22 December 2007

! أصبح عندي الآن .. سمسمية


أهديت نفسي اليوم أسطوانات لأغاني السمسمية , فأهدتني رضوى سمسمية .. سمسمية حقيقية !
لقد حصلتُ من قبل , في مثل هذا اليوم, على ما لم أسع إليه, و ليس لدي فكرة محددة عما سأفعل به, و لكن بي شغف كبير به .

12 December 2007

إسلاميون و علمانيون .. ديمقراطيون و اجتماعيون


أغلب ما يقال حول " الإسلام و العلمانية ", يتطلب فهمه جهدا كبيرا لتحديد الموضوع المقصود خلف المفاهيم الملتبسة الواسعة المتعددة المعاني : الإسلام في السياق السياسي – العلمانية – الإسلاميون – العلمانيون .
بالتالي, " إسلاميون و علمانيون " عنوان ملتبس لندوة, متحدثاها لا يمكن ابتداء و استجابة لإغراء العنوان, توزيعهما علي طرفيه . فتامر وجيه أحد أبرز ناشطي مركز الدراسات الاشتراكية – الذي نظم مؤتمر "أيام اشتراكية" الذي كانت الندوة من فاعلياته - لا يمكن تصنيفه و يعد هذا تعريفا جيدا به , بأنه " علماني " . و لا د.هبة رؤوف عزت, مدرسة العلوم السياسية و الكاتبة و الناشطة , يمكن تصنيفها ,و يعد هذا تعريفا مفيدا, بأنها " إسلامية " فقط دون استطرادات.
العنوان الملتبس كان مدخلا لموضوعين مختلفين في كلمتي المتحدثين الرئيسيين. تامر وجيه بدأ من التاريخ لينقد خلو الأدبيات العربية التي حملت لواء العلمانية و التنوير و الحداثة من الجانب الاجتماعي الراديكالي, و انتهى إلى أن "العلمانية" في مواجهة "الإسلامية" ليسا تصنيفا معبرا عن انقسامات الواقع بدقة, و لا يتصل بما يراه الواجب العملي للعقلانية, و هو التغيير الثوري للواقع, و بالتحديد باتجاه اشتراكية ثورية .
أما د. هبة رؤوف فقد اتجهت مباشرة للحظة الحالية , و تساءلت عما يشير إليه العنوان الذي دعيت للحديث عنه, هل يشير لـ " إسلاميين " و " علمانيين " و باعدت بين كفيها, أم لـ " إسلاميين و علمانيين " و ضمت كفيها معا !
و يبدو أنها اختارت الإجابة الأخيرة لما أفاضت في الحديث عن ملامح تتشكل حاليا, بفضل الحركات المطلبية المتعددة - بداية من حركات التغيير و ليس انتهاء بـ "مصريون ضد التعذيب" - التي يعمل من خلالها الناشطون , إسلاميين و غير إسلاميين , جنبا إلى جنب, مشكلين فضاء عاما أكثر ودا و تفهما و أقل حساسية بين أطرافه من ذي قبل.
د.هبة نقضت بدورها العنوان من جانب آخر, جانب مساحات العمل التي تحددها اللحظة و المطالب العامة المشتركة .
ولكن لا مساحات الود و العمل المشترك,و لا تجاوز النظري إلى العملي نجحا في تجاوز مساحات الاختلاف , التي دفعت مداخلات الحضور تعقيبات المتحدثين الختامية إليها. فانتقد تامر وجيه اتخاذ الإسلاميين الجانب الثقافي والهوية الثقافية منطلقا خاطئا لمواجهة تحديات الواقع, التي يراها تتمثل بالأساس في استغلال الطبقات و الشعوب المالكة للثروة و القوة للطبقات و الشعوب الفقيرة و المقهورة. بينما قالت د.هبة أن الثقافي لا يمكن تجاهله, و في القلب منه الإسلام دينا لأتباعه و رافدا ثقافيا لأبناء الديانات الأخري . و انتقدت تجاهل التيارات العلمانية لذلك, و تعاملها مع الثقافة و الدين باعتبارهما إفرازات للواقع الاقتصادي و الاجتماعي , لكنها أشارت أيضا لتجاهل تيارات إسلامية للجوانب الاقتصادية و الاجتماعية, و إرتكازها على الثقافي بدرجة أكبر.
تحولت الندوة معظم أحيانها من الحديث عن " إسلاميون و علمانيون " إلى " إسلاميون و يساريون " بحكم تركيبة الحضور و تنظيم الندوة . و حتى هذه الثنائية بدا أنها ليست بالصلابة و لا بالحدة المتخيلة. فإذا استثنينا اختلافات في مساحة " الثقافي" يمكن أن نري الميول اليسارية عند د. هبة رؤوف – كما أحبت هي نفسها أن تصفها - فلديها نظرة اجتماعية ناقدة لليبرالية و الرأسمالية ,و لديها دراسات في نقد تمثل إسلاميين للمنظور الليبرالي سعيا منهم في الانفتاح على الغرب و الحداثة .
كما أن تامر وجيه و مركز الدراسات الاشتراكية لديهم موقف أثار, و يثير, جدلا كبيرا بين أوساط اليسار, بشأن التحالف مع الإخوان. و هو تحالف لم تدم فعاليته فيما يبدو , و لكن المركز يدعم باتجاه مثل هذه التحالفات – مع التيارات الإسلامية - بغرض الانفتاح علي قطاعات أوسع من الجماهير ,و تثوير التنظيمات التي تلتف حولها هذه الجماهير, أو المساهمة في كشفها إن لم تستجب لهذا التثوير .
و لكن بعيدا عن التقاربات الودية أو علاقات التنظيمات و التيارات ببعضها , هل يمكن لتيارات سياسية, وفق رؤى أخرى, أن تتجاوز ثنائية " إسلاميون و علمانيون " , لتتعامل مع جمهور كبير لدى أغلبه إيمان ديني لا يجعله بالضرورة في خانة " الإسلاميين ", و لكنه لا يستسيغ وصفه بـ " العلماني " .
الإجابة في رأيي تتعلق بالبدء بمعالجة مساحة الاختلاف و الافتراق قبل مساحة الود و التلاقي . ففيما يتعلق بالجانب الثقافي الديني , لا يمكن إنكار أن التيارات السياسية و درجة جماهيريتها تتعلق بتقاطعها أو اقترابها من فضاء من الأفكار و المفاهيم التي تكرسها تيارات ثقافية معينة . هذا إن لم تكن هذه التيارات نفسها تيارات ذات طابع ثقافي - مثل التيارات الدينية- , فلا يمكن في رأيي فصل السياسة تماما عن الدوافع و المباديء الأخلاقية – العدالة و المساواة مثلا انحيازات أخلاقية - , و لا عن الثقافة و الدين الداعمين لهذه المباديء . و لكن الاعتراف بالتداخل مع السعي لفك التلازم و التماهي هو ما يمكن أن يسمح بتلاقي المختلفين ثقافيا في كيان سياسي اجتماعي .
و لكن هذا مشروط أولا بالتخلي عن أي نزعة تسلطية فيما يخص الجانب الثقافي . التوقف عن السعي السياسي لفرض مرجعية أخلاقية علي الآخر المختلف , سواء بالسلب : " العلمانية السلطوية" المتوجسة من الديني, أو بالإيجاب : ممارسة السياسة كوسيلة للتمكين لمرجعية دينية .
الاعتراف بإمكان تقاطع التيار السياسي مع أكثر من رافد ثقافي, و توقف التيار السياسي عن أن يكون تجمع لأصحاب نفس نمط الحياة والأفكار, لكي ينفتح علي تنوع و تعدد المجتمع الثقافي و الديني , و يكتسب عملية و مرونة و تنوع الحركات المطلبية التي لا تنطلق من الأيديولوجيا و الثقافة, بل من البرنامج العملي الاجتماعي الذي يمكن التوافق حوله و تطويره و مناقشه عمليا .
هنا يمكن النظر لدوائر متعددة من تيارات ثقافية و دينية تتدافع في فضاء عام , بينما هي نفسها ليست تيارات سياسية , بل تتقاطع مع تيارات سياسية تجمع أفرادا من دوائر مختلفة يتبنون رؤية اجتماعية قريبة . ربما ينطلق الأفراد من دوافع أخلاقية تنتمي لمرجعياتهم التي تحددها انتماءاتهم لدوائر ثقافية أو دينية مختلفة. و لكن يمكنهم بحس " ديمقراطي " مناقشة ما يخص " الاجتماعي " في دائرته بغير إشهار المرجعيات و الخلفيات الثقافية و الدينية .
" الديمقراطية " بحس أقرب ما يكون لـ" اللاسلطوية" ضرورية هناا لتحديد مساحة العام الذي يجمعنا بالفعل و يتوجب فيه الاجتماع علي نطاق واسع لمناقشة ما يمكن أن نتفق عليه و نتفاوض بشأنه , يينما كل ما لا يجب أن يشمل الجميع يصبح مجالا خاصا و يمارس فيه الأفراد أو الجماعات الفرعية حريتهم الكاملة في ممارسة قناعاتهم و إشهار مرجعياتهم و التعبير عنها و الدعوة إليها و التبشير بها, و خوض الجدل بين بعضها البعض بكافة الوسائل السلمية التي لا تتضمن إخضاع واحدة لأخرى أو السعي لأي تمييز لصالح إحداها .
فموازنة الدولة و سياستها الخارجية مثلا ينتميان للفضاء الأول , بينما عقيدة الفرد و سلوكه الشخصي و الحق في التنظيم ينتمون للفضاء الثاني .
ما سبق كما يتضمن شروطا للتيار السياسي نفسه : الحس العملي و القبول بالتعدد الداخلي و التجمع حول البرنامج لا الأيديولوجيا و الانحياز لأوسع مساحة حريات يفرضها تعدده الداخلي نفسه .. فإنه يتضمن أيضا شروطا في ثقافة الأفراد , أو طريقة تدينهم , لكي يمكنهم التفاعل مع مثل هذا التيار . فالثقافة الدينية التي تطمس كل فاعليات الوجود باستثناء فاعليات عالم الغيب منكرة العامل البشري , أو التي تري أن الدين هو الهوية الجمعية الوحيدة الممكنة للفرد المتدين , أو التي تري أن " عز الدين و مجده " يقتضيان إخضاع الآخرين لا إقناعهم ...أو في المقابل من ذلك الثقافة التي تحتقر الدين و الدوافع و المشاعر الدينية,إلى حد الرغبة في إقصائهم تماما من مجال الرؤية و الوجود .. كل هذه الملامج الثقافية لن تتيح التلاقي في مساحة الاجتماعي, و لا تسم بالاحتفاء بالديمقراطية . بل إن هذه الدوائر الثقافية مؤهلة للتقاطع أو التماهي مع تيارات تسلطية دينية أو علمانية .
بهذه الطريقة في التفكير و الحركة تصبح مشكلة الدين و العلمانية أقل تعبيرا عن جدل يخص السياسة, و تحل محلها مشكلة العام و الخاص. و تعود مشكلة المرجعية الدينية أو العلمانية للسياق الثقافي و ساحات الأفكار . و يتحدد النقاش السياسي بمساحة "الاجتماعي" و باستخدام لغة مشتركة مفرداتها من الواقع المعيش, لا باستخدام اصطلاحات و خلفيات المرجعيات الدينية ,أو الأيديولوجيات و الفلسفات .
عندما تخايلني صورة تيار سياسي بهذه الملامح يبدو لي أن مثل هذا الكيان الديمقراطي المحتفي بالتعدد داخله يمكن أن يضمني مع تامر وجيه , لو تم تخفيض سقف الطموح اليساري الثوري لصالح برنامج للحظة الراهنة .. و مع د.هبة رؤوف, إذا تم التوافق حول حدود العام و الخاص ,حدود دوائر الثقافة و أفق الدائرة الاجتماعية .
و لم لا ؟


- مداختي الطويلة هذه ليست بريئة من التفكير بشكل خاص في أمر الحزب الديمقراطي الاجتماعي المتطلع للتأسيس.
-الصورة, من اليمين, لهبة رؤوف عزت و محمد العجاتي و تامر وجيه . تصوير حسام الحملاوي .

08 December 2007

بل ربما لم ينضج الاشتراكيون بعد يا شافيز


علق شافيز على رفض الناخبين الفنزويليين التعديلات الدستورية التي اقترحها , بفارق وصفه بالمجهري , قائلا: " ربما لم تنضج فنزويلا بعد للاشتراكية "!
يمكن للتفسير الأحسن ظنا بما قاله شافيز, أن ينظر للأمر من جهة التعديلات التي قيل عنها أنها تسير باتجاه تحويل فنزويلا لدولة اشتراكية , فيكون تفسير تعليقه أن الواقع الاقتصادي و الاجتماعي لفنزويلا غير مؤهل للتطور إلي المجتمع الاشتراكي, وفق مازورة التطور الماركسية المعروفة .
و لكن هناك تفسير آخر أقل انحيازا لشافيز و اشتراكيته السلطوية , ينظر للأمر من جانب خلط شافيز تلك التعديلات بتعديلات أخرى تمنحه حق الترشح للرئاسة مدى الحياة, بالإضافة لسلطات واسعة تشمل تعيين مسئولين معينين فوق المسئولين المحليين المنتخبين , و زيادة سلطاته وقت الكوارث و الأزمات و "الطواريء" - بم تذكركم هذه الكلمة ؟ - بما يشمل مراقبة وسائل الإعلام .. هكذا!
من هذا الجانب ,كلا من تعليق شافيز و تعديلاته المقترحة يصلحان تفسيرا لبعضهما البعض: فالشعب الفنزويلي غير الناضج بعد للاشتراكية غير مؤهل بطبيعة الحال للدفاع عنها : عن حقوقه و عن توزيع الثورة و عن العدالة الاجتماعية التي لم تكن لتتحقق لولا الرئيس شافيز, و من ثم فهي مرتبطة به و بسلطاته الواسعة و بالمزيد منها.
لذا فإن " الوصاية "
ضرورية على الشعب الفنزويلي لحمايته من عدم نضجه , و لا يجب أن ننس مراقبة وسائل الإعلام التي يمكن أن تفتن الشعب عن الإيمان بالاشتراكية أو بالزعيم و إنجازاته .. لا يرى شافيز فرقا.
لو أن إصلاحات و شافيز و مشروعه الاشتراكي في صالح القطاع الأكبر من الشعب , ما الحاجة إلي الوصاية و لم الخوف من تداول السلطة . و لِـمَ يغامر شافيز و رفاقه بتكديس السلطات في يد من يشغل منصب رئيس الدولة , بينما الأكثر منطقية , و الأكثر إخلاصا للمشروع الاشتراكي و لمصالح الناس , هو توزيع الصلاحيات و السلطات علي أوسع نطاق من الهيئات و الأفراد المنتخبين من الشعب لكي يحول هذا دون تحولات في اتجاهات ضد إرادة المجموع تتسبب فيها سلطات الفرد الواحد .
ربما لم ينضج
بعدْ الاشتراكيون, من نوع شافيز و رفاقه, لكي يتوقفوا عن مساومة الناس علي حريتهم بعدالة تحت وصايتهم .


-في الصورة : الرئيس الفنزويلي شافيز . هل يحتاج نظارة معظمة ليرى شعبه ناضجا ؟
-اقرأ دراسة عمرو عبد الرحمن الهامة " صعود اليسار في أمريكا اللاتينية : لا ينبغي الخلط بين مناضلين في سبيل الديمقراطية و ديكتاتوريين أشبه ما يكونون بحكامنا " .

07 December 2007

23 November 2007

الخرابة ليست أرض فضاء .. الخرابة في عقل جارك


هل هو تأثير " الواقعية السحرية " للعم ماركيز و رفاقه , الذي جعلني أتخيل أن ذلك الصوت الآتي من الشارع, و المتكرر يوميا, هو صوت رفرفة أجنحة طائر ضخم يمر سريعا بجانب الشرفة !
المرات التي هرعت فيها لأتحقق من أمر الصوت , لم أر شيئا و لكن أضفت ملاحظة لتفسيري : هذا الطائر سريع حقا رغم ضخامته .
اقتربت من التحقق من الأمر أيام الإجازات التي بدا لي فيها أن أقضي صباحي أقرأ أو أكتب في الشرفة, و لكن خلف ستار كبير يحجب الشمس, و لي فيه مآرب أخرى .
إنه الصوت , و أنا هذه المرة أسرع .. أزحت سريعا الستار و رأيته !
هو أسود و متوسط الحجم .. يهوي بالقرب من طابق عال في البناية المقابلة , و يتقلب في الهواء محدثا ذلك الصوت الذي يخفت حتي ينتهي بصوت اصطدام مكتوم عند استقراره في وجهته , في مساحة الأرض الخالية بجوار البناية التي أسكنها ...
لم يكن طائرا, إنه كيس زبالة !
و لم تعد قطعة أرض فضاء , هي الآن " خرابة " .
تابعت الكيس حتي استقراره علي حافة الخرابة, ثم انفجاره و تبعثر محتوياته علي مساحة لابأس بها من الرصيف ..
كنت معلق النظر تماما بالكيس, فلم أنتبه , إلا بعد انتهاء رحلته , لصوت إغلاق النافذة في ذلك الطابق العالي الذي لم أستطع تحديده .
وقفت مشدوها لفترة أنقل بصري غير مصدق بين الشرفات و النوافذ المغلقة و بين ما يمكنني رؤيته من الخرابة .. مستاءَ حاولت أن أعود لما أفعل, و أنا أفكر فيما ينبغي حقا أن أفعل, و قد خلا ذهني من كل شيء ما خلا أفكار تنتمي كلها لـ" الواقعية القذرة " .
انتشلني من أفكاري كيس آخر, و لكن هذه المرة أزحت الستار و ثبتت بصري علي مصدره .. كانت فتاة – في ظروف أخري ربما وصفتها باللطيفة – و كانت في كامل هندامها فيما عدا غطاء شعرها الذي تركته منحسرا قليلا عن بعض رأسها و منسدلا علي كتفيها . انشغلتْ هي للحظة بمتابعة الكيس تختبر دقة تصويبها, و عندما انتهت و انتبهت لوجودي جالسا في في الشرفة المقابلة مزيحا الستار قليلا لأتمكن من رؤيتها و التحديق مباشرة في عينيها بنظرة متسائلة ... اسودّ وجهها فزعا من صورتها في عيني, أو هكذا تخيلت , و ما يدفعني للشك في تخيلي هذا أن رد فعلها كان سريعا جدا و هي تعدل من وضع غطاء رأسها و تتأكد من أن لا خصلة شعر أو شيئا من العنق يظهر .
الكيس التالي .. كهل, يبدو أنه أحمق , لأنه نظر لي مبتسما مغتبطا, ربما فرحا بتصويبه أو ربما سولت له نفسه أن يتعرف عليّ الآن مستغلا هذه الفرصة السعيدة .
و هكذا ..
ربة منزل استاءت من نظرتي و امتعض وجهها بنفاذ صبر و كأنها تلومني و تعاتبني كوني مترفا لدرجة أن أهتم بهذا الأمر .
فتاة أخرى متحررة بعض الشيء عن الأولى , عموما و في ملابسها , نظرت لي بابتسامة ساحرة مسرورة كأنها اكتشفتني, ثم أولتني ظهرها و خرجت من الشرفة بدلال و ألقت إليّ نظرة أخيرة و هي مسبلة أجفانها و مباعدة بين شفتيها قليلا , و لم تنس أن تسحب رمشها و هي ترد الباب .. فعلت كل ذلك برقة بالغة تقول أنه لا وجود علي الإطلاق في عالمها للزبالة و لا الخرابة , و كأنني غازتلها ساعة عصاري و هي تملأ القلل في المشربية .
الكيس الأخير لهذا اليوم من فتى بدين , هو أيضا أسبل جفينه و باعد بين شفتيه, و لكن مع نظرة عينه المتحدية فإن تعبيره المتكامل كان مختلفا و نموذجيا و دقيقا في تصريحه الصامت بأنه فتى قذر و هذه منطقة قذرة و أنا أيضا قذر لو حاولت أن أعترض علي شيء من كل هذه القذارة .
حصيلة لا بأس بها بالنسبة لصباح يوم واحد , لنحمد الله أن الخرابة لم تتحول بعد جبلا من زبالة . و لكن هل ما فعتله كان مجديا .. التحديق فيهم ؟ لا تبدو النتيجة اللحظية لما فعلت مشجعة و لكن لنر ..
لقد ذكرني ذلك كله بسيدة غريبة الأطوار في شارعنا القديم , حيث بيت أبي , الذي بالمناسبة لا يبعد عن هنا سوى مائة متر تقريبا . لقد نجحت هذه السيدة في إيقاف جهود إنشاء خرابة أمام بيتها .
هذه السيدة كانت تخرج بملابس بيت رثة شعثاء الشعر,لا تهتم بغسل وجهها صباحا, و لا تهتم إجمالا بنظافتها العامة قدر اهتمامها بنظافة الشارع . و لكن غرابتها جعلت منها أكثر نساء الشارع شعبية , حيث كانت تحظي بتهنئة الجيران لو نزلت يوما و قد صففت شعرها الخشن – أو حاولت – و ارتدت شيئا نظيفا . هذا بالإضافة لابنتها الصغيرة , التي كانت صارمة في تربيتها .. لو أساءت السلوك, تحلق لها شعرها بالكامل !
كانت غير تقليدية في حلها لما يعترضها من مشاكل , فكانت تذهب لبقال و تجعل ابنتها تذاكر دروس الحساب واقفة أمامه و تحت إشرافه – كان يدخن الشيشة أثناء شرحه - بينما تنشغل هي في إعداد سندوتشات جبن و بسطرمة .. هي في النهاية يجب أن تكافيء البقال الذي تعتقد أنه أكثر الناس علما بالحساب .
هذه السيدة العظيمة التي لا أذكر اسمها واجهت إنشاء الخرابة بصرامة ..
في الصباح الباكر لأحد الأيام , عقب صلاة الصبح مباشرة و الشوارع لا تزال هادئة و خالية تقريبا , سمعت صوتها المميز يصدح :" بتعمل إيه يا راجل يا ناقص ؟ "
سمعت بصعوبة صوتا خافتا لرجل يحاول أن يرد , قاطعته هي : " بتعمل إيه يا راجل يا ناقص يا واطي ؟" ثم :" ... يا ناقص يا واطي يا وسخ ؟ " و هكذا في متوالية حسابية تصعد من هجومها , و عندما وصلت للشرفة كانت متتاليتها قد بلغت حدا بذيئا , بينما الحاج – لا أذكر اسمه أيضا – الذي فرغ لتوه من صلاة الصبح جماعة , مرتديا جلبابا أبيض ناصعا و طاقية بيضاء " شبيكة " , واقف بجوار الخرابة رافعا بصره لشرفة السيدة و يحاول أن يوقفها متسائلا باستعباط : " فيه إيه يا ست ؟ " .
لم أكن وحدي , كان جمهورا لا بأس به قد تجمع في الشرفات . و عند هذه اللحظة طورت السيدة هجومها بحس إعلامي مميز :" بترمي الزبالة في الشارع ليه يا راجل يا زبالة ؟ "
كان موقفه حرجا , كان وحده في المشهد علي خلفية من الخرابة الصغيرة التي بدأت في التكون عند مدخل بناية خالية من السكان , و كيسه يرصع قمة تل صغير من الأكياس . بينما جمهور في الشرفات ينظر إليه ينتظر كلمته التالية – و الجمهور دائما ما ينحاز للخير حتي لو كان معظمه من الأشرار – لذا فإنه حاول التبرير مبديا بعض الصلابة :
- " بس يا ولية, أنا سايب الكيس هنا , هاجيب عيش من الفرن و أرجع آخذه "
لقد كان ذلك بالغ الحمق , لقد تقدم بشكل خاطيء و وجهه مكشوف تماما , و لم يكن عليها إلا أن تسدد القاضية :
- " وحياة أمك ؟ "
قالتها بلهجة بارعة , الأسلوب وحده يكفي بدون كلمات لكي يعبر ببلاغة عن مدي سخافة ما قاله . انهار تماما, و من تلقاء نفسه خطا خطوتين داخل الخرابة الصغيرة, و التقط كيسه منكس الرأس و عاد أدراجه - لم يذهب للفرن – بينما الجمهور تند عنه ضحكات مرحة شامتة ممتزجة ببعض الشفقة علي الحاج الذي تم سحق هيبته تماما هذا الصباح .
أُغقلت النوافذ, بينما ظلت السيدة مرابطة في شرفتها ..
بعد قليل سمعت حوارا آخر مماثلا, و أعجبت جدا بذكائها و تطويرها لأداءها . هذه المرة أضافت اسم الأستاذ في نهاية سؤالها الاستنكاري - بعد الأوصاف اللائقة بالطبع - و أتاحت لجمهور أكثر أن يشهد سماعا ما حدث , و ليعرف أن الأستاذ فلان من جماعة المؤسسين للخرابة ..
استمرت على هذا المنوال يوميا لمدة ليست بالقصيرة, و في نهايتها رأيتها واقفة وحدها , بجلباب بيتي رث و شعر أشعث, يديها في خصرها , تشرف علي عمال شركة النظافة و هم يزيلون نهائيا أي أثر للزبالة من موقع " الخرابة " المجهضة . تخيلت جهودها, و طريقتها في بذل هذه الجهود , التي دفعت شركة تتقاضى أجرها مقدما من فواتير الكهرباء, لتقوم بما تعتبره عملا إضافيا .
يا لها من سيدة عظيمة, دافعت ببسالة عن الأمتار التي تواجه شرفتها, و أعلنت للأوغاد أن هذه منطقة تخصها .. و أنا لا زلت أحدق فيهم !

العنوان مستوحى من مقطع
لـ " ت.س. إليوت " من مسرحية " الصخرة " .

17 November 2007

! ليس لدرجة خمسة عشر جنيها

احتشد مساء أول أمس المئات, و ربما الآلاف, من رجال الشرطة و قوات الأمن المركزي في مساحة واسعة من شارع الهرم يتوسطها قسم العمرانية , مما تسبب في أن يطلب مني سائق التاكسي خمسة عشر جنيها نظير المشوار من الدقي إلي مكان ما بين شارعي فيصل و الهرم , فضلت إنهاء الرحلة عنده توفيرا للمزيد من وقت محاولة الوصول لشارع الهرم في ذلك الوقت .
كانت توقعاتي متعادلة بين نجاح و إخفاق وقفة " مصريون ضد التعذيب " أمام قسم العمرانية . و تأكدت من فشلها أول ما شاهدت التحصينات في شارع الهرم . و أعذر الرفاق المنظمين و المشاركين, فالحشود الأمنية كانت فائقة للتصور .
المارة في شارع الهرم كانوا ينظرون بعجب إلي الصفوف القصيرة من جنود الأمن بملابس عادية, و التي تتكرر بالتبادل مع آخرين بزي الأمن المركزي التقليدي, من محطة " الخزان " و حتي النفق في أول شارع الهرم . مجموعات من البؤساء يرتدون ملابس رثة و في أعينهم دهشة و تيه و يقظة مذعورة , يبحثون في وجوه المارة عن عدو لا يعرفون ملامحه.
هذا الجزء من شارع الهرم تحول مسرحا هزليا, المارة يسألون الجنود عن سبب وجودهم, و الجنود يردون بلهجتهم الريفية, و بغُلب صبور يقسمون أنهم لا يعرفون أي شيء . الضباط الممسكون باللاسلكي المتناثرين بطول الشارع , بينما لا أحد يري حتى فلول الوقفة التي تجمعت في شارع جانبي بعيدا عن الشارع. رجال الشرطة السريون المنتظرون على المحطة بملابس عادية و يحاولون أن يبدوا كمواطنين عاديين , و لكنهم لا يستطيعون نسيان سلطاتهم و مهماتهم المقدسة, فيبدأون في توجيه الأوامر لسائقي السيارات بسرعة المرور أو سؤال بعض الشباب عن سبب تجمعهم ,و يبدأ الباقون على المحطة في التلفت حولهم و يكاد يسأل الواقف منهم نفسه إن كان هو نفسه "مخبرا" !
الأمر اكتسي ببعض المنطق, بعيدا عن خشبة المسرحية الهزلية,للذين لم يتمكنوا من الوصول إليها . فالتأويلات الشعبية لما حدث, و التي مصدر معظمها سائقي التاكسي و من تفاعل معهم من الركاب, لم تصدق حتى بعد أن أخبرها بعض المتوجهين للوقفة أن كل ذلك بسبب وقفة احتجاجية لناشطين , و كانت تفسيرات الأمر بأنه :" عادي , قتيل آخر في قسم العمرانية ! " , أو " هي مظاهرة لسائقي "التوك توك" ضد مصادرة عرباتهم و قرار منعهم من العمل " و هو ما حدث بالفعل و لكنه كان في الليلة السابقة على الوقفة , أو هي - و هذا التفسير لسائق التاكسي الأكثر أصالة و العالم بطبعه ببواطن الأمور - " زيارة مسئول كبير في وزارة الداخلية لقسم العمرانية بعدما فاحت رائحته القذرة, و صار من الواجب وضع حد لما يحدث بداخله , و الدنيا مقلوبة و لن يمر الأمر علي مأمور و ضباط القسم بسلام ".
الوقفات الاحتجاجية لم تدخل بعد في دائرة آليات الخيال الشعبي, أو ربما لأنها تستخدم فقط بحكم العادة في تفسير الأزمات المرورية لوسط البلد حيث يعيش المثققون و الناشطون .
لا يزال التفسير الشعبي يراوح في معظمه بين " لا جديد, إنه الخراء الذي نعيشه ! " أو أن القدر أرسل من عليائه أحد الكبار ليرفع بعضه عنا . و لكن الجديد فعلا و المثير للتفاؤل هو أن احتجاجات المدافعين عن قوتهم اليومي, و لو عرضوا حياتهم و أمنهم للخطر – و ليس العكس, لاحظ ! - أصبحت ضمن دائرة التفسير الشعبي بعد أن دخلت دائرة الفعل بالاحتجاجات الواسعة التي قام بها العمال و الموظفون الفترة الماضية,و بعد سنوات عجاف لم نشهد خلالها إلا حشودا في حالة رثة تزحف مهتاجة و يسقط منها شهداء في مواجهة مستميتة ضد محتويات أوراق لم ترها : روايات و رسوم و تصريحات !
احتجاجات سائقي " التوك توك " تبهجني و تهمني من هذا الجانب, و من جانب آخر شخصي. فأنا الآن أستقل يوميا من العمل إلى المنزل الميكروباص إلي حدود إمبابة ثم أستقل " التوك توك " باقي الطريق, و أغدق عليه في الأجرة لاعنا في سري التاكسي و من والاه .
خمسة عشر جنيها من الدقي للهرم يا ناس !

14 November 2007

العمرانية.. ليه ؟


’’ 7 قتلى خلال 6 سنوات, وعشرات تم تعذيبهم بينهم طفل عمره 3 سنوات ’’

من تحقيق رشا جدة و عماد نصيف عن قسم شرطة العمرانية بجريدة "البديل".

06 November 2007

مراسلتكم نورا يونس


مدونة نورا يونس, الصديقة و الرفيقة المؤسسة بحركة 30 فبراير المجيدة العابرة لكل الانتماءات, تخوض الآن المنافسة علي جائزة " مراسلون بلا حدود " ضمن مسابقة البوبز 2007 .
هذه الجائزة أفلتت العام الماضي من 30 فبرايربخسارة الجناج الحقوقي للحركة " موقع التعذيب في مصر " لها , بعد أن كانت في العام قبل الماضى لمدونة منال و علاء الأبوين الروحيين للحركة .
نورا تتصدر تصويت الجمهور حتى الآن , و لا يمنع ذلك أن يلتزم كل أعضاء و أنصار الحركة الحيطة و أن يكونوا علي أهبة الاستعداد لنجدة نورا .
نورا قدمت خدمات جليلة كمراسلة للحركة و الوطن, وكتبت تغطيات هامة تستحق عنها الجائزة
بجدارة ... من تقرير مذبحة اللاجئين السودانيين إلي توثيق إضراب عمال غزل المحلة .
موقع " التعذيب في مصر " يعاود هذا العام المنافسة و لكن في فئة " أفضل مدونة عربية " و لكن يشاركه تأييد 30 فبراير مدونة ابن عبد العزيز " العدالة للجميع " التي تحسب جناحا إسلاميا للحركة بعد مشاركتها الفعالة في معركة الاحتجاج على التمييز ضد البهائيين .
هذا فضلا عن دور المدونة الكبير في المناقشة " الأصولية " لمفاهيم و ممارسات إسلامية سائدة , بقل أن تجد نقدا لها من على نفس الأرضية بالشكل الذي يقدمه ابن عبد العزيز و يقرنه بحركته و مواقفه العملية و نشاطه المتسق مع أفكاره .

الخيارات الديمقراطية المتاحة حصرا هي التصويت لنورا يونس في فئة " مراسلون بلا حدود ", و التصويت لأي من " العدالة للجميع " أو " التعذيب في مصر " في فئة " أفضل مدونة عربية " , أو لكليهما نظرا لفوضوية نظام التصويت التي تتيح للمستخدم التصويت لعدد لا نهائي من المرات مثل أنصار الحزب الوطني في الانتخابات علي الطريقة المصرية .
و فيما عدا ذلك, فلكم مطلق الحرية في التصويت لمن تشاؤون في فئات المسابقة الأخري .
الحرية و الديمقراطية بالنكهة الوطنية لا تخلوان من الثوابت, و المتغيرات هي التي لا تضر و لا تنفع غالبا .



الصور:
1- نورا يونس في أحد المهام السرية بنيويورك
2 - شريف عبد العزيز/ابن عبد العزيز

02 November 2007

" مَا ظَهَر مِنهَا "


الآن , محتوى العدد الرابع من مجلة "البوصلة" متاح علي موقع المجلة .
شاركت في هذا العدد بمقال عنوانه " ما ظهر منها : أية معان تختفي خلف " الحجاب " و تنوعاته و معاركه ؟ " .
أنتظر تعليقاتكم عليه هناك .



الصورة لـــ brien_henderson

25 October 2007

نم أيها الشاعر

مؤسفُُ أن لم يتيسر لي أن أحييك حيّا.

سركون بولص
سركون بولص 1944-2007

لا مَهرَب: فالأرض ستربطنا إلى خصرها
ولن تترك لنا أن نُفلتََ، مثلَ أُمّ مفجوعة، حتى النهاية.
.....

حبلُ السُرّة انقطع، وامتدّ حبلُ المراثي.
إنه الليل. نـَمْ، أيّها الشاعر. نـَم، أيّها الصديق.

سركون بولص
من ديوان "عَظمة أخرى لكلب القبيلة" الذي يصدر قريبا عن دار الجمل في كولونيا

24 October 2007

يا باسط !


أمام الصحفيين المصريين تحديات أجدى كثيرا مما يلفظه الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي. هناك أشياء, و أشخاص, التعامل معهم جديا هو من قبيل الافتقار لحس الدعابة .. و إلا فكيف يمكن أن يتعامل المرء مع القذافي مثلا, أو رؤساء تحرير الصحف القومية و "مركز نداء لمقارنة بين الأديان" و مفسر الأحلام سيد حمدي و المطرب حسام حبيب و المفكر جهاد عودة.
سيد طنطاوي تحديدا يتبوأ مكانة بارزة في الوجدان الديني المصري, فذكر اسمه في نقاش ديني بين مهتمين يعني خروج النقاش من الجد إلي الهزل, إما أن أحد الأطراف يسخر من نفسه فيستشهد بكلامه, أو أنه يسخر من آخر بتشبيه كلامه بكلام " المفتي" و " شيخ الأزهر ",و طنطاوي هو صاحب امتياز الصفتين بشخصه باعتبار ما كان و ما هو كائن.
ما كان و ما هو كائن هي مجرد ظواهر خادعة, بينما لا شيء يتغير حقا عند طنطاوي و عند آخرين. الفرق الجوهري بين طنطاوي و الآخرين ممن يتحدثون من عالم آخر عن عالم آخر, هو أن الآخرين يتجاهلون تغير العالم لأنه ليس مكتوبا عندهم في الكتاب. بينما طنطاوي يتجاهل وجود العالم و الكتاب لأسباب غامضة, لا شأن للنفاق و لا للخوف أو الطمع بها, هذه اتهامات "جديّة" استبعدها ابتداء .
الأمر أقرب لمشكلة وجودية تتعلق بانسجام الإنسان مع موقعه في العالم, حيرة الإنسان أمام المسخرة التي ترفعه فوق ما يتوقع و يستطيع, " الفقي لما يسعد ", "الفقي " الذي استيقظ ليجد نفسه في عباءة العز بن عبد السلام, فتأرجح بين تقمص هيبة العباءة و الاستسلام لهزلية كونه داخلها.

05 October 2007

لا تعتذر عما فعلت


كحَكَم بلا معنى مثل ذلك الذي في حلبات المصارعة الحرة, كنت علي الرصيف بين شيخ و شاب غاضبين. الأول يحمل قالب طوب و مَفَكا , و الآخر يحمل غصن شجرة – به بعض الأوراق – و قضيبا معدنيا غامضا .
أنا أحمل علي كتفي حقيبتي , هادئا بحسب انطباعي عن نفسي , و إن مستاء . أحاول أن أفهم بعد أن توقفت عن محاولة تهدئتهما .
الشيخ, سائق التاكسي الذي كان يقلني, مهتاج و يهذي بسباب متقطع . الشاب مفتوحة عيناه عن آخرهما علي نظرة محدقة مستنكرة و كأنها تدافع عن مقدس .
التاكسي واقف مشرعة أبوابه كإعلان حالة. و سيارة الشاب, نصف النقل , واقفة خلفها بقليل , مصطفة بعناية بجوار الرصيف.
مع الشاب الغاضب, شاب آخر أقل غضبا, يبدو متأففا و متورطا مثلي رغم أنه الطرف الأكثر أصالة . هو الذي كان يقود السيارة النصف نقل, و هو الذي أطل من شباك سيارته عن يميني يعاتب الشيخ علي سوء أدبه , أخبرني فيما بعد أن الشيخ لوح له بيده ليمر و بالغ في استخدام اصبعه الوسطى ..
الشيخ رد علي عتابه صارخا, في تصعيد لم أفهمه : أنه لا هو و لا أهله يقدرون علي شيء ! ثم استجاب لدعوة الشاب الآخر للتوقف و اختبار قدرته علي فعل هذا الشيء .
توقفت سيارة الشابين بهدوء , ثم توقف الشيخ بعدهما بمسافة و كأنه فكر لوهلة ثم غلبته حماسة غامضة كألسنة لهب أمسكت فجأة بأطراف جلبابه . نزل مسرعا و انتزع قالب الطوب من سور كورنيش الكيت كات بسهولة أدهشتني – ساورني قلق مهنيّ بشأن كفاءة بناء السور - و اتخذ مكانه عن يساري بينما اكتفي الشاب الهاديء بمواصلة العتاب , خلف زميله الغاضب الذي استلهم البيئة بدوره أسوة بالشيخ و انتزع غصن الشجرة .
الشاب الغاضب كان فيما يبدو محموما بحمية عائلية, كان يصرخ ملتاعا : أنت تعرف أهلي ؟! أنت تعرف أهلي ؟!... و ألقى غصن الشجرة بتشنج فسقط عند قدمي بينما احتمي الشيخ خلفي و ألقي قالب الطوب لمسافة تأكد أنها لن تصيب الشاب, و احتفظ كل منهما بآلته المعدنية .
كنت أفكر في مدي أخلاقية أن أدعهم جميعا و أبحث عن تاكسي آخر, الشيخ غاضب بدرجة كافية لكي تتزن كفتي المعركة , و لا أمانع إن أصاب كل منهما الآخر بشكل يكفي لكي يتعقلا في مرات قادمة . شيء ما كان جعلني أبدو رغما عني مسؤولا عن الشيخ سائق التاكسي , ربما لأنه وافق علي اصطحابي في الرابعة من نهار رمضان متوجهين لامبابة . لكن كنت أحاول التملص بتذكر كيف أن الشيخ استجاب بلا أدني تردد لدعوة الشاب له بالتوقف للتقاتل . ثم إني لا أفعل أي شيء تقريبا. حتي كلامي كان فاترا و بلا معني , و يخرج من فمي بلا حرارة ... كان ما يدور بذهني منفصلا تماما عما أتفوه به من جمل التطييب و التهدئة و استرضاء الطرفين الخالية من المعني . كأنني أفكر بلغة أخري غير لغة هذه الكائنات البدائية المتقاتلة .
ما منع مواجهتهما المهتاجة أن تبدو كمعركة حقيقية هو ذعرهما المتبادل رغم حماستهما و نشاطهما الغرائبيين , و احتفاظهما بهذه المسافة اللاعقلانية بين متشاجرين ... بعد أن عدا كل منهما باتجاه الآخر ,أول ما اقتربا توقفا بغرابة , و تقهقر كل منهما خطوات متذرعا بتصويب سلاحه , غضن الشجرة وقالب الطوب .
بدأت أشك في اخلاصهما للعدوان, و بدأت أفسر الأمر بأنهما تحت تأثير حالة مزرية من أثر الصيام, الذي لعب دوره أيضا في تأخر وصول متدخلين حقيقيين- علي العكس مني أقصد - من أصحاب الورش و الدكاكين علي الرصيف الآخر .
لم أفهم لم توجه واحد إليّ يسترضيني , كان هذا نذيرا بأن ملامح وجهي تحولت لامتعاض أوحى بأني طرف في المعركة, التي تنفس طرفيها الصعداء و صعدا من لهجتهما و سبابهما من خلف أكتاف المتدخلين فاعلي الخير.
كنت قد تخليت عن مكان الحكم بينهما بعد أن صاروا و صرت أري الأمر من فوق أكتاف المهدئين , باعتباري واحدا وجدوه في أرض المعركة . أصبحت في جانب مع الشيخ و بعض المهدئين الذين فاجأوه بالسؤال : همّ عملوا لك إيه يا حاج ؟.. تحركت كل خلجاته و كأنه سينطق بأمر عظيم , و لكن زاغت عيناه كأنه نسي شيئا أو تذكر شيئا ثم صرخ فجأة و كأنه سيجهش بالبكاء : مش عارف ! مش عارف ! .
.. اندهشت من عدم قدرته علي الإتيان بأي تبرير لثورته العارمة , و يبدو أنه أيضا استنكر موقفه الغامض, و شعر, و شعرتُ أيضا, أن عليه أن يقدم تبريرا ما, لنفسه علي الأقل .. فسحب نفسا عميقا ثم أردف بحرقة بدت صادقة تماما موجها حديثه لطرف غير محدد: يا ولاد الوسخة!

ما حدث للشابين و سيارتهما بعد ذلك , يعني أنني الوحيد الذي لم يبد له ذلك مقنعا.


لا تعتذر عما فعلت : عنوان ديوان لمحمود درويش
اللوحة لكاندينسكي

19 September 2007

النظارة الطائفية


لو أن لغة و طريقة سقراطة في تناول مظاهر التمييز ضد المسيحيين و السخرية منها , دليلا علي كونها مسيحية متطرفة , فبالتبعية يصح أيضا أني مسيحي متطرف و ربما بهائي متطرف في سياق آخر !
هذه باختصار أزمة الرؤية " الطائفية " التي تناولت بها صفحة المدونات بجريدة " الدستور " ما يكتبه "مدونون مسيحيون" و اهتمامها بالإشارة لتطرف سقراطة تحديدا مرتين في عددين مختلفين . المرة الأولي لم يهتم الصحفي بأن يخبرنا لماذا أصدر حكمه ذلك, و في المرة الثانية استدل بمبالغة طبيعية في كتابة ساخرة ليؤكد علي ما أشار إليه سابقا بلا دليل .
و حتى أشارت سقراطة إلي أن الصحفي شاكر فودة , كاتب التقريرين, مدون اشتبك معها في حوارات سابقة كانت سببا في حكمه ذلك .. لم أكن أفهم أسباب حكمه, ثم لم أتفهمها بعد أن قرأت هذه الحوارات . فالتناقض في حكمه و رؤيته – و التي لا أعلم مدي اتفاق محرر الصفحة و محررو الصحيفة معه فيها – ينبع أساسا من أن اتفاقي مع سقراطة فيما كتبته و في رأيها في الحوارات السابقة لا يجعلني بالضرورة مسيحيا فضلا عن مسيحي متطرف .
ملامح " الطائفية " في هذا الحكم و هذه الرؤية هي التي تجعل من مطالب المساواة و مناهضة التمييز مطالب و هموم لطائفة بعينها , و هذه الطائفة متميزة و تضم كل أبناء دين هذه الطائفة , و تتحدد درجة الاعتدال و التطرف بالنسبة لسقف المطالب و حرارة و جرأة المطالبة بها . و التطرف في هذا السياق لا يشير إطلاقا إلي تبني أفكار متطرفة في الدين نفسه, و لكنه تصنيف طائفي بدوره . فالمتطرف في هذه الرؤية من يطلب المساواة الكاملة و يهاجم كل أشكال التمييز, بينما " للمسلم حقوق و للمسيحي حقوق " كما ذكر الصحفي في خاتمة تقريره عن تدوينة سقراطة "دليل القبطي الحزين في القرن الواحد و العشرين " , أو أنه متطرف لأنه يذهب بعيدا في " طائفيته " فينتقد الطائفة نفسها و رموزها و خطابها الداخلي, مثلما فعل الدليل الساخر .
يمكنني أن أتفهم إذن حنق سقراطة و حنق آخرين من " الطائفة المفترضة " , فأسوأ ما يمكن أن تفعله لجهود تصدر عن رؤية مجتمعية لا طائفية تهاجم التمييز و الطائفية معا, و تطالب بحقوق و حريات متساوية للجميع .. أسوأ ما يمكن أن تفعله أن تضع هذه الجهود في إطار طائفي ,و يجد المناهض للتمييز نفسه في جبهة طائفة ما، هي أحد طرفي معركة طائفية , و قد تم إلحاقه بها قسرا لأنه ينتمي لدين هذه الطائفة , بينما يصدر هو عن رؤية مناهضة للطائفية أصلا, و يدافع عن حقوق كل المواطنين الآخرين, و لا يدافع عن "طائفته" فحسب . بل إنه عندما ينتقد رموز "طائفته" و خطابهم لا يصدر عن رغبة في تبني طائفية متطرفة بل ينتقد أصلا مواجهة التمييز بسلوك طائفي دفاعي .
التناقص ليس فقط علي مستوي الرؤية ,و لكن علي أرض الواقع أيضا ,فسقراطة - المسيحية المتطرفة - شاركت في حملة التضامن مع أبي إسلام ضد اعتقاله بسبب نشاطه علي الإنترنت, بينما يمثل أبي إسلام نفسه نموذجا لأكثر أشكال التعبير الطائفي تطرفا و عدوانية ضد المسيحيين . لذا لو كانت سقراطة مسيحية متطرفة لم تكن لتشارك ,في سياق حملة التضامن, في زيارة ودية لمسكن أبي إسلام وقت اعتقاله ثم أخري بعد خروجه .. ربما كانت ستفكر في إضرام النار في مسكنه مثلا , و ربما سيتفهم فعلها من يشاهدون برنامجه علي قناة الأمة الفضائية والمسمى - و يا لسخرية العالم - بـ " ثقافة الحوار "! إضرام النار في البيوت ,مقارنة بثقافة الحوار في هذا البرنامج , يمكن اعتباره مداعبة لطيفة .. و هذه مبالغة ساخرة تحسبا لأي نقل صحفي .
أزمة الرؤية الطائفية الأساسية أنها تصدر من موقع يضع نفسه في خانة طائفية بالضرورة, و لأن هذه الرؤية تتبني مشروعا مجتمعيا يقوم علي التفاوت في أوضاع المنتمين لطوائف مختلفة , و لأشكال من التمييز يراها مشروعة بناء علي التفاوت بين الطوائف. فإن هذه الرؤية ترتبك أمام الرؤى المجتمعية اللاطائفية , و تود أن ترى فيها عدوها التقليدي: طائفة مقابلة تشكك في مشروعية التمييز و عدالته, و تدعي الاضطهاد زورا , و "تتطرف" و تطالب بما هو أكثر من حق " الطائفة " المرسوم و المقسوم لها .
بينما الرؤى المجتمعية اللاطائفية يتقاسمها أفراد مختلفي الانتماءات الدينية و يدينون طرفي المسألة الطائفية, و لا يناقض ذلك كون جهودهم بالأساس تنتقد الطائفة الأكثر و الأقوى و التي تشغل موقع السلطة . يستوي في ذلك من يفترض انتماؤهم إلي هذه الطائفة الأكثر و الآخرين . في هذا السياق انتقادات أفراد مسيحيين لسلوكيات طائفية تصدر ممن ينتمون للأغلبية المسلمة , ليست صادرة عن طائفة أو أفراد يمثلونها و ليست كذلك موجهة لطائفة أو أفراد يمثلونها . ولا فرق بينها و بين انتقادات مسلمين لنفس السلوكيات . و العكس صحيح .
أزمة الرؤية الطائفية التي تم بها عرض ما كتبت سقراطة ثم تصنيفها, ليست متعلقة ابتداء بسوء أو جودة أداء صحفي, بقدر ما تتعلق برؤية اجتماعية و رأي يتبناه الصحفي أو محرر الصفحة أو محررو الجريدة , و هذه الرؤية محل اختلاف و جدل سياسي و ديني . و لكن من زاويتي يبدو لي أن تناقضات الرؤية الطائفية تمتد لتمس نزاهة و صدق النظر للواقع في تقرير صحفي عندما تتحول النظارة الطائفية لمرآة لا يبدو الآخر فيها سوي طرف طائفي مقابل .

01 September 2007

25 August 2007

عن اختبار " البديل " ... في الصحافة و السياسة

By:pipoz

ما أتفق مع علاء سيف بشأنه هو أن هناك فجوة بين صورة الواقع في الصحافة المصرية و بين الواقع نفسه. أكثر من تجربة شخصية أقارن فيها بين ما أعرفه عن موضوع أو حدث ما اقتربت منه أو انخرطت فيه , و بين ما نشر في الصحافة, أجد الأمر مأسويا و مزريا .
ليست الصحافة وحدها , بل السياسة أيضا , فالصور التي يكونها " الوسط السياسي المعارض" عن الواقع يسري عليها هذا الأمر أيضا, و نموذج ذلك ما كتبته عن تعامل الصحافة و المعارضة مع الحقائق البسيطة في قضية خصخصة عمرافندي, بغض النظر عن الموقف منها, أتكلم فقط عن الحقائق المعلوماتية البسيطة الغائبة أو المغيبة بدافع الاستسهال أو تعمد إعادة إنتاج نفس الصورة التي يجب أن تظهر فيها الحكومة بمظهر الشيطان, لكي يمكن أن تتخذ المعارضة موقفا بسيطا مواجها و تصير ملاكا مجنحا..
الصحافة و السياسة مجالان , مثل مجالات أخري كثيرة , يصيران أقرب للانحراف و الفساد إن لم يجدا تصحيحا ما من قبل الجمهور, أو من قبل منافسة حقيقية علي الجمهور .
في الصحافة كما السياسة, الجمهور يستهلك ما يؤمن به مسبقا : صور الشياطين و الملائكة, و صور الأشرار الجبابرة المتغولين الذين لا قبل لأحد بهم . لا مجال أصلا لكي يتعامل الجمهور مع ما يصدره إليهم الصحفيون و السياسيون من معلومات و أفكار , بحس نقدي .. سواء منهم من أعرض عن الشأن العام و قضاياه فهي عنده من ظواهر الطبيعة أو كالأقدار لا يملك فيها دورا و لا لها دفعا , أو من يهتم منهم بالشأن العام علي طريقة التعاطف مع جموع الملائكة في مواجهة الشياطين. لذا فالصحافة و التيارات السياسية مستمرون في إعادة إنتاج نفس الصور بكفاءة و دأب و حماسة . و بالتبعية تتحول المنافسة لكسب الجمهور من مجال تقديم خدمة مهنية متميزة, بالنسبة للصحافة , أو تقديم صور صادقة للواقع و رؤي بديلة نقدية علي أرضية هذا الواقع في مجال السياسة .. إلي التباري في درجة شيطنة الشياطين ,أو في مستوي خفة ظل السخرية المريرة العاجزة أمام الواقع الذي يسيطر عليه هؤلاء الأبالسة .
هذا المناخ العام الذي يشد إليه حتي التجارب السياسية و الصحفية التي تحاول أن تكون مختلفة , لا يبدو لي أن مواجهته يمكن أن تقتصر علي مبادرات سياسية أو صحفية جادة , بل يتوقف بالضرورة علي مشاركة من جمهور ناقد و مهتم , ليس ذلك فحسب بل و منحاز أيضا ... ليس بالضرورة للتجربة السياسية أو الصحفية, بل منحاز و مهتم بضرورة خلق مجال عام أكثر احتراما و عقلانية و شفافية.

و هنا أختلف مع علاء في نقده العنيف لجريدة البديل لما اعتبره تلفيقا و نسبة ما لم يقله إليه في تحقيق صحفي , و مبالغته في الهجوم علي التجربة الجديدة برمتها, و الدعوة لمقاطعتها , بشكل رأيته عدوانيا بعض الشيء .
طبعا أتفهم غضب من يفتح الجريدة في الصباح فيجد عكس ما يؤمن به يروى علي لسانه, و لكن اختلافي مع تعبيره سببه أن علاء نفسه مهتم بالصحافة الشعبية علي الإنترنت , و هي بالإضافة لكونها صحافة أخري موازية , فهي يمكن أن تكون أحد وسائل الجمهور الناقد و المهتم للمشاركة في تصحيح أخطاء و عثرات الصحافة التقليدية , لذا فإن رد الفعل الواعى بهذه المهمة لا يجب أن ينزلق للعدوانية تجاه التجارب الجديدة أو أشخاص الصحفيين .
بالإضافة للمناخ العام السابق ذكره , و بعيدا عن أي صحيفة أو صحفي بعينهما , فاحتمالات سوء النية أو التلفيق العمديأو التردي اللامسؤول للمهنية الصحفية ... كلها واردة , و لكن افتراض ذلك مسبقا هو نوع من إعادة إنتاج صورة مشيطنة جديدة و لكنها هذه المرة للصحافة نفسها باعتبارها مجالا فاسدا ابتداء , و ليس لأسباب يمكن مواجهتها . فينتهي الأمر إلي دوران في الدائرة المغلقة ذاتها .
فالأمر كما يحتمل ما سبق فهو يحتمل أيضا الخطأ غير المقصود في فهم كلام المصدر أو في اعادة صياغته و اختصاره لدواعي صحفية, و ربما يحتمل خطأ فردي لصحفي, تلفيق أو غيره , لا يستدعي بالضرورة حكما علي الصحيفة بأكملها , فرئاسة التحرير لا يفترض أنها تملك خلفيات مكتملة لكل موضوع تمكنها من الحكم علي مدي صدق النقل عن المصادر أو الجزم بصحة خبر ما .
و لكن ما يصلح لهذا و ذاك هو رد الفعل المهتم و المنحاز لمجال عام أكثر شفافية , الذي يهتم بالرد و التصحيح عموما, و يهتم أيضا بوصول الرد لهذه الجريدة لاختبار صدقيتها, و استعدادها لتقبل النقد و التصحيح. و يصعب الحكم علي ذلك إذا أحال المنتقد هذا الاختبار لأزمة بمزجه انتقاده و تصحيحه بسباب مقذع للجريدة و الصحفي.

كنت أود أن أكتب شيئا أقل إشكالية , علي سبيل الدعاية
لجريدة " البديل " التي أنحاز إليها , و لكن ما كان يمكن تجنب الحديث علي خلفية هذه الأزمة الصغيرة . ربما كان ذلك من حسن الحظ, لكي يمكن أن أقول أنني منحاز للبديل و أدعوكم للانحياز إليه ليس لأنه آت من الفردوس بالبديل الجاهز و لكن لأنه محاولة لانجاز هذا البديل عن طريق تقاطع بين الصحافة والسياسة يتجنب المناخ الرديء إياه , فالتجربة الصحفية و أصحابها يعلنون انحيازهم السياسي الواضح المتجه يسارا , بما يعني التعبير عن مصالح أوسع دائرة من الناس تشمل بالضرورة المقهورين و المهمشين و المحرومين من الفرص, و يتجنبون الحياد الذي تبدو عليه تجارب أخري , أعني تحديدا " المصري اليوم " رغم كفاءته و مهنيته العالية , بينما الحياد وهم .
الانحياز يسارا , كما أراه , لا يعني ابتذال حالات البؤس لاستخدامها في السجالات و الحديث باسمها , و لكن النظر النقدي للواقع و إمكانات تجاوزه و محاولة البحث عن البديل الممكن . البديل الذي لا يلامس الأحلام البعيدة ادعاء , و لكنه يخطو خطوة ممكنة باتجاهها .
التجربة الصحفية المتزنة التي يمكن أن تجعل ذلك ممكنا هي التي تتجنب الشيطنة و ممارسة المعارضة كهوس محموم و حديث زاعق عن رؤوس النظام , و لكن تلتزم بالأمانة في النظر للواقع و تفاصيله بغرض التامل في البدائل التي يمكن ان تجعل للناس طريقا إلي وضع أفضل .
إلي الآن , بينما لم يمر علي صدور البديل الكثير, يمكنني بوضوح أن أراه يسير في هذا الاتجاه و ينحاز بهذه الكيفية , و إن لم ينجز ذلك يمكنني أن ألمس ما يحاول أن يكونه.
لا أحد يدعي أن البديل جريدة ممتازة تجاوزت كل مشكلات الصحافة المصرية, البديل تجربة ممكنة لو توفرت جهود و إرادات تريد لها أن تكون . و لعلي أظن أن الأمر ليس فقط معقودا بإرادة صناع التجربة, بل أيضا بإرادة جمهور يساند التجربة و يشارك فيها مهتما و ناقدا و منحازا, إن لم يكن للاتجاه السياسي فعلي الأقل لصالح توافر نوافذ صحفية حقيقية و مختلفة
.


البديل

13 August 2007

كأنما قتلوا الناس جميعا

كم كان لافتا و دالا , لو كنت شاهدت حلقة "العاشرة مساء" حول ذكري ثورة يوليو منذ أسابيع , كيف كان الشاعر الكبير سيد حجاب ينافح عن " التقدم " الذي أنجزته " الثورة " رغم كل شيء , و كل شيء هنا يشمل اعتقاله هو شخصيا مع مجموعات و تنظيمات اليسار ...

و بينما كان المفترض أن يكون المدونين الصديقين البراء أشرف و وائل عباس , الضيفين الآخرين , من الأجيال التي تدين- علي الأقل - بتعيلمها المجاني , لمنجزات الثورة الاجتماعية ... إلا أن كلاهما انتقد بشدة " الثورة" لدرجة تصل لحد محاولة مساءلة التاريخ حول ما إذا كانت الثورة استبقت حراكا طبيعيا للمجتمع و استلبته , و هو ما قاله البراء , بينما وائل عباس يتخذ موقفا شخصيا من " الثورة " بسبب جمال عبد الناصر ,لكن يتيه حبا في السادات , و لوائل في ذلك حكم !

ربما أتفق أكثر مع ما قال سيد حجاب و أتحفظ علي ما قال البراء و وائل , ولكن أنحاز أكثر لما عبرا عنه .

سيد حجاب تحدث بموضوعية و إحاطة عن مسيرة دولة " الثورة" لماذا كانت ثورة من جهة أداءها الاجتماعي و ليس من جهة أسلوب قيامها, و عبر عن موقف اليسار المصري الذي ساند توجهات الثورة الاجتماعية , و تجاوز عن موقفها من الحرية من أجل العدالة . و دفع يساريون كثر الثمن من حريتهم هم أنفسهم , و هتفوا لعبد الناصر في السجون من أجل صالح الشعب و الفقراء من العمال و الفلاحين .

البراء و وائل قالا ما لا أتفق معهما فيه عندما تحدثا "موضوعيا" عن الثورة و التاريخ و البدائل التي ربما كانت أفضل , من يعلم ! , و عن انجازات الثورة الوهمية كما يرونها أو كما وصلت إليهما .
و لكنهما في ثنايا حديثهما قصا حكايات حميمة عن التأثيرات المباشرة التي طالت عائلتيهما من قبل نظام ثورة يوليو . البراء قال ما سمعته منه قبلا , أنه لا يمكن أن ينسي أن عبد الناصر قتل جده , هكذا يقول تعبيرا عن التنكيل الذي لقاه جده في سجون نظام يوليو لانتمائه لجماعة الإخوان المسلمين .. بينما قص وائل – و يبدو انه لم يكن يريد ذلك – حكاية والده الذي عاني الأمرين من ضغط الأمن عليه لكي يكون عينا للأمن علي زملائه من ذوي الانتمائات السياسية .

كنت منحازا أكثر لبراء و وائل و هما لا يسامحان النظام الذي أفسد حياة مقربين منهم , علي خلاف تسامح سيد حجاب كمثقف و سياسي يفكر في " الشعب " لا في نفسه و أهله فحسب .

هل يبدو موقفهما أنانيا مقابل غيرية المناضلين الذين تجاوزوا عن حلم الحرية و الديمقراطية – التي يقال في التحليل اليساري الذائع أنها ترف البرجوازية و الطبقات العليا – و قدموا تضحية نبيلة من أجل حلم العدالة الذي رأوه يبدأ في التفتح امامهم , أم يبدو ذلك تصحيحا لموقف النخبة التي تخلت عن حلم حريتها , فتخلي العامة فيما بعد عن حلم العدالة و استكانوا , فلم يبق لا حرية و لا عدالة .

من الاختزال المخل أن يبدو الأمر و كأن القمع طال الجميع أو كأن انحياز النظام للعدالة الاجتماعية لم يغير حقا مسار حياة الملايين و لم ينصفهم .
لكن القمع طال من رفع رأسه و لم يكن أخا لنظام " ارفع رأسك يا أخي " , حتي الإخوة غير الأشقاء , الذين ظنوا أن عبد الناصر يشاطرهم بعض حلمهم الاشتراكي خاب ظنهم .
حل التنظيمات و الأحزاب و تقييد الحق في التجمع و التنظيم و التعبير, و دمج كل قوي المجتمع المدني و النقابات في كيانات موحدة تحت سلطة النظام جعل العدالة كسمكة في سنارة النظام , بينما لم يتعلم " الشعب " شيئا عن الصيد , بل بات يخشى الاقتراب من شاطيء السياسة أصلا .

ربما انحاز نظام يوليو لعامة الناس, لكنه انحاز لهم في عنايته و معيته . و بينما ادعي الثورية و التقدمية و التحرر, لم يحررهم أو يدعهم ليتحرروا لكي يتعلموا أن ينحازوا لأنفسهم .
القمع الذي طال جد البراء و أبي وائل ربما لم يصل للكثيرين من المعدمين الذين رفعت الدولة رؤوسهم للمرة الأولي , و لكن رذاذه علمهم درسا أنهم رعايا فرادى في معية النظام و الزعيم و السادة و دولتهم , و عندما أشاحت تلك الدولة بوجهها عنهم و تحولت عن مشروعها الاجتماعي الثوري لم تكن لديهم الجرأة و لا القدرة علي الدفاع عن أنفسهم و لا عما اكتسبوه . هبات يائسة ثم احتقان طويل عاجز ..و الآن يبدأ المصريون و هم يدافعون عن الأمتار الأخيرة يحاولون تعلم رفع الصوت و الرأس و يتخبطون في محاولات بدائية للتنظيم المستقل لقواهم , من نخبة " كفاية " إلي العمال المتذمرين .

لا يمكن في رأيي البحث عن بدائل للماضي , و لا النظر في التجارب في سياق آخر غير سياقها , لكن ما هو ضروري من محاكمة الواقع و البحث عن بدائل المستقبل و النظر في تجربتنا الحالية, هو ما يقتضي النظر في التجارب التي شكلت واقعنا و حددت مبتدأ نظر كل تجربة جديدة .

درس تجربة يوليو و ما بعدها إلي الآن كما يبدو لي : الكرامة المشروطة بالولاء مهانة. و الحريات و حقوق الإنسان ليسوا ترفا برجوازيا , انتهاك الإنسان ليس ثمنا عارضا لأي شيء ذي قيمة . الحرية هي السياج الحقيقي للعدالة و هي طريق إليها . و هي الهواء الذي يتنفسه المجتمع الحي. حرية و كرامة الإنسان, لمحض كونه إنسانا , طريق للتحرر الجماعي , و العكس صحيح : " من قتل نفسا ..فكأنما قتل الناس جميعا, و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ".

06 August 2007

شُغْل محمود عزت


المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى دار " ميريت " لم يكن الأمر سهلا, لم أكن أعرف أن الدار شقة في إحدى عمارات شارع قصر النيل . قطعت الشارع من أوله لآخره مرتين و لما تعبت سألت .. و لما سألت تعبت ! و لم أصل إلا بعد أن استعنت برقم العمارة في المرة التالية ..
طريق أخي محمود إلى " ميريت " كان متعرجا و طريفا ... شرقاوي , الذي كان يعمل هناك قبل أن يفتتح " ملامح " تجربته الجديدة , نصح محمود أن ينشر ديوانا من الأشعار التي يكتبها في مدونته . و عن طريق شرقاوي وصل ديوان " أحلي فيلم شفته في حياتي " لـ " ميريت " . قرأه الشاعر الراحل أسامة الدناصوري و أبدي اعجابه بشعر محمود بشكل عام, و إن لم يتحمس كثيرا لشعر التفعيلة المشغول بالموسيقي في رأيه .
لم يتحدد بشكل حاسم موقف نشر ديوان محمود, و لم يتلق محمود ردا صريحا, و لم يجد في نفسه القدرة علي الإلحاح في السؤال ليعرف الجواب الواضح ...
لذا فإنه فور أن أنهي ديوانه الثاني " شغل كايرو " من الشعر العامي المنثور, أنشأ دار نشر خصيصا لنشر ديوانه. و أعلن أنه يستقبل أعمال الأدباء الشباب لينشرها, و كفي الله المبدعين قلق الانتظار , و كانت دار " سوسن " .
نشر محمود ديوانه و أعمال آخرين ممن استجابوا لدعوته , وبدأ محمود كناشر جاد يسوّق كتبه و يرسل الأعمال الجديدة أولا بأول إلي قائمة مراسلات تضم بعض الأدباء و الشعراء و المهتمين .
ما حدث أن محمود تلقي اتصالا من " ميريت " و طلبا عاجلا للقائه للاتفاق علي نشر ديوانه , و ظن محمود أن فترة الانتظار التي طالت انتهت . و لكنه اكتشف هناك أن ابراهيم داود و خيري شلبي قرأوا - عبر قائمة المراسلات - ديوانه الآخر المنشور في " سوسن " و أبدوا لمحمد هاشم - مدير دار ميريت - اعجابهم بشعر هذا الشاب المجهول ..
لا أذكر هل تذكر هاشم أم ذكره شرقاوي بمحمود , و لكنه رد عليهم أن ديوان هذا الشاب عنده ينتظر النشر و أنه سينشر عاجلا ... و اتصل بالدناصوري في حضورهم و سأله مجددا عن ديوان محمود الذي كانت مهمته تقييمه , فاستمع الحضور في عجب لتحفظات الدناصوري علي شعر التفعيلة بينما الديوان في أيديهم نثر خالص !
ما كان أنه تم الاتفاق علي نشر " شغل كايرو" في " ميريت " , بينما احتل " أحلي فيلم شفته في حياتي " المركز الثالث في مسابقة الهيئة العامة لقصور الثقافة و ربما تنشره الهيئة .. بينما دار " سوسن " تتقدم بخطى ثابتة و بركة " سوسن " تحل علي مبدعيها, فيمن الله عليهم بالنشر الورقي سواء عبر " ملامح " شرقاوي أو " اكتب " أو دور أخري ..

أخيرا صدر " شغل كايرو " عن ميريت ...
قصائد الديوان في رأيي قطع من الحلوي الصغيرة التي تذوب في فمك سريعا , و تترك في فمك حلاوتها البسيطة لتلتهم في نهم باقي القطع واحدة تلو أخري .
محمود كتب عن امبابة و كوبري امبابة و عن وسط البلد و مولات وسط البلد و المظاهرات وعن القصر العيني و عن " سوسن " :
" على خدّك الشمال
نقطة لون عَفــَـوية
سابها الفنان , كادوه للكون
توقيع أنيق على اللوحة
معتقدش إني شفت قبل كده
فــ أي بورتريه
شامة أسعد"

وعن بيتنا و شارعنا و الشارع " اللي ورا ", و عني و عن أمي و أبي و الجيران وعن شارع جامعة الدول و الكيت الكات و الزمالك والكورنيش و كوبري قصر النيل :
" العيال اللي قاعدة على السور
و ضهرها للنيل
و الخلايجة اللي فـ الحناطير
و الحبّيبة اللي مش بينتهوا
حييجوا كالعادة زي كل يوم
بس مش حيلاقوا كوبري قصر النيل
مش حيعرفوا يعدّوا
لإني حشيله
وأهرب بيه
حسيب لهم الأسود يتصوروا جنبها زي ما هم عايزين
بس حاخد الكوبري
أقف عليه لوحدي "
القصائد حكايات قصيرة و بسيطة و عادية ربما تعرفها أو تسمعها لأول مرة ... " الشاعر الحقيقي " فقط يمكنه حكايتها بهذه البساطة و هذه الحلاوة .

 شغل كايرو

لو كنت سبتحث عن " ميريت " لأول مرة مثلما بحثت قبلك , فهي في العمارة (6 ب) المجاورة لسينما و مسرح قصر النيل , بشارع قصر النيل , الشقة إلي اليسار في الدور الأول ... اطرق الباب إن كان مغلقا و لا تندهش من حفاوة محمد هاشم و أريحيته , ادخل و اطلب " شغل كايرو " لمحمود عزت .


الصور :
محمود
أسامة الدناصوري
محمد هاشم
غلاف " شغل كايرو "

07 July 2007

الكاتب و نفسه و الآخرون


(1)

" وظيفة الكاتب أن يتحدث عن كل شيء, العالم الموضوعي و العالم الذاتي المعارض لهذه الموضوعية, علي الكاتب أن يصور هذه الكلية و هو يكشف عنها تماما, و هو ما يضطره للتحدث عن نفسه, و الواقع أنه يفعل ذلك دائما ...."

(2)

" ..أحاول أن أكون شفافا قدر الإمكان, لأني أشعر أن تلك المنطقة المظلمة بداخلنا, مظلمة لنا و للآخرين, و يمكن أن ننيرها لأنفسنا, فقط عندما عند محاولة إنارتها للآخرين "

(3)

" نحن نعرف أنفسنا قليلا جدا, و ما زلنا لا ننفتح على بعضنا البعض بشكل كامل ... بينما حقيقة الكتابة أن تقول : أنا أمسك بالقلم, اسمي سارتر, هذا ما أفكر به ..."

(4)

" أعتقد أنه بعد موتي... في زمن قادم, سيتحدث الناس عن أنفسهم أكثر و أكثر, و سيحدث ذلك تغييرا كبيرا, و أعتقد أن هذا التغيير سيرتبط بثورة حقيقية "

سارتر
من حوار أجراه معه ميشيل كونتا
نشر بعنوان " صورة شخصية في السبعين "
ترجمة : أحمد عمر شاهين
دار شرقيات

26 June 2007

! عاجل : أربعة منهم لا يؤدون ركعات السنة

كيف كان لمحامي الدفاع أن يرد علي قاضي الدولة عندما يخبره الأخير أن العلة في إلحاق الطفل بدين أبيه المسلم بينما هو في حضانة أمه المسيحية " أن الإسلام أصل الفطرة و خير الديانات ", و المحكمة يجب أن تلحق الطفل بأفضل الدينين ... كيف للمحامي المسيحي أن يدخل في جدل ديني و يناقش تلك الأمور الخاصة و الحساسة بالنسبة لقاض مؤمن غض بصره عن المباديء الدستورية و القوانين المنضبطة طمعا في سماع تتر نهاية مسلسل " القضاء في الإسلام " في ختام الجلسة . ربما كان علي المحامي و هو يحاول الاستغاثة بمباديء المواطنة و مساواة المواطنين أمام القانون و مدنية الدولة, أن يجاري رصانة الحيثيات القضائية المعاصرة, فيصوغ خطابه في نباهة قائلا : " سيدي الرئيس .. حضرات المستشارين ... موسى نبي.. و عيسى نبي.. و محمد نبي ...و كل من له نبي يصلي عليه .. مش كده و لا إيه ؟ "

لست واثقا من نتيجة ذلك, و لكن علي الاقل لنحاول الدخول في المسخرة و السير علي هوى العدالة التي استبدلت العمى بعاهات أخري لتدهشنا بالجديد وغير المتوقع , و إلا فكيف سنحاول أن نفكر في موقف ذلك المحامي الآخر - المسلم هذه المرة - الذي جفل و أخذ يبحث في ما تعلمه في كلية الحقوق , وحتي في معلوماته عن فرائض الدين, عندما وجد نيابة أمن الدولة تسأل موكليه المتهمين بكونهم " قرآنيين" – و العياذ بالله – عما إذا كانوا يصلون السنة .. أي و الله, "ما إذا كانوا يصلون السنة ". ثم أسقط في يده تماما, و أغضى بصره داعيا لهم بالهداية و الرحمة عندما أثبتت النيابة في التحقيقات أن أربعة منهم لا يؤدون ركعات السنة !

23 June 2007

عين البانيو


المرة الأولى التي أغلقت فيها عين البانيو
و ملأته بالماء و البخار و الصابون السائل
و غطست فيه, اكتشفت أن العري علم
إنساني بغير فقه و بغير شريعة, و أسدلت
جفني و جازفت باتجاه الواضح الواضح

عبد المنعم رمضان
من ديوان" غريب علي العائلة "

اللوحة لهنري ماتيس

16 June 2007

أما زلنا رجال الباشا ؟

خالد فهمي في ندوة بالحزب الديمقراطي الاجتماعي

"محمد علي باشا هو مؤسس مصر الحديثة, و هو الذي انتشلها من حالة ترد بالغة ووضعها علي أول طريق نهضة شاملة, كما سعي لأن يحقق لها كيانها الوطني المستقل عن الدولة العثمانية, و أذكي الروح الوطنية للمصريين الذين انخرطوا في الجيش الذي شكله منهم .. "

المقولات السابقة التي تمثل التأريخ الأكثر شيوعا لمحمد علي و مصر في عهده, هي تحديدا التي ينقدها و ينقضها د.خالد فهمي, أستاذ التاريخ بجامعة نيويورك, في كتابه " كل رجال الباشا " .

تحدث خالد فهمي عن كتابه و رؤيته النقدية في ندوة " الحزب الديمقراطي الاجتماعي " السبت الماضي . و ناقش هذه المقولات بالعودة إلي وثائق و مكاتبات هذه الفترة, محاولا تجنب السقوط في شرك إعادة رواية تاريخ السلطة كما ترويه هي عن نفسها . فيكشف سعي محمد علي الدؤوب لإضفاء غموض و أسطورية علي شخصيته, بجانب ما يمكن أن نسميه بالفعل سعيه لكتابة تاريخ شخصي له و لمصر في عهده باعتبارها انتقلت معه من حالة أقرب للصفر إلي نهضة شاملة . يشكك خالد بالتبيعة في التاريخ الذي كتب علي عين محمد علي و أولاده و بمعرفة مؤرخين مقربين منهم , و يشير لاجتهادات مؤرخين معاصرين نقديين يكشفون عن أشكال من الحيوية في مصر العثمانية ما قبل محمد علي . كما يشير هو لما يظهر جليا في خطاب محمد علي نفسه من كون هدفه لم يكن بشكل أساسي الاستقلال عن الدولة العثمانية أو بناء دولة مصرية وطنية, و لكن كون ذلك قد تحقق نسبيا فهو قد كان في إطار سعي محمد علي لاقتطاع مصر كولاية خالصة له و لأولاده من بعده, و هو ما يحقق مجدا شخصيا و أسريا لمحمد علي و أبنائه , و هو مشروعه الأساسي الذي نجح في تحقيقه .

علي جانب آخر يتساءل خالد فهمي عن ثمن هذا الهدف المركب الذي امتزج فيه مشروع مجد الحاكم و أسرته ,بأهداف مثل الاستقلال و بناء دولة وطنية حديثة . و يحاول في كتابه رصد تاريخ الفلاحين المصريين في مؤسسة جيش محمد علي , المؤسسة الأهم لمشروع التحديث و بناء الدولة , و يتابع تفاصيل يومياتهم من خلال وثائق السلطة نفسها و ما تفلت منها من صوت هؤلاء الأنفار المستخدمين كوقود للمشروع .

يرصد يوميات القهر و العسف و الاستعلاء الإثني من جهة السلطة التي قامت علي نخبة تركية , ومن جهة المحكومين يرصد المعاناة و غياب التفهم و من ثم الإحساس بالمشاركة في مشروع قاهرهم الوطني – وصل معدل التهرب من التجنيد لثلث عدد المستهدفين , كما كانت فرق كاملة في الجيش من المشوهين و المعوقين, ممن فعلوا ذلك بأنفسهم عمدا للتهرب من التجنيد الذي كان مفتوح المدة – .. أي روح وطنية إذن ؟
بل إن الكتاب يرصد التضييق الشديد علي الطبقة الوسطى المصرية , و التنكيل بالأعيان و الوجهاء و أرباب البيوت العريقة و العلماء ممن لم ينخرطوا طوعا في خدمة شخص الباشا . الأمر إذن يشير لانحطاط في الروح الوطنية رصده فيما بعد المؤرخون الذين ربطوا بين غياب النخب المصرية الفاعلة و بين غياب أي مقاومة مدنية شعبية تذكر للاحتلال الانجليزي , بينما قبل محمد علي و مشروعه" الوطني" , واجهت الحملة الفرنسية مقاومة مستميته .

يصل الأمر فعلا لنقيضه عندما يشير الكتاب إلي أن ما يمكن أن يكون قد أسس فعلا لشعور وطني مصري هو التوحد تحت قهر الباشا و مشروعه الشخصي و بطانته التركية المتعالية, و هو ما سيكون واضحا فيما بعد في حركة عرابي التي قامت لتحتج علي معاملة المصريين كعبيد و تحديدا حرمانهم من الترقي في الجيش و قصر المراتب العليا علي ذوي الأصول التركية .

الكتاب كما عرضه مؤلفه, و كما يبدو لي بينما لم أنته بعد من قراءته , يثير أسئلة حول مفاهيم مثل " الوطنية " و " الاستقلال" و " التحديث " و ماذا تعني بالنسبة للمقهورين الذين يكتب لهم القادة و السادة دورهم كوقود من أجل تلك المفاهيم العالية المتعالية . و ماذا تعني بالنسبة لمؤرخ يحاول ألا يعيد كتابة صدي صليل السيوف و دوي المدافع و يحاول ألا يكون عمله رسم بورتريهات القادة و الملوك نافذي البصر و البصيرة , أو كتابة ما يملى عليه من قبل " صناع التاريخ " بخط حسن .


05 June 2007

الأهم فالمهم

أفادت مصادر مطلعة أن "مجمع البحوث الإسلامية", نيابة عن الأمة جمعاء, يعتبر نفسه في حالة انعقاد دائم لمواجهة التحديات و المستجدات ...بعد طهارة بول النبي ستتم مناقشة حكم قتل الديناصورات, ثم أحكام تناول لحم عروس البحر و مرقة العنقاء و عجة بيض التنين.

01 June 2007

خارج الخدمة

بعد إجازة مرضية ليوم واحد , و بعد " سلامتك " قال مديري, و عيناه ملؤهما صدق : " مش ناوي بقي تجيب محمول, أنا مش عارف أوصل لك ... و أطمئن عليك "
متجاهلا بالطبع المقطع الأخير, كدت أقول : " لكم يسعدني هذا يا سيدي, صدقني ! "
و لكني سألته بصدق مماثل : " هو مش مع حضرتك تليفون البيت ؟! "
أخذ نفسا من سيجارته و زفره في بطء , رغم أن التدخين ممنوع هنا ...
و لكن لنقل أن الطمع, كما الصدق, ليس في صالح كلينا .


29 May 2007

طرق للتكيف


... و لأنه لابد لي أن أعود إلي البيت, فكان التشبث بوضعي الطبقي الدقيق حلا .. بدلا من "امبابة " أهتف " أرض الجمعية " . بل لا أهتف مطلقا و أحاول ألا أنحني و لا أتحرك من مكاني, و إذا لم يهديء السائق من سرعته بشكل مرضِ أتجاهله – ذلك يجعلهم يرجعون أحيانا – و إذا توقف بعيدا لا أذهب إليه .
بالإضافة للمظهر العام و الحقيبة و ملامح الخارجين لتوهم من عمل ذهني مرهق , فذلك يرسم لديهم مع " أرض الجمعية " صورة البرجوازي ساكن ذلك المربع الصغير المهذب المنزوي بين غابتين من العشوائيات - بين امبابة القديمة " المنيرة " و بين الوراق – و له طريقه الخاص من النيل , بعيدا عن الغابات , ليصل إلي شوارعه المتوازية المتعامدة المعبدة معقولة الأبعاد, التي نجت بفضل تخطيط " الجمعية " من عشوائية بناء الفقراء. لتصبح سكن الإمبابيين الجدد أبناء ثورة يوليو الذين لا يمكن أن تناقشهم بشأن " عبد الناصر " . الذي لولاه لم يكونوا ليقتنوا هذه الشقق الآدمية في هذه الشوارع المعقولة, و لا كان يمكنهم أن يكون لديهم تلك السيارات العادية التي لا يمكنها دخول بعض طرقات إمبابة فيضطرون لتركها علي حافتها, ليقضوا العطلات في الحارات, و يفرح الأجداد بأبنائهم الأطباء و المهندسين و المدرسين, و أحفادهم الذين في المدارس الخاصة .
في الغالب سيذكرني السائق الذي سأحظي بمعيته بكل ذلك, عندما يؤكد أنه لا يذهب مطلقا لامبابة إلا لأرض الجمعية . و إذا كان خبيرا سيذكرني أنهم تأخروا في إصلاح أسفلت بعض شوارعها ,و ربما تصبح مثل بقية امبابة و لن يدخلها بعد ذلك .
أسأله وقتها أين يسكن . واحد يسكت , و آخرون يقولون أنه في غياب سياراتهم يركبون الأتوبيس لأن السائقين زملائهم من حقهم " الاسترزاق " من زبائن مرتاحين في شوارع جيدة ترحم سياراتهم التي لم ينتهوا من أقساطها بعد .. و المعيشة صعبة.. مصاريف العيال و الدروس الخصوصية, والشائعة تملأ البلد بأن الجامعات كلها ستصبح مصاريفها مثل الجامعة الأمريكية, و ساعتها لن يترك لأبنائه إلا رخصة التاكسي ليصبحوا سائقي تاكسي أولاد سائق تاكسي " و ماله مش عيب, صحيح الواحد نفسه يشوف أولاده أحسن , لكن العيب علي اللي هايدخلوا ولادهم الجامعات دي من حرام , و حد الله ما بيني و بين الحرام .. بس لو مش هاندخّلهم مدارس و لا جامعة ,مش عيب علشان نأكلهم ندوّر علي القرش مع الزبائن القادرة" .
واحد مرة قال مثل ذلك تقريبا ثم أضاف : " أما بالنسبة لمعنى سؤالك يا بيه .. فأنا فاهم قصدك . أنا ساكن في دار السلام ...طبعا عارفها .. علشان كده وعزة الله , لو لقيت أمي واقفة في عز الظهر ما هاروّحها .. هاها ... ده أنا بيصعب عليّ آخر النهار إني باروّح نفسي و أدخل بالعربية المناطق دي ! .. نازل فين بالضبط في أرض الجمعية سعادتك ؟ ".