25 July 2008

هذا هو الإنسان


أنا لست عدوانيا .. يبدو لي ذلك أحد أكثر الأشياء التي أعرفها عن نفسي وضوحا، لست عدوانيا وفي الغالب لا يمكنني أن أكون ولو حاولت أن أعتدي. لم أحاول عمدا ولكن بدا لي ذات مرة أن محاولة لذلك أفلتت مني ولكها فشلت. تحتاج العدوانية لشيء ما، بالإضافة للعدوان، ليس لدي.

لقد ركلت الولد وأطحت به مسافة أربعة أمتار على الأقل قبل أن يتدحرج على الأرض ويصطدم بحافة الرصيف ليصاب بخدوش متفرقة في أنحاء جسده. كان ذلك قبل أكثر من ثلاثة عشر عاما عاما، وبعد أن تعدى علي ذلك الولد لفظيا بشكل ما، لا أذكر أي كلمة مما قاله، ولكن بالتأكيد كان الأمر فظيعا، وإلا لم أكن لأضربه.

كنت وقتها ألعب الكاراتيه ، أعرف جيدا كيفية توجيه الضربات الدقيقة التي تصل للخصم بأقصر طريق وفي مكان محدد لتفعل شيئا محددا. هذه الركلة المستقيمة توجه للخصم في بطنه فوق الحزام مباشرة، من المفترض أن هذه النقطة مركز كتلة الجسم، كنت أعرف ذلك، وسددت الضربة كما تمرنت عليها، وهذا دليل على أنني لم أكن ثائرا أو عواطفي العدوانية محتدمة، لقد أفلت مني الغضب ولكنه لم يمسني.

قام الولد الذي أذكر أنه كان أصغر مني قليلا ولكن جسده كان مساويا لجسدي إن لم يكن أكبر، ونظر لي بدهشة- اندهاشه دليل آخر على أن العدوانية ليست معروفة عني، لقد قضيت كل ذلك الصيف ألعب معه الكرة في شارعهم- قبل أن يركض سريعا صاعدا لمنزله.

بعد لحظات كان إصبعه يشير إلى، بينما يقف أبيه أمامي ثائرا، كانت العدوانية بادية عليه، وبدأ في الصراخ و الهتاف المتضمن سبابا غير مباشر لكل من يتجرأ ويتعدى على ابنه في شارعهم. قلت له أن ابنه تجاوز في حقي، ولو كررها سأضربه ثانية. بدا لي كلامي عدوانيا ولكن قيل لي أني قلته في هدوء مثير للإعجاب. ثار الأب وبدأت العدوانية تتصاعد في لهجته، وشعر صديق لي أن الأب على وشك الفتك بي ، فتدخل متحمسا وبدأ في محاولة تهدئة الرجل ولكن بصوت فيه لهجة شبه عدوانية تحاول موازنة عداونية الأب، الذي يبدو وكأنه وجد هذه اللحظة خصما حقيقيا فلم يتردد في صفع صديقي على وجهه، قبل أن يصرخ صرختين أو ثلاث معلنا أنه اقتص لابنه محذرا أي إنسان أن يقربه في هذا الشارع، ثم يتركنا ويرحل مع ابنه الذي يحاول أن يقاطع صراخه ويذكره، وإصبعه لا تزال تشير إلي، أنني أنا الذي ضربته وليس صديقي !

لقد بذلت أقصى ما في وسعي، ولكن يبدو أن ذلك لم يكن مقنعا.

حتى أخيه الشاب الذي يكبرنا بعدة سنوات قابلني في اليوم التالي، وسألني إن كنت ضربت أخيه أمس فأجبت بنعم، فسألني عن السبب وأجبته بكل وضوح وهدوء... فوقف للحظات ووجهه يتشكل في أشكال عجيبة وهو يحدق في، قبل أن يصرخ أنه في المرة القادمة لن يرحمني . ولم هناك ما يمنعه ألا يرحمني الآن، كما لا أذكر أنه احتاج أصلا لأي أسباب لكي يعتدي على العديد من شباب الشارع، بل كان يقوم بذلك لشغل وقت فراغه في الإجازة الصيفية.

أيا كان ما منعه، فأنا ممتن له، لم أكن واثقا أن الكاراتيه كان سينفعني في مواجهة أخيه الشاب. أنا فقط أفكر في أنني كنت ولا زلت أبعد ما أكون عن العداونية، هذا أكيد.

ولكن ما يحير أن يتكرر في حياتي مشهدا مفاجئا يطلب فيه صديق أو ولي أمره أن أقطع علاقتي به أو بهما. أتصور أنني لن أطلب ذلك من أحد إلا بعد أن يكون قد تجاوز في عداونه على بشكل لا يمكنني غفرانه.

ولأنني لست عدوانيا أصلا، أجد صعوبة في تفهم القدر البالغ من العدوانية في هذا الطلب. من العادي أن تنقطع علاقات الناس، يتركها الناس ويهملونها لتنقطع، ولكنهم لا يطلبون منك هذا، إلا إن كانوا يرغبون في إيذائك بعدوانية أو أنهم لا يطيقون عدوانيتك.

الأسباب لم تبد لي مفهومة تماما، ولكنها تشير ربما إلى أن العداونية الأصيلة في نفس الإنسان ترتبك أمام فاقد العداونية. فتبدو وكأنها فاقدة لأعصابها ومنطقها.

واحد أخبرني أني أضيع الوقت معه في الكلام عن البنات والأغاني، بينما أركز في المذاكرة في البيت، ولم أفهم ماذا يريد بالضبط. ولكنه حملني مسئولية أنه حصل على درجات سيئة في امتحان الشهر في الوقت الذي كنت فيه الأول على الفصل. وآخر قال لي أنني أؤثر على تفكيره بشكل يجعله قلقا على مسار تفكيري، الذي ينعكس عليه في النهاية وهو يريد أن يستقر على أي فكرة، أي فكرة بحق الله أو الجحيم أو أيا كان، ليعيش وفقها وينتهي الأمر: الحياة بسيطة ولا تستحق كل هذا التفكير. ورغم أن فكرته بدت لي وجيهة إلا أنه خشا من أن اعترافي بوجاهة فكرته قد يؤثر على تفكيره وقراره بقطع علاقته معي، وهو ما يزيد مأساته. فسارع بإنهاء الأمر بإيميل تجنبا لأي كلام معي.

والد هذا الآخر طلب مني قبلها أن أقطع علاقتي به لأنني شخص مثير للمشاكل، والسبب أنني تناقشت مع ابنه حول الصوفية، وربما انتهينا وقتها إلى ازدراء بعض أفكارها مما أثار حفيظته.

ولكن الأكثر إثارة كان طلبا مماثلا جاء من أبي الولد الذي ضربته، وطلب مني أنا وصديق أن نقطع علاقتنا بابنه الأكبر، الذي قال أنه لن يرحمني، ليس بسبب ضرب ابنه للكن لأن ابنه الكبير تأثر بنا وأصبح ينتقد الشيخ الشعراوي.

كان ابنه قد أطلق لحيته وبدأ يصلي معنا في المسجد، إلا أنه توقف بعد فترة، ليس بسبب طلب أبيه. بل تردد أنه تشاجر مع أبيه وكان يصرخ- كعادة هذه الأسرة- في وجه أبيه ويسأله كيف يطلب من أصدقائه هذا الطلب وكأنه طفل صغير، وهناك أنباء غير مؤكدة عن أن الشيخ الشعراوي طالته شتائم بذيئة في هذه المشاجرة .. ولكن كان السبب أنه حصل على وظيفة في بنك وعندما سأل كل الشيوخ السلفيين في المساجد القريبة وأجابوه أن قبول الوظيفة حرام، اتخذ قراره بشجاعة. حلق لحيته وقبل الوظيفة، وأخبرنا من البلكونة، لما سألنا عنه يوما، أنه لن يصلى ثانية في المسجد، وبعد أيام شوهد بوستر لعمرو دياب في بلكونة غرفته، التي عاود السهر فيها بالفانلة الداخلية يتأمل أي أنثى تمر هنا أو هناك، ويسمع عمرو ومحمد فؤاد من الكاسيت الكبير الموضوع على سور البلكونة.

ولكن قبل أن يتخذ قراره ويعود إلى بلكونته، قال لي ذات مرة، بعد صلاة عصر وكنا مستندين إلى أحد الأعمدة في المسجد القريب من بيته: "أنا مش عارف ساعتها ماضربتكش ليه، ومش عارف أبويا ما ضربكش ليه، ومش عارف ليه أخويا ما ضربكش على طول .. إنت شكلك طيب ومش بتاع ضرب أصلا .. بس هاتتعب في حياتك جدا، صدقني .. لحد ما تبدأ تنضرب وتضرب وتتمرمط كده ... وبعدين هاتستريح".



- "هذا هو الإنسان" عنوان الكتاب الشهير لـنيتشه
- اللوحة لجورج بيلوز


06 July 2008

رحل ذو الحضور البهيّ.. قبل أن نناقشه


عندما انتهيت من قراءة سيرة عبد الوهاب المسيري غير الذاتية –غير الموضوعية "في الجذور والبذور والثمر"، كان ذلك قبل خمس سنوات، وكنت في أتوبيس عائدا من السويس في رحلة عمل.
قرأت معظم الكتاب في الأتوبيسات والقطارات أثناء رحلات العمل، ولما انتهيت بدا لي العالم لحظة أغلقت الكتاب مختلفا عن ذي قبل. ولكني ازددت دهشة عندما بدا الطريق أيضا مختلفا، وكنت قد حفظته عن ظهر قلب ذلك الوقت، حتى اكتشفت عندما انتهت الرحلة في طنطا أنني ركبت الأتوبيس الخطأ بسبب شوقي لقراءة الصفحات الأخيرة.

ومن طنطا للقاهرة أعدت قراءة فصل "من بساطة المادية إلى رحابة الإنسانية والإيمان" باهتمام شديد.

أذكر أني بحثت في الإنترنت وعثرت على بريده الإلكتروني في موقع ما، وأرسلت له رسالة تضمنت سطرا أو سطرين عن الكتاب لا أذكر عنهم شيئا، ولكن ما أذكره جيدا أني أنهيت رسالتي قائلا:" استمتعت بصحبتك، وأود أن أقول إنني أحبك في الله".

لم أتلق منه ردا.. ولم يكن هذا مانعا أن أواظب في فترة لاحقة على حضور محاضرته الشهرية في جمعية "مصر للثقافة والحوار"، كما لم يكن سببا لكوني لم أتبادل معه كلمة أو أبدي تعليقا أو مداخلة خلال محاضراته. كنت أكتفي بمتابعة حديثه الشيق، وعندما كان يضع سبابته على فمه ويقول أنه سيذكر موقفا ما، كنت أخمن أي موقف من سيرته سيحكي.

كنت أرقبه وهو يمتع الحضور، بينما يضعهم في فوضى وهو يستخدم المصطلحات كما يحب لا كما تواضع عليه الاستخدام العام، وأتابع سجاله مع الحاضرين الذين أدهشهم انتقاده للعلمانية ، كما أرقب دهشة الشباب الإسلامي، الذين يعجبهم حديثه عن ضرورة "المرجعية الإسلامية"، عندما يجدونه خارجا متوكئا على ذراع ابنته غير المحجبة. سألني أحدهم مرة بحيرة شديدة كيف يترك زوجته وابنته غير محجبتبن بعد أن أصبح "مفكرا إسلاميا"! غير أن القاضية كانت عندما اعترف المسيري أنه لا يحضر صلاة الجمعة لأنه لا يضيع وقته في الاستماع لـ"هؤلاء الخطباء".

من الواضح أنه لم يكن نمطيا، و أنه كان يهوى "التفكيك والتركيب" وإعادة إبداع المفاهيم وفق نسقه الخاص. إلا أنه مع ذلك كان يملك بساطة الانحياز، التي جعلته يتجاوز حالة المفكر الذي يظهر في الصور يحك رأسه، إلى حالة أكثر تركيبا تجمع بين عمله البحثي والفكري وبين كونه أحد مؤسسي حزب " الوسط" وأحد رموز حركة "كفاية" ثم منسقها العام. وكان وجوده -وهو الذي يناهز السبعين- في مظاهرات كفاية إشارة إلى أن أصالته كمفكر ليست وليدة علاقة بالورق، بقدر ما وليدة علاقته الحميمة بالعالم عبر خياراته ومواقفه، وتأمله لهذه العلاقة والخيارات والمواقف. سيرته بدورها لم تتضمن مسارا لتطوره الفكري، بل كانت هي وقائع تطور أفكاره التي عاشها و"التزم" بها بحماسة الشباب حتى آخر لحظة.

ولكن البهاء الكبير لصورة الباحث الموسوعي في اليهودية والصهيونية وأستاذ الأدب ذي اللغة المحببة والمناضل بجسارة ضد النظام .. لهذا البهاء مخاطره أيضا. فصورة المفكر الذي انتقد "التسلع" لم تنج من ذلك، وأظن أنه من الصعب لوم التيار الإسلامي على "تسويقه" لصورة المسيري كمفكر إسلامي ناقد للعلمانية والغرب، في غياب واضح لملامح "المرجعية الإسلامية" التي يطرحها بالمقابل، بينما تختلف قطعا عن تلك التي ينادي بها معظم الإسلاميين.

كما أن هذا البهاء الذي جعلني أكتفي بمتعة الاستماع إلى محاضراته، كان سببا أيضا ، فيما يبدو، في أني سمعت انتقادات موجهة للمسيري ولأرائه، بينما ندر أن أقرأ ذلك.

ورغم أن الأهمية الكبيرة لعمله الموسوعي ولأطروحاته حول مشكلات مهمة تجعل من التناول النقدي والمناقشة الواسعة لكليهما طريقا لا بد منه لمحبيه ومنتقديه على حد سواء، لا أذكر أني قرأت في مطبوعات سيارة نقدا لموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، أو مراجعة هادئة لإنتاجه الغزير في نقد الحضارة الغربية. بل إن كاتبا صحفيا بارزا وجه انتقادات لتكرار بعض الفصول في أكثر من كتاب للمسيري، قال ذلك دون أن يذكر اسمه وكان على أن أخمن. لذا قلت لصديقي "نواف القديمي" عندما أجرى معه حوارا سجاليا نشر في جريدة "الشرق الأوسط" أنني أخيرا قرأت كلاما للمسيري في مواجهة محاور بعد أن قرأت له كثيرا مما قاله في حضور "حواريين"، ولا ألومهم.

قبل أن أستيقظ صباح الخميس على رسالة تعزيني في وفاة المسيري، كان عمرو عبد الرحمن، الصديق والزميل في مجلة "البوصلة"، يحدثني مساء عن إنهائه لمقال للعدد القادم من المجلة في نقد رؤية المسيري للرأسمالية، وكنت أفكر في مقال مماثل في مناقشة أطروحته حول العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة.

سيفتقد كلانا ،وآخرون بالتأكيد، حضور الراحل العزيز. ولكن أتمني أن لا يمنع جميل ذكراه المناقشة الواسعة لأفكاره، بعد أن منع بهاء حضوره بعض ذلك.