08 August 2011

عزيزي ناجي ..

أحمد ناجي وعمرو عزت

عزيزي ناجي ..

هكذا أحب أن أناديك، لا إبليس أو بيسو أو أحمد.

أنت تعلم جيدا أني أحبك في الله، مهما لامني عباد الله. لذلك فأنا الآن أشعر بالذنب لأني تلكأت في لقياك قبل سفرك الطويل، وبالغيرة من موود لأنك راسلته، بعدما راسلت أبو عمو ورؤوف.
لسبب غامض لم يتعكر أبدا من قبل صفو الوداد بيننا، الوداد نفسه هو الأكثر غموضا بالنسبة لكثيرين، لذا لا مانع أن أقرر أن أراسلك ردا على رسالتك إلى موود.

كل ما سبق لا علاقة له بأن موود تسبب في زيادة ساعات عملي اليومين الماضيين، بسبب شيء ما له علاقة بالشيوعية، وكل ما سبق لا علاقة لك به، ولكنني أحببت أن أؤكد على أنه لا شيء يمكن أن يجعلني أغضب منك أنت أو موود، شيء ما يجعلني أعرف أننا، أنا وأنت وموود، معا. بينما في جهة أخرى هناك آخرين ولاد وسخة !

أما بعد، فقد استغربت قولك أنك ستنتهي مع موود في الجحيم لأنه لا أحد تعرفانه في الجنة. حزنت لأنك تعرف أنني من أهل الجنة، أنت تعلم جيدا ذلك، سيكون من الظلم جدا ألا يكون كذلك. والسبب الرئيسي هو كوني لطيفا مع كل ولاد الوسخة، ولذلك لا أقول لهم أبدا أنهم ولاد وسخة مهما حصل.
لسبب ما لا يمكنني ذلك، كما لا يمكنك أن تكون ناشطا سياسيا حتى لو تحمست لرابطة الشباب التقدمي وحضرت أحد اجتماعاتها.

هناك شيء له علاقة بالمشاعر يحدد كل ما له علاقة بالسياسة، لذلك استغربت أيضا استهجانك للعلاقة بين السياسة والمشاعر. رغم أنك قلت أن علاقتك بيوم 25 يناير كان مشاركة من تحبهم سعادتهم ونشوتهم في الميدان.
هذا تحديدا ما كتبته بأسلوب آخر في "أول دخولنا الجنينة". لحسن الحظ لم ير عمرو مصطفى تلك التدوينة وإلا اعتبرها تدريبات على المخطط الكبير. لا يمكنني أن أقول أن عمرو مصطفى شخص ابن وسخة رغم أنه يستحق ذلك، أو هو نموذج لذلك، ولكن لأنه - بشكل غامض أيضا – إنسان بعينه، فلا يمكنني ذلك فعلا.

لا أهدف من تذكيرك بتدوينتي أن أشير بأناقة إلى أني سبقتك، رغم أنني فعلت، بينما أنا هنا في هذه الرسالة أحاول بقدر من المراوغة الاقتراب من أسلوبك، خاصة إنني عادة لا أستخدمة عبارات من نوع: ولاد الوسخة.
ولكن ما أشعر به حقا يا ناجي، وأشكرك على إتاحة الفرصة هنا لي لأقول ذلك، أن الثورة وكل ذلك الذي حدث لم يكن – بالنسبة لي – إلا تعبيرا عن احتقارنا لولاد الوسخة .. ولاد الستين وسخة ودولتهم .. ومجتمعهم ابن الوسخة بالمرة.

ببساطة أحببت الاحتجاج دائما لأنه بديل عن السباب العالي الذي يستحقه ولاد الوسخة، ولأني في لحظة التظاهر والاحتجاج أكون مع من أحبهم داخل كردون، يصنع الكوردون لحظة خالصة رومانسية، حالمة ويوتوبية وكأن الكردون يرسم خطا فاصلا بيننا وبين عالم بنت وسخة. أنت تعرف أنه ليست لدي توقعات كبيرة فيما يخص الإنسانية، لذلك فإنني متفائل عادة وأفرح دائما بكل ما يجود به قدري السمح. متسامح مع ولاد الوسخة دائما، ولكن لحظة الاحتجاج كلحظة صوفية أنجذب فيها إلى ما أحب ومن أحب وأعبر عن احتقاري الحاد لما سواه وسواهم.

في الثورة انفجرت لحظاتنا الصوفية، لم نقصد طبعا أن تنفجر أو أن تكون ثورة، ولكن هذا ماحدث. وانتابتني اللوثة: ألقيت حجارة يوم 25 يناير وأنا أهتف تجاه ولاد الوسخة، ثم ألقيت حجارة يوم 28 يناير وأنا أهتف يا ولاد الوسخة ثم ألقيت حجارة يوم 2 فبراير وأنا أجز على أسناني وأسب ولاد الوسخة بما هو أكثر بذاءة، لأنه في تلك المرة الأخيرة أصابوني بحجر في وجهي، إصابة طفيفة ولكنهم للمرة الأولى يتمكنون مني. لو كانت أصابت عيني لكنت الآن أكتب بعين واحدة .. ولاد وسخة!

هذه التدوينة/الرسالة الاستثنائية ستكون دائما مثار جدل بيني وبين كثيرين ممن سيستغربون أني كتبت ذلك، وسأبتسم وأقول أن ذلك ما بدا لي. ولكنك تعرف الآن بشكل ما أن هذه الرسالة، أو هذا الرد، موجه للعديد من ولاد الوسخة، الذين يعكرون مزاجي الآن، وأن عنوان رسالتك إلى موود قد استولى على معظم رسالتي إليك. لا ينبغي لهذا أن يجعلك تظن أن نأيكم عنا يغيرنا / أن طالما غيّر النأي المحبينا..

إليك سلامي وأشواقي، وأحب أن أطمئنك أن الثورة مستمرة، خارج حدود المستطاع ووفق أهواء الخيال. وأعداؤنا من ولاد الوسخة سيماهم على وجوههم من أثر احتقارنا لهم ونحن نسحلهم خلفنا إلى ما لا نعرف تحديدا وما لا يريدون أن يعرفوا. وهذا وحده يثير ابتهاجي ويجعلني أتجاهل شيئا أخلاقيا ينكأني ويذكرني أني شخصيا لا أحب العلاقة بين كون أحدهم من ولاد الوسخة فعلا وما قد يترتب على ذلك من إهانة لأمه.

ولكن الحياة صعبة كما تعرف وغير منصفة، واللغة أيضا.

10 June 2011

بالأمس حلمت بي



كنتُ جالسا أمامي، مبتسما.
تحدثتُ إليّ بكلام كثير، لا أذكر منه شيئا، ولكنه أغضبني مني. استأتُ وتجمهتُ في وجهي، ولكني لم أتوقف عن الكلام.
لم يكن مني إلا أن قمتُ وتركتني، مبتعدا عني.

06 June 2011

أما زلنا "كلنا خالد سعيد"؟

إحياء ذكرى خالد سعيد أمام «الداخلية»


ليست مفارقة، بل أمر دال، أن قضية خالد سعيد، شهيد الطواريء، لم تحسم قضائيا بعد. رغم أنها كانت إحدى الحلقات الهامة في سلسلة من الاحتجاجات التي أفضت إلى ثورة أطاحت برأس النظام الحاكم، ولا تزال تخوض سجال معركة الثورة المستمرة وإقامة نظام سياسي جديد.

لا توجد قوة أو قوى تدعي أنها مفجرة الثورة ويمكنها طبقا للشرعية الثورية أن تطارد بشراسة كل أعداءها وتقتص منهم قبل أن تضع شرعيتها الجديدة في شكل دستور وقوانين. ولو كان ذلك لكان المتهمون في قضية خالد سعيد أول من ستطولهم يد العقاب الثوري. ولكن المبادرة الخلاقة الدوءب، التي كان منها الدعوة للاحتجاج يوم 25 يناير من خلال صفحة «كلنا خالد سعيد» على الفيس بوك، والمشاركة الواسعة التي تتوافق حول المبادرة وتنقلها إلى الأرض وتطورها بحرية وعفوية وبشكل يكاد يكون مستقلا عن مركز إطلاق المبادرة وعن كل مركز، كان ذلك هو الشكل الجديد المختلف، الشعبي واللامركزي، من الشرعية الثورية التي كانت قاطرة كل جولة من جولات الثورة، ولا تزال.

هذا النوع المختلف من الشرعية يتفجر قوة وصلابة في ساحات المشاركة الشعبية حول المطالب العليا ولكنه في القضايا التي تتطلب تمثيلا سياسيا محددا وتفاوضا عند إقرار التفاصيل يبدو في أضعف أشكاله.

في هذا السياق لن تكون مفارقة أن تطول أمد محاكمات رؤوس النظام السابق أو المتهمين في قضايا التعذيب، ومنها قضية خالد سعيد، أو تخضع المحاكمات للإجراءات العادية و يخضع القرار القضائي للاعتبارات والتفاصيل القانونية المعروفة التي لا تؤدي بالضرورة لـ«أحكام ثورية».

لا يجب أن يكون ذلك محبطا بقدر ما يدعونا لتفهم الطابع المميز لثورتنا والإتكاء أكثر وأكثر على مصدر قوتها وشرعيتها: المبادرة والمشاركة الواسعة. بل على العكس، أن تظل الثورة دائما مهمة غير متكملة تتطلب مبادرة ومشاركة هو ما يثير الأمل أن يكون التغيير أعمق وأطول أثرا، وممتدا إلى مستويات أعمق من البناء الاجتماعي الذي يثور على نفسه ويطهرها من كل مظاهر الاستبداد والقمع والفساد وهو يخوض معركة الثورة المستمرة مع كل سلطة تجسد جابنا من تلك المظاهر.

تحولت قضية خالد سعيد من قضية مقتل فرد، يمحص القضاء حقيقتها، إلى رمز للقضية الأكبر التي لا مجال للنقاش فيها وحكمت فيها قوة الجموع بشرعية المشاركة الشعبية الجارفة. المشاركة التي بدأت شابة بالأساس عندما وجدت في وجه خالد سعيد ما يشبهها واعتبرت الاعتداء عليه اعتداء على صورتها.

كذلك، الروايات المتضاربة حول مقتل سائق الأزبكية، قبل أيام من موعد ذكرى رحيل خالد سعيد، قد لا تقودنا في النهاية إلى حسم المسؤولية القانونية، ولكن الاحتجاج الشعبي الذي أعقب مقتل السائق يستمد غضبه من قضية أكبر، والسائق القتيل ليس إلا وجها يشبه وجوه أقرانه وغيرهم من أفراد الطبقات البسيطة الذين ذاقوا مرارة العسف البوليسي وتجرعوه وسط صمت الطبقات الأعلى. ولا يزال هؤلاء يقدمون للمحاكمات العسكرية فداء لكل اضطراب ويطمئن البعض عند رؤية صورهم غير المهندمة في الصحف والقنوات وقد استقر يقينهم لكونهم «بلطجية» وليسوا من «شباب الثورة»!

لندخل إلى عمق التعقيد: عودة الشرطة ومحاولة تطبيق القانون في الشارع، إن لم يتوافق مع سياسات اجتماعية وإجراءات محلية متفهمة، سيصطدم مباشرة بمصالح هؤلاء الذين جعلهم الوضع الاجتماعي خارج القانون، الباعة الجائلين المنتشرين في الشوارع مثلا. واحتمالات وقوع الضرب والتعذيب على يد مواطنين يعرفها كل مصري يضرب ابنه في البيت ويود لو يشارك في ضرب الحرامي قبل تسليمه للشرطة، ويعرفها أيضا كل مصري يعرف واحدا يفعل ذلك. وهذا لا ينفي مسئولية الشرطة في كبح ذلك وحفظ حق الفرد ولو كان متهما أو «مسجل خطر».

الثورة مغامرة من أجل الحرية برغم احتمالات الفوضى والاضطراب. المذعورون من الفوضى ينظرون تحت أقدامهم ويريدون الاستقرار الآن بأي ثمن. بينما الحالمون بوطن أفضل يقبلون المغامرة واحتمالاتها ويرفضون كل تجاوز في حق مواطن بدعوى حفظ الاستقرار والأمن. اضطرابات الثورات والمراحل الانتقالية هي آلام فتح جروح تناقضات المجتمع.

الأكثر إثارة للقلق ليست الإدارة السياسية السيئة للمجلس العسكري، قد يكون مطمئنا أن نتأكد تماما أن الطابع العسكري لا يصلح مطلقا لأي شكل من أشكال السياسة، ولا هي في الانتخابات المبكرة التي تخيف البعض بينما هي ضرورة تضع المجتمع في قلب التجربة الديمقراطية، التي لا يمكن تحضير الشعب وقواه لها إلا بخوضها مباشرة ومواجهة مشكلاته وأزماته فيها.

الأكثر إثارة للقلق هو أن يتعامل المجلس العسكري مع تقلبات المرحلة الانتقالية بنفاد صبر، كما عبر في بعض بياناته، بما يجعله ضائق الصدر بالحريات وحركة الشارع الضرورية في مرحلة سياسية ساخنة، وبما يفسح المجال للإخلال بحقوق المواطنين وكرامتهم، بداء من إساءة معاملتهم أو حرمانهم من المحاكمات المدنية العادلة. بيانات الجيش تشهد مراجعته لموقفه أكثر من مرة بشان اعتقال «شباب الثورة» أو محاكمتهم عسكريا. بينما هؤلاء الذين لا تشي وجوههم بأنهم من «شباب الثورة» – شباب الطبقة الوسطى المتعلم- لا يتمتعون بنفس الفرصة!

رموز النظام السابق المتورطون في القمع وقتل الثوار ليسوا شياطين كارهين للإنسانية، بل كانوا يحفظون ما يظنونه النظام والاستقرار والأمن دون اعتبار لكرامة الأفراد وحقوقهم، وخاصة كرامة وحقوق هؤلاء الذين على الهامش وتحت خطوط الفقر والاعتبار، وخارج الصور الناصعة لـ«شباب الوطن» و«المواطنين الشرفاء».

الذين يشبهون خالد سعيد أو لا يشبهونه نام بعضهم تحت عجلات الدبابات في ميدان التحرير مساء 28 يناير، يتقلبون بين الخوف من حركتها لإحباط ثورتهم والاطمئنان إلى أنها لن تدهسهم، وتحدوا حظر التجول الذي أعلنه الجيش مصرين على استكمال ثورتهم. الجيش ليس قوة ثورية ولا هو ضد الثورة، بل هو قوة وجدت نفسها في اختبار صعب لم تسع إليه، لكن «القلب الصلب» للثورة هم هؤلاء الذين خاضوا المغامرة وقرروا إما أن نلقى جميعا مصير خالد سعيد أو أن نتجاوزه جميعا.

الكرامة الإنسانية، لكل هؤلاء الذين يشبهون خالد سعيد أو لا يشبهونه، هي القضية الكبرى خلف «قضية خالد سعيد»، وهي أساس النظام الجديد الذي سيحاول بناء مجتمع الحرية والعدالة.

إن غابت الكرامة، تحت أي دعاوى، فإن هؤلاء الذين يتذكرون اليوم خالد سعيد وقضيته الكبرى ويقفون مجددا في ذكرى رحيله في الميادين وعلى ضفاف النيل في المحافظات، لن يملوا من معاودة طرق الباب وإشعال شرارة الغضب من أجل الكرامة مرة بعد مرة.



نشر في موقع "المصري اليوم" 6-6-2011
تصوير: عمرو عبد الله

12 May 2011

وسط حطام «معركة إمبابة»: خرافات الحارات التي تضعنا أمام الحقيقة


(1)

«إزاي كنت بتعرف المسيحي من المسلم في خناقة إمبارح يا مصطفى؟»

يجلس مصطفى على أول درجة من السلم المؤدي لمدخل منزله على بعد خطوات من كنيسة مارمينا في إمبابة وهو يحك أثر جرح في ساقه: «إزاي بقى! من السحنة، دي حاجة معروفة. وكمان قلبك ودينك وإيمانك بيقول لك" يضيف صديقه سامح: «لازم تحس، دي عقيدة وأكيد بتفرق!". يقاطعه مصطفى وهو يتجه ببصره إلى أول الحارة المتفرعة من شارع المشروع حيث توجد الكنيسة: «بص مثلا اللي جاي ده. مش باين إنه مسيحي؟".

يخاطبه القادم وهو يشير إلى جرح ساقه: «إزيك يا مصطفى. سلامتكيرد:«دي حاجة بسيطة. إزيك إنت يا عم كرم؟ تمام؟» يقف عم كرم ويطمئن على مصطفى ويسأله عن باقي أسرته ويتبادلان الاطئمنان على الأهل والجيران. «ربنا يطمننا عليك يا عم كرم" يمضي كرم يودعه مصطفى الذي ينتظر قليلا ويتذكر السؤال ويكمل الإجابة: «شفت؟ باين عليه. وكمان إحنا هنا عارفين بعض ومين مسلم ومين مسيحي، وحبايب عادي .. لكن هم اللي بدأوا وعزة جلال الله

(2)

الطريق إلى شارع المشروع من شارع الأقصر مفروش بكسر الزجاج والحجارة، وبحكايات السكان عن مشاجرات واشتباكات بين مسلمين ومسيحيين أو «بيننا وبينهم»، على حد تعبير معظم الرواة. يحكون عن تجدد الاشتباكات طوال مساء السبت والساعات الأول من صباح الأحد قبل أن يفرض الجيش حظر التجول التام على معظم شارع الأقصر والكثير من حاراته.

المدرعات وسيارات الأمن المركزي وصفوف جنود الجيش والشرطة على مسافات متقاربة ولا تعرف غير كلمة «ممنوع حد يعدي». يتفاوض مع أحد الصفوف كهل نزل يشتري خبزا ويريد أن يعود إلى بيته، وامرأة تخبرهم أنها باتت عند أمها وتستعطف الضابط لكي تعود إلى بيت زوجها فيسمح لها.

أسماء الحارات تحمل على الأرجح أسماء قدامى سكانها: حارة علي محمد، حارة صليب غبريال. نسبة كبيرة من المسيحيين، معظمهم من عائلات صعيدية، يتركزون في شارع الأقصر وما حوله.

حارة وضعت بدلا من اسمها القديم لوحة بألوان علم مصر تقول: «حارة الشهيد لطفي عزام». يقول الأهالي أنه استشهد يوم 28 يناير في التحرير، في اللوحة صورة لشاب لم يتجاوز العشرين.

قريبا من تقاطع شارعي الأقصر والمشروع، على كرسيين بلاستيكيين يجلس اللواء حمدي بدين، قائد الشرطة العسكرية وبجانبه شيخ بجلباب أبيض ولحية بيضاء طويلة ينظران إلى الشارع المؤدي إلى الكنيسة الذي تسده صفوف الجنود.

يتطور المشهد مع بداية شارع المشروع، أكوام من الخشب المتفحم الغارق في المياه. تبدو قطع من الأثاث ونوافذ وأبواب أمام بناية محترقة عن آخرها، واجهات محلات تم تدميرها، أطلال مقهى.

أمام المقهى المحل الوحيد المفتوح في الشارع: مخبز إفرنجي يجلس أمامه أصحابه وعماله وأمامهم صف من الجنود يقسم الشارع إلى نصفين بشكل غير مفهوم. يشرح عبد الناصر محمد، صاحب المخبز، أنه عند هذه النقطة تنتهي عمارات المسلمين وتبدأ عمارات المسيحيين التي تتوسطها الكنيسة. لا يبدو على الكنيسة أو أسوارها أي آثار حريق أو تكسير مثل المنازل المحيطة. فقط كسر الحجارة والزجاج منتشر أمامها.

(3)

خلف أبواب الكنيسة مباشرة، لا تزال أكوام من الحجارة كانت معدة لـ«صد الهجوم»، كما يقول الشهود المسيحيون. يقف بجابنها الشاب ريمون جرجس، ذراعه مربوطة وحول عنقه شال أحمر عليه صلبان ذهبية. يقول الشباب في الكنيسة أنه كان أبرز من تصدوا للمعتدين على الكنيسة. يقول ريمون: «لم يكن معنا إلا الحجارة وكان معهم رصاص حي ومولوتوف».

يدخل الكنيسة الشيخ الملتحي، الذي كان يجلس قبل دقائق بجانب اللواء بدين ويتحدث مع بعض القساوسة عن ضرورة تهدئة الناس من الطرفين. ينظر إليه ريمون شذرا ويقول: «أكيد داخل يشوف عددنا كام ويشوف معانا إيه. مش لوجه الله!».

رغم التشديد الأمني من الشرطة والجيش، يدخل إلى الكنيسة جيران مسلمون يتبادلون أحاديث ودية أو متوترة مع الآباء أو شباب الكنيسة.

مجموعة من شباب الكنيسة يحتدون وتعلو أصواتهم تجاه الشيخ: «أنتم اللي بدأتم! أنتم ال كنتم عاوزين تدخلوا الكنيسةيحاول الكبار والقساوسة تهدئة الشباب.

بين بعض الشباب والفتيات تدور الحوارات الغاضبة والمذعورة عن السلفيين، تحكى إحداهن عن قصة سمعتها أنهم يخطفون الفتيات المسيحيات ويخدرونهن فيستقيظن ليجدن توقيعن على إشهارالإسلام، ويحكي أحدهم عن نية السلفيين معاودة الهجوم مساء وعن ضرورة إدخال سلاح إلى الكنيسة لرد الهجوم. يتجمع بعض الشباب في ركن يتناقشون إذا كان يجب أن يقولوا للفضائيات أننا سنرد العنف بالعنف أم لا.

يحاول الأب ميساي الاشتراك في تهدئة الشباب ولكن يبدو عليه الغضب وهو يحكي الأب عن تأخر التدخل الأمني: «بعد تجمع سلفيون يطلبون تفتيش الكنيسة ويدعون أن هناك فتاة أسلمت تحتجزها الكنيسة، وهو أمر لا نعلم عنه شيئا، تجمهر سلفيون وشباب مسيحيين أمام الكنيسة وبدأ الطرفين في الهتاف. دخل الكنيسة لواء شرطه ومعه مجموعة جنود كنا نتناقش وأول ما بدأ إطلاق الرصاص خرجوا ولم يعودوا ثانية ولم يظهروا إلا بعد ساعات بعد سقوط قتلى وجرحى». يشير إلى بيريه يمسكه قس آخر: «اللواء خرج مسرعا ونسى البيريه الخاص به".

القس الآخر يمسك البيريه ويريه لكاميرا قناة فضائية تجري معه حوارا.

خدام الكنيسة مرتبكون بين الشباب الغاضب والأهالي الملتاعين وتلبية إلحاح الصحافة وكاميرات الفضائيات واستقبال بعض الرموز والمشاهير الذين بدأوا التوافد. الكنيسة التي يبدو عليها تواضع الحال من الداخل ولا يزال مدخلها وبعض قاعات الدور الأرضي فيها بدون دهان، تبدو من الخارج شامخة وعالية ومزدانة بالزخارف وسط العشوائيات والبيوت بالطوب الأحمر.

(4)

يصر سامح ومصطفى أن الكنيسة تتلقى معونة من أمريكا وأن الأقباط الذين تظاهروا في ماسبيرو قبل أسابيع كانوا يريدون حقوقا للمسيحي تساوي حقوق المسلم، وهذا يعني عندهما أنه يمكن لرئيس مسيحي أن يحكم مصر ويعيدها دولة مسيحية كما كانت.

يضيف سامح: «بس مهما كان. إمبارح والله شلت على كتفي واحد مش من المنطقة راسم على دراعه صورة العدرا. كان واخد طلقات في رجله وهايموت تحت رجلين الناس. وأنا شلته وخرجته برا مع الواد مينا». يضحك مصطفى: «شوف سبحان الله. الكنيسة هي ال بتضرب نار لكن جات في الواد المسيحي!».

يقول سامح: «لكن الكنيسة حبست واحد محامي هنا اسمه عمرو ييجي ساعة. ينفع كده؟».

ينادي سامح ومصطفى على عمرو، الذي ينزل بملابس البيت ويشعل سيجارة ويحكي أنه سمع بتجمهر سلفيين وبعض «مشايخ المنطقة» من أجل بنت محبوسة بالداخل فذهب لاستطلاع الأمر. يقول أنه محام في مجلس الدولة ومعروف في المنطقة وأراد التدخل والتهدئة ولكن وسط الزحام والتدافع والظلام، سقط الشيخ محمد علي أرضا وهتف الشباب المسلم أنهم ضربوا الشيخ. يقول:«دي كانت آخر حاجة سمعتها وغبت عن الوعي وصحيت لقيت نفسي مصاب في الكنيسة. لكن الحق جابوا لي جوه إسعافات أولية وعصير وعاملوني بآخر كرم!».

يدخن سامح ولا يبدو عليه أي تأثر من رواية عمرو الروبي، ويضيف: "لكن ضرب الرصاص بدأ من الكنيسة»، يؤكد عمرو معه الذي قال منذ ثوان أنه فقد الوعي عند بداية الاشتباكات:«صح، ضرب الرصاص بدأ من الكنيسة، جوا فيه سلاح كتير، ده موضوع معروف. أما موضوع السلفيين الأغراب فلازم تسمع من الشيخ حسام».

(5)

الطريق إلى منزل الشيخ حسام يمر عبر حارة صليب غبريال، هنا المنازل مختلطة لكنها مميزة. صلبان على مدخل منزل المسيحيين، و«لا إلى إلا الله" مكتوبة على جدران بيت الشيخ حسام سيد». لدى الشيخ ثلاثة أولاد كل منهم أصيب إصابة خفيفة في «معركة» مساء السبت أمام الكنيسة. يحكون جميعا عن سلفيين من خارج المنطقة تجمهروا أمام الكنيسة وتحدثوا عن الفتاة عبير التي أسلم، ذهب الشيخ حسام إليهم وحاول أن يفهم الأمر إلا أن الأمر تطور سريعا إلى حشدين من المسلمين والمسيحيين. يقول أن الشرطة دخلت الكنيسة وخرجت وقالت أنه لا توجد فتاة في الخارج، فصاح سلفيون أنهم لابد أخرجوها من باب خلفي.

يحكي الشيخ حسام أن الشباب المسيحي بدأ بالاستفزاز وهتاف: «ارفع إيدك فوق، الصليب أهو» و «ارفع راسك فوق إنت قبطي». يعتبر الشيخ حسام أن ذلك استفزازا كبيرا قابله الشباب المسلم بهتاف: «إسلامية إسلامية». ويصر على أن السلفيين والمسلمين كانوا عزل وأن الرصاص بدأ من فوق الكنيسة ومن فوق عمارات مسيحيين.

شهود مسلمون يشيرون إلى أن مسيحي يدعى أطلق الرصاص من سطح منزله فأحرق مسلمون كامل البناية وألقوا أثاث البيت إلى الشارع. يقول الشيخ حسام أن هناك شقيقين يمتلكان مقهي في شارع الأقصر وآخر في شارع المشروع تورطا في إطلاق الرصاص، ويضيف أنه أبلغ الجيش عنهما وأنهما كانا أيضا ضالعين في استفزاز المسلمين سنة 1991 حيث جرت اشتباكات كبيرة بين مسلمين ومسيحين وقتها في شارع الأقصر وما حوله.

أهالي المنطقة يتحدثون عن مشاجرات عادية تنسب بين الحين والآخر تطورت أكثر من مرة إلى مشاجرات بين مسلمين ومسيحيين. والنسبة الكبيرة للمسيحيين في المنطقة، وانتشار السلاح بين العائلات الصعيدية أدى مرات عديدة لسقوط مصابين إصابات بالغة وربما قتلى ولكن هذه هي المرة الأولى التي يتطور الأمر إلى هذا الحد.

(6)

«أيوه أنا ضربت المسيحيين. اكتب إن محمد حامد شارك في ضرب المسيحيين».

يبتسم محمد وهو يضيف أنه يقضي وقته على ذلك المقهى الذي يقف أمامه ويتعاطى البانجو لكي لا يقولوا مثل كل مرة أنهم السلفيين، ويشير إلى صديقه محمود الشافعي، السلفي والمستاء من كلامه. يضرب محمود كفا بكف وهو يقول: «الطرفين غلطوا لكن الغلط ما يتصلحش بغلط، وكده فتنة ودي مش أخلاق الإسلام».

يعتبر محمود نفسه سلفيا رغم أنه يبدو أكثر متأثرا بالدعاة الشباب الجدد، ويبدو منتقدا أكثر للسلفيين من خارج المنطقة ومن داخلها الذين تجمهروا عند الكنيسة وأصروا على تفتيشها. يقول مدافعا: «فيه سلفيين كتير محترمين ومسالمين، هتفت معاهم : مسلم مسيحي إيد واحدة، لكن سلفيين تانيين شتموني وقالوا لي : عار عليك تقول كده وإنت ملتزم وبلحية!».

يقول محمود أنه أخذ بعضهم إلى شيخه الذي نصحهم بتجنب الفتنة بينما نصحوه هم بأن يهب لنصرة دينه وأخواته الأسيرات وأن المسيحيين كفار وأن كنائسهم حصون للحرب على الإسلام.
يصفهم محمود بـ«التكفيريين» و«المتطرفين» ويتحدث عن أن المسلم الحقيقي يشارك في وأد الفتنة والحفاظ على البلد وعلى الثورة التي أطاحت بالظلم، ويقول أنه يتعاون مع اللجنة الشعبية للدفاع عن الثورة في إمبابة، وأنه عضو حركة «شبابنا» التي تضم شباب وفتيات من مختلف الاتجاهات لنشر التسامح والأخلاق الحميدة.

لا يبدو محمد حامد مكترثا بكل ذلك وهو يؤكد أن المسيحيين قتلوا بالأمس شيوخا وأنهم يحتفظون في كنيستهم بكم هائل من الأسلحة وأن المسلمين لم يكونوا مستعدين، وأنه هرع إلى المعركة أول ما سمع وشارك في إلقاء الحجارة: «ما ينفعش نسيبهم يعلّموا علينا. امبارح ما كناش عاملين حسابنا. لكن بالليل لما الناس ترجع من أشغالها هايبقى أحد الغضب إن شاء الله". يهز محمود رأسه آسفا من كلام صديقه ويصمت.

بعد ساعات وسع الجيش من نطاق حظر التجول ووجود الجنود في كامل شارع الأقصر وأمر بإغلاق المقهى الذي كان يقف أمامه محمد ومحمود. وبعد التشديدات الكثيفة وفرض حظر التجول مبكرا على كامل إمبابة، مرت تلك الليلة بسلام.



نشر في موقع المصري اليوم 9 مايو 2011

24 March 2011

الطواريء مرة أخرى: تسيير الأعمال وتعطيل الثورة؟

Owly Images

قبل عشرين يوما فقط، كان د. عصام شرف معنا في ميدان التحرير الممتليء عن آخره بالمتظاهرين المرحبين باختياره لتشكيل وزارة جديدة لتسيير الأعمال بدلا من وزارة شفيق التي شكلها الرئيس المخلوع. استجاب شرف سريعا للدعوة التي وجهها إليه الشباب لبدء عمله من ميدان التحرير وقال يومها لجموع المتظاهرين: "صحيح أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قام بتكليفي بتشكيل الوزارة، ولكنني هنا لأنني أستمد شرعيتي من هنا.. منكم.. من ميدان التحرير". وأضاف : "الوقت الذي لن أستطيع فيه تحقيق مطالبكم، لن أكون هناك (يعني في مقر الوزارة)، ولكن سأكون معكم هنا في ميدان التحرير".

لا الثوار ولا د. عصام شرف كانوا يعنون أن ميدان التحرير هو الثورة المصرية، ولكن الميدان أصبح رمزا لـ"الشارع" الذي تشكلت فيه الثورة المصرية وكان أداتها الوحيدة لإسقاط الرئيس وتحقيق أول مطالب الثورة. في الشارع تجمع ملايين المصريين وبدأوا في إسقاط النظام السابق الذي حرمهم عمليا من حرية التجمع والتنظيم بينما ردد أنه يتيحها عبر نصوص مطاطة قابلة للالتواء على الفور إن تجاوز المواطنون الهوامش الآمنة – بالنسبة للنظام – في تعبيرهم أو تجمعهم أو تنظيمهم. ردد النظام السابق دائما مبررات الطواريء واللحظات الحرجة التي تمر بها "بلادنا المستهدفة" ومقتضيات الأمن القومي والحفاظ على الاقتصاد وهو يتجاوز حقوق المواطنين بدءا من تعذيبهم فرادي إلى تقييد حرية جموعهم في التنظيم الطلابي والعمالي والحزبي.

أمس وافق مجلس الوزراء على مشروع بمرسوم قانون يسري في حالات الطواريء يجرم الاشتراك في بعض أشكال التظاهر المعطلة للأعمال أو التحريض عليها، ويعاقب على ذلك بالحبس سنة أو الغرامة التي تبلغ قيمتها نصف مليون جنيه. وبموافقته أعاد إلينا أشباح النظام السابق جميعا: تقييد حق التجمع والتعبير بنص مطاط عن "تعطيل الأعمال" مرتبط بحالة الطواريء.

وبعد ساعات من الموافقة على مشروع القانون فضت الشرطة العسكرية اعتصام طلاب كلية الإعلام بجامعة القاهرة بالقوة وباستخدام العصي الكهربائية. وهي حلقة أخيرة من سلسلة ممارسات، رصدتها تقارير منظمات حقوقية وشهادات ناشطين، استخدمت فيها قوات الجيش القوة لفض الاحتجاجات والتجمعات وانتهكت حقوق المواطنين بالاحتجاز غير القانوني والتعذيب والإحالة للمحاكمات العسكرية، كما هددت بعض الاحتجاجات بتطبيق قانون البلطجة على المشاركين فيها، والمبرر دائما ضرورة الحفاظ على الأمن والتعلل بالطواريء.

قبل الثورة عشنا ثلاثين عاما من الطواريء استخدمها النظام لإيقاف وكبح عجلة التغيير، ومنذ بداية الثورة ونحن أيضا في حالة طواريء، ولكنها هذه المرة حالة "طواريء مضادة" صنعتها الثورة وتتمسك بها حتى تتحقق كل مطالبها وحتى يتشكل النظام السياسي المنتخب المعبر عنها. وحتى ذلك الحين لا يزال الشارع هو الساحة التي تثور فيها القوى الاجتماعية والفئات المختلفة لتسقط "النظام الفاسد" في مواقعه المختلفة البعيدة عن المركز السياسي. وحتى بعد تشكل النظام السياسي المنتخب يحب أن تظل حقوق الاحتجاج والتظاهر والاعتصام والإضراب متاحة باعتبارها حريات أساسية.

الآن يعيدنا الجيش ووزارة تسيير الأعمال، الذين يعلنان انحيازهما لمطالب الثورة، إلى مربع الاحتجاج على انتهاك حقوق المواطنين بدعوى الطواريء، بينما كان هذا الاحتجاج الشرارة الأولى في الثورة المصرية. وعجلة الأعمال والاقتصاد، التي يريدان تسييرها، لا يجب أن تسير فوق حقوق العمال والموظفين المنتهكة حقوقهم والذين لا يزالون تحت قيادات فاسدة قمعتهم ونهبتهم.

القوى الاجتماعية المشاركة في الثورة، من عمال ومهنيين وطلبة، لا يمكن أن تقدم مطالبها في التماسات إلى المجلس العسكري والوزارة وتترك لبقايا النظام في كل مكان حرية المناورة والتمسك بمواقعها بألاعيب إدارية.

للأسف الشديد، لا يمكن فهم القانون الأخير إلا كإرهاب لجماهير الثورة في مواقعهم، حيث يمكن اتهام كل احتجاجات المهنيين والعمال والطلبة بـ"تعطيل الأعمال"، فضلا عن احتجاجات ميدان التحرير الذي يمكن اتهامها بتعطيل أعمال القاهرة كلها.

رغم قمع اعتصامهم أمس، احتجاج طلبة كلية الإعلام مستمر وانضم إليهم طلاب كليات أخرى مساء أمس ودعوا للتظاهر اليوم في كل أنحاء جامعة القاهرة. ودعت مجموعات ومنظمات شبابية إلى الاحتجاج الجمعة القادمة في ميدان التحرير وميادين المحافظات ضد الطواريء وتقييد حق التظاهر. وليس هذا إلا نموذجا ومؤشرا أن الثورة التي قدمت التضحيات لن تتراجع وتترك شارعها ومطالبها.

الاحتجاجات المستمرة يا د.شرف تعني أن مطالب جماهير الثورة لم تتحق كلها بعد. ولو أردت أن تنفذ وعدك، في حالة عدم قدرتك على الوفاء بمطالب جماهير الثورة، بتقديم استقالتك والعودة معنا إلى ميدان التحرير، ستكون تلك بالتأكيد حالة طواريء، وسيكون عليك ساعتها أن تواجه معنا إما تهمة البلطجة أو تهمة تعطيل الأعمال.

19 March 2011

في طابور استفتاء ما بعد الثورة: جدل «لا» الممكنة و«نعم» المختلفة


أمام مجمع المدارس بأرض الجمعية في إمبابة، وقف شحاته حماد، المدير العام المتقاعد بإحدى شركات القطاع العام، وابنه العشريني يتأملان الطابور الطويل الممتد بمحاذاة السور الذي يحيط بالمجمع ويمتد إلى مدخل المدرسة وصولا إلى اللجان الانتخابية للاستفتاء على التعديلات الدستورية. يشير أحمد لأبيه ضاحكا إلى الطابور القصير أمام كشك بيع الخبز المجاور. يتذكر أحمد أن الأمر كان معكوسا في آخر انتخابات برلمانية.

يتذكر شحاته المرة الأولى التي أدلى فيها بصوته في استفتاء، كان على بيان 30 مارس 1968 الذي أعلنه جمال عبد الناصر متضمنا إصلاحات باتجاه الديمقراطية بعد احتجاجات من عمال وطلاب. لا يتذكر شحاتة حماد النتيجة ولكنه يضحك قائلا: «تقريبا كانت 99.9%».

يتذكر أنه قال «نعم» وقتها مع الجموع التي يقول أنها لم تكن تتصور أصلا أن هناك إمكان لـ«لا». ولكن هذه المرة مختلفة والنقاش يدور بين كل اثنين حول مزايا وعيوب «نعم» و«لا».

أمامه في الطابور يشتعل نقاش بين ناشط في حزب التجمع بامبابة وشاب سلفي. الناشط كان يتحدث عن ضرورة «لا» لأننا نريد إعلانا دستوريا ودستورا جديدا والشاب السلفي احتد عليه وطالبه بالتوقف عن الدعاية لرأيه أمام اللجنة. يحتدان للحظات قبل أن يتدخل آخرون للتهدئة ويطالبون الجميع بالانتظام في الطابور والنقاش بهدوء وبدون صوت عال.

يقترب شحاتة حماد من مدخل المدرسة حيث يقف جنديان من القوات المسلحة مع فردي أمن من الشرطة يتابعان في كسل الطابور الطويل ويتدخلون كل فترة عندما يطالب أحدهم بمنع أي مواطن من تجاوز دوره. مجموعة من الشباب تتطوع لتنظيم الطابور ومراقبته ويشكلون طابورا خاصا موازيا لكبار السن.

لا يترك شحاتة مكانه في الطابور الرئيسي ويظل يتناقش مع ابنه ومجموعة من الشباب حوله. يقول لهم أنه كان يشارك في السياسة ولكن بحذر، وانضم إلى منبر اليسار بقيادة خالد محيي الدين في السبعينات عندما أنشأ السادات المنابر، لكنه خرج منه بعد انتفاضة 18 و19 يناير1977 مع جموع خرجت خوفا بعد اتهام كوادر يسارية بالتورط في الانتفاضة، ولكنه رفض أن يدخل مع الجموع منبر الوسط الذي تحول فيما بعد إلى الحزب الوطني.

يبدي شحاتة أسفه لأن بعض الشباب المتحمسين الذين يدعون لرفض التعديلات يصفون المؤيدين بأنهم فلول الوطني وأتباع الإخوان والسلفيين ويقول: «عهد الوصاية انتهى بعد ثورة الشباب الأنقياء. بلاش الكلام ده. سيبوا الشعب يختار».

يتقدم مع الطابور إلى داخل المدرسة. بجانبه تظهر مجلة حائط صنعها التلاميذ تتحدث عن ثورة 25 يناير وسط ألوان العلم وفي المنتصف تحية للجيش المصري وفوقها صورة للمشير محمد حسين طنطاوي.

يعلق شحاتة أنه سيقول «نعم» من أجل سرعة الانتقال إلى الديمقراطية لكي نحمي الجيش من السياسة ونحمي السياسة من الجيش، وفي النهاية سنحصل على دستور جديد بعد الانتخابات البرلمانية، ويضيف ببعض الغضب :«فيه ناس بتفهم الناس إنهم لو وافقوا مافيش دستور جديد. ده غلط. في كل الحالات لازم هاييجي دستور جديد. هو احنا والشباب دول هانسيب حقنا تاني بعد الثورة؟».

يبتسم شحاتة في أسى لأن جيله فرط أحيانا في حقه. يقول أنه كانت لديه 3 تذاكر انتخابية. واحدة في الباجور مسقط رأسه حيث يدلي بصوته لكمال الشاذلي من باب العصبية، وواحدة في شبرا الخيمة حيث مقر عمله ويترك رؤسائه يصوتون باسمه وواحدة في روض الفرج حيث يسكن قبل أن ينتقل إلى إمبابة:«تركت آخرين يصوتون باسمي لكن في منطقة سكني صوتت أحيانا لصالح مستقلين ومرشحي المعارضة المحترمين. عمري ما صوتت لمبارك ولا مرة. ما كانش عندنا أمل، الكل كان عارف الطبخة إزاي. دلوقتي الشعب هايقول كلمته بقى».

يدخل ابنه في نقاش مع ماجد الذي يبدو الصليب من فتحة قميصه، الذي يؤكد أنه سيقول «لا» من أجل فرصة لكل التيارات لكي تنظم نفسها قبل الانتخابات البرلمانية. مجموعة من الشباب المسيحيين يوافقون ماجد ولكن بينهم يقول مينا أنه سيقول «نعم» ولا يخشى من سيطرة الإخوان المسلمين على البرلمان لأنه شارك بجوار بعضهم في الثورة ولأنهم أعلنوا أنهم لن ينافسوا على أكثر من ثلث البرلمان وأن كل من شارك في الثورة يريد الآن دولة مدنية. مثل مينا كان هناك محمد عبد الفتاح الشاب السلفي الذي يخوض نقاشا مع زملائه السلفيين مختلفا معهم أن الجدل ليس حول المادة الثانية وأنه سيقول «لا» مخالفا لهم جميعا لأنه يريد إعلانا دستوريا جديدا باسم الثورة التي شارك فيها.

يتابع شحاتة نقاشهم قليلا قبل أن يقرر الانتقال إلى طابور كبار السن، يدلي بصوته سريعا ويخرج. يمازحه الشباب أنها ثورة شباب ويجب أن يكون الاستثناء لصالحهم. يربت على كتف أحدهم ويقول ببعض التأثر: «إحنا خلاص يا بني عشنا أيامنا. دي دولتكم بقى. خلوا بالكم منها.إنتم مسئولين عنها».

17 March 2011

أكثر من «نعم» وأكثر من «لا»

ورقة الاستفتاءعلى التعديلات الدستورية المقترحة التي سيدلي فيها المصريون باختيارهم السبت القادم، لم تسمح لهم إلا بالانقسام إلى كتلتين يدور بينها نقاش وجدل محتدم بين «نعم» و«لا». ولكن التفاصيل داخل كل موقف تحمل تنوعات أكثر وربما بعض تناقضات داخل كل كتلة.

هناك «نعم» اقتناعا بأن التعديلات ترسم طريقا محددا مقبولا نحو دستور جديد يمر عبر برلمان منتخب وفترة انتقالية أقصر، وهناك «نعم»، منتشرة على بعض المواقع السلفية، تعتقد أن التعديلات تقطع الطريق على دستور جديد تماما وذلك يحمي المادة الثانية في الدستور المتعلقة بالشريعة الإسلامية ويقطع الطريق على «مؤامرات العلمانيين والنصاري» بحسب تعبيرات هذه المواقع.

هناك «لا» لا تزال تعتقد أن التعديلات فعلا تقطع الطريق على دستور جديد وتجعله رهنا برغبة رئيس الجمهورية أو أغلبية البرلمان ولا تزال تجادل في إلزام المادة 189مكرر في التعديلات. وهناك «لا» تتمسك بدستور جديد الآن قبل أي انتخابات تجرى وفق الدستور القديم.

هناك «نعم» من تيارات متشوقة إلى صندوق الانتخابات البرلمانية أولا ثقة في انتشارها، في هذه الجبهة يقف الإسلاميون. وهناك «نعم» تؤكد ضرورة خوض المغامرة الديمقراطية في أقرب وقت بدلا من فترة انتقالية مرتبكة وتراهن على تغير خريطة الشارع السياسي بعد المشاركة الواسعة المتوقعة كنتيجة لثورة شعبية استطاعت حشد الملايين في الشوارع هتفوا معا من أجل دولة مدنية وديمقراطية.

هناك «لا» من تيارات لا تزال تطالب بفترة استعداد و تؤكد وجاهة ثقة الإسلاميين وتخشى من انتخابات برلمانية مبكرة، وهنا يقف العديد من الأحزاب والحركات والنشطاء وكتلة كبيرة من الأقباط. وهناك «لا» تعتد بثقتها على حشد إجماع في الشارع وتوافق بين القوى السياسية يمكنه أن يضغط من أجل استكمال تحقيق مطالب الثورة وفق سيناريو تطرحه هذه القوى وليس السيناريو الذي فرضه الجيش بهذه التعديلات، و

هناك «لا» أخرى تعلن ثقتها في الجيش وتطالبه بإعلان دستوري وتعيين لجنة تأسيسية أو تشكيل مجلس رئاسي للفترة الانتقالية.

هناك مثلها «نعم» تطرح ثقة كبيرة في الجيش وإدارته للبلاد وتحديد الخطوات نحو الديمقراطية، وهناك «نعم» لا تزال تميل للموافقة على كل بديل تطرحة السلطة المطروحة خوفا من الفوضى والمجهول. ولكن هناك «نعم» تعترض على أسلوب طرح الجيش للاستفتاء وقلقة من استمرار الجيش كسلطة تدير البلاد، ولكنها توافق علي الاستفتاء رغبة في تقليص فترة إدارة الجيش للبلاد وتعلن قلقها من أسلوب تعامله مع التجمعات الجماهيرية واستخدام العنف في فض الاعتصامات وإحالة المدنيين لمحاكمات عسكرية وتعرضهم للتعذيب وانتهاك حقوقهم أثناء احتجازهم.

هناك «لا» قلقة على الديمقراطية من أن تبدأ في ملعب غير مؤهل ووقت غير موات فتجهض الثورة، وهناك «نعم» قلقة على الديمقراطية من استمرار الفترة الانتقالية في أجواء أمنية متوترة تدفع الجيش لإجراءات تحدد الحريات ومنها حق التظاهر والاعتصام فيجهض غياب الديمقراطية الثورة.

هناك «لا» تتمسك بالشرعية الثورية وتخشى ذوبانها وسط محيط انتخابات تتوقع أن تحكمها العصبيات والأموال ومراكز القوى القديمة في النظام، وهناك «نعم» تتمسك بالشرعية الثورية وتخشى ضياعها وسط مداولات رموز سياسية وتفاوضها مع الجيش، ولأن الثورة لا مركز لها يعلن عن هذه الشرعية – كما هو الحال في حركة الظباط الأحرار في 1952– لذلك ترى ضرورة أن تكون أقرب هيئة منتخبة تعبيرا عنها ولا تريد أن يظل الجيش متحدثا باسم هذه الشرعية الثورية التي انتزعها الشعب.

هناك «نعم» تريد أن تلتقط أنفاسها بعد التسارع الجنوني للإيقاع الفترة الماضية، وهناك «نعم» تريد أن تشمر فورا للمعركة الديمقراطية متفائلة بنفس الإيقاع. هناك «لا» تريد استمرار الإيقاع الثوري وترفض الهدوء والقبول بما تراه أنصاف حلول، وهناك «لا» تريد أن تلتقط أنفاسها قبل المعركة الديمقراطية.

الجدل المحتدم المضغوط في الفترة القصيرة الماضية يعكس مشهدا مثيرا للتفاؤل. «نعم» و«لا» التي تقال باهتمام وحماسة هي أكثر من «نعم» و«لا» باردة في خانة استفتاء. الاهتمام السياسي الوطني المتوقد حاليا يقول أنه مهما كانت النصوص فإن إرادة هؤلاء الذين يعتنون بمصيرهم بهذه الحماسة لا يمكن أن يتم تجاوزها دون رضاهم.