31 July 2009

شويكار



السيدة
بوسعها ان تخفض رأسها
إذا ما قال لها الحبيب القديم على الهواء
"وحشتيني"
بعدما تخطت الستين بعقد ونصف.
تطرق برأسها
كيلا نلمح، نحن المشاهدين الأشرار،
الحيرة الممتزجة بالخجل
في عينيها،
لكن المخرج الشاب
يفسد اللحظة الفاتنة
بمشاهد الأبيض والأسود
حيث السيدة يافعة جدا
وجريئة
تعرف كيف تقول لحبيبها
"خذني"


19 July 2009

"يا أهل الله ياللي فوق .. نظرة للي تحت"


"شوف يا رحّال. الفن مرآة المجتمع، ولما المجتمع يبقى فيه تشوهات لازم تظهر في الفن" بهذا الرأي للفنان محمد نوح اختتم المخرج الشاب أحمد رحال فيلمه التسجيلي "شعبي" الذي نزلت تتراته مع صوت أحمد عدوية يغني: "يا دي الزمان الردي اللي كترت فيه المغنواتيّة!".
وبسبب ما يوحي به هذ الاختيار اضطر رحال - في كلا الندوتين اللتين ناقشتا الفيلم في مكتبة الإسكندرية ثم في جمعية النقاد - إلى توضيح أن هذه الخاتمة لا تعبر عن وجهه نظره في "الغناء الشعبي" بل إنه بالعكس يحب سماعه ويرى أنه اللون الغنائي الوحيد الذي يمكن القول أنه "خرج من هنا، ومن هنا فقط" على حد تعبيره، ويدعو المشاهدين إلى اعتبار خاتمة الفيلم تضم إلى جانب رأي نوح، ما سبقه من رأي الفنان مودي الإمام المختلف تماما، والذي يذهب إلى أن دور هذا الفن مثل تأثير تزيين السائقين لسياراتهم يابانية المنشأ بالأشياء والكلمات التي تنتمي إلى عالمهم لتبدو في النهاية سيارات مصرية صميمة.
محمد نوح كان ممتعضا من الأشكال الجديدة من الغناء الشعبي يتذكر في حنين "الشعبي القديم" الفلكلوري أو كما عبر عنه سيد درويش، بينما كان مودي الإمام مرحبا ومتفهما لـ"الشعبي الجديد" الذي يعبر عن حياة "الشعب الجديد" وإيقاع شارعه الذي لم يتجمد عند الحالة التي سجلها باحثو الفلكلور أو عبر عنها درويش قبل عقود.
منذ أن تركت الطبقة الوسطى المصرية لما دونها وصف "شعبي" أصبح اصطلاحا يعبر عن كل شيء أقل جودة ومستوى وخارج نطاق الاهتمام والحفاوة. وطريقة تعامل نقاد هذه الطبقة مع " الغناء الشعبي" جماليا يتجاهل سؤال: جميل بالنسبة لمن؟
القليل فقط من النقاد هم من يحاولون النظر من زاوية جمهور هذا الفن: سكان محيطات العشوائيات التي كانت قبل قليل جيوبا ريفية، وحياتهم الخشنة الصعبة الجامحة، مهنهم غير الرسمية غالبا غير المضمونة دائما "حبة فوق وحبة تحت". حياة اللحظة الفانية المقتنصة في لحظة فرح راقصة وغناء يندفع في مرح جامح كما يفعل عماد بعرور أوحزن وألم يصرخ في مرارة كما يفعل عبد الباسط حمودة. أصوات الفنانين مثل أصواتهم قوية وخشنة – لا مكان هنا مثلا لمصطفى قمر - وتنطق بطريقتهم التي تبدو للطبقة الوسطى طريقة سوقية. حتى الأصوات الأنثوية لها طابع مميز فيه دلال ولكن لا يفتقد بعض الخشونة: أمينة صاحبة الحنطور مثلا.
"شيال الحمول يا صغير" أو "من حق الكبير يتدلع"، تعبيرات لا مكان لها في شعبيات الطبقة الوسطى الغارقة وسط طوفان الأنغام المكررة مع مدائح وبكائيات العيون والجفون الرموش. تعبيرات الطبقة الغائبة التي لا مكان لها في الإعلام إلا ليتم السخرية منها أو الضحك عليها مثل "اللمبي"، وغنائها الغائب عن الإذاعات والتليفزيونات إلا في سياق التندر على الغناء الهابط أو "التهييس" قليلا معه. ربما لهذا السبب رفض المنتج خالد عمر التصوير في فيلم رحال ولكنه ساعده على التسجيل مع الليثي وعربي الصغير اللذين ضحك جمهور الندوتين عليهما بينما كانا يشرحان بكل جدية تفاصيل اعتنائهما بالغناء. يبدو أن خالد عمر كان يتوقع ذلك، وبسببه رفض حتى مجرد التصوير الفوتوغرافي قائلا في سخرية العالم ببواطن الأمور:"أتصوّر؟ هو إنت فاكرني اللمبي!".

من : شعبي

شاهد فيلم "شعبي" اليوم في ساقية الصاوي ضمن المهرجان الخامس للأفلام التسجيلية

06 July 2009

هل هي خطوات نحو حافة الهاوية ؟


ماحدث في إيران لا يمكن اختزاله في صدام بين إصلاحيين ليبراليين موالين للغرب وبين محافظين أصوليين معادين له، أو بين مرشح الفقراء ومرشح الطبقة الوسطى. ولكنه "عودة المكبوت" بعد أن أغلق النظام الإسلامي في إيران طاقة المشاركة الشعبية الخلاقة التي أبدعت في إنجاز الثورة الإيرانية.
هكذا قرأ سلافوي جيجيك الأحداث الإيرانية الأخيرة في مقاله التالي، الذي أراه جديرا بالقراءة والنقاش. وأشكر الصديق سامح سمير على ترجمته إلى العربية.
لا يمكن فهم موقف جيجيك إلا على خلفية انتقاده لأنماط الديمقراطية الليبرالية التي توفر انتخابات دورية ولكن تتقلص فيها روح المشاركة الشعبية إلى حد أدنى بشكل يجعله متعاطفا مع "العنف الشعبي"، ويجعله يرى في كل من بيرلسكوني ونجاد نموذجا للفاشي الشعبوي ولو وصل إلى السلطة بانتخاب "ديمقراطي".
لم يسهب جيجيك في هذه النقطة، ولكني أظن أن زاوية تناوله تفتح الباب لأسئلة ضرورية عن علاقة كل نظام ديمقراطي بمعانيه الأساسية: المشاركة وما يلزمها من الحريات. وكيف يمكن أن تفرغ سلطوية "إجراءات ديمقراطية" معنى وروح الديمقراطية في نظام ليصبح مثل القط الذي يمشي فوق هاوية. خاتمة المقال توضح أن جيجيك يرى أن هذه الأزمة ليست فقط إيرانية.

هل يسقط القط الواقف على حافة الهاوية؟

سلافوي جيجيك
ترجمة: سامح سمير

عندما يدنو نظام شمولي من أزمته النهائية فإن تحلله، كقاعدة عامة، يتم على مرحلتين. قبل أن يسقط فعليا يحدث انقطاع غامض: فجأة يدرك الجميع أن اللعبة قد انتهت، ببساطة لم يعد يخيفهم شيء بعد الآن. لا يفقد النظام القائم شرعيته فقط بل إن نمط ممارسته للقوة يتخذ المظهر العاجز لرد فعل مذعور.
نحن نعرف جميعا هذا المشهد الكلاسيكي من عالم الكارتون: يصل القط إلى حافة الهاوية لكنه يستمر فى السير متجاهلا حقيقة عدم وجود أرض تحت قدميه، ولا يبدأ في السقوط إلا حين ينظر لأسفل و يرى الهاوية.
عندما يفقد النظام سلطته يغدو كقط على حافة الهاوية: لكي يسقط يجب فقط تذكيره بالنظر لأسفل . في "الشاهنشاه"- والذي يعتبر شهادة كلاسيكية علي الثورة الخومينية - حدد " رزار كابوسنسكي " بدقة لحظة هذا الانقطاع : في مفترق طرق بطهران رفض أحد المتظاهرين أن يتزحزح من مكانه عندما صاح به شرطى كي يتحرك، فما كان من الشرطي الذى أسقط في يده إلا أن انسحب ببساطة .
في خلال ساعات قلائل كانت طهران بأكملها على علم بالواقعة وعلى الرغم من المعارك الدائرة في الشوارع على مدى أسابيع أدرك الجميع بشكل ما أن اللعبة قد انتهت. هل يحدث الآن شي مشابه لذلك؟
ثمة العديد من الروايات للاحداث الجارية فى طهران . البعض يرى في هذه الاحتجاجات تتويجا لجهود حركة الإصلاح الموالية للغرب على غرار الثورات البرتقالية في أوكرانيا و جورجيا .. إلخ، رد فعل علمانى ضد ثورة الخوميني. ويؤيدون الاحتجاجات باعتبارها خطوة أولى نحو ايران جديد ليبرالي - ديمقراطي علماني خال من الأصولية الإسلامية.
فى المقابل ثمة متشككون يعتقدون، علي العكس امن ذلك،أن أحمدي نجاد قد فاز بالفعل: إنه صوت الأغلبية في حين ن موسوى يعتمد علي دعم الطبقات الوسطى وشبابها المضلل. باختصار: فلنكف عن الأوهام و لنواجه حقيقة أن ايران قد عثرت مع أحمدى نجاد على الرئيس الذى تستحقه.
وثمة هؤلاء الذين لا يعولون كثيرا على موسوي على اعتبار أنه مجرد عضو في مؤسسة رجال الدين لا يميزه عن أحمدي نجاد سوى فروقات شكلية: فموسوى يعتزم أيضا مواصلة البرنامج النووى، و هو ضد الاعتراف بإسرائيل بالإضافة إلى تمتعه بالدعم الكامل للخوميني عندما كان يشغل منصب رئيس الوزراء خلال سنوات الحرب مع العراق.
وأخيرا، فإن أكثر هذه المواقف إثارة للأسى هو موقف اليساريين المؤيدين لأحمدى نجاد: ما يعنيهم في المقام الأول هو استقلال إيران. لقد فاز أحمدي نجاد بالانتخابات لأنه دافع عن استقلال البلاد، فضح فساد النخبة، واستخدم عوائد النفط لتحسين دخول الأغلبية الفقيرة.
هذا هو- هكذا يقال لنا- أحمدي نجاد الحقيقي خلف الصورة التى يروجها الإعلام الغربى، صورة المتعصب الذى ينكرالهولوكست.
إن ما يحدث بالفعل في إيران الآن، طبقا لتلك الرؤية، هو تكرار لانقلاب 1953 ضد مصدق: انقلاب ممول من الغرب ضد رئيس شرعى .
هذا التوصيف لا يتجاهل الحقائق فقط : النسبة المرتفعة للمشاركة الانتخابية - قفزت من نسبة 55% المعتادة الي 85%- لا يمكن تفسيرها إلا كتصويت احتجاجى.
بل هو يعكس عجزا بالغا عن إدراك مثل هذا التجلي الأصيل للإرادة الشعبية، مفترضا باستعلاء أن احمدي نجاد هو الشخص المناسب تماما لقيادة الشعب الإيراني المتخلف الذى لم ينضج بعد بما يكفى كي يحكم بواسطة اليسار العلمانى.
بالرغم من التعارض القائم بينها، تتفق هذه التفسيرات كلها في قراءتها للا حتجاجات الايرانية من خلال محور الإسلاميين المتشددين في مقابل الإصلاحيين الليبراليين الموالين للغرب مما جعلها تجد صعوبة بالغة فى تحديد موقع موسوى : هل هو إصلاحي مدعوم من قبل الغرب يرغب في منح المزيد من الحريات الشخصية واقتصاد السوق ، أم هو عضو في مؤسسة رجال الدين لن يكون لفوزه، حال حدوثه، أى تأثير جدي على طبيعة النظام؟
يؤشر هذا الـتأرجح الشديد بكل وضوح على قصور هذه القراءات جميعها عن إدراك كنه هذه الاحتجاجات.
فاللون الأخضر الذى يتخذه أنصار موسوى شعارا لهم و صيحات "الله أكبر" التي تتعالى من فوق أسطح المنازل بطهران في ظلام الليل تشير بوضوح إلى أنهم يرون فى ما يقومون به تكرارا لثورة الخومينى عام 1979، عودة لجذورها، و تصحيحا لما اعتراها من فساد فيما بعد .
لا تتعلق تلك العودة للجذور بالبرنامج فقط، بل تتعلق أكثر بنمط فعالية الجماهير: الوحدة المتينة للشعب، تضامنهم الشامل، التنظيم الذاتى الخلاق، ارتجال أساليب للتعبير عن الاحتجاج، المزج الفريد بين التلقائية و الانضباط، على سبيل المثال المسيرة الرهيبة التى ضمت آلافا من البشر يسيرون في صمت تام.
نحن بصدد انتفاضة شعبية أصيلة للذين غرر بهم من أنصار ثورة الخومينى. ثمة نتائج بالغة الأهمية يمكن استنباطها من هذه الرؤية. أولا، أحمدى نجاد ليس بطلا شعبيا للفقراء المسلمين بل هو إسلاموي-فاشستي شعبوى فاسد بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
النسخة الإيرانية من بيرلسكونى، يجمع في مزيج فريد بين سلوكيات بهلوانية وسياسة القوة الخشنة ويسبب حرجا حتى للغالبية العظمى من آيات الله. علينا ألا ننخدع بما يقوم به من توزيع ديماجوجي للفتات علي الفقراء: لا يوجد خلفه أجهزة قمع بوليسى و جهاز علاقات عامة علي النمط الغربي فقط، بل أيضا طبقة قوية من الأغنياء الجدد تعتبر افرازا طبيعيا لفساد النظام.
(الحرس الثوري الايراني ليس ميليشيا للطبقة العاملة بل مؤسسة عظمي، أقوي مراكز الثروة في البلاد)
ثانيا، يتعين علينا أن نفرق بوضوح بين المرشحين الرئيسيين ضد أحمدى نجاد: مهدى كروبى و موسوي.
فكروبى إصلاحى بكل ماتحمله الكلمة من معنى، يطرح بصفة أساسية النسخة الإيرانية من سياسة الهوية ويتعهد بمراعاة مصالح كل الجماعات الخاصة.
الأمر مع موسوي مختلف كلية، فاسمه يقترن بمشروع إعادة إحياء - بكل ماتحمله الكلمة من معنى- للحلم الجماهيرى الذى ساند ثورة الخومينى. حتى وإن كان هذا الحلم محض يوتوبيا، علينا أن ندرك ما ينطوى عليه من يوتوبيا أصيلة للثورة. ما يعنيه ذلك هو أنه لا يمكن اختزال ثورة الخومينى عام 1979 الى مجرد تولي متشددين إسلاميين مقاليد السلطة، لقد كانت أكثر من ذلك بكثير.
لقد حان الوقت كي نتذكر الفوران العظيم للعام الأول الذى تلا قيام الثورة و ما صاحبه من تفجر، يحبس الأنفاس، في الإبداع السياسى و الاجتماعي و التجارب التنظيمية و المناظرات التى كانت تعقد بين الطلاب و الناس العاديين. وحقيقة أن هذا التفجر قد تعين كبته دليل واضح على أن ثورة الخومينى كانت حدثا سياسيا أصيلا، انفتاحا لحظيا أطلق قوى تحول اجتماعى- لم يسمع بها من قبل - من عقالها لحظة " بدا خلالها كل شيء محتملا".
ما حدث بعد ذلك كان بمثابة إغلاقا تدريجيا عبر تولى "مؤسسة الإسلام" مقاليد السيطرة السياسية. بمصطلحات فرويدية تمثل الاحتجاجات الراهنة "عودة المقموع" فى ثورة الخومينى.
أخيرا و ليس آخرا، ما يعنيه هذا هو أن الاسلام ينطوى علي طاقة تحريرية – لسنا بحاجة إلى العودة الي القرن العاشر كي نعثر على الإسلام "الجيد"، فهو حاضر هنا أمام أعيننا.
وأن المستقبل غامض، وأغلب الظن أن القوى المسيطرة سوف تتمكن من احتواء الانفجار الشعبى والقط لن يسقط في الهاوية بل سيتمكن من استعادة الأرض تحت قدميه . و مع ذلك فالنظام لن يكون هو ذاته بعد الآن بل مجرد نظام أوتوقراطي فاسد بين آخرين .
أيا كانت النتائج فإنه لمن الأهمية بمكان أن نعي أن ما نشهده الآن هو حدث تحريري عظيم لا يمكن استيعابه في إطار الصراع بين الليبراليين الموالين للغرب والأصوليين المعادين للغرب.
لو أننا - بسبب من براجماتيتنا العدمية- فقدنا القدرة على إدراك هذا البعد التحريرى إذن فنحن- فى الغرب- مقدمون بالفعل على عصر مابعد –ديمقراطي وعلينا أن نستعد من الآن لاستقبال نسخنا الخاصة من أحمدى نجاد . الإيطاليون يعرفون اسمه بالفعل: بيرلسكونى. الآخرون ينتظرون فى الطابور.

--------
* سلافوى جيجيك: فيلسوف و عالم اجتماع ماركسى ولد عام 1949 فى سلوفينيا . اشتهر بتوظيفه لأعمال عالم النفس الفرنسى الشهير جاك لاكان فى إعادة قراءة منتجات الثقافة الجماهيرية . كتاباته تشمل مجالات عديدة وتغطي حقول معرفية متعددة من فلسفة وعلم اجتماع و نقد ثقافى وتحليل نفسى . كتب في العديد من الموضوعات مثل الحرب على العراق والأصولية والرأسمالية والتسامح والعولمة وحقوق الانسان و مابعد الحداثة و التعدد الثقافى ، و يصف نفسه كمفكر شيوعى ماركسى . أهم مؤلفاته "شيء الأيديولوجية السامى" الذى أكسبه شهرة عالمية .
** الصورة من
Andy Miah .

02 July 2009

ماركسي على سنة الله ورسوله


يوحي هذا التعبير- الذي كان يحلو لعبد الوهاب المسيري أن يصف به نفسه في حواراته الأخيرة - أن إنتاجه الفكري كان من عينة محاولات متواضعة شائعة للتوفيق بين عناصر مختلفة بدلا من تحمل كلفة الانحياز لأحدها.
ولكني على العكس، أجده قبل كل شيء دالا على حسه المرح في التعبير عن موقفه المركب والمميز. انحيازاته الأخيرة واضحة في إنتاجه، ومما أحبه فيه أنه كان يتحلى ببساطة الانحياز وحراراته سواء في فكره أو حركته، ولكنه أيضا كمفكر أصيل ذي تجربة لا يمكنه إنكار تأثير كل جوانب التجربة على موقفه النهائي.
الهوية - كما يقول تيري إيجلتون- هي ما لا يمكننا أن نتخلى عنه. هذا إن صحت ذاكرتي لأني لم أستطع الرجوع الآن إلى مصدر قوله هذا.
المسيري أيضا كان كثيرا ما ينسى الإحالة للمراجع في كثيرا من أعماله الفكرية- أو يتجاهلها عمدا في رأي نقاده الأعنف- ويمكن أن نلومه على ذلك. ولكن المفاهيم الكثيرة التي اقتبسها من الفلسفة والفكر الغربيين، لا تمنع اعتقادي أنها في سياق أفكار المسيري كانت تنبض نبضا مختلفا، ربما بسبب أصالة همه الفكري، الذي لم ينفصل عن تجرية كشف عن جوانبها في سيرته الذاتية/ الموضوعية. وهي من أكثر السير التي قرأت إمتاعا وثراء.
التعبير عن هذا تحديدا كان طموح مقالي عن المسيري، الذي حاولت فيه أن أركز على التشابك ما بين التجربة الشخصية والإنتاج الفكري، وبين جوانب هذا الإنتاج الفكري المترابط والمتناغم. وأتمنى أن يكون خطوة تحضيرية للتعامل النقدي مع أفكار وأطروحاته.
المقال كتبته بعد وفاة المسيري مباشرة، كمشاركة في ملف عنه تعده مجلة "القافلة" السعودية. ولم ينشر بسبب سوء تفاهم حول المساحة المخصصة. ولكني أشكرهم على التعامل مع سوء التفاهم هذا بقدر فائق من الاحترام. وهو ما يندر تواجده في عالم الصحافة اليوم.
مرور عام على وفاة المسيري، قد يكون لحظة مناسبة لنشر المقال، وهو حجة أيضا لأعلن عن مدونتي الجديدة: أشغال عامة. والتي أجمع فيها كتاباتي الصحفية التي لا تشجعني طبيعتها على إضافتها هنا إلى ما بدا لي. كنت أود تأجيل ذلك حتى أستكمل إضافة أرشيف ما كتبته في صحف ومجلات أخرى قبل الشروق. ولكن يبدو أن ذلك بعيد الأمد، والله المستعان.
كما أني أتمنى أن تحقق هذه المدونة هدفها وأن أحظى بآرائكم وتعليقاتكم إن كان في محتواها ما يثير اهتمامكم، وبالطبع تصويباتكم ومراجعاتكم بخصوص ما لا يعجبكم.

أشعر الآن أن هذه التدوينة مثل: "كوهين ينعى ولده ويصلح ساعات"! ولكني كثيرا ما أستخدم هذه المدونة للدعاية لكل ما يبدو لي أن أنحاز إليه. وياء المتكلم في عنوان هذه المدونة هي بالطبع أكثر ما أنحاز إليه، لأن غير ذلك في الحقيقة لا يمكن أن يكون، وعلينا أن نتحلى ببساطة الاعتراف بهذا الانحياز البسيط المشروع الذي لا يمكن الفكاك منه.