24 February 2013

عصير الصندوقراطية

أتوجه بخالص التهاني لفريق «أبناء كوزموس» بمناسبة فوزهم ببطولة كرة القدم التي أقيمت الخميس الماضي أمام مقر جماعة الإخوان المسلمين في المقطم، بعد تغلبهم في النهائي بثلاثة أهداف مقابل هدفين على فريق «حسن الباندا»، رحمه الله.
ما فات ليس مزاحا، البطولة أقيمت بالفعل وكانت واحدة من المظاهر التي تتناثر الآن في شوارع مصر كأشكال من «الاحتقار المدني» لسلطة الإخوان المسلمين، التي وصل بؤسها إلى حد أن يجري بين المصريين حوار مجتمعي مفتوح وواسع حول انقلاب عسكري مقترح للخروج من الأزمة.
 
الحوار المجتمعي الواسع يبدو «ديمقراطيا» جدا في نقاشه حول «جدوى الديمقراطية» و«اختيار» الانقلاب العسكري إلى درجة تجعل من الممكن تخيّل أن يكون الانقلاب أحد خيارات التصويت في أقرب انتخابات. لم لا؟ ألا تعني الديمقراطية مجرد الاحتكام إلى الصناديق؟ لماذا لا يمكن للناس الاحتكام إلى الصندوق لاختيار حكم عسكري؟ لماذا لا يمكن للناس الاحتكام إلى الصناديق للنقاش حول جدوى الديمقراطية؟
 
ولأن قيم الديمقراطية هي قيم غربية وافدة علينا ينتقي السلطويون الإسلاميون منها ما يوافق «هويتنا» ويوافق فكرهم السلطوي الإسلامي، لماذا لا ينتقي منها محبو الحكم العسكري أيضا جانبا يروق لهم طلبا لهوية أخرى عريقة في السلطوية واستبداد العسكر. 
 
برغم احتقاري دعوات استدعاء الجيش إلا أن السلطويين الإسلاميين ليسوا أكثر ديمقراطية من أصحاب هذه الدعوات، ولكنهم فقط أكثر «صندوقراطية» منهم. السلطويون الإسلاميون هم التهديد بانتهاك أصل الفكرة الديمقراطية عبر الصناديق التي تدفع طرفا آخر مذعورا للكفر بإجراءات الديمقراطية.
 
ممارسة الديمقراطية إما تستند لرغبة في السعي ناحية التحرر والمساواة والعدل تتمثل في ضمانات لذلك واتفاق مبدئي على ذلك، لتكون آليات الديمقراطية أدوات للسعي في اتجاه هذه القيم وتشارك الناس في كيفية تحقيقها، وإلا فهي «صندوقراطية» عبثية. مجرد مسابقة لـ«حكم الأكثر»ـ الحاصل على العدد الأكبر من الأصوات يقوم بعدها بالتمتع بالسلطة وتصبح رغباته السلطوية مشروعة.
 
هذه العقيدة تجعل السلطويين الإسلاميين لا يرون في مظاهر مقاومة مشروعهم وإدارتهم الفاشلة إلا مؤامرات «قوى منافسة» يعايرونها بضعف قدراتها الانتخابية. وبخلاف ذلك، بفرض وجوده، لا يرون «ناس» تريد أن تعيش حرة وكريمة ولو لم تكن منظمة ولا متحزبة ولا لديها خطط لحكم البلد والعالم.
 
النظرة الصندوقراطية لا ترى «المعترض» المتخوف على حقوقه ومستقبله وتطالبه بأن يكون بالضرورة «معارضا» عليه أن يذهب ليتنظّم ويشكل فريقًا لينزل إلى دوري الصندوقراطية.
تطلب الصندوقراطية من الإنسان أن يجعل حياته مشروعا للتسلط والصراع على التحدث باسم إرادة الشعب، بدلا من أن تكون الديمقراطية مقاومة لأشكال السلطة فوق الناس ليتحرر الناس من كل سلطوية ويعيشوا حياتهم في حرية وكرامة.
 اتجاه الديمقراطية التحررية هو محاولة لتفكيك كل جانب سلطوي في السياسة والإدارة لكي تتحرر حياة الناس منها، بينما اتجاه الصندوقراطية يرهن الحياة للسياسة والصراع على السلطة والإدارة.
 
الفكرة الديمقراطية لا تزال إجراءات تحققها في أول الطريق، وجمهورها مهزوز بين الثقة فيها وبين التخلي عنها والحلم بمستبدين «عادلين»  على غرار عبد الناصر أو الرضا بأشكال أقل كاريزما وأكثر بؤسا على غرار المجلس العسكري يواجهون به الصندوقراطيين الإسلاميين.
 
 لكن أساس الفكرة الديمقراطية، بعيدا عن الإجراءات، يتفجر غضبا في الشوارع. المعارضون والمعترضون لا يجدون مفرا من أن يتركوا حياتهم إلى ساحة السياسة بدلا من أن يتركوا أمورهم لفائز غشيم لا يحسن إلا الفوز في مسابقة الصندوق، ويريدهم أن يكونوا كومبارس في مشروع طائفي سلطوي فاشل.
الصندوقراطية بالطبع لا يمكن أن تكون أساسا لاجتماعهم المطمئن، وعندما تأخذ أصواتهم في صندوق وتطلب منهم الانصراف مطمئنين، فإنهم لا ينصرفون ويحتشدون في الشوارع غاضبين ومتشككين. وعندما تفشل الصندوقراطية في إرساء أسس الاجتماع المشترك تظهر أفكار الانفصال والاستقلال، وهي على عبثيتها في اللحظة الحالية ذات دلالة كبيرة: لماذا نظل نصارع رغباتكم السلطوية التي لا نرتضيها في مسابقة صندوق واحد. لكم صندوقكم ولنا صندوقنا؟
 
في محل لعصير القصب، كان الشاب الإخواني مهذب اللحية يواجه بابتسامة دعوية سيل الانتقادات اللاذعة الموجهة من عم حسن صاحب المحل وزبائنه إلى مرسي والإخوان والحكومة.
 اعترف لهم الشاب في شجاعة بإخوانيته وقفز فوق كل الانتقادات ليطلب منهم أن ينتقوا قنوات فضائية موثوقًا فيها لكي يعرفوا حقيقة ما يحدث. سأله أحدهم: «نسمع مثلا قناة مصر خمسة وخميسة، مع الأستاذ خميس، اللي باسم يوسف بيروّقه كل جمعة؟». ضاقت ابتسامة الشاب قليلا ولم يجد مفرا من القفز فوق كل الكلام والنقاش ليعود إلى أصل العقيدة السياسية، ويقول في حفلطة: «طيب الأفضل من الكلام هو أنكم تنظموا نفسكم وتجهزوا لأقرب انتخابات والناس تقول رأيها في الصندوق وتديروا إنتم البلد بما يصلح».
بتزامن غريب شكا بعض الزبائن من آلام حادة في الخصيتين، أما عم حسن فلم يتوقف عن وضع أعواد القصب في ماكينة العصر، وقال دون أن ينظر إلى الشاب الإخواني: «حاضر يا باشمهندس. ثانية واحدة. هاروح أتنظّم وأجيلك».
 
غفر الله لحسن البنا، وحظ أفضل لفريق "حسن الباندا" في البطولات القادمة.

نشر في المصري اليوم بتاريخ 24 فبراير 2013

20 February 2013

الموت بعيداً من الفتنة

هل هرب محمد محرز من "فتنة" الصراع السياسي في مصر واتجه لساحة معركة أكثر وضوحاً  ليموت برصاص جيش الأسد في سوريا؟
المحاولات التقليدية للتعليق على خبر "استشهاد شاب مصري ذهب للجهاد في سوريا" واجهت أمواجاً متلاطمة من التعقيد. هل كان ذهابه انحيازاً إلى ثورة من أجل الحرية ضدّ نظام قمعي أم هو مجاهد إسلامي مناصر لدولة إسلامية أم مقاتل طائفي يريد النكاية بنظام ينتمي لطائفة أخرى؟ 
سبب التعقيد كان البعد الشخصي لمحمد محرز، المدوّن الذي كانت شبكة علاقاته وصداقاته تجمع أشخاصاً من طرفي الاستقطاب المحتدم الآن في مصر. وكانت شخصيته وحواراته معهم والتي تناقلوها بعد خبر استشهاده على شبكات  التواصل تجعل من دوافعه للذهاب إلى سوريا أعقد من أن تتم قولبتها هي الأخرى. 
لا تبدو هناك إجابة بسيطة تمزج بين ما يعرفه أصدقاؤه عنه من رغبة في الانحياز لثورة من أجل الحرية ضدّ الطغيان، وبين ما كتبه في وصيته من أنه ذهب للقيام بفريضة الجهاد ونصرة لأهل سوريا الذين تعرّف على بعضهم في مصر لاجئين، وما قاله في حوار مع صديق له على فيس بوك: “هانروح نجِيب بشّار في شِوال ونيجي"، وسط حوارات يستخدم فيها محرز لغة متحرّرة لا تبتعد عما يعتبره المصريون المحافظون "ألفاظاً بذيئة”. 
 الأمر لا يتعلق باستثنائية محرز، وهو الأمر الذي يبدو برّاقاً الآن بعد ترسيمه "شهيداً". ولكنها مساحة الاستثنائية المتوقعة لكل فرد لكونه فرداً، ومساحة الاستثنائية المتوقّعة لكثيرين من المشاركين في الثورة المصرية والمتفاعلين معها باجتهاد ومبادرة وبحث دائب ولحظي عن الانحياز والموقف، بكل ما يعنيه ذلك من معاناة وقلق بعيداً عن يقين وثقة  كتل أخرى من الجموع  يتم حشدها وصرفها بأوامر تنظيمية.
عرفت محرز بشكل شخصي مدوّناً وناشطاً في احتجاجات الشارع منذ حراك 2005 وطرفاً في نقاشات كثيرة على هامش الحياة والاحتجاج ثم في الثورة ومعاركها. لم يكن استثنائياً في كونه فرداً قلقاً باحثاً ومتفاعلاً. لم يقتنع بالانتماء الإخواني مثل أفراد عديدين في عائلته، وكان أقربهم أخوه وهو أحد المتحدثين  باسم جماعة الإخوان حالياً.
عرفته لفترة قريباً من حزب الوسط - ذي المرجعية الإسلامية - متأثراً بأفكار عبد الوهاب المسيري بشكل خاص. ولفترة بعد انطلاق الثورة كان مؤيداً لمحمد البرادعي، ولاحقاً اعتبر ذلك سذاجة ثورية.
 في الفترة الأخيرة كان أقرب إلى مجموعات الشباب التي تحاول البحث عن موقف مختلف على أرضية من اجتهادات إسلامية نقدية أحد روافدها نقد المسيري للحداثة والدولة الحديثة والقيم الغربية وتستلهم تجارب "العودة لإسلام حضاري" على طريقة علي عزت بيغوفيتش.
 كان موقفه مؤخراً، مثل كثيرين من هذا الطيف، مزدرياً لطرفي الاستقطاب السياسي العنيف بين تحالف الإسلاميين  وجبهة معارضيهم. موقف  يتخذ مسافة من تيارات السلطوية الإسلامية ولكنه يتفهم الانطلاق من "هوية إسلامية". بعض أبناء هذا الموقف ابتعدوا خطوات وقالوا إن ما يحدث في مصر "فتنة" يحسن تجنّب الانخراط فيها، على خلاف الآخرين الأكثر تأثراً بسيد قطب الذين اجتذبهم غبار المعركة واستنفرهم إلى جوار  تحالف السلطوية الإسلامية مهما كانت الاختلافات.
كانت آخر حواراتي معه تحمل تفهماً منه لانتقادي لـ "سلطوية" المشروع الإسلامي، وكان تساؤله: ولكن هل هناك في العالم المعاصر ودولته الحديثة ذات السيادة القانونية مساحة حرية لجماعة من المؤمنين داخل مجتمع ما، يتبعون في ما بينهم نظاماً قانونياً من شريعتهم الدينية بدون إكراه آخرين من نفس المجتمع لا يرتضون ذلك؟
جرى بيننا مع آخرين نقاش طويل حول اللامركزية واللاسلطوية وتعدّد النظم القانونية في إطار الدولة الواحدة، وحول فكرة الدولة الحديثة نفسها. كان النقاش أكثر تساؤلاً من كونه إنتاجاً لموقف نهائي. وهو كان حائراً بين منطلق الهوية ومنطلق الحرية. 
من دون محاولة البحث عن إجابة تخصّ شخص محرز، أتساءل إن كانت زاوية النظر، التي انتهى قريباً منها، تجد في معركة سوريا لقاء يجمع بين منطلق الهوية ومنطلق الحرية. 
لا يزال الجهاد من منطلق الهوية هناك في خانة واحدة مع مقاومة السلطة الغاشمة والتحرر من سلطويتها.
ولكن لاحقاً ربما تحتلّ الهوية مكانها في السلطة وتبدأ المشكلة نفسها في الظهور مرة أخرى لتصبح "فتنة أخرى" تضع الرؤية الإسلامية النقدية الوسطية الحضارية أمام مأزقها المستمر وهروبها المتكرر.


16 February 2013

مشهد “انتخاب المفتي” ومعركة الكراسي الدينية


دار الافتاء المصرية وفي الاطار المفتي المنتخب د. شوقي إبراهيم عبد الكريم
بعض الاهتمام والترقب الذي حظي به مشهد اختيار مفتي الديار المصرية، لم تحظ به لحظة تشكيل هيئة كبار العلماء التي اختارته ولم تحظ به التعديلات الأخيرة لقانون تنظيم الأزهر، الذي وضع قواعد وطريقة تشكيل الهيئة وطريقة اختيارها للمفتي.
ربما لأن اختيار شخص المفتي يتم لأول مرة عن طريق تصويت أعضاء هيئة كبار العلماء، بدلا من التعيين من قبل رئيس الجمهورية. وربما لأن ذلك يحدث في ظل حكم الرئيس محمد مرسي عضو جماعة الإخوان المسلمين في ظل تربص تجاه سيطرة الجماعة وحلفائها من السلفيين على المناصب الدينية الرسمية.
وهو ما يفسر أيضا ضعف الاهتمام والجدل حول تعديلات قانون تنظيم الأزهر أو تشكل هيئة كبار العلماء، لأنهما رغم أهميتها البالغة، إلا أنهما عكسا توازنا في وجه التيار الإسلامي، وكرسا بقاء بعض الأوضاع على ما هي عليه في المجال الديني، فخلّف ذلك ارتياحا لدى كثيرين.
فتعديلات قانون تنظيم الأزهر صدرت في يناير (كانون الثاني) 2011 أثناء تولي المجلس العسكري السلطة التنفيذية، وتم إصدار التعديلات في عجالة ـ بالتنسيق مع شيخ الأزهر ورئيس الوزراء وقتها كمال الجنزوري ـ قبل الانعقاد الأول للبرلمان في 25 يناير، في محاولة مكشوفة لانتزاع هذه التعديلات من براثن الأغلبية البرلمانية الإسلامية. احتجاج الإخوان على ذلك لم يتطور عمليا. بينما قدم نائب عن حزب النور مشروعا بديلا لتعديلات قانون الأزهر يرفض فيه كون الأزهر “المرجع النهائي في شؤون الإسلام”، ولكن اعتراض ممثلي الأزهر في البرلمان حال دون مناقشته
نص قانون الأزهر على أن يختار شيخ الأزهر الحالي أعضاء أول هيئة لكبار العلماء ويعرضهم على رئيس الجمهورية ليعتمد ذلك ويقره.
ولكن في النهاية رضخ الرئيس، وأقر رسميا أول تشكيل لهيئة كبار العلماء تم بمعرفة شيخ الأزهر، وسط غضب أزهريين ثوار وراغبين في التغيير.
شكل شيخ الأزهر لجنة من “النخبة الأزهرية” المقربة له لتختار 24 عضوا من هيئة كبار العلماء، فاختارت اللجنة نفسها وشيخ الأزهر بالطبع، وأضافت لهم وجوها أخرى من النخبة الأزهرية التي تميزت طوال العهود السابقة بـ”التواؤم” و”الاعتدال”، ومرت عبر “الموافقة الأمنية والسياسية”، لتتبوأ رئاسة جامعة الأزهر أو كلياتها ووزارات الأوقاف ومناصبها الكبرى، بالإضافة إلى أوجه من “الآخرين” أبرزهم: وجه قريب نسبيا من السلفيين وهو رئيس “الجمعية الشرعية”، أكبر الجمعيات الخيرية الدعوية الإسلامية، والشيخ يوسف القرضاوي، المعروف بانتمائه التاريخي إلى الإخوان.
هذا التشكيل لهيئة كبار العلماء مثّل حصنا نسبيا لشخص شيخ الأزهر ومن حوله في مواجهة أي محاولة (إخوانية – سلفية) لغزو قيادة الأزهر أو استبدالهم على طريقة قادة الجيش. فهيئة كبار العلماء مسؤولة عن انتخاب شيخ الأزهر مستقبلا. كما أنها مسؤولة عن انتخاب مفتي الديار المصرية. وكان ذلك انتصارا للنخبة الأزهرية القديمة التي تحاول الحفاظ على وضعها في مواجهة أي تغيير، وفي نفس الوقت اقترابا من مطالب بعض جموع الأزهريين الذين انتفضوا بعد الثورة، مطالبين بتوحيد كل المؤسسات الدينية الإسلامية تحت راية الأزهر.
على العكس من ذلك كانت عملية اختيار وزير الأوقاف، المشرف الرسمي والحصري على كل المساجد بما فيها الجامع الأزهر ومنبره. فالوزير جزء من الحكومة التي يشكلها الإخوان بالتفاهم مع حلفائهم، ولكن بشرط عدم الاستفزاز العنيف لنخبة مؤسسة الأزهر.
في البداية تم ترشيح أحد المشايخ الأزهريين السلفيين: محمد يسري إبراهيم، مما أثار النخبة الأزهرية القديمة والتقليدية وكثير من الأزهريين “الثوار” الراغبين في التغيير، لكن بشرط ألا يخل بهوية المؤسسة التقليدية العريقة، الممثلة في المذهب الأشعري عقيدة، والتصوف السني سلوكا، والمذاهب الأربعة فقها. ويتبادل أنصار هذه الهوية الاتهام بالخروج على المنهج الإسلامي الصحيح مع السلفيين الدارسين أو المدرسين في الأزهر.
ولأنه كان ترشيحا بالغ الاستفزاز، تم ترشيح شخصية آخرى كحل وسط وهو طلعت عفيفي، وهو من قادة “الجمعية الشرعية” التي تمثل موقفا وسطا بين المنهج الأزهري والسلفي، ومر الاختيار وتم تعيينه.
ولكن كان المعيّن كوزير للأوقاف والمرشح السابق له عضوان في “الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح” وهي الهيئة التي تمثل ائتلافا دعويا شرعيا لعلماء الإخوان والسلفيين وجمعيات دينية أخرى ناشطة ومجموعة من علماء الأزهر الأقرب للإسلام السياسي. كما تضم في عضويتها خيرت الشاطر الذي يظهر إعلاميا بصفته عضوا فيها في اللحظات التي تتطلب “اصطفافا إسلاميا”، ويفضلها صفة له بدلا من صفته كنائب لمرشد جماعة الإخوان.
كان انحصار ترشيحات وزارة الأوقاف في أعضاء “الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح” إشارة دالة على أن “الهيئة” لعبت دور الظهير الدعوي والشرعي للتيارات الإسلامية، وكان لها دور كبير في “الدعاية الإسلامية” للتصويت بنعم على الإعلان الدستوري في مارس (آذار) 2011 ثم في التصويت لأنصار الشريعة في انتخابات البرلمان، ثم للمرشح الإسلامي في إعادة انتخابات الرئاسة وأخيرا “نعم للشريعة” مرة أخرى في الاستفتاء على الدستور الجديد.
انعكس كل ذلك الصراع على لحظة ترقب اختيار المفتي، رغم نفوذ الإخوان المنعدم تقريبا داخل هيئة كبار العلماء التي اختارها الطيب، لكن البعض توقع توازنات وصفقات. وانحصر الجدال المستقطب حول مرشحين: الأول: عبد الرحمن البر – الأستاذ الأزهري والعضو السابق في مكتب إرشاد الإخوان المسلمين- والثاني سعد الدين الهلالي صاحب بعض الآراء “الغريبة” التي ندد بها إسلاميون واستنكروا ترشيحه.
المرشحان اختصرا الجدال بين الاتجاه القديم قبل الثورة في اختيار المفتي (من الهامش “المتنور” بعيدا عن المحيط الأزهري التقليدي، لكي لا يمثل إزعاجا للنظام، وتكون مرونته في صالحه) وبين اتجاه يتوقع “التمكين الإخواني”.
ووسط الجدال انتبه البعض تدريجيا لأحد المرشحين من أعضاء “الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح”، ثم انتبهوا لكون أحد المرشحين من مجلس شورى الإخوان، ولكنه اسم غير بارز في المجال العام. وكان ذلك إشارة إلى التداخل وامتداد الجماعة داخل أوساط علماء الأزهر، وإن م يكونوا بارزين تنظيميا وسياسيا ودعويا.
ولكن الاختيار جاء بعيدا عن كل ذلك، وأتت الأصوات بالدكتور شوقي علام. وهو أكاديمي غير ناشط ولا بارز دعويا ولا سياسيا، وما زال البعض يتكهن باتجاهاته التي يقول بعض المقربين منه أنها علمية بحتة. وربما كان ذلك مقصودا، لكي لا يكون منصب المفتي مخلا بالتعادل الحاصل بين مشيخة الأزهر التي تحميها النخبة الأزهرية القديمة، ووزير الأوقاف المستند لسلطة التحالف الإسلامي. ولكن تصويت أعضاء هيئة كبار العلماء يعكس بالتأكيد ميولا واتجاهات واعتبارات مركبة ومعقدة. كما أن ميول المفتي المجهول واتجاهاته ستتضح لاحقا.
في النهاية، الانتباه للحظة اختيار المفتي الجديد كجزء من مشهد الصراع على “الكراسي الدينية”، عكس روح الاستقطاب السياسي التي يمكن تلخصيها في: “التمكين الإسلامي” في مقابل مقاومته التي تنتهي لمحاولات توازن بين حصص وأشخاص وجماعات تؤدي غالبا إلى نتائج لا علاقة لها بآفاق التغيير في بنية المؤسسات الدينية أو علاقتها بالدولة والمجتمع.
وربما تكون المفاجأة الكبرى المرتقبة، آجلا أو عاجلا، أن حمولة التاريخ والسلطوية في التفكير الديني التقليدي قد تجمع المتخاصمين. كما جمعتهم في حملات شعواء ضد “الشيعة المصريين” على سبيل المثال. فأفكار التيار السائد في الأزهر، من نخبته القديمة ونشطائه الصاعدين، وأفكار خصومهم من الإخوان والسلفيين، قد تتلاقى بشكل ما بعيدا عن صراع الأفراد والجماعات على الكراسي. خاصة أن الطلب القديم على “الوسطية” و”الاعتدال” من قبل السلطة القديمة انتهى، وأصبح هناك طلب آخر لــ”مشروع آخر” من قبل السلطة الجديدة، بينما تتأرجح المعارضة المواجهة للإسلاميين بين الاستناد التقليدي إلى “اعتدال” مفترض لـ”مؤسسة الأزهر”، وبين الانتباه لخطورة تزايد نفوذ المؤسسات الدينية على الديمقراطية.
وهو ما ظهر بالفعل عندما رفضت المعارضة بحسم “مرجعية الأزهر النهائية” في الدستور، لينتهي الأمر إلى تخفيفها إلى “يؤخذ رأي هيئة كبار العلماء في الشؤون الخاصة بالشريعة الإسلامية”، لتمثل توازنا هشا بين طرفي الاستقطاب السياسي لا يرضي كليهما، وأرض صالحة لنمو “صراع جديد”، أو “تواؤم جديد”، بين الأطياف الدينية المؤسسية والسياسية.


13 February 2013

إنه البنا حسن

ما زلت أذكر جيدا كيف كانت مهابة تصيبني عند مروري في شارع رمسيس أمام مقر جمعية الشبان المسلمين حيث تم اغتيال حسن البنا. كانت مهابة مصحوبة بقدر من الفخر والاعتزاز - رغم بعض الأسى الشفيف -  أن ذلك الاغتيال قد منح البنا لقب شهيد ورسخ كثيرا من كونه«إماما مجددا ومجاهدا»، كما كنت أراه وقتها.
كانت قراءة مذكراته قد ألهمتني وشغلت جانبا كبيرا من تفكيري رغم بساطتها، كانت أقرب لفيلم وثائقي جميل عن بطل أسطوري، يحاول بهمة استعادة «الوحدة الإسلامية» المفقودة. ويبني ذلك بدأب من خلال تنظيم يقوم على فكرة الأخوة الإسلامية، ويحاول أن يتجاوز الخلافات العقائدية والفقهية قدر ما يستطيع، ويحاول الرجوع لمعنى أبسط للإسلام. كنت وقتها أفكر أن تلك البساطة هي نقيض محاولة المنهج السلفي استعادة الوحدة الإسلامية أيضا، ولكن عن طريق استعادة تصور صارم للإسلام تحقق في التاريخ في لحظة معينة. ولكن ذلك التصور الصارم كان سببا في شقاقات وخلافات كثيرة حول تفاصيله. التصورات الأكثر صرامة هي التصورات الأقل قدرة على تحقيق «الوحدة» إلا وفق «سلطة» قاهرة.
كانت تجربة البنا ومحاولته حتى بذل الجهد في «التقريب بين السنة والشيعة» ملهمة، ولكن كانت صورة الفيلم تصيبها التشوش أول ما تبدأ مرحلة الدخول إلى المجال السياسي، وتبدأ تفاصيل علاقة البنا بالملك وبالوفد وبالأحزاب. معاداته للأحزاب من أجل توحد الأمة، ممالأته للملك أحيانا، اقترابه من أحزاب ذات طابع فاشي مثل «مصر الفتاة» وإعجابه بنماذج «توحد الأمم» التي حققتها التيارات الفاشية في ألمانيا وإيطاليا وتعبيره عن ذلك.  كنت وقتها أرجئ حكمي على هذا الأمر حتى أعود وأقرأ أكثر عن تاريخ هذه المرحلة لأحاول أن أتجاوز الغبش الذي أفسد جمال وبساطة حلم الوحدة الإسلامية في أولى محطاته في مصر.
كان ذلك منذ أكثر من 15 سنة تقريبا، ومرت مياه كثيرة تحت الجسر. وفي 25 يناير الماضي كنت أمر وسط التظاهرات من شارع رمسيس التي تهتف «يسقط حكم المرشد» فوجدت شعاراتنا مكتوبة على واجهة مقر جمعية الشبان المسلمين ، بل تزيد عليها: «حا .. شي .. المرشد بيمشّيه». ولمحت أيضا اسم «جيكا»مكتوبًا في ركن ما.
كانت رائحة الغاز المسيل للدموع تصل من جهة ماسبيرو. هناك تتقدم وتتقهقر جموع المتظاهرين التي تطالب بسقوط النظام ورحيل الكاذب تابع المرشد الذي خان مؤيديه وحلفاءه، وحنث بكل وعوده التي كانت كفيلة بتحقيق قدر من «الوحدة» بين صفوف المنحازين للثورة.
 كنا نتقدم باتجاه ماسبيرو نأخذ أماكننا بدلا من المتراجعين تحت التأثير القوي للغاز الذي وصل لشارع رمسيس. كل المهابة وقتها كانت لاسم «جيكا» الذي كان المتظاهرون يهتفون باسمه أحيانًا في مواجهة الشرطة، كأنهم يذكرونهم بلعنة الدم التي ستظل تطاردهم، بينما خطوط سوداء عريضة على كل الحوائط حولنا توجه الإهانات للمرشد وللإخوان «الخونة الخائنين الكذابين»، وبين كل الكتابات يظهر اسم «جيكا» مرة أخرى كلعنة على هؤلاء الذين أعطاهم جيكا صوته الانتخابي انحيازا لـ«رفاق الثورة»، بل تظاهر معهم احتفالا بفوز رئيسهم الذي لم يعد رئيسه عندما انقلبت سلطته على أحلامه في الحرية، واستدارت إليه وقتلته برصاصها في شارع محمد محمود.
كان المشهد المستمر منذ صعود الإخوان إلى السلطة نسخة من تشوش الأجزاء التي لم أستطع تبينها وقتها من الفيلم الأسطوري لنشأة الإخوان المسلمين على يد الإمام المجدد المجاهد حسن البنا.
 ولكن التشوش الآن يستحيل وضوحا بالغا.. أن الثورة في اتجاه حلم الحرية وأن حلم «الوحدة الإسلامية» لا مجال له إلا بإخضاع المختلفين والمخالفين وإسكات صوت مقاومتهم بالدستور والقانون أو بالرصاص إن فشل «القتال بالحب» في كسب أصواتهم في الصناديق.
حلم الوحدة الإسلامية ينكشف عما رأيته سابقا في «الحلم السلفي»: لا يمكن تحقيق وحدة إلا باصطناعها ثم حمايتها بسلطة قاهرة. ينكشف المشروع الإسلامي عن مشروع سلطوي باسم الإسلام. يفشل في تحقيق توافقات أولية مع أولى خطواته ويسبب انشقاقا وصراعا مستمرا حتى اللحظة.
لا يزال المشروع السلطوي مغرما بدرب المشروعات الفاشية القومية لتوحيد الأمم التي انتهت تجاربها الماضية بحروب عالمية دامية.
 كان حولي وقتها أمام ماسبيرو عدد لا بأس به ممن أعرف أنهم تركوا الإخوان والتيارات الإسلامية تركا لوهم الوحدة التي ستنطلق منها الأمة الإسلامية لإخضاع العالم، وانحازوا إلى حلم الحرية الذي يقاوم كل محاولات الإخضاع.
في الصفحة الأخيرة لجريدة «الحرية والعدالة» نبهتني صورة رديئة الذوق للذكرى الرابعة والستين لاغتيال البنا وهي تصوره وهو يحمل وردة ويقول: «سنقاتل الناس بالحب». رداءة الصورة اجتمعت مع رداءة الفكرة التي تحتفي بها. ربما كانت جذابة وقتما كان القتال في مواجهة سلطات غاشمة، منح ذلك القتال صورة المقاومة النبيلة كما منح البنا لقب مجاهد وشهيد، ولكن الآن بعدما سقط أصدقاء ورفاق لي برصاص ذلك القتال أو ذلك الحب، وجدتني أكتب بمنتهى المرارة والغضب مشاركا في سحابة من الهجوم العاصف والمرير ضد حسن البنا الذي انتبهت إلى نطاقه الواسع لأول مرة في ذكرى اغتياله.
وقت الذكرى السنة الماضية لم يكن قطار الإخوان قد وصل بعد إلى السلطة.  يرتدي الإخوان "نظارة الحرب على الإسلام"ويرونها موجهة ضد الإسلام وضد كل ما هو إسلامي بدلا من أن يدركوا مواقع أقدامهم واتجاه سيرهم وأن البناء الذي بناه البنا صار مآله إلى تعليات لسور القصر الذي يهينه الغاضبون كل يوم.
 أنتبه الآن إلى أن الإخوان كانوا تاريخيا يحفظون لكل قصر مهابته، من قصور ملوك الأسرة العلوية إلى رفض إهانة اسم مبارك. حلم الوحدة يجب أن يمر عبر سلطة القصر ويجب أن يحمي المشروع السلطوي أسوار القصر ومهابتها ولو كانت ضده لكي يعمل من داخلها لاحقا، السعي إلى القصر لم يكن لتحريره ولكن لحماية المشروع بداخله. وهم الوحدة محددة الملامح سلفا لا ملاذ له من واقع اختلاف الناس إلا سلطة القصر وأسواره. انتهت إلى الأبد كل مهابة في قلبي. بئس البنا والبناء.

06 February 2013

كل خير في اتباع من هم خَلفَك

عندما وجدت مانشيت إحدى الصحف المغربية يتحدث عن إطلاق شرطي النار على نفسه فكرت أن ذلك يمكن أن يكون مدخلا جيدا لفكرة إصلاح الشرطة لنفسها من الداخل، الذي تحدث عنه أحمد مكي وزير العدل، بدلا من دعوات هيكلتها أو الضغط عليها من الخارج، لأن ذلك خلفه - بحسب علم الوزير بالنيّات وما تخفي الصدور – دعوة إلى تفكيكها وهدمها، وبدلا من التشنيع بالقتلى الستة على يد جهاز الشرطة، فإن الحقوقيين يجب أن يتركوا الالتباسإلى الاعتراف بالتقدم الكبير في هذا المجال، الذي يعبر عنه هذا الرقم مقارنة بالأرقام السابقة، حتى إن القتلى الستة أنفسهم يمكنهم أن يشعروا ويشهدوا بهذا التقدمإذا كان لديهم نفس وعي وثقافة وزير العدل وشعروا بأنفسهم كأرقام. وبالتأكيد شعور المقتول على يد الشرطة يختلف عندما يجد نفسه رقما مميزا وسط عدد أقل من الأرقام.
المانشيت كان يتحدث عن انتحار رقم واحد يعمل في جهاز الشرطة المغربية، ولكن بغض النظر عن ذلك، فأنا أشعر أثناء وجودي في العاصمة المغربية كأنني في بلدي، ففي الجريدة المقربة من الحزب الحاكم «العدالة والتنمية»، الذراع السياسية للطبعة المغربية من الإخوان، لا أفتقد الأخبار التي تهاجم البرادعي وتتهمه بـ«التهديد بالعنف في حالة عدم الاستجابة لمطالب المعارضة».
كما أنني لا أفتقد هنا «مناصرين» للبرادعي وحمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح. وعندما سألتهم عن ذلك قالوا إننا السابقون في هيمنة الإخوان المسلمين وهم يخشون أنهم لاحقون.
 بعد جولة سريعة على صفحات شباب مغاربة وجدت أنهم قد اتخذوا مواقعهم، تماما كالمصريين أثناء كل معركة سياسية، وتحزبوا واقتسموا الانتماءات، واستمتعوا ولا يزالون باللعبة الصاخبة في مصر. بعض الشباب اعترف لي بأنه من «عاصري الليمون» الذين انتخبوا حزب «العدالة والتنمية» قبل أن يشكو الآن من مرارته ويشارك المصريين الانضمام لصفحات «إخوان كاذبون». وبعضهم من شارك في احتجاجات 20فبرايرمحاولا الإمساك بطرف خيط الثورات العربية، لولا أن الملك قطع الطريق وقام بواحدة من أسرع عمليات التعديل الدستوري ومنح بعض الصلاحيات الإضافية للحكومة التي يشكلها البرلمان، وبالطبع كان الإسلاميون المستفيد الأول رغم أنهم لم يكونوا أصحاب المبادرة.
 يخلق من الشبه أربعين دولة. حتى إن أكثر الشباب «الوسطيين» الذين لا يحبون «الاستقطاب» - كثير من الأنصار الافتراضيين لأبو الفتوح - يرفضون أي إشارة ربع ساخرة تجاه الملك المغربي أو لانتشار صوره في كل مكان، حتى إن صورة كبيرة له كانت تتصدر قاعة الندوة التي أتيت للمشاركة فيها.
الندوة كانت حول تجارب الدول في «إدارة التنوع» بين شعوبها، التنوع الديني والمذهبي واللغوي والعرقي، وبالطبع لم أبخل عليهم بحكايات مسليّة تلخص حالة الحفاوة الشديدة بالتنوع من جانب تحالف السلطوية الإسلامية الذي هيمن على كتابة الدستور المصري الجديد الرائع الذي نسعد الآن بالاستقرار الناتج عن ضمانه للتنوع فيه، وإحساس كل أطياف المجتمع المصري بالأمان وضمان الحقوق والحريات الذي طفح من نصوصه وعملية كتابته لدرجة أن كثيرا منهم انسحبوا من عملية كتابته واستأمنوا حسام الغرياني ويونس مخيون على هذا الأمر ثم خرجوا للاحتفال والاشتباك في الشوارع.
 والغرياني ومخيون كانا بطلي القصة الأكثر تسلية ودلالة، والتي خلدها لنا محضر الاجتماع العاشرمن اجتماعات اللجنة التأسيسية. وقتها اعترض مخيون، الذي يرأس الآن حزب النور، على ذكر الدستور المصري لتعبير «التنوع الثقافي» وقال إن هذه المصطلحات توضع لكي تكون بداية انشقاق في المجتمع. ورد عليه الغرياني بحدة وقال له: «سيادتك لا تعرف أن هناك في مصر تنوعا ثقافيا؟!» وحدثت بينهم مشادة صغيرة دافع فيها مخيون عن نص آخر عن "الوحدة الثقافية"وقال له الغرياني إنهما ليسا متعارضين – سبحان الله !- ولكن انتهى الموقف عندما أخبر مخيون، الغرياني، الذي من المفترض أنه يترأس اللجنة التأسيسية، أن «من خلفه» أخبروه أن كلمة «التنوع» حذفت بالفعل ولا داعي للنقاش. ويبدو أن الغرياني تذكر ساعتها ولاءه لـ«من خلفه» فأوقف دفاعه الحاد وقال له: «الحمد لله أنها حذفت!».
المهم أنه تم حذف كلام من لفظي «الوحدة الثقافية» و«التنوع الثقافي» وتم استبدالهما بشيء غامض اسمه «المقومات الثقافية» يجب أن تحميه وتحفظه الدولة، وهذا هو الإسهام الأساسي للروح التوفيقية للإخوان المسلمين التي انتهت الآن إلى التوفيق بين المتناقضين في الحلال أو الحرام – المهم أن يكون وفق اللائحة- للوصول إلى مركب ثالث لا هو وحدة ولا هو تنوع ولكنه حالة بائسة من ضيق البلاد بأهلها وضيق الجميع ببعضهم البعض واضطرارهم للصراع كل لحظة حول حدود ومعنى هذه «المقومات».
ولا أعتقد أن الغرياني ومخيون كان يمكن أن يتفقا لو أرادا الخوض أكثر في التفاصيل بعيدا عن تنبيه «من خلفهما».
 ربما يكون وراء بعض الاستقرار في المغرب، الذي يجعل من الجميع راغبين في عدم تجاوز حدود الملكية الدستورية، ذلك الإفساح الذي حدث في المجتمع لمزيد من التنوع بالاعتراف رسميا باللغة الأمازيغية وأن ممارسة إسلاميين للسلطة لا تستطيع أن تمس كثيرا – حتى الآن - حالة التنوع الثقافي في الشارع والمجتمع المغربي.
ويبدو لي أن الديمقراطية، بخلاف كونها غزوة صناديق، وسيلة تحمي حرية الدعوة إلى تغيير هذه المقومات عبر حريات التعبير والتجمع والتنظيم، لكن على العكس من ذلك نص الدستور المصري على أن الحريات والحقوق الواردة به تمارس وفق «المقومات» فضلا عن إشارات متناثرة عن التقاليد الأصيلة والقيم الدينية والوطنية والأخلاق، وكلها أشياء عند التفصيل والممارسة محل خلاف كبير. وإذا لم يكن ذلك واضحا لك، فاعتصم بأهم المقومات الإسلامية المعاصرة وهي «اتبع من هم خلفك» واسمع كلام من هم خلف مخيون والغرياني وخلف وزير العدل وإخوان مصر والشام والمغرب واتهم البرادعي بأنه سبب الانشقاق في المجتمع.