29 May 2013

الشغل في العبيد

نصحني ألا نأكل في هذا المطعم بالذات وأن نختار أي مطعم آخر في مدينة العريش. المطعم بدا لي من محاولة أصحابه إبداء الفخامة والفخفخة أنه على الأقل جيد. ولكنه أوضح لي أن للأمر بعدًا أخلاقيًا، «صاحب المطعم ده كوّن ثروته من الشغل في العبيد».
أعلم شذرات عن تهريب الأفارقة عبر سيناء إلى إسرائيل بعد ابتزازهم، ولكن التعبير لطمني: «الشغل في العبيد».
تفاصيل أخرى كانت أشد قسوة. أن الأمر تحول من حالات محدودة إلى تجارة رائجة ولها مشاهير كونوا ثرواتهم منها. وأن الأمر تجاوز الابتزاز إلى خطف واحتجاز الأفارقة الباحثين عن اللجوء والذين يعانون في القاهرة والمحافظات، بعد وعود بتهريبهم إلى إسرائيل، ثم «بيعهم» إلى آخرين في سيناء يقومون بتعذيبهم وإجبارهم على الاتصال بذويهم ودفعهم لتحويل الأموال إليهم. وربما يحدث أن يباع «الضحية» إلى آخر يتابع تعذيبه إن كان ماهرًا في الابتزاز ليجعل أهله يبيعون كل ما لهم من أجل تحرير قريبهم. وفي نهاية هذه العملية قد يتم «بيع» الضحية إلى مشترٍ في إسرائيل يستخدمه كيد عاملة رخيصة أو أي أنشطة غير قانونية، أو قد يتحول الضحية إلى كتل متفرقة من اللحم والأعضاء البشرية التي تباع في سوق تجارة الأعضاء، والفائض من جسده يذهب إلى القمامة.
الروايات المتعددة من أهالي سيناء عن «الشغل في العبيد» تحكي أيضا عن الجدل الدائر حولها وأن بعض المشايخ قد دخلوا في جدالات مع عائلات تمارس هذا النشاط، وأثناء الجدل احتج ممارسو هذا النشاط بأن هؤلاء «العبيد» كفار أصلا، وثنيون أو يهود. ويحكي الناس في المدينة ببساطة عن فلان الذي كوّن ثروته من هذا النشاط لكنه تاب إلى الله على يد الشيخ فلان ويتابع الآن حياته بكل بساطة بعد أن هداه الله.
يمكن أن نضع هذه التفاصيل المفزعة بجانب تفاصيل أخرى عن دوائر وحلقات من الظلم والقهر بعضها فوق بعض، طفت كلها أمامي أثناء زيارة قصيرة الأسبوع الماضي مع زملاء «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية » .كانت زيارتنا تهدف لرصد أي عسف أمني «إضافي» متوقع في ظل «العملية العسكرية» التي كانت متوقعة وقتها لتحرير الجنود المختطفين. ولكن الهدوء الذي أعقب الإفراج عنهم ليس أقل إزعاجًا بل كان خلفية مناسبة جدا لتطفو هذه الدوائر.
 أتمنى أن يظل بعض الاهتمام مستعدًا لسماع المزيد عن دوائر الظلم والتهميش في «سيناء» الأسبوع القادم عندما نعلن تفاصيل تقرير عن الصورة الكبيرة في محاولة لتجاوز الحديث المكرر  «الاستعماري» عن هيبة الدولة أو عن خطط تنموية لأهالي حدودنا الشرقية نظرا لأهميتها وأهميتهم الاستراتيجية.
تحويل منطقة وناس إلى موضوعات وأشياء، بعض ما يحدث فيها يمس هيبة «دولتنا» وتنميتهم مفيدة لاستقرار وأمان «دولتنا»، هي نفسها طريقة التفكير في الجنود المختطفين الذين أصبح العدوان عليهم مساسًا بهيبة «المؤسسة العسكرية والدولة» في حين أن ظروف تجنيدهم ليست إلا مهانة بضعة جنود مشاة من بين مئات الآلاف من الجنود في الجيش والأمن المركزي. كلها تنويعات يمكن نسبتها لفكرة «الشغل في العبيد».
والتفاصيل البشعة لهذه التجارة المنحطة ليست إلا نتيجة طبيعية لتحويل إنسان إلى شيء وموضوع لأن كرامته وحياته في لحظة ما لا يندرجان تحت بند هيبة دولة أو مؤسسة، ولأنه «مختلف» في العرق أو الدين عن أبناء العصابات.
وفي الأشكال الأخرى من هذه التجارة يمكنك أن تضع بدلًا من العرق والدين ما تشاء من أشكال التمييز  والاختلاف. بدءًا من الاختلاف عن «الهوية المصرية في الوادي والدلتا» ، مرورًا باختلاف «الرتبة العسكرية» أو اختلاف الطبقة الاجتماعية.
الجدل العام يتحول الآن من سيناء إلى إثيوبيا ومصير منابع النيل مع تطورات إنشاء «سد النهضة». ويبدو أن بعض الجدل وهو يتحول عن سيناء إلى هناك يحتفظ ببعض غطرسته وهو يتحدث عن «خيار عسكري»  للعدوان على مشروع السد والدفاع عن «حقوقنا» التي بعضها في الحقيقة «امتيازات» واتفاقات هي في الحقيقة «إكراه وعدوان» من مخلفات مرحلة استعمارية ثم مراحل من تمسك الدولة المصرية بامتيازاتها. ويبدو أنه في هذه اللحظة ينبغي أن تتواضع الدولة المصرية قليلا لكل هؤلاء الذين اعتادت قهرهم والحفاظ على هيبتها فوق كرامتهم وحقوقهم، سواء كانوا مصريين أو غير ذلك.
الجدل العام المهتم والمشغول بمصير موارده التي ستؤثر على حياته إما ينظر بندية وأخوة للآخرين الذين يفكرون أيضا في مواردهم وحياتهم، وإما يسقط في انحطاط تحويلهم إلى شيء وموضوع لمصالحنا، ثم يسقط في انحطاط العجز عن ممارسة الانحطاط السابق.

20 May 2013

دين الناس ودين السلطة

خرج بعض الحضور من الندوة التي تحدثت فيها في مدينة الإسماعيلية قبل أيام، وقالوا لمنظمي الندوة أن ما أقوله في الداخل كلام مرفوض، لدرجة إنهم لا يريدون أن يقدموا مداخلات لمناقشته.
 
بعض المعترضين ممن يعرفون بشباب المثقفين، أو شباب القوى الثورية المدنية المعارضة لسلطة الإخوان وتوجهات الإسلاميين. لكن ما لم يعجبهم من كلامي كان عن استيلاء دين السلطة على عالم المسلمين، وتواري دين الناس في مساحة تخضع إلى هامش تسامح السلطة، فتتسع مع موافقتها أو تغاضيها وتضيق مع تبرمها.
 
كان عنوان الندوة "دين الناس ودين السلطة"، وضربت مثلاً عن تلك الحرية الواسعة لعامة المسلمين المصريين في بناء المساجد وإدارتها واعتلاء منابرها والصراخ في ميكروفوناتها، لكن حين تغضب السلطة من مضمون ذلك الصراخ،  تذهب وزارة الأوقاف بسلطتها القانونية لضم المسجد وتعيين إمام وخطيب يتحدث في الإطار المسموح به. حدث ذلك مع وزارة الأوقاف التي أدارها جهاز أمن دولة حسني مبارك، ويتكرر مع وزارة الأوقاف التي يديرها تحالف الإخوان ومناصريهم، والوزارة تستخدم سلطتها لإيقاف ونقل أئمة يجاهرون بمعارضة الإخوان. والدفاع عن دين السلطة يتخذ شكلاً آخر في الشكوى من فوضى المساجد وفوضى الفتاوى، في مطالبة للأزهر ووزارة الأوقاف بأن يسيطرا على المجال الديني وأن يضبطاه. وكان ذلك يحدث – في مواجهة السلطويين الإسلاميين – لأنه يريح السلطة ومناصريها من السلطويين التنويريين. والآن يحاول البعض مساندة الأزهر ليظل مسؤولاً عن دين رسمي مركزي "معتدل"، في حين أن أنصار السلطوية الإسلامية يساندون الأزهر أيضاً ليشارك في حماية دين رسمي مركزي "سنّي" ويقاوم أي مظهر للتشيع ويدعم قمع الشيعة المصريين. 
 
دين السلطة هو الدين الرسمي المركزي الذي يتم ترسيمه ديناً للأمة وعنواناً لهويتها، ويتم استحلال قمع كل مظهر أو دعوة إلى أي فكرة تبدو من خارج دائرة الدين هذا، أكان الأزهر هو من رسم هذه الدائرة، أو أمن الدولة أو الإخوان أو السلطويون التنويريون أو مزيج من هذا وذاك. أما دين الناس فهو المجال المفتوح من الأفكار والعقائد والمذاهب والتنوعات والاجتهادات والانحرافات والشطط والتأويل، وكل ما في وسعنا من أوصاف المدح والقدح. دين السلطة هو الدائرة المحددة التي ترسمها السلطة - أي سلطة، وتحاول أن تنطلق منها ومن حمايتها، ولا شك ستقع في تمييز أهل هذه الدائرة، وفي الانتقاص من حق من هم خارجها. التمييز الأساس هو أن من هم داخل هذه الدائرة سيتحدثون عن إنصافهم  لمن هم خارجها من المختلفين، وكأنهم ملاك الحقوق والحريات، ومن دائرتهم التي ترعاها السلطة، تفيض الحقوق والحريات. والانتقاص الأساس من الآخرين هو أنهم صامتون، ينتظرون معرفة حدود الحريات والحقوق التي تسمح بها هوية الأمة من أهل دائرة دين السلطة وحراس الهوية.  
 
النموذج الأبرز لما سبق هو ما حصل عندما هرعت أطراف كثيرة، بعد انطلاقة الثورة، لتوقع "وثائق الأزهر" عن مستقبل مصر وعن الحريات. كانت  هذه الوثائق تعبيراً عن تلك الحقوق والحريات التي يعترف بها أهل دائرة دين السلطة، بالمعنى الواسع.
كان ضيق السلفيين وتحفظهم بخصوص "وثائق الأزهر" هو تحفظ المتشكك في كونه أهلاً للمشاركة في ممارسة السلطة من داخل دائرة دين السلطة، ومركزها الأزهر، بسبب الخلاف المنهجي مع قادته، أو لكونه يشكك في أن هذه الوثائق قد لا تضيق الخناق على أكبر نطاق ممكن من المختلفين معه.
 
لكن الترسيمة الأهم لدين السلطة، تجلّت في التحويل التاريخي للأزهر من ساحة للعلوم الدينية فيها مشايخ من ومشارب عدة وبآراء متنوعة، إلى مؤسسة لها "شيخ" وله رأي يسمى "رأي الأزهر"، وهو الرأي الذي تم التفاوض معه وإخضاعه على مر العصور، ليكون، في كل وقت، دين السلطة المتوائم مع مشروعها.
 
 صحيح أن دين السلطة هذا (متخفياً تحت العمامة المعتدلة لرأي الأزهر) كان سلاحاً في وجه السلطويين الإسلاميين ومشروعهم – الذين وصفوا بالمتطرفين والخوارج – لكن هذا السلاح الآن لا يزال صالحاً لخدمتهم في ترسيم دين السلطة الجديدة كركن أساس لمشروعهم الديني السلطوي. وهذه الصلاحية يطول عمرها بدعم "علمانيين" يظنون أن دين السلطة له خصائص جوهرية تسمى الاعتدال والتسامح. ويتصورون أنهم، بدفاعهم عن شخص شيخ الأزهر في مواجهة مؤمرات متوهمة من الإخوان، إنما يدافعون عن هذه الخصائص، بينما هم يدافعون عن صلاحية دائرة دين السلطة التي يحتلها أهل السلطة في النهاية أو يخضعونها. وبعد خضوع وزارة الأوقاف تماماً، يؤدي الأزهر وهيئة كبار علمائه دورهم في الدستور الجديد، لكل اجتهاد، ويشاركون بقوة وحماسة في التحريض على مصريين قد تسوّل لهم نفوسهم ممارسة حرية التفكير والمعتقد بأن يعتنقوا مذهب الشيعة والذي ينسون أنه لا حرية تفكير ولا حرية معتقد مكفولة خارج دائرة دين السلطة. 
 
ربما خرج المعترضون على ما قلته في الندوة انتصاراً لهيبة الأزهر، أو خوفاً من أن يجد أحدهم في شارعه  مسجداً شيعياً. لكن الأكيد أن "دين السلطة" ما زال دائرة مقدسة عند السلطويين الإسلاميين ومناصريهم، كما عند قسم لا بأس به من معارضيهم ومن عموم الناس الذين ما زالوا يرتاحون إلى ارتياد دور العبادة الرسمية ليتعلموا من رجال المؤسسات الدينية الرسمية تعاليم الدين الرسمي وفق المذهب الرسمي وحسب الرأي الرسمي الراجح... وكفى الله المؤمنين أي إيمان بما هو غير رسمي . وفي المثل الشعبي المصري: "إن نزلت في بلد تعبد العجل، حِشّ وأعطِ له".
 

18 May 2013

باسم عودة.. ولا هو داري كدا؟ «2 - 2»

ما قلته في الجزء الأول من هذا المقال »ليه بيداري كدا؟« عن تجاهل الوزير باسم عودة لـ»مجال السياسة« المتداخل مع نتاج عمله لم يكن تحليلا محضًا، ولكن الوزير نفسه أكده في حوار مع فضائية أخرى.
يسأله مذيع الفضائية الإسلامية : البعض يفسر لوجود كادر إخواني مثلك في منصبه، كمسؤول عن وزارة التموين التي تمس الاحتياجات الأساسية للناس، بأن الغرض منه هو الاستفادة من ذلك في أقرب انتخابات.
يرد الوزير أنه منذ تولي الوزارة أصبحت له صفة واحدة فقط هي «وزير التموين». أما صفاته الأخرى ستعود إليه بعد آخر يوم في الوزارة.
طيب ليه بيداري كدا؟
يعامل الوزير الانتماء إلى تيار سياسي باعتباره سبة أو كأن انتماءه فقط هو شكل من أشكال الفساد والمحاباة. ربما لأنه يتجاهل الفارق بين الانحياز والفساد.
من حق الوزير أن يعلن أنه ينتمي للإخوان ولحزب الحرية والعدالة، وأن رؤيتهم لإدارة الشؤون العامة فعلا ستكون رصيدًا لهم في الانتخابات المقبلة، وهو لم يكن ليكون في منصبه لولا أنه قيادي في هذا التيار، وبالطبع نجاحه جزء من نجاحهم وسيصب لمصلحتهم، ولكنه ساعتها مضطر، لأن ذلك مختلف عن استغلال منتجات الوزارة للدعاية الذي هو فساد يختلف عن الاستفادة السياسية المشروعية لأي تيار من تطبيق رؤيته.

ولكن لماذا ينكر الوزير وجود السياسة في أعلى هرم الوزارة، بينما ينكر أو يتعامى أن تياره ذلك يمارس السياسة في أدنى الهرم.
الوزير في أعلى هرم الوزارة يحتل مكانه، لأنه منتمٍ لتيار سياسي معين له حق تشكيل الحكومة، لكن موظف مديرية التموين لو فاز بوظيفته، لأنه ينتمي لتيار سياسي معين سيكون ذلك فسادًا. 

أن ينسب الوزير فلسفة ما لإدارة الوزارة للتيار الذي شكلها فهو أمر مشروع، لكن أن يستغل كوادر الإخوان و«الحرية والعدالة» منتجات الوزارة للدعاية السياسية لتيارهم عبر لصق شعاراتهم فوق سيارات التوصيل وبطاقات طلب التوصل فهذا فساد.

أليس من الأولى أن يخلع المتطوعون لتوصيل الخبز للبيوت انتماءهم الحزبي قبل تقديم خدمة تطوعية أو بمقابل زهيد أو تكون خدمة التوصيل خدمة «فنية» بحتة من قبل شركة أو مشروع تطوعي محلي؟
لماذا تمارس كوادر الجماعة والحزب الدعاية السياسية بنتاج أموال كل المصريين مستخدمين نفس منطق نظام مبارك في استمالة الناس بالخدمات بديلا عن فشل ساحة السياسة التي امتلأت تضييقًا على الحريات وإهدارًا للحقوق.
الوزير وصف الأخبار عن اقتران توصيل الخبز بالدعاية السياسية بأنها شائعات أو واقع غير موجود.  
الوزير الذي ينتمي لجماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة وذي الباع الكبير في العمل تحت إطارهم في مجال التنمية المحلية، والذي يجوب مواقع الإنتاج والتوزيع وترسل لنا صفحته الشخصية وصفحات الإخوان الصور كل ساعة عن نشاطه وحركته، ألا يعلم شيئًا عن أحد الأنشطة الرئيسية لتياره في محافظات متعددة، والتي تحتفي بها مواقع وصفحات الحزب والجماعة: في القاهرة  و الإسكندرية  و أسيوط و أسوان و السويس و الشرقية و كفر الشيخ و الدقهلية و المنيا وغيرها. وكل الروابط السابقة هي من مواقع الحزب والجماعة.
هناك احتمال بسيط وكارثي أن الوزير الذي كان رئيس لجنة التنمية المحلية بحزب الحرية والعدالة لا يعلم شيئًا عن خطط حزبه، وهو احتمال يطعن في كفاءته التي لا أناقشها في هذا السياق وسأسلم بأنها كفاءة فائقة.
يتبقى احتمال ثانٍ أنه يعلم ويتعامى عامدًا عن هذا الشكل من الفساد- الذي تحمل بعض استماراته توقيع «باسم عودة»-  أو أنه يتجاهله خجلا، لأنه لا يمكنه الدفاع عنه. في الحالتين الوزير يكذب ويشارك في فساد سياسي.
يشكو الوزير من عدم إنصاف الإعلام لجهود الوزارة لأسباب سياسية، وربما كان محقًا، ولكن الوزير وإعلامه الشخصي عبر صفحته النشيطة التي تسجل كل حركة وسكنة له يمارسون إعلامًا غير منصف يتجاهل أولا مجال السياسة ثم لا يناقش ذلك اِلتداخل بين عمل وزارته ومصالح حزبه وجماعته. يكرس إعلامه الخاص للحديث عن الفارق بين الوزير الجديد الثوري الشاب النشيط الكفء وبين شياطين العهد البائد وفسادهم ثم يتجاهل الاعتراض الأول الذي يسألهم: «لماذا تكررون أسلوبه؟».
بغض النظر عن النوايا والجهود والتفاني والكفاءة التخصصية، إخفاء السياسة في مواضعها وإشهارها في غير مواضعها هو فساد.
الأمر لا علاقة له بمساءلة نيّة الوزير التي يثق فيها إخوانه ويتشكك فيها خصومه. السؤال يتعلق بماهية الرؤية السياسية التي تمنع الفساد هنا بغض النظر عن النوايا وحسن الأخلاق. ولكن لماذا أصلا يطوّر تيار أي رؤية تمنع الفساد السياسي بينما كوادره ووزراؤه يشاركون فيه ويستفيدون منه.

نشر في المصري اليوم بتاريخ 18 مايو 2013

15 May 2013

باسم عودة.. ليه بيداري كدا؟ (1-2)

حاول مراسل إحدى الفضائيات قبل أيام أن يناقش باسم عودة، وزير التموين، بشأن قيام جماعة الإخوان المسلمين وحزبها، وإليهما ينتمي الوزير، بالاستفادة من إنتاج الخبز بتوصيله إلى المنازل بسيارات تحمل دعاية للحزب والجماعة، وبعد توقيعهم على بطاقات اشتراك في مشروع التوصيل عليها شعارات الحزب والجماعة،  وكان رد فعل الوزير كما في الفيديو أنه وصف كلام المراسل بأنه شائعات وواقع غير موجود، ورفض مناقشة الأمر، لأنه لم تصله رسميًّا أي شكوى عن حدوث ذلك، وقال إنه مسؤول فقط عن موظفي الوزارة وليس عن تصرفات الأشخاص والأحزاب، وعندما أصر المراسل أن يحصل منه على تعليق وطالبه بالحديث بشفافية أكثر انسحب الوزير وتركه.
باسم عودة أصبح من أهم أيقونات جدل الاستقطاب، أخباره وصوره هي الأكثر تداولاً على صفحات الإخوان ومؤيديهم باعتباره الوزير الشاب الثوري الإسلامي ابن الإخوان وحزب الحرية والعدالة والوزير الأنشط في وزارة قنديل والأكثر تواصلاً مع الناس في مواقع الإنتاج والتوزيع والخدمات، وفي مقابل هذا الاستثمار السياسي والإعلامي الكبير للوزير وصورته ونشاطه هناك في المقابل رد فعل «سياسي» تجاه أداء الوزير من القوى المعارضة للإخوان ووسائل الإعلام المقربة لها، ورد الفعل هذا ليس كله مما يبدو لي نزيهًا ولكنه بالتأكيد في نفس مستوى نزاهة الفرح المنصوب في الناحية المقابلة.
لا يمكن تجاهل حمولة الاستقطاب السياسي في التعامل مع الوزير وأدائه، ولكن انفجار الاستقطاب السياسي هو ناتج طبيعي لـ«غشومية» السلطة بعد تضييق مجال «السياسة» كساحة مفتوحة دائمًا للجدل حول مصالح الناس وتنافس الرؤى والفلسفات المختلفة بشأن ذلك بما يقارب مصلحة المجموع دون تهديد حقوق وحرية أي فرد أو جماعة، وبما يضمن استمرار ساحة السياسة كمجال لتصحيح المسار وتوكيد الحقوق.
الغشم والتضييق والانفجار حدثت ومازالت تحدث منذ الإعلان الدستوري، ثم الدستور، مرورًا بقرارات القيادي الإخواني محمد مرسي، التي فشلت في أن تحظى بتوافق ورضا حفنة مستشارين هربوا من قصره.
ويبدو لي أن رد فعل الوزير على المراسل ورفضه التعليق على نشاط تيار ينتمي إليه ويتقاطع مع عمل وزارته هو جزء من تضييق مجال السياسة بهذا المعنى، حتى مجرد النقاش مع الوزير وصل لنهاية مسدودة.
كما أن الوزير يمارس تضييق مجال السياسة عن طريق تجاهل تقاطع المجال السياسي مع عمل وزارته، ويريد من الناس والإعلام أن يتعاملوا مع شؤون وزارته باعتبارها شؤونًا فنية وبيروقراطية بحتة، «ما وصلنيش شكاوى»، أو باعتبار منصب سياسي كمنصب الوزير هو منصب تنفيذي منفصل الصلة عن كل ما يحدث في عالم السياسة.
الوزارة منصب سياسي، والوزير مهمته الأساسية هو وباقي أفراد تشكيل الوزارة التي ينتمي إليها هي الإدارة السياسية لملفات الحكم والشؤون العامة، ووصول مسؤول حزبي إلى منصب الوزير -  لكون الرئيس من نفس الحزب أو لحصول الحزب على حصة ما في البرلمان -  يعني أن وصوله لمنصبه كان بفضل رؤية وبرنامج وأداء حزبه وليس فقط لقدراته ومواهبه الشخصية، ومسؤوليته هذه لا تنفصل عن أداء الوزارة كلها وأداء الحزب بشكل عام.
ولكن القفز من موقع السياسي والحزبي إلى موقع «رئيس لكل المصريين» و«وزير لكل المصريين» هو  أحد تكتيكات إغلاق مجال السياسة ومحاولة إيهام الناس بأن الشخص قد وصل إلى مكان لا يجوز فيه الخلاف العميق معه، إنه الآن يحاول أن يبدو وكأنه قد خرج من مجال «الجدل السياسي» إلى مجال العمل والإنجاز، كأن هناك طريقة واحدة لتحقيق مصالح الناس وأن الرئيس أو الوزير أو المسؤول السياسي هو راعٍ حسن النية وصالح الأخلاق ويحب الوطن وملتزم بالدين، إذن فما الذي يمنعه من أن يحقق مصالح الرعية؟ وما الذي يجعلك تعارضه إلا أنك تريد «الخراب» أو تريد محاربة «المشروع الإسلامي» كيدًا وحسدًا؟
الأسئلة السابقة هي مجرد تهريج، وهي اختزال وابتذال لمجال السياسة. ففي ساحة السياسة هناك مصالح مختلفة لفئات مختلفة وهناك موارد محدودة وهناك فلسفات متعددة ومتناقضة لإدارة عالم الاجتماع والاقتصاد، تبحث عن حلول مختلفة لتعارض المصالح ولإدارة الموارد.
يمكنك أن تجعل أولى أولوياتك قانون الحدين الأدنى والأقصى للأجور لكل الناس أو قانونًا يتيح قروضًا مفتوحة بلا سقف لضباط الجيش، يمكنك أن تزيد من ميزانية التعليم والصحة من أجل إصلاحهما أو من ميزانية الشرطة لكي تساعدها على الاستمرار دون إصلاح وبنفس الطرق والأسلحة فترة أطول.
السلطة التي توهم الناس بأنها لا تشتغل بالسياسة هي سلطة «تستعبط» بالضرورة أو أنها سلطة بلا بوصلة سياسية، ربما لأنها سلطة تشكلها جماعة دعوية ليس لديها فلسفة سياسية أو اقتصادية إلا تمكين أبنائها الصالحين الأخيار المتفانين المؤيدين من الله.
وباستثناء «التأييد من الله»، فقد يغلب على ظني أنهم فعلاً أخيار حسنو النية ومتفانون ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا، لكن ذلك لا يمنع أن يقعوا في الفساد. كما أنوي أن أتهمهم في الجزء الثاني من هذا المقال.

نشر في المصري اليوم بتاريخ 15 مايو 2013

08 May 2013

الاستقطاب والتسمم

كان عنوان المقال منقوشًا في ذهني مع صورة الكاتب عندما صحوت من النوم. وكان عنوانه الجريء في حماقته دليلاً دامغًا لدي على أنه حلم. ولكني لا أذكر تفاصيل أخرى كما أن السماجة البليدة في ذلك العنوان جعلتني أدفع عن ذهني فكرة تدوين الحلم، كما هي عادتي أحيانًا، ولكني فور أن وجدت المقال أمامي بالفعل في الصحيفة الورقية بنفس العنوان:  «الإخوان يسممون مياه الشرب لطلاب الأزهر».  استعدت فكرتي الأولى عن «الثورة»، وهي أن الخيال يطارد الواقع ثم يسحله خلفه في انتصار، ولم تعد هناك تلك المسافات بين الأحلام المدهشة أو السمجة وبين ما يمكن أن يحدث. وأن الخيال هنا قد يكون خيالا مدهشًا في جماله أو مرعبًا في سخافته.
ولكني لا أنكر أني حدقت قليلاً في المقال ثم أعدت قراءته مرة أخرى لعله عنوان ساخر أو أن الأديب المعروف صاحب المقال يستدرج مروجي مثل هذه الادعاءات ليسخر منهم في متن المقال. كما حاولت أن أفعل في مقالي السابق.
ويبدو لي أنه من الأفضل بدلا من ترويج الادعاءات والهراءات عن شياطين الإخوان الذين يسممون المياه والطعام لطلاب الأزهر وعن آلهة الإخوان السبعة الذين يحلقون فوق الأواني وأطباق الطعام، لكي تقود المغرفة إلى الجزيئات المسممة في حالة كون المغروف له طالبًا عادة، وتتأكد أن الجزيئات الطاهرة غير المسمومة تصل إلى أطباق وأكواب طلاب الإخوان، لتحدث تلك الخرافة الأعظم التي لا يخجل البعض من ترديدها: «أنه ولا واحد من طلاب الإخوان أصيب بالتسمم!».
يبدو لي أننا أمام حالات تسمم من نوع آخر. إنها حالة من التسمم بالعداوة إلى حد فقدان البوصلة وفقدان الحياء أيضًا. ووسط المعارك المحتدمة يتوه البعض عن أنها معركة «مواقف» لتصبح معركة «قبائل» وينشغل تمامًا بالكشف عن الأصل الشيطاني الإجرامي للقبيلة المعادية. وإن كان كثير من السلطويين الإسلاميين قد أبدعوا في ذلك ووصلوا فيه إلى ذروة البشاعة أو ذروة المسخرة وهم يتحدثون عن شياطين العلمانيين والتغريبيين والعملاء والمخربين وأعداء الإسلام الذين يريدون إهلاك الحرث والنسل و.. بلا بلا بلا. فإن بعض من يقفون في «موقف» مقاومة نزوعهم السلطوي يبدو أنهم يشربون من نفس الماء المسموم، وربما كانت المعركة أنهم يتعاركون على حق استغلال البئر المسمومة نفسها.
حساب تويتر المنسوب لحسين عبد الغني، أحد قياديي جبهة الإنقاذ والتيار الشعبي، كتب أكثر من تعليق على مقالي السابق أنه يردد «الخطاب الأمريكي» و«ما تقوله أمريكا وإسرائيل». رد حسين هو تقريبًا نفس تعليق سلفيين على بعض ما أكتبه عن حرية الدين في مصر. إنها تعليقات تنتمي للبئر الأعمق للسلطوية التي تطفح منها البئر السلطوية القومية والبئر السلطوية الإسلامية. السلطوية ملة واحدة، تخشى من الكلام الغريب وتصفه بأنه «كلام الأعداء».

وبالمثل، معظم تعليقات محبي ناصر استكبرت أن تعترف ببذاءة الهتاف الشهير المحبب لبعضهم وانخرطت في وصلة تبرير شبيهة تمامًا بتبرير أبناء قبيلة الإخوان لسياسات رؤوس القبيلة.
 هناك فوارق طفيفة بين خطاب محبي السلطوي ناصر عن «الأحزاب الفاسدة» هكذا مطلقا وحديث محبي السلطويين الإسلاميين عن «الإعلام الفاسد» هكذا مطلقًا.
 تبرير القمع والتعذيب وانتهاك الكرامة بأنها كانت معركة محتدمة مع النظام القديم ومع أعداء النظام الجديد الذين يعرقلون الثورة هو نفسه هتافات الخرفان التي تنادي: «اضرب يا مرسي».
تبرير السياسات السلطوية وتركيز السلطات في الوقت الحرج لمواجهة مؤامرات أعداء الشعب هو نفسه تبريرات عشاق مرسي وإعلانه الدستوري لمواجهة المؤامرات والانقلاب على الشرعية .
تبرير قمع أعداء نظام يوليو– الإخوان تحديدًا– لأنهم سينقلبون على شرعية يوليو ويقيمون نظامًا قمعيًا إسلاميًا، هو نفسه تبرير السلطويين الإسلاميين لقمع  معارضي «المشروع الإسلامي» ودعوتهم لإجراءات استثنائية ضد الذين يتوعدون بقمع الإسلاميين ويهتفون «آه لو عبد الناصر عايش .. كان لبسكوا طرح وغوايش» أو الوعيد بإعادة الإسلاميين للسجن، كأن بعض من يهتف للحرية الآن يعتقد بعدالة حبس الإسلاميين في سجون مبارك.
 وهكذا يتقلب السلطويون بعضهم فوق بعض في مشهد رديء. وكل طرف يبرر سلطويته بنوايا خصمه الخبيثة التي يعلمها سلفا، فهؤلاء جبهة خراب تريد دمار البلد وهؤلاء مصاصو دماء يسممون مياه الشرب لطلاب الأزهر.

ما زلت عند رأيي أن الاستقطاب الحالي هو من أهم محطات نضال طويل ضد السلطوية الإسلامية التي ورثت السلطويات السابقة لها. وأنه لا توافق ممكنًا مع رغبات سلطوية طائفية، وأن مقاومتها وكسر هيبتها أمر ضروري كما حدث مع سابقتها. ولكني أفضل أن أرى الاستقطاب دائمًا بين «مواقف» وليس «قبائل». ولأن الحياة مؤسفة بشكل عام، فمن الطبيعي أن تجد بجوارك دائمًا في موقف مقاومة السلطوية محبي أشكال أخرى منها دون أن يخدش ذلك من عدالة الموقف.
 ولكن حتى تجفيف بئر السلطوية الضاربة بجذورها في الزمان والمكان، أجد لزامًا عليّ الالتفات بين الحين والآخر وازدراء حالات التسمم وسط الذين هم في نفس موقفي، ولكنهم يعتبرون أنفسهم في موقف مقاومة سلطوية قبيلة أخرى، لا مانع لديهم من الاستغلال البذيء لكل خرافة وأكذوبة تجد رواجًا عند بعض الجمهور المسمم بنتاج صحافة وثقافة المؤامرات سواء من نوع «البانديتا» أو نوع «المقلاع».
 وأحب دائمًا أن أحذر من نوع آخر من التسمم وهو العمى عن معركة المواقف، وإدانة طرفي كل معركة، لأنه في كل طرف هناك حمقى وأنذال ومنافقون وكاذبون، وهو تسمم شائع معروف بعشق التوافق واعتزال الموقف وقت احتدام المعركة– بعد تسميتها بالفتنة– والتفرغ للعبادة في أحراش وكهوف الوسطية في انتظار الثورة الطاهرة التي تحاكي تمامًا أغاني حمادة هلال ورامي جمال، والتي سيكون أحد رموزها طاهرًا بدرجة «مهدي منتظر» ومعه ائتلاف شباب الملائكة.


05 May 2013

الاكتشاف المتجدِّد لأهل الذمة في ديار الإسلام

أقباط مصر إحدى الفصائل المهمة التي تشكل نسيح المجتمع المصري


ليست المرة الأولى التي يبدأ فيها الجدل في مصر حول حكم الإسلام في تهنئة المسيحيين بأعيادهم الدينية، وإن كان الرئيس المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين أو مسئولين في الدولة محسوبين عليها أو مقربين منها سيذهبون إلى الكنيسة مهنئين. لكن يمكن لتصريح “ما” أن يلخص انطباعات الكثيرين تجاه مثل هذه اللحظات. التصريح منسوب لأحد مستشاري الرئيس -الذي هرب كمعظم أقرانه من القصر الرئاسي المحاصر بأزماته إلى سعة الدنيا– عندما ردَّ معلقًا على سؤال حول إمكانية زيارة الرئيس مرسي للكنيسة مهنئًا بأحد الأعياد الدينية: “يروح الكنيسة ! يا نهار أسود !”.
خلفية ذلك النهار الأسود ليست قصيرة العمر تتعلق بالموقف الرسمي من العنف الطائفي المتكرر، أو بانسحاب ممثلي الكنيسة من لجنة كتابة الدستور وتجاهل اللجنة لذلك واستكمالهم لكتابة الدستور، أو تحويل التيارات الإسلامية لمسار الدعاية للتصويت بالموافقة عليه لصراع بين المشروع الإسلامي وأعدائه، كما تم تحويل كل المفارق الانتخابية منذ انطلاق الثورة.
ولكن الخلفية السوداء التي تظهر وراء التعليق العفوي المنقول عن المستشار يشكلها ما هو أبعد من المواقف الرسمية المتخشبة، لكنه ينضح من تصريحات منفلتة هناك أو من أداء وسائل الإعلام المساندة للسلطويين الإسلاميين في مصر، أو من التعبيرات الكثيفة لأنصارهم في شبكات التواصل الاجتماعي.
ما يمكن أن يلخص اتجاه هذه التعبيرات جميعًا هو ما حدث مع صورة التقطتها وكالة الأنباء الفرنسية لحافلة تحترق وأمامها شاب ملثم يرفع علامة النصر. الصورة كانت من “اشتباكات المقطم”، عندما توجهت مظاهرة لمبنى مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين في المقطم، وحشد الإخوان شبابهم في مواجهة المظاهرة، وبعضهم أتى من خارج القاهرة بحافلات، كان مصير بعضها الحرق بعد اشتباكات عنيفة ومطاردات بين الطرفين.
ولكن الصورة انتشرت بكثافة على صفحات ومواقع تابعة لأنصار الإخوان والسلطويين الإسلاميين الذين هبوا لنصرتهم رغم الخلافات الحالية. وكان سبب الانتشار أن واحدًا ثاقب النظر اكتشف صليبًا في يد المتظاهر الملثم. الصورة انتشرت بعد تعديل بسيط يرسم دائرة حول الصليب، ويقوم بتكبيره معلنًا الاكتشاف الهام الذي لم يكن جديدًا بالمرة، ولكنه الافتراض القديم الجديد الذي يحب السلطويون الإسلاميون إعادة اكتشافه: المشروع الإسلامي لا يقاومه –في الحقيقة- إلا غير المسلمين، والاستقطاب السياسي ليس وراءه إلا معركة دينية بين الإسلام والكفر.
ذلك الاكتشاف المستعاد الذي تعبر عنه الصورة ببلاغة هو نفسه الذي ينفلت من البلتاجي أثناء حماسته وهو يخطب في جموع احتشدت أمام مسجد قريب من القصر الرئاسي، وقت محاصرة حشود غاضبة له بعد الإعلان الدستوري الذي منح فيه الرئيس نفسه سلطات استثنائية مؤقتة. أعلن البلتاجي للحشود من مناصري التيارات الإسلامية من القاهرة والمحافظات أن تقارير لديه تقول أن 60% من الذين يحاصرون القصر مسيحيون.

هو نفسه أيضًا الكشف المستعاد في الإعلام المساند للسلطويين الإسلاميين الذي يحب أن يكشف مرارًا وبإلحاح أن الكنيسة تدعم
صورة تدوالتها مواقع التواصل الاجتماعي لشاب قبطي شارك في الاحتجاجات ضد الاخوان
تحالفات سياسية منافسة للتيار الإسلامي أو المرشح الرئاسي المنافس لـ”المرشح الإسلامي”. أو أنها تقود معارضة الدستور الذي كتبته التيارات الإسلامية. أو تنشر تسريبات وهراءات تقول أن التجمعات الكشفية للكنيسة هي التي تقف وراء مجموعات “البلاك بلوك” الأناركية.
لا يرى السلطوي الطائفي الخشبة في عينه، ولكنه يؤسس تيارات سياسية طائفية هي أذرع سياسية لتجمعات اسمها “الإخوان المسلمون” و”الدعوة السلفية” و”الجماعة الإسلامية” ثم يلوم على المختلفين دينيًّا والأقليات المذعورة من مشروعهم الطائفي أنهم في “الصف الآخر”. السلطوي الإسلامي في الحقيقة لا يحبهم أن يكونوا في صف آخر سياسي، في استقطاب عنوانه حقوق وحريات للناس أفرادًا وجماعات وضمانات لحياة ديمقراطية. ولكنه يحب أن يراهم كطائفة أخرى يجب أن تحسن السلوك أمام الطائفة الغالبة المنتصرة في غزوة الصناديق.
ينسى السلطويون الإسلاميون في هذه اللحظات أذرعهم السياسية، ويندفعون بالقلب الطائفي لمشروعهم وجمهورهم. يختفي “انتصارهم الصندوقراطي” باعتباره انتصارًا لتيار سياسي “مفتوح لكل المصريين” لتصبح معركة عقيدة واستعادة لانتصار المسلمين. وعلى الطوائف المنهزمة ألا تحاول منازعتهم السيادة.
والأهم أن عليها أن تتصرف سياسيًّا كطائفة. فلا يصح أن يتم اكتشاف مسيحي وسط حشود معارضين؛ لأن ذلك سيكون تصعيدًا لإحدى الجولات المرحلية، وفتحًا لباب المعركة الكبرى بين الإسلام وأعدائه، كما يحب السلطويون الإسلاميون أن يعيدوا الاكتشاف كل مرة أو أن يخلقوا ذلك خلقًا. ولا يصح أن تهتف حشود مسيحية غاضبة بسقوط الرئيس ومحمد مرسي في مسيرة جنائزية تخرج من الكاتدرائية في أعقاب عنف طائفي موجه ضد المسيحيين. ساعتها ستتحرك حشود طائفية مقابلة لتعيد المسيحيين إلى أسوار الكاتدرائية، تساعدهم في ذلك قوات الشرطة، التي أعادت المسيحيين الغاضبين إلى داخل أسوار كاتدرائيتهم بنفس الطريقة تحت حكم مبارك في أعقاب تفجير كنيسة القديسين قبل انطلاق الثورة بأسابيع.
أثناء الجدل حول كتابة الدستور كان يحلو لإسلاميين التصريح بأنه من غير اللائق من غير المسلمين أن يناقشوا أي أمور تتعلق بمرجعية الشريعة الإسلامية أو مرجعية الأزهر؛ لأن ذلك يسبب توترًا طائفيًّا. ولكن ما لهم –ولهم الحق في مناقشته- أن الدستور كفل لـ”طوائفهم” حرية إقامة دور عبادة وحرية الاحتكام لشرائعهم في الأحوال الشخصية، ونص على ذلك تفصيلا لأول مرة في تاريخ الدساتير المصرية.
وكأن غير المسلمين ليسوا أفرادًا مواطنين خاضعين للقانون المصري وسائر التشريعات والقرارات التي ستمسها “شريعة” يتحدث عنها الإسلاميون أو يشارك في النقاش وتشكيل تفاصيلها مؤسسة دينية إسلامية. ولكن هذه التصريحات هي أيضًا مثل الحشود الطائفية، ومثل قوات الشرطة التي تعيد المسيحيين إلى داخل أسوار الكاتدرائية: الزموا حدودكم، ما لكم هو الحق في بناء كنيسة، والحق في الزواج وفق شريعتكم.
لا يرى السلطوي الطائفي الخشبة في عينه، ولكنه يؤسس تيارات سياسية طائفية هي أذرع سياسية لتجمعات اسمها “الإخوان المسلمون” و”الدعوة السلفية” و”الجماعة الإسلامية” ثم يلوم على المختلفين دينيًّا والأقليات المذعورة من مشروعهم الطائفي أنهم في “الصف الآخر”.
ولكن هذين الجانبين تفصيلاً يفصحان أكثر عن الاكتشاف المستعاد. ما زال تنظيم الترخيص للكنائس حتى هذه اللحظة يخضع لشروط الخط الهمايوني من الخليفة العثماني. الذي سمح لغير المسلمين ببناء دور عبادة لكن بعد ترخيص يصدره الخليفة نفسه أو من ينوب عنه، وحاليًا يمارس هذا الحق رئيس الجمهورية باعتباره –بشكل أو آخر- نائبًا تاريخيًّا للحاكم المسلم الأعلى. أما فيما يخص الأحوال الشخصية فالمواطن المسيحي إن أحب التمتع بحقه في الطلاق أو الزواج مرة أخرى تعيده الدولة إلى أسوار الكاتدرائية، وتخبره أن حقوقه كمواطن غير مكفولة إلا داخل أسوار طائفته، وبما أن الكنيسة الأرثوذكسية لا تسمح بالطلاق والزواج الثاني، فلا حق له فيهما خارج أسوارها.
النص الدستوري الجديد لا يتحدث عن أي حق جديد إضافي على ما يقرره الخط الهمايوني العثماني، ولا يعالج التلاعبات والتقييدات التي تقيد ممارسة ذلك الحق التي كانت ولا زالت موجودة. إلا أن النص الجديد يرسم داخل الدستور أسوار الكاتدرائية وأسوار مثلها متخيلة لطائفة يهودية تنقرض تدريجيًّا. ويضيف الدستور أن أي اعتقاد خارج أسوار هذه الطوائف لا يتمتع بنفس الحق في اتخاذ دور عبادة.
يستند السلطويون الإسلاميون على تاريخ من السياسات والأوضاع القانونية التي لم يساهموا في تشكيلها بشكل مباشر، ولكنها تمثل انسداد التحول في المجال الديني من دولة خلافة إسلامية، أو إمارات وممالك تابعة لها كانت تمثل مظهرًا لسيادة المسلمين على غيرهم بقوة السيف والفتوحات، إلى جمهوريات ديمقراطية تأسست على نضالات شعوبها وتحررهم من الاستعمار، ثم ثوراتهم على أنظمة التحرر الوطني المستبدة.
ذلك الانسداد يتفاعل طوال الوقت مع شعور طائفي بالهيمنة والسيادة يختفي خلف مواقف رسمية وفكرية مطمئنة تتحدث عن التعايش والمساواة والحرية التي أتى بها الإسلام من أول لحظة أصلاً، وتتمتع بها الشعوب منذ الفتح الإسلامي وليست قيمًا وترتيبات وليدة الاتجاه نحو الديمقراطية.
ذلك التمويه المتعمد –سياسيًّا وفكريًّا- وهذه الطائفية الكامنة هي الرافعة الأكبر للسلطويين الإسلاميين التي وصلت بهم إلى السلطة وكانت عونهم الانتخابي. الوجه المموه يظهر في لحظات التوافق والطائفية الكامنة يتم إشهارها في حملات الجولات الأخيرة الفاصلة. ولذلك السلطويون الإسلاميون هم أبناء هذه الطائفية بوجهيها. وهم مدينون لها ولا يمكنهم إلا أن يستمروا في التأرجح بين التمويه والإشهار كما فعل أسلافهم بنفس الديباجات المتخشبة المعسولة، وبنفس الممارسات الخشنة التي يكررها محمد مرسي كما كررها محمد حسني مبارك.
ولكن السلطويين الإسلاميين أكثر إخلاصًا في التمويه والإشهار. وعند احتدام المعركة تنكشف أسنّة الأصول الفكرية والمشاعر الشعبية، وتنفلت التصريحات الرسمية التي تحاول باكتشافاتها المتكررة عبثًا أن تستعيد “حقيقة الصراع” بين الإسلام وأعدائه.
الحقيقة المتوهمة للصراع تحاول أن تعمى عن مشهد الاستقطاب السياسي بين السلطويين الإسلاميين وبين قوى مقاومة لسلطويتهم لا تتشكل طائفيًّا ولكنها بالضرورة تضم القطاعات الأكبر من المختلفين دينيًّا، وتنحاز إليهم “الطوائف الأخرى” التي تخشى على حقوقها، والتي خرج الكثيرون من أبنائها منذ انطلاق الثورة من الأسوار الطائفية إلى رحابة ميادين الثورة، بل وسطرت أسماؤهم كـ”شهداء” جنبًا إلى جنب مع شهداء مسلمين وشهداء لا يسأل كثيرون عن ديانتهم لأنهم في النهاية “شهداء الثورة”. ولكن السلطويين الإسلاميين يحبون بأوهامهم الثاقبة ألا يروا أمامهم إلى طوائف متمردة على “سيادة المسلمين” التي هي جزء من إرث هذه المنطقة من العالم أو “ما وجدنا عليه آباءنا” ولكن السلطويين الإسلاميين يمارسون تلك العادة الجاهلية تحت اسم مستعار يطلق عليه “هوية الأمة”.
في هذه اللحظات يظهر جيدًا في أي اتجاه يسير السلطويون الإسلاميون. إعادة اكتشاف الطائفية هي نفسها استعادة السعي في اتجاه “الخلافة” ولو كحلم أو كهدف بعيد المدى والمنال. ولكن الخطوات إليه هي في الاتجاه المعاكس لاتجاه بناء اجتماع ديمقراطي، حتى وإن تذرعت بأدواته وبعض ديباجاته.



01 May 2013

آه لو عبد الناصر عايش..

التصور المبدئي لدي أنه  لو أن عبد الناصر ما زال يحكم أنني سأكون في السجن، ولذلك فإنني بمنتهى البساطة لا يمكن قط أن أتسامح مع أسلوب حكم يضعني في السجن، ذلك يتناقض مع المبدأ الشعبي البسيط «يا مفرقين الشموع. إيه؟ أنا ما أخدتش». تجاوز ذلك المبدأ البسيط والسكوت عن الظلم الواقع عليك ليس من قبيل الإيثار والتضحية من أجل الآخرين، ذلك يجب أن يكون بمزاجك، لكن لو غصبًا عنك فسكوتك إما خجل مرضي يجب عليك أن تتجاوزه أو تنظير مرضي عن التضحية بالحرية من أجل بعض العدالة واستكمال التحرر من الاستعمار، وذلك التنظير المرضي يتجاهل النقطة البسيطة التي يجب أن يبدأ منها الاجتماع، وهي أن تبحث عن رضاك الشخصي ورضا إخوانك في الإنسانية جنبًا إلى جنب.
ولا تفسير لدي للمرض الذي يتجاهل ذلك سوى أن البعض يفكر في السياسة باعتباره «مهديًا منتظرًا» يضع خطة لصلاح الكون ويمكنه أن يتهاون إن طبّق أحدهم بعض عناصر هذه الخطة، ولذلك ساعتها يمكن أن أفهم إيثاره وتضحيته عندما  يعتقد أن صلاح الكون يمكن أن يتضمن أو يتجاهل سجنه هو بدلاً من أخيه. ومن يفكر بهذه الطريقة هو شخص – في النهاية - لديه مبررات ما للاستبداد يمكنه أن يتسامح معها.
هؤلاء الذين مازالوا يبررون ذلك ويتسامحون مع «المشروع» و«الزعيم» المفضل عندهم ولو طغى وتجبر على هذا أو ذاك أو أرسى أسس الدولة الشمولية السلطوية التي مازلنا نعاني من تفكيكها إلى الآن، أرجو منهم أن يضعوا مكان «المشروع» كلمة «المشروع الإسلامي» ومكان «الزعيم» كلمة «مرسي» وعليهم أن يتسامحوا مع كل ما يرونه من انتهاك للحريات وحفاظ على أركان الدولة السلطوية، لأنها أدوات «لقطة» لا يمكن أن يتنازل مشروع سلطوي جديد عنها بعد أن وجدها «مقشرة» وورثها عن مشروع سلطوي سابق.
ولذلك، فإنني أتفهم جيدًا كيف يريد مرسي أن يكمل مسيرة عبد الناصر. صحيح أن مرسي كعادته في الهلفطة يستخرج الكلام الفارغ من جعبة الانتهازية، ويبيع لكل مشترٍ ما يحبه من كلام، لكنّ أيضًا النقابيين والمهتمين بعدالة اجتماعية حقيقية  يعرفون أن مرسي وإخوانه ودستورهم – بعيدًا عن الهلفطة -  لم يسعوا للتقدم على طريق الحريات النقابية والحريات العامة بشكل عام، ولكنهم  يودون استكمال ما بدأه عبد الناصر فعلاً من دولة سلطوية، وما بدأه من تحويل العدالة الاجتماعية إلى منحة وهبة من الحاكم يفرح بها العمال في عيدهم. و«العدالة الاجتماعية» بهذا المفهوم هي أسوأ من أن تعطي أحدهم سمكة ولا تعلمه الصيد، إنها بهذا الشكل في هذا الوقت العصيب من حالتنا الاقتصادية يعني أن تعده بالسمكة وتعلمه الانتظار الطويل.
الذين انتظروا في سجون ناصر أن ينتهي الاستبداد والشمولية وإرساء أركان دولة سلطوية وأن يتجاوز مشروع التحرر الوطني مشكلاته مع الوقت، نسوا أنه لا يمكن لمشروع أن يتجاوز مشكلاته دون حريات. الحريات هي الهواء الذي تتنفسه المجتمعات وإلا سقطت في العفن هي وحكوماتها، ولذلك انتظر هؤلاء طويلًا في سجون ناصر ثم سجون السادات ثم سجون مبارك وبعضهم مهدد بسجون مرسي.
ولذلك، فإن أكثر ما أكرهه في بعض المظاهرات المعادية للإخوان هو الهتاف الرديء «آه لو عبد الناصر عايش .. كان لبسكوا طرح وغوايش» ولا ينافسه في الرداءة إلا وعيد البعض بإعادة الإخوان للسجون. 
من المؤسف دائمًا أن يكون في صفوف مقاومي الاستبداد بعض من محبي أشكال أخرى من الاستبداد، وقبل هذا النوع من محبي ناصر كان وسطنا في الميدان محبو الاستبداد باسم الإسلام، لكنهم ولله الحمد لم يصبروا كثيرًا على الهتاف بالحرية والكرامة، هكذا مطلقًا، وانفصلوا بمشروعهم ليهتفوا لقيودهم الحبيبة ولاستعلائهم الطائفي.
 ربما أفلت عبد الناصر تاريخيًا من ثورة اتصالات كانت ستجعله في مرمى حريتنا التي كان من الصعب عليه أن يسجنها إن لم تعجبه دون أن يتعرض لمسخرة أكبر، ولكن على السيد مرسي وإخوانه ومحبي نوعهم الخاص من الاستبداد أن يعرفوا أن هذه اللحظة لا تتوفر فيها خدمة «الاستبداد الوقور»، وأنه لو كان عبد الناصر نفسه عايش معنا هنا والآن لما وجد فرصة في قصائد درويش وصلاح جاهين وأغاني حليم. وربما وجد فرصة واحدة أو فرصتين قبل أن ينقلب الأمر إلى مسخرة.
وعلى جانب آخر، لو كان عبد الناصر هنا والآن ورأى وسمع مرسي وإخوانه وهم يحاولون استعمال أدوات دولته السلطوية التي رمى أساساتها واستخدمها في شموخ وإباء وسط قصائد فخيمة من شعراء كبار وأغان من مطربين عظام، لو كان عبد الناصر هنا والآن ورأي مصير مشروعه السلطوي في يد أعدائه بهذا الشكل وهذا المنظر لقال في حسرة ديكتاتور من أيام الزمن الجميل: الديكتاتورية لمّت!