29 September 2012

بل العكس هو الصحيح: أوقفوا محاكمات ازدراء الأديان

لأنه لا يمكنك أن تطلب المطافئ من أجل شرارة صغيرة. إذن اجعلها حريقًا ضخمًا واملأ الدنيا صراخًا، لكي تتسابق المطافئ إليك.
يبدو أن هذه فلسفة قادة موجة الغضب ضد «الفيلم المسيء» وما بعده. مشعلو الحرائق من «الإعلاميين الإسلاميين» والدعاة ورجال الأزهر والإخوان والسلفيين ومن ركب معهم السفينة، اقتناعًا أو مسايرة وخوفًا من الوقوف ضد انتفاضتهم المباركة والجموع الهائجة التي خلفهم، يعلنون الآن أن حريقهم الذي صنعوه من شرارة يؤكد ضرورة التشديد في الدستور والقانون، بل في دساتير وقوانين الدول الأخرى وإقرار اتفاق دولي على مطاردة ومحاكمة أي تعبير يرونه ازدراء للدين والمقدسات. بل شكل عدد منهم ائتلافًا لمطاردة كل تعبير يرونه إساءة يسمعون عنها للإسلام، وسموا هذا الائتلاف «صوت الحكمة«!
حسنًا..المبجلون أصحاب «صوت الحكمة» يقترحون مرة أخرى مطاردة الشرارات في كل مكان. وهكذا يمكن أن تتحول كل جملة أو مقال أو فيديو على الإنترنت إلى قضية وطنية أو عالمية، وبالتالي تنتشر الإهانة ويحتدم الصراع من أجلها في ساحات المحاكم وفي اشتباكات الشوارع. وتتكسر مشاعر المؤمنين من مطاردة مضمون الإهانة في كل وسائل الإعلام العالمية والمحلية.
من لديه أدنى فكرة عن وسائل الاتصال الحديثة يدرك أن التحكم في مضمون كل ما يبث وينشر هو العبث بعينه، خاصة على ساحة الإنترنت. ووسط الجدل المحتدم على أكثر من صعيد وأكثرهم سخونة هو الجدل الديني، فإن التعبير الانتقادي الحاد والساخر أمر معتاد ومتكرر بشكل يستحيل ضبطه. ومضمون الفيلم موضوع الضجة مثلا موجود في آلاف المقالات والمواقع والكثير من المراجع عن تاريخ الإسلام وكتب المستشرقين والكثير من الفيديوهات أيضا التي تقوم بالمقارنة بين الأديان وتنتقد الإسلام وتاريخه. وفي المقابل هناك سيل من المقالات والفيديوهات والكتب المماثلة التي تنتقد بحدة وسخرية وبعنف بالغ وبتعمد في الإهانة الأديان والعقائد الأخرى وأهلها. وليس ما فعله أبو إسلام وما خرج من جوف الداعية وجدي غنيم إلا نماذج مألوفة من «الخناقات الدينية» الأشد ابتذالاً التي تجري كل يوم على الإنترنت وفي ساحاتها الحوارية.
محاولة إيقاف ذلك أو معاقبة كل مشارك هو العبث بعينه وهو التخريف الذي يؤدي لتحويل الدولة والشرطة والقضاء إلى هيئة تربوية فارغة من المسؤوليات تقريبًا، إلا من مراقبة كل ساحات الجدل والحوار لتتأكد أن الشعب يتناقش بأدب وخلق.
ولكن الحقيقة أن الدولة لم تكن ولن تكون بهذا العبث الضروري، إن كنا نريد فعلا وقف كل أشكال وتنوعات التعبير المهين والمسيء. فما يحدث الآن هو ما حدث سابقا طوال التاريخ وكانت نتيجته واحدة.
أن كل النصوص الدستورية والمواد العقابية عن ازدراء الأديان والذات الإلهية والشخصيات المقدسة لم تستخدم لضبط الحوار ولم تنجح في ذلك، لكنها فقط قامت باستخدامها في حماية الدين الذي ينتمي إلى السلطة والأغلبية. وحاكمت من يرى الذات الإلهية بشكل مختلف عما تراه السلطة، وعاقبت من مس قداسة الشخصيات التي تراها السلطة والأغلبية مقدسة.
النماذج متعددة في التاريخ، لكن أبسطها هو ابن تيمية، الذي يعد المنظر الأهم للمنهج السلفي، الذي حوكم في مصر، لأنه قدم تصورًا لتفاصيل في العقيدة رآها علماء المذاهب الأربعة تصورًا شاذًا عن الذات الإلهية، ولأن رأيه كان حادًا في أقطاب الصوفية مثل ابن عربي فاعتبروا كلامه مهينًا للشيخ الأكبر
تمت محاكمته على أفكاره وازدرائه للدين وبسبب التقارب بين الصوفية وأعداء ابن تيمية من العلماء وبين الحاكم تم سجنه أكثر من مرة في مصر لمدد متفاوتة وصل مجموعها عامين، حتى أفرج عنه عندما تعاطف الحاكم مع فكره.
ابحث عن السلطة!
والآن، تتهادى الدعاوى القضائية وتتبختر في طريقها إلى أمثال أبي إسلام الذي مزق الإنجيل أمام السفارة الأمريكية وإلى وجدي غنيم الذي سب وشتم القساوسة والرهبان. رغم أن مضمون كلامهم شاهده الملايين على وسائل الإعلام وعلى الإنترنت. لكن محاكمة ألبير صابر تسير بسرعة البرق، بسبب كلام له على الإنترنت لم نكن نسمع به أصلا لولا تحريض ضده من صفحات إسلامية سلفية أدت لتجمهر حاول الاعتداء على بيته وهدد أسرته. طبعا يحاكم ألبير صابر لكن جموع المجرمين الذين حاصروا المنزل وهددوا أسرته لم تتم مساءلة أحدهم. وكما تروي والدة ألبير في مؤتمر صحفي أن الضابط قال لها: «لا يمكنني إبعاد المتجمهرين ولذلك سأقبض على ابنك حماية لكم».
 وها هو ألبير الذي أخذه الضابط حماية له، وأخذ حاسبه الشخصي أيضا، يُسأل في النيابة عن عقيدته وعن مواظبته على أداء الشعائر الدينية، ويتعرض لمحاكمة قد تؤدي به إلى السجن مدة تصل لخمس سنوات. لكن من لم تستطع الشرطة حماية ألبير منهم أحرار طلقاء.  ذهبت بنفسي بعد القبض عليه ووجدت بعضهم يجلس يتسامر مع قوة الشرطة التي تواجدت أسفل المنزل لأيام، تحسبًا لأي طارئ. ويشترك الضباط والمواطنون الغيورون في ممارسة السخافة على الصحفيين والحقوقيين الراغبين في متابعة القضية.
سول الجدل الديني المليء بالسخرية والانتقاد العنيف والإهانة المتبادلة موجودة على صفحات الإنترنت، ولكن سلسلة المحاكمات بازدراء الأديان لا تمس إلا الجانب الأضعف، الأقلية. والدعاوى التي يتم تحريكها ضد أطراف قوية لا تتحرك بنفس السرعة والحماسة.
منذ انطلاق الثورة فقط، رصدت «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» عددًا بلغ 14 دعوى ازدراء أديان – قبل التحقيق مع خالد عبد الله وأبي إسلام -  بعضهم  كانوا ضد أطراف قوية تنتمي لدين الأغلبية أو شخصيات عامة ورجال أعمال »ساويرس (قضيتان)، عادل إمام (قضيتان)، يحي الجمل، أحمد رجب ومصطفى حسين».وبالطبع لم يسجن واحد منهم ولم يتم القبض عليه، رغم أن تعبيرهم محل الشكوى وصل لأكبر عدد من الناس. ولكن الضحايا الآخرين  فيهم واحد مسلم اتهم بإهانة الإسلام بالإضافة لـ6 مسيحيين وواحد مسلم شيعي. وتم اتهامهم نتيجة أفعال محدودة لم تصل للإعلام ولم يسمع بها عدد كبير، ومعظمها مناقشات شخصية بين موظف وزميله أو حوارات على الإنترنت.
وكلهم تم القبض عليهم سريعًا وتعرض معظمهم لاعتداء بدني وسوء معاملة كما حدث لألبير، وفي أكثر من محاكمة دعت تجمعات سلفية للتجمهر أمام مكان المحاكمة أو داخلها وتم الاعتداء على المحامين في أحد هذه المحاكمات، وفي كل تلك المحاكمات التي تخلو من ضمانات المحاكمة العادلة حصل المتهمون على أحكام بالسجن تصل إلى 5 سنوات.
امنح السلطة أداة طيعة للقمع!
ابحث دائما عن الخط الفاصل بين السلطة والأغلبية وبين الطرف الأضعف والأقل في قضايا محاكمات الرأي والتعبير و«ازدراء الدين» يمكنك أن تجد التفسير الواضح
 والأمر لا يخص التطبيق فقط. فصياغة المادة 98 وتعاقب «كل من استغل الدين فى الترويج أو التحبيذ بالقول أو بالكتابة أو بأي وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعى». وهذه الصياغة الفضفاضة كانت تصلح لمحاكمة الإخوان المسلمين والسلفيين وتصلح الآن لمحاكمة محمد أبو حامد ومعارضي الإخوان، والعقلية التي تمثلها هي التي حركت محاكمات ابن تيمية السابق الإشارة إليها.
الصياغة المقترحة في الدستور أيضا التي تنص على صيانة «الذات الإلهية والأنبياء والصحابة وأمهات المؤمنين والخلفاء الراشدين»، هي صياغة واضحة بنفسها في حمايتها وصيانتها للمقدسات فقط من وجهة نظر الأغلبية المسلمة السنية. لا إشارة مثلا للقديسين المسيحيين؟ أليس لليهود مقدسات؟ أليس من حق أبناء الطوائف الصغيرة مثل الشيعة والبهائيين أيضا حماية مقدساتهم من الإهانة؟
ما هذه الأسئلة السخيفة! هؤلاء مرهونون برأي الأغلبية المسلمة السنّية فيهم، وهذه المواد هي عصا السلطة والأغلبية فقط. وادعاء حماية المقدسات كان دائما أداة السلطة والأغلبية لحماية الذات الإلهية «كما يرونها» والشخصيات المقدسة الخاصة بهم فقط
طوال التاريخ لم تنجح هذه المحاكمات والمطاردات في وقف إساءات متبادلة للمشاعر وإرساء الاحترام المتبادل، بل كانت أكبر إساءة تاريخية لها. وتم استخدامها دائما لمواجهة أي فكر أو تعبير يحاول مراجعة ونقد ما هو سائد عند السلطة والأغلبية باتهامه بإساءة الأدب والتعبير، بدءًا من اتهام معظم الأنبياء بإهانة مقدسات القوم الذين أرسلوا إليهم، مرورًا باتهام العلماء والصوفية والفلاسفة والأدباء والفنانين بإهانة المقدسات، بينما هم في الحقيقة يناقشون «أفكار أناس آخرين عن المقدسات» أو يجادلون في كونها مقدسات أصلاً.
هناك شعوب تعلمت نسبيًا دروس التاريخ وأوقفت محاكمات التعبير مهما كان مسيئة. لم تتوقف الإساءات والشرارات لكنها لم تشتعل حرائق، حتى في وجود أعمال سينمائية وكتب ذائعة تنتقد بحدة وسخرية السيد المسيح والمسيحية في دول ذات أغلبية مسيحية.
ولكن مطاردوا الشرارات عندنا لا يريدون أن يتعلموا، بل يريدون أن يعلّموا العالم، ويحثوه على سن تشريعات عقابية مسيئة مثل التي عندنا!
الهيئات الدعوية التي تشكل الآن حياتنا السياسية، بدءًا من الإخوان المسلمين والدعوة السلفية، وانتهاءً بالقيادة الأزهرية التي يريدون لها المرجعية، التي لا تستطيع أن تميز بين دورها الدعوي المتعلق بالمشاعر والعقائد والإيمان المتعلق بطائفة من الناس، وبين دورها السياسي الذي «من المفترض» أن يحمي مصالح «كل الناس» وحقوقهم وحرياتهم في توازن بين السلطة والأغلبية وبين معارضتها والأقليات، وهذا هو هدف السياسة والقانون والعقاب الجنائي الذي لا يطال في هذه القضية إلا الضعفاء لدينا والذين سيدفعون ثمن الحريق الكبير الذي أشعلوه بلا طائل!
فكروا في الضحايا الذين هم من لحم ودم تحت عجلات القوانين التي تريدون تشديدها وتصعيدها في الدستور.  فكروا في ازدراء وإهانة الإنسان بدلاً من المزيد من الإساءة لأنفسكم ودينكم والمزيد من الحرائق  والضحايا وأوقفوا محاكمات الكلام 

26 September 2012

مشاهد حصرية من الفيلم المسيء للإسلام

فيم كنا نتحدث قبل أن يقرر عدد كبير من المسلمين أن يصبحوا مجاميع كومبارس لمنتج مغمور نشر مقاطع من فيلم تحت الإنشاء عن الإسلام؟ 
كنا نتحدث عن «الحماسة السلفية» التي تتقدم وتجر قاطرة «التفكير الديني الراكد»، وأعتقد أنه ظهر واضحا الأيام الماضية كيف تقدمت الحماسة السلفية فعلا وكيف انكشف مستنقع التفكير الديني الراكد كله في معركة خائبة ضد مقاطع من فيلم مجهول، ولكني لا أعتقد أن الأمر بلا فائدة. حتى هذا الفيلم البائس، أو بالأصح الفيلمين – الموجود على يوتيوب والموجود على أرض البلدان المسلمة -  ليسا بلا أدنى فائدة. فالحكمة ضالة المؤمن. هي  في الحقيقة ضالة المؤمن الذي يتقبل انتقاد إيمانه أو مراجعته. أما الكثير من المؤمنين بأديان أو الكفار بها فهم في الحقيقة أبناء دين واحد هو «ما وجدنا عليه آباءنا». وهو دين رائع وعظيم ومريح وبداخله كلام كثير عن تلك النعمة التي أنعم الله بها عليهم فولدوا على الدين الصحيح فلا حاجة بهم إلى مزيد من الحكمة في هذا الخصوص.
وبهذا الخصوص أود أن أتحدث أولا عن مقاطع هادفة من تلك المنشورة على  يوتيوب قبل أن أتحدث عن المشاهد الحصرية التي لا يبدو لي أن أحدا ينتبه لإساءتها البالغة للإسلام.
في الثلاثة عشرة دقيقة الموجدين على يوتيوب، هناك مشهد لأناس يخربون صيدلية مسيحي بينما الشرطة تتفرج والضابط يأمرهم بعدم التدخل وشيخ ملتح يقف على مسافة يتابع التخريب.
هذا المقطع الهادف من هؤلاء المسيئين ربما نجد حكمة فيه تنبهنا أن هناك بالفعل الكثير من المصريين المسيحيين يشعر بمرارة لأنه في كل أحداث العنف الطائفي التي وقعت في مصر كان هناك جموع تهاجم الكنائس أو بيوت المسيحيين أو محلاتهم، في حالات كثيرة  لم تتدخل الشرطة أو تأخرت أو أعلنت حمايتها للكنيسة فقط ونصحت المسيحيين بمغادرة منازلهم حرصا على حياتهم، كما حدث في دهشور مؤخرا. وفي كل الحالات لم يحاكم متهم واحد بتهمة  مهاجمة بيوت أو محلات مواطنين، وفي معظم الحالات شهدت جلسات الصلح العرفية شيوخا يمثلون «الجانب المسلم» ومثلت محاضر الصلح هذه مخرجا ومهربا لجموع المخربين من الغاضبين المسلمين.
المقطع مبالغ بعض الشيء لكن الواقع مسيء بما فيه الكفاية.
المشهد الثاني الهادف هو أيضا مبالغ فيه كثيرا، لكنه مشهد جامع يتضمن لقطات لأفعال للنبي فيما يخص الحث على الجهاد واتخاذ الأسرى من الأعداء عبيدا وإماء وأيضا أفعالا تخص العلاقة بين الرجال والنساء ووضع المرأة بشكل عام. ولا يمكنني التعليق على هذا  المشهد والحديث عن المشكلة فيما يتضمنه من أفكار إلا بالانتقال إلى المشهدين الحصريين الذين لا ينتبه أحد إلى إساءتهم الأبلغ.
المشهد الأول
الحكمة الإلهية إلى ناس 1 + لحظة زمنية 1  = خطاب وتشريعات 1  ( شرع من قبلنا، رسالات قبل الإسلام)
الحكمة الإلهية إلى ناس 2 + لحظة زمنية 2  = خطاب وتشريعات 2  (المنسوخ من شريعة الإسلام، ما تم تشريعه في لحظة وتم نسخه في أخرى)
الحكمة الإلهية إلى ناس 2 + لحظة زمنية 3  = خطاب وتشريعات 3 ( شريعة الإسلام الناسخة، ما تم تشريعه لاحقا لينسخ المنشوخ وشرع من قبلنا )
الحكمة الإلهية بعد وفاة النبي وناس 3 ولحظة زمنية 4   = خطاب وتشريعات 3
الحكمة الإلهية بعد وفاة النبي وناس 4 ولحظة زمنية 4 =  خطاب وتشريعات 3 مع اعتذارات تجميلية وتجديدات شكلية
أتى رجل عدل من نظارته الطبية وقال أنه بما أن الحكمة الإلهية يتغير خطابها وتشريعاتها بتغير المخاطبين ولحظتهم الزمنية التي تتضمن ثقاقة وملابسات تاريخية، إذن الخطاب والتشريعات ليسا أبديين، ويبدو انه من المنطقي أن نفكر في «خطاب وتشريعات 4 » يحاول أن يسترشد  بالحكمة الإلهية ويكوّن حكمة إنسانية تاريخية متنوعة ومتعددة تتجادل بدون ادعاء امتلاك الحكمة الإلهية بعد أن توقف الوحي  بدلا من الترقيع في خطاب وتشريعات 3.
لم يكن هذا الرجل أول من يقول ذلك، ولكنه ربما قالها بشجاعة وسمعه علماء الأزهر وعلماء وجماهير التيارات الإسلامية ومنهم الإخوان والسلفيين، فكفروه جميعا وترك وطنه زمنا ليمكنه أن يعيش في أمان. هذا الرجل يسمى نصر حامد أبو زيد.
أما التفكير الديني الراكد فما زالت  تتوالى عليه الأجيال واللحظات الزمنية بينما هو عاشق للحكمة الإلهية في تجليها في خطاب وتشريعات 3 » واعتبرها "ثوابت" مع تعديلات واعتذارات وتجميلات هنا وهناك في محاولة لتثبيت حكمة في أحد تنوعاتها الزمنية وبالطبع كانت هذه أبلغ إساءة للحكمة وخطابها وتشريعاتها.
المشهد الثاني
ساء حال الأمة الإسلامية وتساءل مفكروها: «لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟» وغير ذلك من الأسئلة وأخذوا يتسائلون إن كانت المشكلة في الفكر أم في التطبيق أم في الظروف السيئة.
وتوالت إجابات أغلبها اعتذارية تحاول عصر وليّ حروف وكلمات «خطاب وتشريعات 3 » فذهبت في المتاهات. لكن  حياة المسلمين استمرت في طريقها تحاكي حياة الأمم الأخرى وتنقل تنظيما اجتماعيا مبنيا على فلسفات وأفكار وخطابات وتشريعات من تجارب الأمم الأخرى ونشأت سلطات مبنية على هذه الهياكل بدون روحها. وفي المقابل عاشت الشعوب في حلم مجد تحقق في ظل «خطاب وتشريعات 3 » ونظرت للدولة الحديثة باعتبارها كائنا غريبا هجينا أو مستوردا أو غير مفهوم. 
 إلى أن أتى رجال قالوا المشكلة ليست في «خطاب وتشريعات 3 »، لكن المشكلة أن «خطاب وتشريعات 3 » لا يحكم، وكان هذا في رأيهم أن الله لا يحكم! والمسلمون حققوا المجد عندما حكموا به في لحظة زمنية 3. ولذلك فإن الحل هو أن نصل للسلطة باسم «خطاب وتشريعات 3 » لكي يكون لله السيادة والحكم. والدولة الحديثة ليست إلا أداة ووسيلة لهذه السيادة، مثل سائر الأدوات المستوردة. هؤلاء كانوا منظري الإسلام السياسي، حسن البنا وأبو الأعلى المودودي وغيرهم.
طبعا لدواعي التجريد أعتبر كل ما يقولونه عن التجديد ومواكبة المتغيرات هو اعتذارات شكلية أو تعديلات محدودة.
ولكن في النهاية هذان المشهدان وصلا بنا إلى أن يكون التيار الأساسي للتفكير الإسلامي هو تفكير ديني راكد يفتقر لشجاعة التجديد ولكنه يملك شجاعة طلب السلطة باسم أفكار راكدة يعتقد أنها الدين.
ربما لو عدنا للمشهد 2 من ملف مقاطع اليوتيوب الحمقاء سنجد «المسيئين» فرحين بهذا الركود. وفي مشهد يشرح أب لابنته كيف يتحول الإنسان لإرهابي يقوم بجريمة تخريب مملتكات مواطن من عقيدة أخرى بالرجوع «فلاش باك» إلى أيام بعثة النبي ليريها كيف أن أفكار جهاد الكفار وأسرهم واستعبادهم أو قتلهم أو دفعهم للجزية ودونية المرأة عن الرجل هي التي تحكم بعض مسلمي هذه اللحظة.
 يحاول التفكير الديني الراكدالاعتذار والتبرير والتعديل ولكن الحماسة السلفية ترفض ذلك وتعتبره هزيمة نفسية وما زال علماؤها المعاصرين يتحدثون عن «ديار الكفر» وعن عدم السفر إلا لضرورة ويقولون أن من شرائع الإسلام الثابتة مثلا جواز استرقاق الأسرى وقتال الكفار وقتل المرتد وتبعية المرأة للرجل وحبسها في مهام بعينها وتفضيل تركها لغيرها. وستظل تلك ثوابت لأن الاعتذارات والتعديلات مؤقتة أو عارضة.
ويبدو لي أنه في المجمل ستستمر إساءة معظم المسلمين لدينهم وللحكمة الإلهية التي يؤمنون بها وسيجدون دائما أنهم في معارك كثيرة تتقدمهم الحماسة السلفية الواثقة وسيجدون أرجلهم في مستنقع التفكير الديني الراكد الذي لم يقرر بعد الدخول في التاريخ.
 يبدو لي أن الإساءة الحقيقة للإسلام أن من حاول إنقاذ الحكمة الإلهية من هذه المهزلة تم تكفيره ولا يزال يحدث. ولا يبدو لي أن هناك فرصة  إلا بعد مراجعة سؤال ذلك «الكافر» الذي لم يطلب من المسلمين مثلا مراجعة اختيار الإسلام نفسه أو التساؤل بخصوصه. فمعظم أبناء دين «ما وجدنا عليه آباؤنا» لا يطيقون مثل هذه التساؤلات ولا هم من المؤمنين الذين يعتبرون الحكمة فعلا ضالتهم.
المهم هو «هوية» واحدة ثابتة جامعة للأمة كما في المشهد الأول، و«سلطة» تطبق هذه الهوية وتحميها كما في المشهد الثاني. أما الحكمة فهي التي يتم إهانتها والإساءة لها في المشهدين.

21 September 2012

معاناة العائلة غير المقدسة



عزيزي السيد الرئيس الدكتور محمد مرسي، عزيزي الدكتور الشيخ أحمد الطيب، أعزائي علماء الأزهر ومشايخ ودعاة المسلمين ومتابعيهم الغيورين ونشطاءهم المتحمسين وكُتابهم وإعلامييهم وسائر شبابهم وشيوخهم ونسائهم، وأخص بالذكر الإخوة في جماعة الإخوان المسلمين وذراعها والإخوة السلفيين وأذرعتهم ومن تبعهم وانتخبهم بحسن نية حتى يوم التمكين.
أنا أسكن في إمبابة، وعادة ما يقوم «عيّل» في الشارع بعمل طائش، كما يقوم العيال عادة بالأفعال الطائشة، وينتج عن ذلك أحيانًا أن البعض يقرر أن العالم كله يجب أن يعرف ما قام به ذلك العيل وأن رد الفعل يجب أن يكون هو البحث عن حصانات وضمانات ألا يجرؤ العيل على الإقدام مرة أخرى على الأفعال الطائشة، ويكون من نتيجة ذلك هو جمع من الناس يخلعون عادة ثيابهم عن النصف العلوي من أجسادهم ويتصارخون في وجوه بعضهم البعض وقد يحملون أسلحة بيضاء أو ملونة ويلوحون بها لبعضهم البعض، وقد يقع أحيانًا جرحى وقتلى.
في مثل هذه الأوقات أقوم بإغلاق النافذة بإحكام، لأن لدي أشياء جدية أو ممتعة أقوم بها بعيدًا عن العبث والحماقة التي تجري بالخارج، ولأنني لست شخصًا تافهًا ولا مهووسًا لكي أخطط لمنع الطيش من الوجود في العالم فإنني حتى لم أحاول التفكير فيما يحدث، ولكن يصلني بالطبع ما قاله الطفل الطائش من أكثر من مصدر، قد يكون البقال أو البواب أو المكوجي، وذلك لأن هذا العبث ينشر الطيش ويجعله أكثر بقاء في الذاكرة وفي كلام الناس ووسط أكبر عدد من الناس.
المشكلة أن هناك عائلة بعينها، أعتقد أنها تعاني من علة ما ذهنية أو نفسية، قد أدمنت هذه اللعبة لدرجة أنها تهيج كلها وتنزل عن بكرة أبيها في مواجهة العيل وحده دون أن تناصره عائلة تلعب دور المجنون الآخر، فينزل الرجال بالفانلات الداخلية يلوحون بالأسلحة والنساء يتصارخن ويلطمن، بينما بعض المهندمين منهم يلعبون دور العقلاء، يقترحون الذهاب إلى قسم الشرطة والمحكمة، وربما إضافة نصوص في الدستور وقوانين عالمية تضمن ألا تتكرر هذه الأفعال الطائشة.
 هذه العائلة أصبحت تقوم بكل طقوس المعركة دون طرف آخر إلا العيل الطائش. ورغم كل محاولات عائلة العيّل للتهدئة ومحاولة إفهامهم أن العيّل لا يمثل بالضرورة رأي عائلته كلها، وأنهم تحدثوا معه بهذا الشأن ولكنهم لا يمكن أن يعاقبوه بالقوة لأسباب ما، ورغم أنهم يُقبّلون الرؤوس والجباه ويرسلون الاعتذارات والتأكيدات على احترام العائلة التي تشعر بالمهانة من كلام العيّل، ويفعلون كل ما يمكن أن يفعلوه لتهدئة المجانين الذين يستثيرهم دائمًا كلام العيال، إلا أن هذه العائلة المُعتلة لا تهدأ وتريد ضمانات ألا يكرر العيّل فعلته.
 من خلعوا قمصانهم يريدن ممارسة التأديب بالذراع، ومن يرتدون ربطات العنق يريدونها بالذراع السياسية والقانون والدستور. هذه العائلة صارت مصدر إزعاج بائس لا معنى له، ورغم أنني أغلق النافذة كل مرة إلا أنه يسوؤني ما يقع من جرحى وقتلى حتى من بين هذه العائلة البائسة التي بدأ بعض أفرادها يضيقون منها ويغلقون نوافذهم هم أيضًا محاولين الابتعاد خطوات عن محيط التفاهة والعبث والحماقة.
 أحببت فحسب أن أشارككم إحدى مشاكل سكني في منطقة إمبابة، وأرجو ألا أكون قد أثقلت على سيادتكم وفضيلتكم وعلى عامة المسلمين والمسلمات بمشاكلي الشخصية.. والسلام.

نشر في بوابة "المصري اليوم" الخميس 20 سبتمبر