31 December 2008

خصلة طويلة غير مهذبة


في ليلة اليوم الموافق لتاريخ يوم ميلادي بالتقويم الميلادي من هذه السنة – نعم، هذا أفضل من أن أقول "عيد ميلادي"، وأليق بما سأقوله بعد أن أغلق هذه الجملة الاعتراضية- تناولت لأول مرة قرصا مضادا للاكئتاب قبل أن أنام.
لم يكن ذلك لأني أشعر بالاكتئاب، أنا أمر دوريا بأشكال مختلفة من الاكتئاب، لا أتعامل معها بأي تضخيم درامي أو جزع أو حتى أدنى شكوى. الاكتئاب عرض وجوديّ، هكذا أعتقد، ولا يجب أن نكتئب زيادة بسبب هذه الحقيقة.
ولكن كان ذلك بسبب اضطراب نومي، الذي يقل فجأة إلى الساعتين يوميا، ثم يمتد لأكثر من اثنتي عشر ساعة لأيام. وهذه الأقراص المضادة للاكتئاب كانت طبقا لمشورة طبيبة صديقة. وكان علي فقط أن آخذها قبل الموعد الذي أريد أن أنام فيه بساعتين، وفعلت، ونمت.
نمت أكثر من المتوقع قليلا، ولكني استيقظت نشيطا وبروحي خفة. عندما فكرت أنها يمكن أن تكون من تأثير الدواء المضاد للاكتئاب كاد ذلك أن يدفعني للاكتئاب حقا. أيكون اكتئابنا الوجودي النبيل أو خفتنا الصباحية الآملة مجرد كيمياء تتلاعب بها أقراص؟ سيأخذني ذلك إلى المزيد من التأملات الوجودية، وكانت المقابر مكانا جيدا لأقضي يومي.
قادني إلى منطقة قايتباي، الشهيرة بـ"ترب المجاورين"، موعد مع واحد من مشايخ طريقة صوفية. وأنا ممتن له جدا رغم أنه أخلف موعده معي. ولكنه كان يوما لطيفا وهادئا قضيته متجولا في المنطقة بين المقابر، ومتجاذبا أطراف الحديث مع رواد عشوائيين لمساجد طرق صوفية، ومريدين يقضون خلوتهم بجوار أضرحة شيوخهم، الذين لا يعرفهم غيرهم، ولكنهم عندهم الأئمة أقطاب الزمان ومجددي الدين.
منذ بضعة أيام، تذكرت حلما قديما. فيه كنت أدخل إلى مسجد كبير في الإسكندرية على شاطيء البحر، والشمس في كبد السماء، يرحب بي أهل المسجد ويأخذوني من يدي إلى رجلين جالسين في زاوية. أذهب إليها وأعرف من تلقاء نفسي أنهما أبا العباس المرسي وابن عطاء الله السكندري. أسلم وأجلس إليهما "لقد أتيت حسب الموعد، وأرجو أن تقبلوني معكم". ينظر أبو العباس المرسي إلى ابن عطاء الله بدون أن يتكلم، بشكل أثار ضيقي، فيقول ابن عطاء الله "أتقبل أنت بكل ما نحن عليه؟". تذكرت شيئا وكأنه حوار سابق دار بيني وبينهما فقلت "نعم، إلا أني كما قلت لكم لن أكون مريدا كالميت بين يدي المغسل، سأسأل وسأطلب أمارات على كل طريق قبل أن أسلك". رد ابن عطاء الله "إذن أنت لا تريد. أنت مرتاب، والإيمان أمان، ولو آمَنت لأمِنت". أحزنني ذلك، ورأيت الحزن على وجوه من استقبلوني. ولكن نظرة من ابن عطاء الله جعلتهم يقومون إلى أطراف المسجد ويتركونني أخرج وحيدا من المسجد لأجد الظلام مخيما وشارع الكورنيش خال تماما.
انتظرت طويلا تاكسي يأخذني إلى سيدي جابر لألحق بآخر قطار إلى القاهرة، واستيقظت قبل أن يأتي.

كان ذلك الحلم منذ سنوات، في فترة كنت أقرأ فيها لابن عطاء الله السكندري، "الحكم" وكتب أخرى. وكنت أفكر في تجربة ابن عطاء الله نفسها، فقد انضم إلى الصوفية وصار تلميذا لأبي العباس المرسي، بعد أن كان عدوا للصوفية "مرتابا" في طريقتهم.
كنت وقتها مهتما بالقراءة حول التصوف والصوفية، يستفزني اليقين المطمئن لذاته، السمح تجاه غيره. أذكر أني ذهبت إلى مسجد صوفي قريب وراقبت من بعيد وراقت لي المشاهدة ولم يرق لي الاقتراب.
كنت أعي تماما أن التصوف تجربة وخبرة ولا تجدي معه المراقبة من بعيد، وربما كان معنى التجربة كلها في التصديق والاستسلام الآمن لا في "التجريب" الحذر الفضولي. ولكني أعرف أنني لن أتخلص لا من التوق للتجربة ولا من الفضول الحذر، ولذلك أحزنني الحلم وقتها. وكأنها رسالة بأنني سأظل دائما تروق لي المراقبة ولن أقترب.


أيقظتني رضوى عصر ذلك اليوم نفسه، ليس من اللطيف أن أكرر وصفه الطويل، وكعادتها أخبرتني فورا نبأ هاما:"مامتك بتقول إن الحلاق بتاعك مات. مكتوب ورقة على المحل". كنت مرهقا من كثرة النوم أو من قلته، لا أذكر جيدا. وكان ذهني مشوشا، بآخر ما فكرت فيه قبل النوم، بأفكار حول الميلاد والموت، الإرادة ورخاوتها في هاتين اللحظتين. وفيما بينهما: عناء شحذ هذه الإرادة وإقامة عودها وجبر كسرها وتأمل معناها، الإيمان بها والكفر بها وما بين بين.
لست أدري تحديدا، وهذا ما يحير حقا بشأن "إرادتنا"، كيف أصبت بغصة عميقة، وصورة وجه الحلاق تبدو أمامي في مرآة صالون، بينما هو خلفي يقص شعري، وفي نفس الوقت انتبهت لمرأى شعري، في نفس المرأة، طويلا جدا وفي حالة رثة بين يديه.
غلبني استرخاء ساخر "ياه. طيب وهاحلق فين دلوقتي ؟!" هذا ما قلته فعلا، وأنا حزين. ولكن وأنا مسترخ جدا لا يبدو لي الموت عدائيا أبدا.
"البقاء لله. توفى إلى رحمة الله الأستاذ محمود عبد العزيز. والعزاء تليغرافيا:..." هذا ما تقوله الورقة البيضاء المعلقة على باب المحل المغلق. وقفت لدقائق قليلة أمام الباب أتذكر أنه قال لي آخر مرة، "هاغيب أسبوعين، هاعمل شوية تحاليل وأستريح. قل للدكتور محمود والدكتور مصطفى لو عاوزين يحلقوا بكره".
محمود عبد العزيز، هو صاحب كوافير "محمود عبد العزيز" للرجال في شارع طارق بن زياد في أرض الجمعية، كان يبدو لي في أوائل الخمسينات من عمره. له ابنه متزوجة وأم لطفلين، وابن مقبل على الزواج، وربما كان لديه أولاد آخرون لم أرهم. عمل فترة في الكويت، وادخر ما يكفي لكي يزوج ابنته وينفق على مصاريف دراسة ابنه في "مودرن أكاديمي" ويفتتح الكوافير. كان "نزيها"، أنفق الكثير على ديكور المحل الذي صممه ونفذه له مهندس ديكور استعان بلوحات تشكيلية ملائمة. انبسط عندما قلت له إن إحداها لفان جوخ. كان محبا لأم كلثوم، ونادرا ما رأيته يسمع غيرها، باستثناء تلاوة الحصري. ولا أذكر آخر مرة قلت له ماذا أريد بشأن شعري.
فكرت أني سأضطر للذهاب إلى ذلك الحلاق الآخر، ربما غدا أو بعد غد.
اشتريت فاكهة من الفاكهاني المقابل له، سألت ابن الفاكهاني، الذي عزيته في أبيه من شهر تقريبا، فقال أنهم لم يقيموا عزاء هنا، جاء ابنه في المسجد وتلقى العزاء واقفا وسريعا. قلت له "البقاء لله"، رد:"ونعم بالله"، ومد يده فصافحته.

في المساء، عاريا في البانيو، أحاول فتح الماء الساخن لكي أرقد قليلا في ماء دافيء. لا ماء ساخن. أنظر إلى السخان المعلق أمام وجهي وأجرب مرة أخرى، لا شيء.
في المرة التالية، تدوى صوت فرقعة وتومض ألسنة لهب عبر الفتحات الضيقة للسخان. لم أتحرك من مكاني لثانيتين أو ثلاث. فكرت فيهم في حوادث انفجار سخانات الغاز واختناق الضحايا، وإن كنت لا زلت حيا وكيف سأعرف ذلك.
في الثانية الرابعة – تقريبا - خطوت خارج البانيو، نبضي متسارع، وبي جزع صامت مكتوم يخفت تدريجيا لأعود إلى الاسترخاء. لم ينفجر السخان، فقط شيء ما بدخله فعل. أبدأ في الاسترخاء ثانية، وأنا أنظر لنفسي في مرآة الحمام أتثبت من وجودي. أضع كلتا كفي على رأسي أقبض على خصلات شعري الطويل وأفكر: هكذا كان يمكن أن يكون الأمر يا عمرو. ربما لم أكن لأذهب أبدا إلى حلاق آخر يا محمود.


اللوحة للفنانة هبة خليفة

09 December 2008

غاية النتانة في أصول الضمان والصيانة


في مثل هذا الوقت من السنة، قبل سنتين، احتفلت مع الصارم الحاسم وحمدية التيتي باللاب توب الجديد. ولكن في هذا الوقت من هذه السنة، وبعد أن أنفقت عليه صيانة مثل ثمنه، فاللاب توب أصبح يحتفي بنفسه كل مرة أفتحه فيها، فيصدر خوارا عظيما يقض مضاجع الجيران.
ولأنني قد اشتريته من أحد منافذ "نور الهدى جروب" في مول الكمبيوتر بميدان سفنكس، فآخر ما أفكر فيه هو الذهاب إلى الضمان، لأن الهدى هو طريق تسلكه بلا أي ضمانات، وإن سألت عنها فأنت لم تهتد بعد.

وكان ذلك في الغالب سبب امتعاض الشاب الذي باعني اللاب توب من "نور الهدى جروب" عندما سألته عن وثيقة الضمان، فرفع وصل الشراء بعد أن شبك فيه كارت لـ"نور الهدى جروب" وقال أن هذه هي. ورغم أن الشاب الممعتض بدأ معي الصفقة باسما وحييا ومرحبا وخافضا جناحه، وكاد أن يدعوني للعشاء وأنا أسأله بغرض الشراء، لكن أول ما انتقلت النقود من يدي إلى يده، والوصل من يده إلى يدي، تنهد ارتياحا، وتغيرت نظرة عينه وبدأ النصف الأيسر من شفته العليا في الاقتراب من أنفه تلقائيا. وبعدما كان الهارد الديسك - الذي تشككت في أن سعته قليلة بعض الشيء- في رأيه يسع وزياده وسيقسمه لي إلى أربعة أقسام، أصبح في رأيه الجديد، بعد استلام النقود، لا يحتمل إلا قسمين، وانفراجة إضافية لشفته العليا تقول وحدها " وما توجعش دماغنا ".
التمست له عذرا، فهو لا يستطيع أن يبقى شفته تحت السيطرة كل هذه المدة، تكفي فترة التفاوض الأولى. وأشفقت عليه عندما سيطر عليها مرة أخرى لأن واحدا آخر دخل يسأل عن مواصفات لاب توب بينما كنت أهم بالرحيل.

بعد بضعة أيام لاحظت شيئا ما في أحد مفصلي الشاشة، فتوجهت لتوكيل الشركة المنتجة للاب توب، فعلمت منهم أن هناك وثيقة ضمان كان يجب أن أحصل عليها من الشركة التي باعتني اللاب توب. أما في حالتي هذه فيجب أن أتوجه إلى "نور الهدى جروب" وهي المسئولة عن ضمان جهازي. توجهت إليهم مستفسرا، وكان جوابهم أن الجهاز كان ضمن شحنة بلا وثائق ضمان، وعندما أبدت استيائي البالغ ولم تردعني شفته المشرعة، سيطر عليها مؤقتا، واعتذر طالبا أن أطمئن لأنهم سيقومون بالواجب وزيادة. وأعطاني عنوان قسم الصيانة بالشركة وزميل له يؤكد لي "اطمئن تماما، "نور الهدى جروب" شركة كبيرة مش صغيرة، وإحنا ناس ملتزمين وحقوقك محفوظة".

ذهبت إلى مقر قسم الصيانة في شارع السودان، فإذا بكل العاملين به من الملتحين لابسي الجلابيب، بينما كان كل العاملين الذين رأيتهم في منافذ الشركة بالمول من غير الملتحين، وإن كانوا جميعا إخوة في "نور الهدى جروب". استقلبني واحد يقال له باشمهندس، قال لي بعد ثانيتين أن هذا عيب مستخدم وأن صيانته ستكون على حسابي. جادلته قليلا ولكنه كان ممن لا يحبون الجدال ولا حتى بالتي هي أحسن، فهو يغمض عينيه وأنت تكلمه وأول ما تنتهي يقول "شوف، الخلاصة .." ثم يفتح عينيه ويعيد ما قاله سابقا دون أن يرد على شيئا مما قلته مهما كان، كما هي عادة السلفيين الجدد الذين يعتنقون كراهية السماع حتى لا تكون فتنة تحرفهم عن الحق الذي تنطق به ألسنتهم.

الخلاصة، أني تركت جهازي للفحص، لكي يحدد الباشمهندس إن كانوا يستطيعون الإصلاح، والتكلفة التي سأتحملها. وأخذت منه موعدا ثم مواعيد أخلفها كلها، ولكنه كان يبهرني بثباته وهو يرد على توبيخي وتبكيتي له على الإهمال وإخلاف المواعيد بجمل تبدأ دائما بـ"الخلاصة،.. " ثم يضرب الموعد الآخر بدون أن يدفعه غضبي إلى محاولة التأكيد أنه آخر المشوار. وآخر المشوار هنا لا يتضمن الصيانة- تذكر حيدا- بل يتضمن نتيجة الفحص، الذي كانت "خلاصته" أنهم توصلوا إلى ضرورة تغيير المفصل، ولكن لا توجد قطعة غيار متوفرة الآن، وعليّ أن آتي لاستلام جهازي حتى تتوفر ويتصلون بي لا قدر الله.

أتيت لاستلام جهازي، ووصلت في الموعد المحدد تماما ولكن تصادف أن كان ذلك عقب أذان العشاء بنحو ساعة، ولم يكونوا قد عادوا بعد من الصلاة في المسجد المجاور. انتظرت حتى عادوا جميعا وسألتهم عن الباشمهندس، فقالوا أنه قد رحل لتوه ، فقلت إلى الجنة إن شاء الله، وطلبت جهازي. طلبته منهم واحدا واحدا فأخبروني واحدا واحدا أن الباشمهندس والذين معه، هم المسؤولون عن تسليم الأجهزة الواردة إلى قسم الصيانة. ولكن واحدا منهم، كفاعل خير، طلب مني أن أنتظر قليلا هناك وهو سيحاول الاتصال بأحدهم، وأوصاني إن رأيت واحدا منهم يدخل- وكأنهم تعرفهم بسيماهم- أن أتشبث به لكي أستعيد جهازي سريعا. ولكن لأن هؤلاء الشباب في "نور الهدى جروب" فتية آمنوا بربهم، فإنني وجدت جهازي في المكان الذي طلب مني الشاب فيه الانتظار. بل ووجدته متصلا بالإنترنت وعملية تحميل لبعض البرامج تقترب من نهايتها.

خرجت إليهم وسألتهم واحدا واحدا مرة أخرى عمن شغّل جهازي واستخدمه دون إذني، فأجابوني واحدا واحدا أن العلم عند الله طبعا. فما كان مني إلا أن عدت إلى جهازي وأوقفت التحميل وأغلقته وحملته معي وهممت بالرحيل دون أن يسألني أحدهم ماذا أحمل معي وإن كان هذا الجهاز يخصني.
ولما كان الباشمهندس قد أعطاني وصلا باستلام جهازي، فقد دخلت على بعضهم، وكانوا يتناقشون في مسألة فقهية، وقلت لهم: "إخوتي في الله، هذا وصل استلام جهازي من الصيانة،إن كان يعنيكم في شيء، وهذا جهازي والله على ما أقول شهيد. أعتذر لكم عن مقاطعتي لتحميل أحدكم بعض البرامج عليه، ولكني للأسف مرتبط ببعض المواعيد. وأود أن أشكركم واحدا واحدا والسلام أمانة للباشمهندس خلاصة، والخلاصة أنني ممتن جدا من تعاملي مع "نور الهدى جروب" وأعدكم أني سأخبر كل من أعرفهم، ومن لا أعرفهم إن استطعت، عن أماكن فروع "نور الهدى جروب" لأن الاحتياط واجب".
وقد وفيت، وليغفر الله لي التأخير.

02 December 2008

البندول لا يحتاج مساعدة.. يحتاج بعض الوقت


أستيقظ على صوت أعمال التشطيبات في البناية المجاورة، تحديدا في الجدار الذي يلصق ظهره بظهر جدار غرفة النوم. مرآة الجدار تهتز فعلا؟ أم أنه أثر الأدوية التي دفعتني للنوم لأكثر من 10 ساعات، أو هكذا أظن. أتذكر سدس ظفر الإصبع الأكبر لقدمي اليمني الذي انترعته جراحة من داخل لحم الإصبع، أشعر بدغدغة في مكان الجراحة، أشعر بالجوع وبالرغبة في كوب شاي. غلاية الشاي تسرب البخار وتبخر كل الماء، أستخدم واحدة أخرى لا تصدر صوتا عند انتهائها من غلي الماء، أنساها وأعود إليها لأشغلها مرة أخرى ثم أنساها، عدة مرات حتى أنسى أمر الشاي تماما. يجب أن أرد على العديد من الرسائل، يجب أن أتصل بالعديد من الناس، لدي أفكار أود أن أكتبها، وأخرى بدأت في كتابتها وعلي أن أتمها. جرس الباب يدق، محصل شركة الغاز. يدق، نورا الصغيرة حفيدة صاحبة العمارة تريد الإيجار. يدق، المكوجي الذي توقفنا عن التعامل معه "مافيش مكواة". يدق، المكوجي الذي نتعامل معه، أيضا "مافيش مكواة". يدق، وصلتني مجلة اشتركت فيها مجانا. يدق، مجلة أمريكية متخصصة في علم النفس اشتركت فيها رضوى، يوم المجلات! يدق، نورا الصغيرة تحمل في يدها حصاد الإيجار "لأ، مش إنت، أنا عاوزة حمدي" تضحك وتنزل السلم جريا.
تدق الساعة هذه المرة، ليس لساعتنا صوت، ولكنها مستطيلة ببندول طويل يعمل بجد طوال النهار ذهابا وإيابا. لسبب ما اختل توازن الساعة، والبندول يدق على جانب الساعة. أفكر في أن أحدا لم يلمسها، ولكن أثر الفراشة يفعل أكثر من ذلك. أحاول ضبطها رأسية تماما، لا أنجح، لم لا يعيدها لاتزانها أثر فراشة أخرى! أعرف الآن لماذا صحت في رضوى"ساعة ببندول ليه؟!"، ولكني استسلمت لأنني لن أنزل للبحث عن ساعة، ولأنها أنيقة وحمراء مثل الكنبة وملائمة للون الأسود للسفرة والبوفيه.
أقرأ بعض الأخبار والمقالات وأشعر بزغللة في عيني وصداع يتسلل لرأسي، وأتذكر أني لم آكل شيئا منذ الصباح، أنسى الإفطار دائما عندما تسافر رضوى، أتناول الأسهل في إعداده وأنا أشاهد جزءا من فيلم "خد الفلوس واجري" لوودي آلان. يشهر فيرجيل/وودي آلان مسدسه في وجه رجل ويطلب منه محفظته، يذكره الرجل بأنه صديقه من أيام زمان، ويسأله "إنت بتعمل إيه في الدنيا؟"، يهز فيرجيل رأسه ويقول "أنا عازف في الأوركسترا الفيلهارموني!". يأخذ منه فيرجيل محفظته وساعته وهما يتذكران ضاحكين أيام زمان، وبعد أن يفترقا يعود الرجل ويقول"آسف فيرجيل، تذكرت الآن أني ضابط بوليس"، ويأخذ أشيائه وفيرجيل إلى السجن وهما يستمران في تذكر المواقف الطريفة من أيام الشباب.
أشاهد الفيلم إلى نهايته، لا يمكنني مقاومة أفلام وودي آلان. الفيلم مكتوب بطريقة ساخرة على غرار أفلام "الجريمة لا تفيد" والتقارير التي تذيعها البرامج التليفزيونية عن حياة المجرمين الخطيرين، في نهاية الفيلم يجلس فيرجيل الذي لم يقم بأي سرقة ناجحة، في مواجهة مذيع تليفزيوني يسأله"هل أنت نادم على اتخاذك طريق الجريمة؟" يرد فيرجيل بجدية وبراءة "أعتقد أن حياة الجريمة لها ثمنها، ولكن ذلك طبعا بسبب ما تعلمه من أن الجريمة كارير رائع، أوقات ممتعة، أنت رئيس نفسك، تسافر كثيرا، وتلتقي أشخاص مثيرين للاهتمام". يسأله عن رفاقه في العصابات التي انضم إليها أين هم الآن، يقول بفخر وهو يتذكر ويرفع حاجبيه "كثير جدا منهم ..مممم... أصبحوا مثليين جنسيا، وآخرون اتجهوا للسياسة و الرياضة".
ينتهي الفيلم ويتوقف العمال عن الضجيج، يحل الظلام، يتوقف بندول الساعة عن الدق على جانبها، ربما أمكنه أن يزحزح بدقاته جسم الساعة حتى أعاد اتزانها. أستغل الهدوء وأطفيء كل الأنوار وأشغل موسيقى بول سالم، أستلقى على الكنبة وأحدق في الظلام وأسمع، أشعر بالصداع وأحاول ألا أفكر في شي، فأفكر في آلاف الأشياء وأضحك عندما أتذكر مشاهد من الفيلم أو نورا الصغيرة.
عندما استيظقت صباح اليوم التالي ووجدت نفسي على الكنبة، كان العمال يدقون أيضا، ولكن الساعة كانت متزنة وهادئة ولم يدق جرس الباب، والصداع خف قليلا هو ودغدغة مكان الجراحة في إصبعي. قررت أن أقوم بأشياء كثيرة وألا أشاهد أيا من أفلام وودي آلان أثناء الأكل، وأن أتجاهل تماما أي إحباط قد يسببه لي تذكر يوم أمس الضائع، وألا أذكر منه إلا القرارات التي اتخذتها قبل أن يغلبني النوم. لن أشرب ذلك الدواء سيء الطعم الذي أعتقد أنه سبب كل هذا النوم والإرهاق إلا مرة واحدة بدلا من مرتين. أن أذّكر مرة أخرى المكوجي الذي نتعامل معه، إن أتى، ألا يرن الجرس إلا مرة واحدة، وأن أذكره للمرة الألف أن يحضر لي رقم تليفونه لنتصل به وقتما نحتاجه. وأن لا أصارح صبي المكوجي الذي توقفنا عن التعامل معه أننا توقفنا عن التعامل معه، سأتركه يأتي هكذا للأبد، ويدق الجرس، لأقول له دائما "مافيش مكواة"، إما أن يفهم أو يظل هكذا يأتي ويروح عقابا على غبائه وغباء معلّمه وجليطتهما معنا. كما يجب ألا أنسى أن أشتري علبة بونبون، وأمنع نفسي ورضوى من أكلها كلها، لأعطي نورا الصغيرة منها رغم أنها تأتي أحيانا قبل نهاية الشهر تدق الجرس وتطلب الإيجار.