27 November 2009

يا بني إحنا عندنا ناس متسولين !


لأسباب شخصية، ربما، يبهرني الاعتراف البسيط بارتكاب الشر مع تسميته كذلك، اللجوء إلى سلوك مع وصفه بالانحطاط بلا مواربة. يبهرني أن غريزة ما تفصح عن نفسها بلا أي محاولة للتبرير في الوعي ولا أي محاولة للتحايل على اللغة المسكونة بالأخلاق. الغضب طاقة عظيمة تفجر الصراحة وتهدر اللياقة والمجاملة والتغاضي.
أعتقد أن كل هؤلاء - اللغة والأخلاق واللياقة والمجاملة والتغاضي- كادوا أن يوقفوا الشاب الجزائري صاحب الفيديو الشهير عندما وصل إلى نقطة مهمة : "دلوقتي مع وصول التذكرة إلى 5000 دينار جزائري، اللي راح يروح السودان دول ...". يتوجب عليه هنا أن يصف وصفا غاضبا مخيفا وملوحا بالشر والانحطاط المرعب، هو لن يتراجع ولكنه تخفيفا سيعتذر عن تخليه عن التغاضي عما يعتقده من انحطاط بعض أشقائه:" يعني إخواتي الجزائريين ما يتضايقوش من هذه النقطة .. راح يروح حثالة المجتمع ! اللي ما يشتغلش، اللي أمه مش هاتبكي عليه!".
كان هذا الفيديو بالطبع قبل المباراة الفاصلة في السودان. التي أخذ "المصريون" فيها على حين غرة، في كرة القدم وفي الانحطاط. أعرب الكثيرون من المصريين على شاشات الفضائيات وفي الصحف عن أسفهم من أننا لم نتمكن من حشد انحطاطنا المقابل، "لم نحشد أبناء إمبابة وبولاق وشبرا"، "أرسلنا جمهورا مهذبا وطريا".
الشاب المصري الذي رد عليه أكد أن "حثالتهم" ليسوا شيئا مقارنة بـ"حثالتنا" ويبدو أن أمر الخمسة آلاف دينار جزائري قد استفزه فقال: "يابني إحنا عندنا ناس متسولين!". ربما يقصد لدينا مستوى خاص من الانحطاط - بحسب نفس التصنيف الطبقي الذي اعتمده الجزائري - لا يملك حتى هذه الدنانير. ولكن المشكلة أن الحكومة المصرية لم تدعم الانحطاط - ويلومها الكثيرون الآن بوضوح على ذلك- ولذلك لم يتمكن "المتسولون" من الذهاب إلى الخرطوم لمواجهة أقرانهم.
لا يبدو لي هذا التفسير كافيا. نحتاج الآن للتسليم أن "حثالتهم" أكثر انحطاطا وشراسة من "متسولينا" الذين لم يتمكنوا هنا سوى من كسر زجاج سيارة المنتخب الجزائري، وحتى هذه الواقعة مشكوك في أمرها. ولكن الواضح وضوح الشمس أن طاقة الغضب التي فجرت طاقات النخب الإعلامية والفنية والثقافية في الجانبين قد أظهرت بما لا يدع مجالا للشك أن "حثالتنا" الحقيقة هي التي تتقاضى عشرات ومئات الآلاف والملايين لكي تعبّر.
لقد كان الإعلام المصري دائما رائدا، في كل العصور والاستعمالات والأغراض. وعندما حان الوقت ظل أيضا رائدا ومبهرا، على الأقل بالنسبة لي، في اللجوء لصراحة الغضب التي تطفح بما في القلب بلا لياقة أو مجاملة أوتغاض، في "تسوله" المزيد والمزيد من الطاقة المبهرة للغضب من "الحثالة التقليدية" التي لا دنانير لديها لتذهب ولا منابر لديها لتعبّر، في تعبيره بدلا منهم وباسمهم عن الأسف لعدم التمكن من اللجوء للشر مع تسميته بذلك، واستبداله بالانحطاط مع وصفه بذلك،.
"إحنا عندنا فعلا ناس متسولين!"



الصورة لعمرو أديب ومصدرها منتدى "المصريون الآن".
الفيديو من موقع المصري اليوم من إخراج بسام مرتضى

10 November 2009

حمولة زائدة

قبل أسبوع تقريبا في طرقة قسم الفلسفة بجامعة القاهرة وجدت إعلانا عن منح بحثية في سلوفاكيا. وقفت أقرأ الإعلان، عقلي يحدثني بأنها ليست الفرصة ولا هي اللحظة، لكن مشاعري تتمنى أن أجد في فقرة ما قرارا بترحيلي قسرا من هذه المدينة.
أنا لا أعلم ما الذي قد يكون جديدا وقبيحا - زيادة - حدث الأسابيع الماضية، ولا يمكن لأحد أن يؤكد أن شيئا ما بعينه حدث، ولكن بالتأكيد هناك شيء ما. لا يمكن أن يكون بلا سبب أن يحدثني كل من أحب عشرتهم عن تفكيرهم في الهجرة وبسرعة لأن المكان لم يعد يطاق، إما بجد أو بسخرية مريرة. والبعض الآخر يخبرني من تلقاء نفسه أنه سيحتمل هذه المدينة رغم كل هذا القرف، وكأن فكرة الابتعاد قد تم طرحها مؤخرا كاستفتاء عام.
هل لذلك علاقة بأن القاهرة هذه الأسابيع بدت وكأنها ديكور مقهى شعبي يشهد تصوير مشهد مبتذل في فيلم عربي قديم، يتشاجر اثنان لسبب تافه فيهب كل اثنين ويمسكان بخناق بعضهما ولو كانا جالسين على طاولة وحدة يتبادلان الحديث الودي قبل ثوان. أحمد شوبير ومرتضى منصور، بلال فضل وفاطمة ناعوت، مدحت شلبي وعلاء صادق، مهدي عاكف ومكتب الإرشاد، الجبهات المتناحرة داخل 6 إبريل - لم أستطع إلى الآن تمييز جانبين بوضوح- رفعت السعيد وأبو العز الحريري، الناشرون والكتاب الشبان. والشابان الذين خلع كل منهما قميصه وغرس أظافره في وجه الآخر وتبادلا السباب بالآباء وأعضاء الأمهات والدين والملة وخدش صدريهما بالآلات الحادة والقذف بالحجارة من مسافة قريبة جدا أو تفتيتها بحقد على الرأس قبل أن يهدهما التعب فينطرحا على الرصيف جبنا إلى جنب للحظات ثم يرتدي كلا منهما قميصه ويمضي وهو يترنح ويتحسس جروحه ويرفع وجهه إلى السماء ألما ويغلق عينيه ويطلق سبابا مركبا يجمع عضو الأم ووصفها بالعاهرة مع سب دينها.
غيظ مكبوت وعنف بلا طائل، مساحات ضيفة ونفوس ضائقة، فظاظة في اللفظ والإيماءة، سوء ظن وانتهاك نظر، قبح منظر وعفن رائحة، إذعان بلا رضا وتسلط بلا ثقة و كبر بلا كبرياء، تجمع بلا اجتماع وافتراق لا يصنع فارقا. اعتياد على القذارة والدناءة والإساءة، أصوات نافرة ومتنافرة وخرائب متناثرة وسافرة، كلام بلا تواصل وسعي بلا وصول، أكوام بلا تراكم وأعداد بلا نظام، زحام بلا حشود وأعداء لا يعرفون بعضهم إلا ساعة مواجهة تبدأ بلا داع وتنتهي بلا معنى.
عندما وقفت مرة أخرى بعد أيام أمام لوحة الإعلانات في نفس الطرقة كان موعد التقدم لنيل المنحة السلوفاكية قد فات. اختفى إعلانها وحل مكانه إعلان منحة أخرى لهونج كونج. وأنا لن أذهب إلى هونج كونج.