25 October 2007

نم أيها الشاعر

مؤسفُُ أن لم يتيسر لي أن أحييك حيّا.

سركون بولص
سركون بولص 1944-2007

لا مَهرَب: فالأرض ستربطنا إلى خصرها
ولن تترك لنا أن نُفلتََ، مثلَ أُمّ مفجوعة، حتى النهاية.
.....

حبلُ السُرّة انقطع، وامتدّ حبلُ المراثي.
إنه الليل. نـَمْ، أيّها الشاعر. نـَم، أيّها الصديق.

سركون بولص
من ديوان "عَظمة أخرى لكلب القبيلة" الذي يصدر قريبا عن دار الجمل في كولونيا

24 October 2007

يا باسط !


أمام الصحفيين المصريين تحديات أجدى كثيرا مما يلفظه الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي. هناك أشياء, و أشخاص, التعامل معهم جديا هو من قبيل الافتقار لحس الدعابة .. و إلا فكيف يمكن أن يتعامل المرء مع القذافي مثلا, أو رؤساء تحرير الصحف القومية و "مركز نداء لمقارنة بين الأديان" و مفسر الأحلام سيد حمدي و المطرب حسام حبيب و المفكر جهاد عودة.
سيد طنطاوي تحديدا يتبوأ مكانة بارزة في الوجدان الديني المصري, فذكر اسمه في نقاش ديني بين مهتمين يعني خروج النقاش من الجد إلي الهزل, إما أن أحد الأطراف يسخر من نفسه فيستشهد بكلامه, أو أنه يسخر من آخر بتشبيه كلامه بكلام " المفتي" و " شيخ الأزهر ",و طنطاوي هو صاحب امتياز الصفتين بشخصه باعتبار ما كان و ما هو كائن.
ما كان و ما هو كائن هي مجرد ظواهر خادعة, بينما لا شيء يتغير حقا عند طنطاوي و عند آخرين. الفرق الجوهري بين طنطاوي و الآخرين ممن يتحدثون من عالم آخر عن عالم آخر, هو أن الآخرين يتجاهلون تغير العالم لأنه ليس مكتوبا عندهم في الكتاب. بينما طنطاوي يتجاهل وجود العالم و الكتاب لأسباب غامضة, لا شأن للنفاق و لا للخوف أو الطمع بها, هذه اتهامات "جديّة" استبعدها ابتداء .
الأمر أقرب لمشكلة وجودية تتعلق بانسجام الإنسان مع موقعه في العالم, حيرة الإنسان أمام المسخرة التي ترفعه فوق ما يتوقع و يستطيع, " الفقي لما يسعد ", "الفقي " الذي استيقظ ليجد نفسه في عباءة العز بن عبد السلام, فتأرجح بين تقمص هيبة العباءة و الاستسلام لهزلية كونه داخلها.

05 October 2007

لا تعتذر عما فعلت


كحَكَم بلا معنى مثل ذلك الذي في حلبات المصارعة الحرة, كنت علي الرصيف بين شيخ و شاب غاضبين. الأول يحمل قالب طوب و مَفَكا , و الآخر يحمل غصن شجرة – به بعض الأوراق – و قضيبا معدنيا غامضا .
أنا أحمل علي كتفي حقيبتي , هادئا بحسب انطباعي عن نفسي , و إن مستاء . أحاول أن أفهم بعد أن توقفت عن محاولة تهدئتهما .
الشيخ, سائق التاكسي الذي كان يقلني, مهتاج و يهذي بسباب متقطع . الشاب مفتوحة عيناه عن آخرهما علي نظرة محدقة مستنكرة و كأنها تدافع عن مقدس .
التاكسي واقف مشرعة أبوابه كإعلان حالة. و سيارة الشاب, نصف النقل , واقفة خلفها بقليل , مصطفة بعناية بجوار الرصيف.
مع الشاب الغاضب, شاب آخر أقل غضبا, يبدو متأففا و متورطا مثلي رغم أنه الطرف الأكثر أصالة . هو الذي كان يقود السيارة النصف نقل, و هو الذي أطل من شباك سيارته عن يميني يعاتب الشيخ علي سوء أدبه , أخبرني فيما بعد أن الشيخ لوح له بيده ليمر و بالغ في استخدام اصبعه الوسطى ..
الشيخ رد علي عتابه صارخا, في تصعيد لم أفهمه : أنه لا هو و لا أهله يقدرون علي شيء ! ثم استجاب لدعوة الشاب الآخر للتوقف و اختبار قدرته علي فعل هذا الشيء .
توقفت سيارة الشابين بهدوء , ثم توقف الشيخ بعدهما بمسافة و كأنه فكر لوهلة ثم غلبته حماسة غامضة كألسنة لهب أمسكت فجأة بأطراف جلبابه . نزل مسرعا و انتزع قالب الطوب من سور كورنيش الكيت كات بسهولة أدهشتني – ساورني قلق مهنيّ بشأن كفاءة بناء السور - و اتخذ مكانه عن يساري بينما اكتفي الشاب الهاديء بمواصلة العتاب , خلف زميله الغاضب الذي استلهم البيئة بدوره أسوة بالشيخ و انتزع غصن الشجرة .
الشاب الغاضب كان فيما يبدو محموما بحمية عائلية, كان يصرخ ملتاعا : أنت تعرف أهلي ؟! أنت تعرف أهلي ؟!... و ألقى غصن الشجرة بتشنج فسقط عند قدمي بينما احتمي الشيخ خلفي و ألقي قالب الطوب لمسافة تأكد أنها لن تصيب الشاب, و احتفظ كل منهما بآلته المعدنية .
كنت أفكر في مدي أخلاقية أن أدعهم جميعا و أبحث عن تاكسي آخر, الشيخ غاضب بدرجة كافية لكي تتزن كفتي المعركة , و لا أمانع إن أصاب كل منهما الآخر بشكل يكفي لكي يتعقلا في مرات قادمة . شيء ما كان جعلني أبدو رغما عني مسؤولا عن الشيخ سائق التاكسي , ربما لأنه وافق علي اصطحابي في الرابعة من نهار رمضان متوجهين لامبابة . لكن كنت أحاول التملص بتذكر كيف أن الشيخ استجاب بلا أدني تردد لدعوة الشاب له بالتوقف للتقاتل . ثم إني لا أفعل أي شيء تقريبا. حتي كلامي كان فاترا و بلا معني , و يخرج من فمي بلا حرارة ... كان ما يدور بذهني منفصلا تماما عما أتفوه به من جمل التطييب و التهدئة و استرضاء الطرفين الخالية من المعني . كأنني أفكر بلغة أخري غير لغة هذه الكائنات البدائية المتقاتلة .
ما منع مواجهتهما المهتاجة أن تبدو كمعركة حقيقية هو ذعرهما المتبادل رغم حماستهما و نشاطهما الغرائبيين , و احتفاظهما بهذه المسافة اللاعقلانية بين متشاجرين ... بعد أن عدا كل منهما باتجاه الآخر ,أول ما اقتربا توقفا بغرابة , و تقهقر كل منهما خطوات متذرعا بتصويب سلاحه , غضن الشجرة وقالب الطوب .
بدأت أشك في اخلاصهما للعدوان, و بدأت أفسر الأمر بأنهما تحت تأثير حالة مزرية من أثر الصيام, الذي لعب دوره أيضا في تأخر وصول متدخلين حقيقيين- علي العكس مني أقصد - من أصحاب الورش و الدكاكين علي الرصيف الآخر .
لم أفهم لم توجه واحد إليّ يسترضيني , كان هذا نذيرا بأن ملامح وجهي تحولت لامتعاض أوحى بأني طرف في المعركة, التي تنفس طرفيها الصعداء و صعدا من لهجتهما و سبابهما من خلف أكتاف المتدخلين فاعلي الخير.
كنت قد تخليت عن مكان الحكم بينهما بعد أن صاروا و صرت أري الأمر من فوق أكتاف المهدئين , باعتباري واحدا وجدوه في أرض المعركة . أصبحت في جانب مع الشيخ و بعض المهدئين الذين فاجأوه بالسؤال : همّ عملوا لك إيه يا حاج ؟.. تحركت كل خلجاته و كأنه سينطق بأمر عظيم , و لكن زاغت عيناه كأنه نسي شيئا أو تذكر شيئا ثم صرخ فجأة و كأنه سيجهش بالبكاء : مش عارف ! مش عارف ! .
.. اندهشت من عدم قدرته علي الإتيان بأي تبرير لثورته العارمة , و يبدو أنه أيضا استنكر موقفه الغامض, و شعر, و شعرتُ أيضا, أن عليه أن يقدم تبريرا ما, لنفسه علي الأقل .. فسحب نفسا عميقا ثم أردف بحرقة بدت صادقة تماما موجها حديثه لطرف غير محدد: يا ولاد الوسخة!

ما حدث للشابين و سيارتهما بعد ذلك , يعني أنني الوحيد الذي لم يبد له ذلك مقنعا.


لا تعتذر عما فعلت : عنوان ديوان لمحمود درويش
اللوحة لكاندينسكي