08 April 2009

السياسة هي في مكان آخر



في الواقع أنا أتحمس...
صباح أول أمس، استمعت إلى "قوم يا مصري" مرة من سيد درويش ومرة من "اسكندريلا"، وأنا أرتدي التي شيرت الكحلي – أنا عادة ما أرتديه لكن ذلك الصباح ارتديته عمدا بينما كان بإمكاني أن أرتدي الزيتي – ثم ذهبت إلى الجريدة وأنا أتوقع أن أرى بعض الآخرين يرتدون ملابس غامقة، سيتابعون أخبار يوم هاديء بشغف في أول اليوم ثم بملل في منتصفه وربما بسخرية في نهايته. لم أتوقع أكثر من رمزية أزياء أنصاف المتحمسين ومحاولات احتجاج الأكثر حماسة، ولا أكثر من طبعة مكررة من يوم لـ"الغضب العام".
لست ضد فكرة يوم "الغضب العام"، ولكن لا أتوقع أبعد من استجابة رمزية من "المناضلين العموميين"، ولكن على الأقل عليهم أن يتفقوا بشأن هذا اليوم. ولست ضد رهان شباب 6 إبريل على المواطن العام الذي سيفيق من سباته لأنه تلقى دعوة للغضب على الإنترنت، ولكن لا يمكن أن أتحمس بدرجة كبيرة لمثل هذا الرهان ولا لنتائجه.
أنا أيضا لست ضد فكرة "المناضل العام" – يسمى أيضا في ديباجات حركية بـ"المناضل الطائر" – ولا ضد الأهداف الرمزية للفعل السياسي. السياسة في النهاية هي الصراع الذي يقدم تفاعلا بين الواقعي والرمزي، فالعلاقات والتوازنات بين القوى على الأرض تشتبك في لحظات بعينها – الحرب / الانتخابات – ولكن في باقي اللحظات تظل الحالة السياسية تلخيصا لنتائح الاشتباكات بشكل رمزي ومجازي: سلطات تدعي الشرعية وممثلين لإرادة الناس، أو لحظات مقاومة يجري فيها صراع مستمر على أرض الواقع أو على مستوى المجاز والرمز والأفكار في محاولة للوصول لأرض معركة كبيرة جديدة ثم الوصول لتوازن جديد.

أعتقد أن العديد ممن تحمسوا لتجربة "كفاية" وفورة آمال التغيير وأنا منهم- حتى لو لم يكونوا يطمحون إلا لزحزحة الأسوار قليلا للتمتع بمساحة أكبر من البراح – قد خرجوا من التجربة بقناعة أن "الاحتجاج العام" ليس أكثر من فعل رمزيّ، له دوره في لحظات سياسية معينة. ولكنه إما أن يتحول لفعل حقيقي في ساحة السياسة في حالة وجود قوة مناسبة وخطة محددة لهدف محدد يمكن الرهان عليه بهامش معقول من المغامرة، وهو ما يحدث في الاحتجاجات المطلبية للعمال والمهنيين والطلبة. وإما أن يكون الاحتجاج العام جزء من سعي تيار أو قوة تعبر عن مصالح فئات متنوعة وتطالب ببرنامج سياسي واجتماعي – لم يتم صياغته كديباجة حلوة مثل "إعلان القاهرة" يكتبها ويلقيها أحدهم مدفوعا بقريحته السياسية – بل يعبر عن اتفاق وتلاقي قوى بالمعني الحقيقي، ويكون الاحتجاج أحد وسائل وبدائل ذلك التيار وأداة للتعبير والتلويح بإمكانات هذه القوة ورمزا لقدرتها على الحشد، أي مجاز لسلطتها التي تتحدى سلطة أخرى.
بخلاف هاتين الحالتين، فإن الاحتجاج الذي لا يتكيء على شيء، ولا يجمع إلا أعداد ضئيلة، يظل رمزا للقوة المحدودة التي تعلن الرغبة في المقاومة وتحدي السلطة، وتستعين بذلك وبتوسط كاميرات الإعلام للظهور في مواجهة السلطة رغم الفرق الكبير في ميزان القوى. ذلك مفهوم ومشروع وأداة لكل قوة صاعدة. ولكن الإكثار من "الاحتجاج العام" والاقتصار عليه والنفخ فيه -"إضراب عام لشعب مصر"- يتحول إلى إدمان للفعل الرمزي، وانتظار لتحوله إلى فعل واقعي عن طريق صحوة النخوة وتفجر الغضب في أوردة المواطنين بفعل الطاقة الشعرية للمجاز السياسي، وبفضل صدق وإخلاص الدعوات التي تدعوهم للتحرك إتباعا لقوى يسمعون عنها في أحسن الأحوال.
قد يكون دالا أن يتفق طرفا اليسار المصري المختلفين عادة – الاشتراكيين الثوريين واليسار الديمقراطي – على قدر من التحفظ تجاه التوقعات الكبيرة والاهتمام المبالغ فيه بإضراب 6 إبريل. الصحافة تقف موقفها المعتاد بالبحث عن أي إثارة وأي حالة ولو مختلقة من الاستقطاب السياسي، وتحتفي حفاوة إضافية بـ"شباب 6 إبريل" أو "أشباح الإنترنت" و"تنظيم الفيس بوك"، باعتبارهم تقليعة، وأيضا لأنهم يهاجمون السلطة والمعارضة معا، والصحافة "المستقلة" تحب لعب دور "الطرف الثالث" المستقل. وعندما يتحول السياسيون وتياراتهم بفعل "إدمان الرمزية" إلى إعلاميين في ساحة السياسة، فإن الصحافة ليس أمامها إلا أن تغطي هذا الفعل الرمزي بفائض كبير من البلاغة للاحتفاء بالرمزي ودلالاته. فتنتفخ المانشيتات قبل الحدث وتنزوي خجلا بعده أو تستمر في عنادها تعاطفا أو كرها في الاعتراف بالفشل في مواجهة أبواق السلطة.
لم يعد غريبا أن يعلن كل الأطراف الانتصار منذ الحروب الأخيرة في المنطقة. فحتى السياسة الدولية والعلاقة مع إسرائيل تملأهما حمى "الموقف الرمزي" و"التحسس من أي شبهة تطبيع أو موالاة". مبروك إذن للجميع على كل الانتصارات، باستثناء "الانهزاميين" الذين لا يستسلمون للحماس أكثر من اللازم ويعلمون أن السياسة هي في مكان آخر عليهم أن يحرثوه جيدا وطويلا قبل أن يفكروا في انتظار أي ثمرة حقيقية.



- لم أقرأ بعد رواية ميلان كونديرا "الحياة هي في مكان آخر".
- الصورة من وكالة الأنباء الفرنسية