30 December 2012

الشيخ الشعراوي وباسم يوسف

استكمالا لـسلسلة «الحرب على الإسلام» في موسمها الأول والثاني. كنت أود أن أتابع قائلا إن ارتداء «نظارة الحرب على الإسلام» ورؤية ما يحدث في العالم باعتباره معركة بين الإسلام وأعدائه ليس خاصا فقط بالسلطويين الإسلاميين من أصحاب المشروعات السياسية المنسوبة للإسلام، ولكنه فكرة أصيلة أعمق مبثوثة في كل تعبيرات وأدبيات "التفكير الديني الراكد"الذي يشمل التيار الرئيسي من الفقه الإسلامي المعاصر الذي يجتر سابقه ويتم تدريسه في الأزهر ويقتبس منه الإخوان مع إضافة لمسات فاشية جذابة ولمسات أخرى توافقية عصرية، ويتحمس السلفيون في التعبير عنه بتهور واندفاع.
 فبرغم أكوام التنظير النخبوي الإسلامي عن «الدولة الإسلامية العصرية» و«الفكر السياسي الإسلامي الحديث»، فالخطاب الديني المعاصر المنتشر بين قطاعات واسعة من المسلمين يقول بوضوح إن التفكير الديني الراكد متعثر جدا عمليا في تكوين فكرة سياسية ملهمة للناس، بعيدا عن معركة النبي والصحابة مع الكفار والمشركين، وبالتالي تحتل أفكار الاستضعاف وخداع العدو ثم التمكين والعهد مع الطوائف ثم الجهاد والغزو والجزية وغيرها محل القلب من «الرؤية السياسية» التي تنتهي إلى ارتداء «نظارة الحرب على الإسلام» طوال الوقت.
ولذلك أشكر جدا الشخص النابه الذي وفّر عليّ عناء البحث كثيرا وأنتج مقطع الفيديوالذي اقتبس فيه سخرية باسم يوسف ممن يتحدثون عن معركة بين الإسلام والكفر تجري في ساحة السياسة، وكان موضوعها خطاب رموز الإخوان والسلفيين في جهادهم المقدس من أجل الإعلان الدستوري ومشروع الدستور، ولكنه في موضع مقاطع هؤلاء وضع مقاطع مرئية وصوتية للشيخ الشعراوي والشيخ علي جمعة تردد نفس المضمون.
الملاحظة الأولى أن صانع الفيديو متأثر جدا بسلوك استشرى وسط التيار السلطوي الإسلامي الفترة الأخيرة وهو «اعرف الحق بالرجال» وهو عكس وصية الإمام عليّ «اعرف الحق تعرف أهله». والتيار السلطوي الإسلامي استخدم هذا الأسلوب في النقاش حول الإعلان الدستوري ومشروع الدستور، مؤكدا أن أهم ما يثبت صحتهما وحلاوتهما أن هناك من يعارضهما من «الفلول» بينما يحظيان بتأييد العلماء والمشايخ.
ولذلك، فإنه مع صعوبة الدفاع عن الفكرة المسخرة التي يمسح بها باسم يوسف البلاط كل أسبوع، لم يكن هناك طريق إلا محاولة إحراج باسم يوسف بفيديو يقول إن الشيخ الشعراوي ومفتي الجمهورية علي جمعة يرددان نفس الفكرة. ولكن في النهاية تظل الفكرة مسخرة مؤسفة ويظل هذا الفيديو تأكيدا على أن الأزمة تتجاوز التيارات السلطوية الإسلامية لعموم ساحة «التفكير الديني الراكد».
وربما كان الأكثر مسخرة أن تطال فكرة «الحرب على الإسلام» الشيخ الشعراوي، فالكثير من الأصدقاء من الإخوان المسلمين والسلفيين رددوا سابقا كون الشيخ الشعراوي من علماء السلطة الذين تستخدمهم لإلهاء الناس وصدهم عن الحركة الإسلامية بتكريس شعبيته من خلال التليفزيون الرسمي، خاصة أنه كان وزيرا سابقا في عهد السادات، وأيضا لأنه كان على علاقة سابقة بالإخوان المسلمين ثم ابتعد عنهم وانتقدهم بعنف. الخطاب السلفي أعنف في مواجهة الشيخ الشعراوي فبعضهم يراه  ضالا ومبتدعا، بل ويروج للكفر بالله! ويرون علي جمعة مفتي السلطان الذي عينه مبارك كما أنه يروّج لبدع  التصوف.
وربما كانت المسخرة الأعمق أن يكون الموقف الفاصل بين الشعراوي والإخوان –بحسب روايته– أنه ترك الإخوان لأنهم اختاروا مهادنة  صدقي باشا والهجوم العنيف على النحاس باشا، وعندما استفسر الشعراوي عن السبب عرف أن الأمر لا علاقة له بالمواقف وتقييمها – اعرف الحق تعرف أهله – ولكن له علاقة بأن النحاس باشا والوفد وشعبيتهما هم العقبة في طريق صعود الإخوان. فانكشفت له إحدى العورات السلطوية للإخوان، المختفية تحت الستار الدعوي، فابتعد.
ولكن هذه العورة السلطوية ليست عيبا طارئا، فأن تطلب السلطة حصريا باسم الإسلام يجعل خصومك السياسيين أعداء للإسلام، ولذلك فإن «تحالف السلطوية الإسلامية» في كل زمان لا يرى حرجا في اعتبار خصومه أعداء للإسلام.
 ولكن المفارقة أن يتقاطع الشعراوي معهم في هذا الخطاب في زمن لاحق، ولعل هذا يعيدنا مرة أخرى إلى مأزق «نظارة الحرب على الإسلام» باعتباره سمة «التفكير الديني الراكد» وأزمة في تفكير المسلمين المعاصرين بشكل عام وهو ما يحتاج إلى مقال آخر قادم.

26 December 2012

الحرب على الإسلام – الموسم الثاني

«ما تقلقش! الإسلام جامد في الجيزة وفي الفيوم، صحيح الإسلام مش جامد قوي يعني في المنوفية بس لنا إخوة هناك برضه».
هكذا سمعت الشاب السلفي يطمئن زميله القلق من أن يحصد «أعداء الإسلام» نسبة تصويت أعلى في المرحلة الثانية من التصويت على الاستفتاء، مؤكدا أنه بالرغم من أن الدستور «مش إسلامي ولا نيلة» على حد تعبيره، إلا أنه ينبغي أن يمر بأكبر «سكور» scoreلكي «يخسأ أعداء الإسلام ويخنسوا».
نقلت لكم ما سمعته وفق تعبيرات الشابين السلفيين اللذين تقدماني في طابور التصويت في لجنتي في إمبابة، التي أكدا أنها «أجمد مناطق الجيزة من حيث الإسلام بإذنك يا رب».
ويبدو أن الإخوة الفاتحين الجدد عليهم أن يهتموا أكثر بالمنوفية لكي يشتد عود الإسلام وطبعا بمدينة القاهرة ذات الألف مئذنة التي امتلأت بأعداء الإسلام حيث فاقوا أنصار الإسلام في غزوة الصناديق، ويبدو أيضا أن عليهم خوض حروب الردة في «إمبابة»، التي كانت لهم فيها ذات يوم صولات وجولات وقيل «جمهورية إسلامية»، لأن نسبة رفض الدستور في لجانها قاربت 46% والعياذ بالله.
الإحساس بالتماهي بين من يطلب السلطة باسم الإسلام والإسلام نفسه ليس نكتة مضحكة من شاب سلفي غير منضبط. فكلمات الشاب السلفي ذكرتني بتعبيرات حسن البنا، مؤسس الإخوان المسلمين في رسائله.
في رسالته إلى الشباب يبدأ بعنوان: «دعوة الإخوان المسلمين، أو دعوة الإسلام في القرن الهجري الرابع عشر». وفي نهاية العديد من رسائله كان الختام كالآتي: «يا رئيس الحكومة، ويا رجال الأزهر الشريف، ويا أعضاء الجماعات والأحزاب ويا ذوي الغيرة على هذا الوطن، و يا أبناءه جميعا .. إليكم أوجه القول: عودوا إلى الإسلام تغنموا وتسلموا ..»
ألهبت هذه الكلمات مشاعري في وقت ما، كما أظن أنها تلهب مشاعر الشاب السلفي الواقف يتخيل أن صوته في الصندوق هو مشاركة في حرب الإسلام ضد أعدائه، أو هو مشاركة في دعوة «الآخرين» إلى دعوة الإسلام بمن فيهم رجال الأزهر.
الأمر ليس مؤديا بالضرورة إلى التفكير والحكم بالجاهلية، ولكنه في حده الأدنى يؤدي إلى إحساس بين السلطويين الإسلاميين بالتماهي بين شخصهم وبين الإسلام في المعركة الأزلية الأبدية، معركة العقيدة بين الإسلام وبين أعدائه. تتفاوت الدرجات وحدة الممارسات بين «توفيقية» الإخوان و«حماسة» السلفيين.
ربما يمثل فكر سيد قطب الخيط الواصل بينهما في تقريره الحاد والحاسم والملهم للشباب السلطوي الإسلامي بأن الحق والباطل لا يتعايشان أبدا، وأن الجهاد من أجل حاكمية الإسلام في العالم كله هو جهاد تحرير لكل الناس من النظم السياسية والاجتماعية البشرية لا لإكراههم على الإسلام، ولكن لإزالة «الضغط السياسي» – بتعبيرات قطب – ليخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد في ظل حاكمية الله وحاكمية الإسلام. ألم تنس شيئا عزيزي الشهيد سيد قطب؟
في التقرير الأخير هناك نسيان تماما للبشر الذين سيقيمون حاكمية الله والإسلام، كأنهم بشر شفافون لا وجود لهم أو أن حاكمية الله قد حلت فيهم، ستمر حاكمية الله من خلال أجسادهم وعقولهم وأفواههم نقية شفافة من أي أثر بشري.
بينما حاكمية الله في أيامنا هذه لن تمر إلا من خلال حازم أبو إسماعيل أو نجم التعريض بالقول الشيخ برهامي أو المرشد الأعلى لرئيس الجمهورية السيد بديع. عبر هؤلاء ستمر حاكمية الله. وما ذنب النباتات؟!
ولكن بالنسبة لجمهور السلطوية الإسلامية المعتنق لهذا التماهي ولفكرة «الحرب على الإسلام» فنصرة هؤلاء هي جزء من معركة العقيدة ومشاركة في صد الحرب على الإسلام، ويقوم بدور أعداء الإسلام في هذا الموسم كل التيارات المعارضة للتيار السلطوي الإسلامي.
وفي مقابل كل التجميل اللفظي والتجميل السياسي وابتسامات البلتاجي التي تعد ركنا من أركان ممارسته للدعوة، فإن «الحماسة السلفية» تتحدث عن نفسها وتعبر بصدق عن دواعي انحيازها مما يدفع في النهاية بالشاب السلفي للوقوف في طابور الاستفتاء كأنه في جبهة دفاع عن الإسلام رغم أنه يعتقد أن الدستور «مش إسلامي ولا نيلة».
تعبيرات الشاب السلفي في الطابور هي نفسها الفكرة التي عبر عنها مقال احتفت به «الجبهة السلفية» على صفحاتها باعتباره معبرا عن رأيها في الاستفتاء على الدستور. عنوان المقال: «لا .. ولكني سأكتبها نعم». فبرغم عدم الرضا عن الدستور إلا أن المقال يذكر أن التصويت بنعم ضروري لأنها أصبحت «معركة عقدية» أي معركة عقيدة، ويأتي التفصيل بأن رفض الدستور سيمثل إحراجا وتعطيلا للتيارات السلطوية الإسلامية ولمشروعها ونجاحها في تحقيق تقدم في هذا الوقت المأزوم وسط معارضة أعدائها من التيارات الأخرى. وفي هذه الحالات من المعارك المستعصية كل ما عليك فعله هو ارتداء «نظارة الحرب على الإسلام» – كما ترتدي في السينما نظارة الرؤية ثلاثية الأبعاد – لترى أعداء الإسلام مجسدين في المعارضة وتتماهى أنت نفسك مع الإسلام. ويتحول الموقف من الدستور ومن معركة حريات وحقوق وحديث معقد ومركب وعويص عن طرق كفالتهم وضمانهم وتجاوز ألاعيب التحايل عليهم – واسألوا برهامي -  إلى معركة عقيدة تحسم ببساطة من أجل أن تقول الصناديق للدين: نعم.

19 December 2012

حان الآن وقت الحرب على الإسلام

النظارة التي ترتديها لرؤية العالم تؤثر بالتأكيد على المشهد الذي تراه. ورؤيتك واقتراحاتك لتجاوز صراعات العالم تشكل جانبا كبيرا من رؤيتك لتفاصيل هذه الصراعات.
لنحاول أن نرى ذلك بعيون محمد ضياء، المتهم بحيازة سلاح ناري في اشتباكات ساحة القائد إبراهيم في الإسكندرية قبل أيام والذي أخلي سبيله بكفالة، بعد حملة تضامنية معه قادتها «الجبهة السلفية» ومجموعات إسلامية أخرى.
 ضياء  شاب سلفي من «ولاد أبو إسماعيل» كما يعرف نفسه على صفحته في فيس بوك.
يوم 25 يناير 2011 كتب ضياء على صفحته يدعو المتظاهرين للعودة إلى منازلهم لأنه يعتقد أن الأمر سيؤدي إلى فتنة وانفلات أمني وصراع سلطة، ورغم أنه يعلن تعاطفه مع من تظاهروا احتجاجا على تعذيب خالد سعيد، لكن مطالبهم ساعتها «عيش وحرية وعدالة اجتماعية» ليس من ضمنها «الشريعة الإسلامية» ولذلك فالأمر لا يستحق من وجهة نظره كما يقول، كما أن بين المتظاهرين فتيات «يتمايلن» ويهتفن وسط الجموع على حد تعبيراته.
لم يعتقد ضياء أن هذه هي معركته، ولا حتى وسط المظاهرات المطالبة فيما بعد بـ«تطبيق الشريعة في الدستور» وجد معركته. فهو يقول: «أنا مش نازل أي مظاهرة لتطبيق الشريعة لأني مش معترف باللجنة الدستورية و الخرف الأزلي دا.أصلًا أنتم اتهطلتم إنكم تسألوا الناس ( إيه رأيكم نطبق شرع ربنا ولا لأ؟؟؟؟) حاجة تجيب حموضة».
ولذلك ضياء ليس من «مؤيدي الدستور» فهو  يرى أن "الدستور كفر" ويجعل تلك العبارة صورة البروفايل الخاصة به، وفي سياق آخر يقول في توضيح موقفه: «عارفين إيه مشكلة الإسلاميين؟ إن صالحي النية منهم يبحثون عن أي طريقة لقيام الدين دون الصدام مع أعدائه! والله لن يحدث أن يُقام الدين إلا بقتالهم.أفيقوا يرحمنا و يرحمكم الله».
كان ذلك عرضًا موجزًا لجزء من النظارة التي يرتديها ضياء في رؤيته لما يحدث في مصر، وخطابه ذلك ليس خطابه وحده بل هي أفكار منثورة في خطاب السلطويين الإسلاميين بشكل أكبر وسط التيار السلفي وبشكل أقل وسط الإخوان المسلمين.
حدث شيء ما عند مسجد القائد إبراهيم الجمعة الماضي، البعض رأوه بنظارتهم مناوشات بين مختلفين سياسيا سواء كان ذلك بسبب إعلان الشيخ المحلاوي في درسه بعد الصلاة عن تأييد مشروع الدستور والدعوة للتصويت بـ«نعم» أو لسبب آخر، هو في النهاية أمر متوقع الحدوث في ظل الاستقطاب الحالي وبالنظر إلى أن ساحة القائد إبراهيم هي المناظر لميدان التحرير في الإسكندرية. هناك طرف من المتجمهرين يقول إن هناك من احتجز اثنين من الشباب المعترضين وقالوا إنه تم ضربهما وتعذيبهما داخل المسجد، فتجمهر عدد من الناس وأصروا على عدم إفلات من قاموا بذلك، وزاد التجمهر من أناس اقتنعوا بهذه الرواية.
وما حدث أن آخرين، منهم ضياء، ارتدوا نظارة أخرى كان فيها مسجد يتم العدوان عليه وشعائر يتم تعطيلها ووصل الأمر إلى تصوير الأمر على أنه «حرب على الإسلام»، كما في بيان الجبهة السلفية.
بل هو استمرار لحرب على الإسلام و "معركة العقيدة"، التي تتمثل في مناوأة الرئيس الإسلامي المنتخب ومعارضة الإعلان الدستوري ومشروع الدستور. فكل هذه المعارك هي معركة بين الإسلام وأعدائه كما يقول أحد أهم علماء الإخوان وكما يقول أحد قياديي السلفيين وكما يقول ضياء الذي يختلف معهم جميعا في أن الدستور كله كفر أصلا لأنه اتفاق بين البشر على كيفية تعايشهم يطرح فكرة الشريعة للقبول أو الرفض.
 ولكن عندما يصل الأمر للحرب المادية على الإسلام المتمثلة في هجوم آثم على مسجد وشيخ ومصلين – كما تراه هذه النظارة – فإن ضياء ينزل من بيته هذه المرة  وينضم لتجمهر السلفيين الذين اشتبكوا مع المتجمهرين أعداء الإسلام أمام المسجد فهذه من اللحظات القليلة التي يجد فيها معركته الحقيقية التي طالما افتقدها بسبب سذاجة الإسلاميين أو تساهلهم مع أعداء الإسلام.
ضياء وجد فيما حدث عدوانا على الإسلام يقتضي نزوله إلى الشارع، وهو أحسن حالا من رفيقه الذي احتشد أمام قصر الاتحادية لفض اعتصام المعارضين وهو يرتدي نظارة تقول له إنهم أعداء الإسلام المتآمرون عليه ولما لم يجد وهو يفتش في أنقاض خيام الاعتصام إلا علبة «جبنة نستو» فإنه تقريبا فقد السيطرة على نفسه وقادته نظارته إلى رؤية علبة الجبنة النستو كشيء ما ذي علاقة بحمدين صباحي والبرادعي، يجب التنديد به فوقف أمام الكاميرا في المشهد الشهير وصرخ: «حمدين صباحي والبرادعي، شوية الخونة بتوع أمريكا .. جبنة نستو يا معفنين!»
نظارة «الحرب على الإسلام» وصلت إلى هذه الحالات المؤسفة من السواد الكامل التي تكاد تسبب عمى كاملا يعوق تواصل من يرتدونها مع الآخرين فتتخيلهم محاربين للإسلام، يستوي في ذلك بطل النستو وضياء ورموز السلفيين والإخوان. جذور هذا السواد وذلك العمى كامنة وأصيلة في تاريخ نشأة «السلطوية الإسلامية» أو ما يحب البعض أن يسميه «الإسلام السياسي». وهذا ما قد يحتاج إلى مقال آخر قادم ..

12 December 2012

افهم بقى مطلبي!

قبل 8 سنوات من اليوم كان الصندوق لا يزال يقول «نعم» لمبارك، والإخوان يناضلون في صناديق أخرى لكنهم لا يرغبون في منازعة صندوق مبارك. يعارضون حكومته ولكنهم يعترفون مثل غيرهم بأن مبارك «أب لكل المصريين» ويرفضون بشدة هتاف «يسقط مبارك» عندما ترفعه الأقلية الفاشلة من كل التيارات التي لا تستطيع مزاحمة مبارك في صندوقه ولا الإخوان في صناديقهم.
قبل 8 سنوات من اليوم، بدأت حركة رفعت في وجه «مبارك» شعار «كفاية». كان اسمها «الحركة المصرية من أجل التغيير» ولكن عرفت باسم شعارها: كفاية. الشعار الأكثر جاذبية كان يتحرك في إطاره بالإضافة للحركة المصرية من أجل التغيير، حركة أخرى وهي «الحملة الشعبية من أجل التغيير/ الحرية الآن» التي كانت تضم تمثيلا أكثر لقوى اليسار وكان شعارها مثل «كفاية»: «لا للتمديد لا للتوريث» ويضيف عليه «لا لحكم العسكر».
قبل 8 سنوات، بدأت أرفع الملصق الأصفر الدائري تتوسطه كلمة «كفاية» في وقفاتها ومسيراتها التي بدأت بعشرات ووصلت حدها الأقصى ببضعة آلاف. كانت مشاعري وقناعاتي تتشكل وأنا أقف هذا الموقف داخل كردون الأمن المركزي المحيط بنا، كان موقفي واضحا منحازا إلى «كفاية» و«يسقط مبارك»، وفي الوقت نفسه  أبدأ التعرف على من هم في نفس الموقف، الذين أصبحوا الآن أصدقاء أعزاء، ثم أذهب لأدوّن «ما بدا لي» عما حدث مبتهجا بما أعجبني ومنتقدا لما لم يعجبني.
كان الموقف والانحياز لها يشكلنا، رغم أنه لم يرقني كثير من قيادات ورموز حركة كفاية ولا كثير من كلامهم، ولكن كنت سعيدا بموقفي هذا لأن الموقف كان يتشكل من أحرار يدافعون عن حريتهم ولأن الحركة في الشارع تجاوزت القيادات والرموز و«الحركة المصرية من أجل التغيير» و«الحملة الشعبية من أجل التغيير»، وأصبحت حركة شعبية شابة تبادر وتتحرك من أجل التغيير الذي يعني في المقام الأول حريتها وكرامتها.
في ساحة الموقف ذلك التقيت كثيرا من شباب الإخوان الذين تسربوا تدريجيا إلى خارج الجماعة لأن مواقفهم المنحازة إلى الحرية والكرامة للجميع صارت أوسع من أن تتسع لها الجماعة، وكان منهم بعض ممن عرف بـ«مدوني الإخوان» الذين شكلوا حلقة من حلقات «المدونين» التي كانت من أنشط وأثرى حلقات الحركة في الشارع والجدل على الإنترنت. وبفعل الانحياز المشترك المبدئي للحرية وضد السلطة والتسلط كان انحيازنا للموقف واشتراكنا فيه يتشكل أكثر وأكثر، والانتماءات القديمة للإخوان أو حتى للتيارات السياسية التقليدية العتيقة تتباعد عن بؤرة انتباهنا.
قبل 8 سنوات، كانت الدعاية تتصدر الصحف القومية والقنوات التليفزيونية أن هؤلاء قلة قليلة وأحزاب فاشلة في الانتخابات تحاول تعويق الديمقراطية وعجلة الإنتاج، والمرور طبعا! وأنهم مأجورون وعملاء للغرب وأنهم منفصلون عن الشارع ويريدون القفز على معطيات الواقع ويريدون مساحات من الحرية لا يقبلها الشعب ولا يحتملها النظام العام! كما أن لديهم أقرب صندوق، ويجب أن يتقبلوا الخطوات المبذولة والمساحات المتاحة من الحريات والديمقراطية وأن يحاولوا كسب الشارع لرأيهم أولا بدلا من دفع البلاد إلى الفوضى خاصة أنهم يفتقدون البديل الواضح.
في ساحة ذلك الموقف، وقفنا ضد حبس المدون الإخواني- وقتها -عبد المنعم محمود وضد حبس المدون اليساري علاء عبد الفتاح وفي حرية كل من كريم عامر في انتقاد الإسلام وفي حرية أبو إسلام أحمد عبد الله في انتقاد المسيحية والكنيسة دون أن تتدخل السلطة باعتقالات ومحاكمات حتى لو تجاوزوا في تعبيرهم. وقفنا ضد المحاكمات العسكرية للإخوان ولخيرت الشاطر وضد سجن أيمن نور ووقفنا من أجل حقوق متساوية للبهائيين وضد الطائفية وضد التعذيب.
في ساحة ذلك الموقف، عادت مشاركتي للسياسة بإيمان بعد أن كان آخر عهدي بها وسط صفوف الإخوان، الذين تعلمت كثيرا منهم وسعدت بصحبة كثيرين منهم وما زلت أسعد بصحبة أغلبهم لأنهم الآن خرجوا من صفوف الطائفة المغلقة المنغلقة على نفسها، ويتوزعون على صفوف أخرى «للأقلية» من اليسار إلى اليمين ولكنهم يجمعهم رغم الاختلافات ساحة الموقف نفسه، الانحياز المبدئي للحرية ضد التسلط والوصاية والطائفية  الضيقة. وفي ذلك الموقف كانت حريتنا غير قابلة للمساومة مهما كنا أقلية صغيرة تسخر منا الكيانات الديناصورية من كل نوع. حرية كل واحد منا ودفاعه عنها هما أساس حركتنا لا طلب السلطة والتسلط والفخر بالكثرة والقوة. 
أنا لا أتذكر ساحة ذلك الموقف بحنين وشجن لأني أعتقد أنني ما زلت فيه حتى هذه اللحظة، ولكني أتأمل تبدلات الأشخاص والكيانات على الموقف وتشابه لسان السلطة وحالها وتبدل الكيانات الديناصورية عليه. لا يزعجني أن أظل في هذا الموقف المزعج الذي لا يرضى بنصف التغيير أو بتغيير مشوه، لا يزعجني أن أظل فيه وحيدا أو وسط قلة.  ولكني عندما أتأمل المسيرة من 2004إلى الآن، أتأكد من بعض الأشياء. أن حركة الشارع التي قالت «كفاية» وكانت أكبر من حركة «كفاية» تنبهت أن إسقاط السلطوية هو بداية الطريق للتغيير، وأن من ينتمي مشروعهم لسلطوية أخرى يكونون على استعداد دائما للشراكة ويبدون مرونة أكثر لذلك، وعندما تحين دولتهم تنضح مرونتهم بتشابه واشتراك كانا يبرران ذلك الاستعداد للشراكة.
الأكيد أكثر وأكثر أن ساحة الانحياز للحرية سواء ضمت العشرات أو المئات أو الألوف أو الملايين، وسواء انحاز لها الأغلبية أو حوصرت فيها الأقلية، ومثلما نزلت من بيتي وتركت «طائفتي» ورضيت بصحبة رفاق «الموقف»  قبل 8سنوات على تنوعاتهم ونبالتهم وعلاتهم لأقول معهم  «كفاية»، الآن  أحب وما زلت أن أكون فيها، وأنزل إليها من بيتي مع كل رفاق هذا الموقف، على كل تنوعاتهم ونبالتهم أو علاتهم لأقول «لا»  للسلطوية والطائفية ودستورهما.
فلتكن نتيجة كل جولة ما تكون، وقد ينتهي العالم، كما يقولون، ولكن لا يبدو أن هذا الموقف ينتهي أمره أو تخلو ساحته من أهله القدامى والمتجددين.

* لمن لا يعرف فالعنوان مقتبس من أغنية للألتراس: يا نظام غبي .. افهم بقى مطلبي .. حرية! .. حرية!

06 December 2012

الديمقراطية كغزوة صناديق وخط أوتوبيسات

يحكى أن رجلا ذهب يحتج ضد ظلم وعسف السلطة، فعبأت تلك السلطة آلاف الرجال يتظاهرون أمام بابها تأييدا لها لأنها منتخبة وشرعية وجاءت بها الصناديق وأن هذا الرجل لا حق له في الاعتراض عليها. هذه هي الديمقراطية؟
لا الأضعاف المضاعفة من مؤيدي السلطة ولا التعلل بـ«إجراءات الديمقراطية» هي رد مناسب على انتهاك حق وحرية فرد واحد. لأن تلك الإجراءات هي مقاربات وضمانات لكي يعيش الناس جميعا وحرياتهم وحقوقهم مصانة. فما بالك بملايين المعترضين.
لا تأييد حشود ضخمة للإعلان الاستبدادي يجعله ديمقراطيا ولا تأييد حشود أضخم لمسودة دستور طائفي تم تمريره لإنقاذ الرئيس من أزمة الإعلان الاستبدادي سيغطي على فضيحة التمرير وخسة من قاموا به ويستحقوا جميعا أن يوضعوا في قائمة عار.
مطالب المحتجين التي يثبتون كل يوم أنها مطالب قطاعات واسعة من الشارع تثبت أن هناك انقساما في الشارع. ولكن السلطويين الإسلاميين لديهم في مواجهة ذلك الانقسام طريقتين.
الأولى هي التعلل باجراءات الديمقراطية في مواجهة ضمانات الحريات والحقوق في الديمقراطية. والتعلل باجراءات الديمقراطية في مواجهة فتح المجال السياسي لرضا  وتفاعل أوسع نطاق من الناس.
النموذج الأبرز لذلك هي تصريحات عصام العريان التي ساومت الناس بين قبول الدستور أو استمرار الإعلان الدستوري ولذلك  فإن الحل الوحيد هو «نعم»!
وبذلك تكون الإجراءات التي اتخذها مرسي وإخوانه بالإعلان الدستوري وبالإنهاء السريع لعمل التأسيسية هو تعبير صادق ومكثف عن فكرة الديمقراطية عند الإخوان. هي مجرد إجراءات ليست مهمتها احترام الاختلاف أو فتح فعلا المجال السياسي لخيارات الناس، لكن هي إجراءات تسمح بتمرير ما تريده السلطة عند الاختلاف وأن تسمح لها بهندسة المجال السياسي لصالح خيارات السلطة لا رضا الناس.
والطريقة الثانية هي الالتفاف حول رضا الناس وإنكار وجود الانقسام والاستهانة بحجم المعارضين وتخوينهم وتصويرهم على أنهم إما مخربين أو متآمرين أو من أتباع النظام القديم، وحتى الخيابات الفارغة من نوع: إنها معارضة من أجل المعارضة.
وفي النهاية عندما يتجاوز الحشد المعارض قدرتهم على الإنكار تأتي خيابة حشد الآلاف على باب السلطة تأييدا.
ما يفهمه المؤيدون من أن حشد المعارضين يتطلب حشدا مقابلا مضاعفا هو تعبير طفولي ولكنه  جيد عن رؤيتهم للديمقراطية باعتبارها مسابقة المزايدة بأعداد البشر في مواجهة الأعداء. 
تعبير صادق عن رؤيتهم للديمقراطية باعتبارها غزوة صناديق، اجراءات الوصول إلى السلطة، تعبئة للناخبين، تكتيكات لكسب الشارع وتطمين المعارضين وكسب متحالفين. ولكنها ليست أبدا توجها لجعل «كل» الشعب «حاكما»، وإلا فكيف يرضون بمشاركة من يصفونهم بأنهم أعداء الإسلام وكارهي شريعة الله ومعهم «كل مَنْ بَعُدَ عن الله ووقع في قبضة الشيطان الذى يحركه اتجاه لحرب الإسلام، والكيد للمسلمين، والحرص على التخريب والإيذاء المتعمد لأمة مسلمة تريد أن تعيش للبناء والتعمير والسعي في الأرض لعمارتها .. هؤلاء لا يريدون إلا الفساد والتخريب وإهلاك الحرث والنسل والصد عن سبيل الله» والكلام بين المزدوجتين من أحدث مقال للشيخ محمد عبد الله الخطيب، في جريدة الحرية والعدالة، وهو واحد من أهم علماء الإخوان المسلمين والعضو السابق في مكتب الإرشاد.
الإخوان الآن يقفون كطائفة بليدة مفتقدة للخيال والانحياز المبدئي للحرية وللديمقراطية تعاني فعلا من الحيرة بين مطالب المنحازين للحرية وبين السلفيين أعداء الحرية والديمقراطية بوضوح وبدون إنكار. محاولة الإخوان التظاهر بالوسطية تفشل في اللحظات المفصلية وتضطر للاصطفاف إلى جانب كارهي الحرية والديمقراطية أو تستدعيهم وتنصب لهم «سيرك الشريعة» من أجل الدفاع عن مكاسب «غزوة الصناديق» المسماة بالشرعية.
أما بناء الديمقراطية فهي المساحة الواسعة التي تمثل رضا الناس كلهم أولا وقبل أي شيء، وذلك لن يحدث قبل التخلي عن الرغبات السلطوية وأوهام الغزوات. وإلا فإن الرغبات السلطوية تصنع أمامها مقاومة باسم الحرية. أو بالأصح استمرار المقاومة من أجل الحرية في مواجهة الرغبات السلطوية الجديدة للنظام في ثوبه الجديد.