11 September 2010

"إيه .. في أمل"


لا يعلم المعلق المجهول كم أسعدني هذا الصباح.
بالنسبة لكاتب لا تقدير أعظم من أن ينتظر احدهم كلمته. لا فكرة أكثر مدعاة للسخرية من "أنا أكتب لنفسي". الكراسات الوردية ذات القفل البلاستيكي التي تسجل فيها المراهقات خواطرهن تباع في محال الهدايا. ولذلك فأنا أبتهج بالاهتمام والتقدير ولو أتى بأشكال ومن جهات غير متوقعة.
حوار جريدة "وشوشة" جدد لدي الآمال في أن تتاح لي الفرصة لأتحدث في التليفزيون يوما ما عن رأيي في فلسفة موريس ميرلو بونتي، ولكن ليس في قناة النيل الثقافية. أنا أعرف تقريبا كل من يشاهدونها، وفكرة "أكتب ليحبني أصدقائي أكثر" تستدعي قدرا أقل من السخرية ولكن معها قدر لا بأس به من الشفقة، يمكن للكاتب أن يحكي لهم حكايات جميلة على المقهى بدلا من تعب الكتابة.

المعلق المجهول الذي لا أعتقد أني جالسته على أي مقهى، يقرّعني بعنف لأني لم أكتب عن قضية كاميليا شحاته ويذّكرني بدفاعي الحار عن حقوق الأقليات الدينية. حرقته تقدير آخر، أنا أشكره بشدة على تعبيره الحار عن تأثير كلماتي الباقية في حلقه إلى هذه اللحظة، والتي دفعته لزيارته المدونة خصيصا لكي يتابع ويعلّق، رغم ذلك الثقل الذي أعتقد أني لا أشعر به وحدي عند التعليق على المدونات مقارنة بالتعليق السهل واللطيف في الفيس بوك.

لم أكتب ردا على تعليق المعلق المجهول، فاسم المدونة يعفيني مقدما. أنا انبريت، نعم انبريت، للكتابة مدفوعا تحديدا بالبهجة التي مدني بها تعليقه، فتجاوزت تلك الحالة من عدم الرغبة في الكتابة. لأن ما أشعر به الآن به بعض العنف وهو ما لا أحبه، فأنا لم أكن أود أن أقول أن رأيي فيما يخص قضية كاميليا شحاته هو أن الكثير من المسيحيين المصريين مثلهم مثل الكثير من المسلمين المصريين، كان أهلهم – على حد تعبير صديقة في سياق آخر- في رحلات سفاري في الوقت المخصص لتربيتهم، فتعلموا في الشوارع المزدحمة العامرة بالفوضى كيفية الانخراط الفوري في دراما "الصراع المنحط" الذي يدور بلا نهاية بين لا أخلاقيين أقوياء ولا أخلاقيين في موقع الضعيف. كلاهما يتبنى أخلاق البلطجة و التسلط وعدم الاكتراث بالآخرين وتجاهلهم وقت امتلاك القوة وفي الطرف الآخرإما التخاذل الجبان أو التوق إلى احتلال موقع البلطجي وممارسة التسلط والقهر والجهل فوق جهل الجاهلين.

لم أكن أود أن أقول ذلك لأنه يصيبني بالإحباط، فكيف يمكن أن يأمل كاتب أن يحظى بمزيد من الاهتمام والتقدير في بلد كهذا، خاصة إن كان رأيه في أهله بهذا الشكل ولا يود أن يعبر عنه بقدر من التخفيف والاستعارة اللطيفة مثلما يفعل عمرو خالد.
ولكن عزائي أني أعتقد أن الأخلاق التي تحكم العلاقات الاجتماعية ليست أوصافا لصيقة بالأفراد بقدر ما هي أسلوب انخراطهم معا في جماعة، بينما هم فرادى أناس مثيرون للإعجاب والشفقة والحب والغضب ولا يمكنني إلا في أحوال نادرة أن أبدل ابتسامتي تجهما في مواجهتهم. أنا من كبار أعضاء رابطة متفهمي أبناء المأساة والملهاة الإنسانية.


ولذلك تحديدا فكرت هذا الصباح وأنا أقرأ تعليقات كريهة من طرفي "العركة"، في أن كل ما تريده كاميليا هو الهدوء. كم هي مقرفة وحقيرة تلك الضغوط من الدائرة القريبة حولها، وكم هي مفزعة تلك النداءات البعيدة :"أعيدوا لنا كاميليا"!
أحيانا يكون المجال العام الخاضع لهذه الدراما المنحطة أسوأ بيئة يمكن أن تحصل فيه كاميليا لى حقها وحريتها. وخروج شأنها إلى المجال العام هو دليل توق الكثيرين إلى الانخراط في هذه الدراما.
أنا لا أدري ما الذي يمكن قوله أو عمله، فهي في الغالب ستتمسك بموقف يضمن لها الهدوء، إلى أن تتمكن، إن كانت تريد، أن تعاود الكرة وهي تحاول ألا تخرج قصتها إلى المستنقع الكبير. وقد لا تكون لديها الرغبة أو الشجاعة في ذلك، أو أن تكون غيرت رأيها بالفعل. ما أدارنا. هناك أشياء لا يسعنا إلا قبولها عزيزي المعلق المجهول وتركها للوقت.


أنا مثلا، منذ حفل زياد رحباني الأخير في القاهرة، الذي تزامن مع تحولات شديدة الوطأة في حياتي، أشعر بوخزعميق في منتصف الصدر كلما سمعت موسيقاه. وخز عضويّ تماما، في ذلك الموقع الذي لا أشك أن هايدجر كان لابد سيشير إليه مع كلمة (هنا) لو أنه قرأ كلامه الذي يقول فيه:”إن سبب الشجن لا يرجع إلى أي كائن داخل العالم، ولا إلى أي منطقة محددة في العالم. إن ذاك الذي يسبب الشجن هو (هنا)، هو قريب حيث يقطع علينا الأنفاس ويشد على حنجرتنا".

ولكن ذلك الذي يسبب الشجن (هنا) يتعلل بتلك الأشياء وهؤلاء الناس الذين نحبهم ونعانيهم. والوقت يعالج يا عزيزي المعلق المجهول. وبمرور الوقت قد تخف حرقتك، وقد يخف الوخز الذي أعانيه ويشغلني عن كتابة ما أود قوله والذي للمفارقة يزيد معاناتك وحرقتك.
ولكن هناك دائما احتمال أن نقبل ما لم نستعد لقبوله.
فمنذ بدأت سماعه في دورات متكررة في الصباح وإلى الآن لم يمر الكثير من الوقت ولكني تقبلت ألبوم أنغام الأخير وأراه الآن لا بأس به. وقد يكون وقت كاف قد مر لأستمع، مع وخز أقل حدة، إلى موسيقى زياد مع صوت فيروز في ألبومهما المرتقب الذي أتلهف لسماعه منذ أن عرفت أن اسمه "إيه .. في أمل".

هذا الأمل (هنا) أيضا وليس في أي مكان في العالم يا عزيزي. الكتابة فعل آمل رغم كل ديباجات اليأس والقنوط. وعندما يمكنني أن أجازف أكثر بأن أملا ما هناك، فيما بيني وبينك، سأكتب أكثر.