكون الاحتجاج أحد وسائل وبدائل ذلك التيار وأداة للتعبير والتلويح بإمكانات هذه القوة ورمزا لقدرتها على الحشد، أي مجاز لسلطتها التي تتحدى سلطة أخرى.
بخلاف هاتين الحالتين، فإن الاحتجاج الذي لا يتكيء على شيء، ولا يجمع إلا أعداد ضئيلة، يظل رمزا للقوة المحدودة التي تعلن الرغبة في المقاومة وتحدي السلطة، وتستعين بذلك وبتوسط كاميرات الإعلام للظهور في مواجهة السلطة رغم الفرق الكبير في ميزان القوى. ذلك مفهوم ومشروع وأداة لكل قوة صاعدة. ولكن الإكثار من "الاحتجاج العام" والاقتصار عليه والنفخ فيه -"إضراب عام لشعب مصر"- يتحول إلى إدمان للفعل الرمزي، وانتظار لتحوله إلى فعل واقعي عن طريق صحوة النخوة وتفجر الغضب في أوردة المواطنين بفعل الطاقة الشعرية للمجاز السياسي، وبفضل صدق وإخلاص الدعوات التي تدعوهم للتحرك إتباعا لقوى يسمعون عنها في أحسن الأحوال.
قد يكون دالا أن يتفق طرفا اليسار المصري المختلفين عادة – الاشتراكيين الثوريين واليسار الديمقراطي – على قدر من التحفظ تجاه التوقعات الكبيرة والاهتمام المبالغ فيه بإضراب 6 إبريل. الصحافة تقف موقفها المعتاد بالبحث عن أي إثارة وأي حالة ولو مختلقة من الاستقطاب السياسي، وتحتفي حفاوة إضافية بـ"شباب 6 إبريل" أو "أشباح الإنترنت" و"تنظيم الفيس بوك"، باعتبارهم تقليعة، وأيضا لأنهم يهاجمون السلطة والمعارضة معا، والصحافة "المستقلة" تحب لعب دور "الطرف الثالث" المستقل. وعندما يتحول السياسيون وتياراتهم بفعل "إدمان الرمزية" إلى إعلاميين في ساحة السياسة، فإن الصحافة ليس أمامها إلا أن تغطي هذا الفعل الرمزي بفائض كبير من البلاغة للاحتفاء بالرمزي ودلالاته. فتنتفخ المانشيتات قبل الحدث وتنزوي خجلا بعده أو تستمر في عنادها تعاطفا أو كرها في الاعتراف بالفشل في مواجهة أبواق السلطة.
لم يعد غريبا أن يعلن كل الأطراف الانتصار منذ الحروب الأخيرة في المنطقة. فحتى السياسة الدولية والعلاقة مع إسرائيل تملأهما حمى "الموقف الرمزي" و"التحسس من أي شبهة تطبيع أو موالاة". مبروك إذن للجميع على كل الانتصارات، باستثناء "الانهزاميين" الذين لا يستسلمون للحماس أكثر من اللازم ويعلمون أن السياسة هي في مكان آخر عليهم أن يحرثوه جيدا وطويلا قبل أن يفكروا في انتظار أي ثمرة حقيقية.



- لم أقرأ بعد رواية ميلان كونديرا "الحياة هي في مكان آخر".
- الصورة من وكالة الأنباء الفرنسية