31 December 2008

خصلة طويلة غير مهذبة


في ليلة اليوم الموافق لتاريخ يوم ميلادي بالتقويم الميلادي من هذه السنة – نعم، هذا أفضل من أن أقول "عيد ميلادي"، وأليق بما سأقوله بعد أن أغلق هذه الجملة الاعتراضية- تناولت لأول مرة قرصا مضادا للاكئتاب قبل أن أنام.
لم يكن ذلك لأني أشعر بالاكتئاب، أنا أمر دوريا بأشكال مختلفة من الاكتئاب، لا أتعامل معها بأي تضخيم درامي أو جزع أو حتى أدنى شكوى. الاكتئاب عرض وجوديّ، هكذا أعتقد، ولا يجب أن نكتئب زيادة بسبب هذه الحقيقة.
ولكن كان ذلك بسبب اضطراب نومي، الذي يقل فجأة إلى الساعتين يوميا، ثم يمتد لأكثر من اثنتي عشر ساعة لأيام. وهذه الأقراص المضادة للاكتئاب كانت طبقا لمشورة طبيبة صديقة. وكان علي فقط أن آخذها قبل الموعد الذي أريد أن أنام فيه بساعتين، وفعلت، ونمت.
نمت أكثر من المتوقع قليلا، ولكني استيقظت نشيطا وبروحي خفة. عندما فكرت أنها يمكن أن تكون من تأثير الدواء المضاد للاكتئاب كاد ذلك أن يدفعني للاكتئاب حقا. أيكون اكتئابنا الوجودي النبيل أو خفتنا الصباحية الآملة مجرد كيمياء تتلاعب بها أقراص؟ سيأخذني ذلك إلى المزيد من التأملات الوجودية، وكانت المقابر مكانا جيدا لأقضي يومي.
قادني إلى منطقة قايتباي، الشهيرة بـ"ترب المجاورين"، موعد مع واحد من مشايخ طريقة صوفية. وأنا ممتن له جدا رغم أنه أخلف موعده معي. ولكنه كان يوما لطيفا وهادئا قضيته متجولا في المنطقة بين المقابر، ومتجاذبا أطراف الحديث مع رواد عشوائيين لمساجد طرق صوفية، ومريدين يقضون خلوتهم بجوار أضرحة شيوخهم، الذين لا يعرفهم غيرهم، ولكنهم عندهم الأئمة أقطاب الزمان ومجددي الدين.
منذ بضعة أيام، تذكرت حلما قديما. فيه كنت أدخل إلى مسجد كبير في الإسكندرية على شاطيء البحر، والشمس في كبد السماء، يرحب بي أهل المسجد ويأخذوني من يدي إلى رجلين جالسين في زاوية. أذهب إليها وأعرف من تلقاء نفسي أنهما أبا العباس المرسي وابن عطاء الله السكندري. أسلم وأجلس إليهما "لقد أتيت حسب الموعد، وأرجو أن تقبلوني معكم". ينظر أبو العباس المرسي إلى ابن عطاء الله بدون أن يتكلم، بشكل أثار ضيقي، فيقول ابن عطاء الله "أتقبل أنت بكل ما نحن عليه؟". تذكرت شيئا وكأنه حوار سابق دار بيني وبينهما فقلت "نعم، إلا أني كما قلت لكم لن أكون مريدا كالميت بين يدي المغسل، سأسأل وسأطلب أمارات على كل طريق قبل أن أسلك". رد ابن عطاء الله "إذن أنت لا تريد. أنت مرتاب، والإيمان أمان، ولو آمَنت لأمِنت". أحزنني ذلك، ورأيت الحزن على وجوه من استقبلوني. ولكن نظرة من ابن عطاء الله جعلتهم يقومون إلى أطراف المسجد ويتركونني أخرج وحيدا من المسجد لأجد الظلام مخيما وشارع الكورنيش خال تماما.
انتظرت طويلا تاكسي يأخذني إلى سيدي جابر لألحق بآخر قطار إلى القاهرة، واستيقظت قبل أن يأتي.

كان ذلك الحلم منذ سنوات، في فترة كنت أقرأ فيها لابن عطاء الله السكندري، "الحكم" وكتب أخرى. وكنت أفكر في تجربة ابن عطاء الله نفسها، فقد انضم إلى الصوفية وصار تلميذا لأبي العباس المرسي، بعد أن كان عدوا للصوفية "مرتابا" في طريقتهم.
كنت وقتها مهتما بالقراءة حول التصوف والصوفية، يستفزني اليقين المطمئن لذاته، السمح تجاه غيره. أذكر أني ذهبت إلى مسجد صوفي قريب وراقبت من بعيد وراقت لي المشاهدة ولم يرق لي الاقتراب.
كنت أعي تماما أن التصوف تجربة وخبرة ولا تجدي معه المراقبة من بعيد، وربما كان معنى التجربة كلها في التصديق والاستسلام الآمن لا في "التجريب" الحذر الفضولي. ولكني أعرف أنني لن أتخلص لا من التوق للتجربة ولا من الفضول الحذر، ولذلك أحزنني الحلم وقتها. وكأنها رسالة بأنني سأظل دائما تروق لي المراقبة ولن أقترب.


أيقظتني رضوى عصر ذلك اليوم نفسه، ليس من اللطيف أن أكرر وصفه الطويل، وكعادتها أخبرتني فورا نبأ هاما:"مامتك بتقول إن الحلاق بتاعك مات. مكتوب ورقة على المحل". كنت مرهقا من كثرة النوم أو من قلته، لا أذكر جيدا. وكان ذهني مشوشا، بآخر ما فكرت فيه قبل النوم، بأفكار حول الميلاد والموت، الإرادة ورخاوتها في هاتين اللحظتين. وفيما بينهما: عناء شحذ هذه الإرادة وإقامة عودها وجبر كسرها وتأمل معناها، الإيمان بها والكفر بها وما بين بين.
لست أدري تحديدا، وهذا ما يحير حقا بشأن "إرادتنا"، كيف أصبت بغصة عميقة، وصورة وجه الحلاق تبدو أمامي في مرآة صالون، بينما هو خلفي يقص شعري، وفي نفس الوقت انتبهت لمرأى شعري، في نفس المرأة، طويلا جدا وفي حالة رثة بين يديه.
غلبني استرخاء ساخر "ياه. طيب وهاحلق فين دلوقتي ؟!" هذا ما قلته فعلا، وأنا حزين. ولكن وأنا مسترخ جدا لا يبدو لي الموت عدائيا أبدا.
"البقاء لله. توفى إلى رحمة الله الأستاذ محمود عبد العزيز. والعزاء تليغرافيا:..." هذا ما تقوله الورقة البيضاء المعلقة على باب المحل المغلق. وقفت لدقائق قليلة أمام الباب أتذكر أنه قال لي آخر مرة، "هاغيب أسبوعين، هاعمل شوية تحاليل وأستريح. قل للدكتور محمود والدكتور مصطفى لو عاوزين يحلقوا بكره".
محمود عبد العزيز، هو صاحب كوافير "محمود عبد العزيز" للرجال في شارع طارق بن زياد في أرض الجمعية، كان يبدو لي في أوائل الخمسينات من عمره. له ابنه متزوجة وأم لطفلين، وابن مقبل على الزواج، وربما كان لديه أولاد آخرون لم أرهم. عمل فترة في الكويت، وادخر ما يكفي لكي يزوج ابنته وينفق على مصاريف دراسة ابنه في "مودرن أكاديمي" ويفتتح الكوافير. كان "نزيها"، أنفق الكثير على ديكور المحل الذي صممه ونفذه له مهندس ديكور استعان بلوحات تشكيلية ملائمة. انبسط عندما قلت له إن إحداها لفان جوخ. كان محبا لأم كلثوم، ونادرا ما رأيته يسمع غيرها، باستثناء تلاوة الحصري. ولا أذكر آخر مرة قلت له ماذا أريد بشأن شعري.
فكرت أني سأضطر للذهاب إلى ذلك الحلاق الآخر، ربما غدا أو بعد غد.
اشتريت فاكهة من الفاكهاني المقابل له، سألت ابن الفاكهاني، الذي عزيته في أبيه من شهر تقريبا، فقال أنهم لم يقيموا عزاء هنا، جاء ابنه في المسجد وتلقى العزاء واقفا وسريعا. قلت له "البقاء لله"، رد:"ونعم بالله"، ومد يده فصافحته.

في المساء، عاريا في البانيو، أحاول فتح الماء الساخن لكي أرقد قليلا في ماء دافيء. لا ماء ساخن. أنظر إلى السخان المعلق أمام وجهي وأجرب مرة أخرى، لا شيء.
في المرة التالية، تدوى صوت فرقعة وتومض ألسنة لهب عبر الفتحات الضيقة للسخان. لم أتحرك من مكاني لثانيتين أو ثلاث. فكرت فيهم في حوادث انفجار سخانات الغاز واختناق الضحايا، وإن كنت لا زلت حيا وكيف سأعرف ذلك.
في الثانية الرابعة – تقريبا - خطوت خارج البانيو، نبضي متسارع، وبي جزع صامت مكتوم يخفت تدريجيا لأعود إلى الاسترخاء. لم ينفجر السخان، فقط شيء ما بدخله فعل. أبدأ في الاسترخاء ثانية، وأنا أنظر لنفسي في مرآة الحمام أتثبت من وجودي. أضع كلتا كفي على رأسي أقبض على خصلات شعري الطويل وأفكر: هكذا كان يمكن أن يكون الأمر يا عمرو. ربما لم أكن لأذهب أبدا إلى حلاق آخر يا محمود.


اللوحة للفنانة هبة خليفة

09 December 2008

غاية النتانة في أصول الضمان والصيانة


في مثل هذا الوقت من السنة، قبل سنتين، احتفلت مع الصارم الحاسم وحمدية التيتي باللاب توب الجديد. ولكن في هذا الوقت من هذه السنة، وبعد أن أنفقت عليه صيانة مثل ثمنه، فاللاب توب أصبح يحتفي بنفسه كل مرة أفتحه فيها، فيصدر خوارا عظيما يقض مضاجع الجيران.
ولأنني قد اشتريته من أحد منافذ "نور الهدى جروب" في مول الكمبيوتر بميدان سفنكس، فآخر ما أفكر فيه هو الذهاب إلى الضمان، لأن الهدى هو طريق تسلكه بلا أي ضمانات، وإن سألت عنها فأنت لم تهتد بعد.

وكان ذلك في الغالب سبب امتعاض الشاب الذي باعني اللاب توب من "نور الهدى جروب" عندما سألته عن وثيقة الضمان، فرفع وصل الشراء بعد أن شبك فيه كارت لـ"نور الهدى جروب" وقال أن هذه هي. ورغم أن الشاب الممعتض بدأ معي الصفقة باسما وحييا ومرحبا وخافضا جناحه، وكاد أن يدعوني للعشاء وأنا أسأله بغرض الشراء، لكن أول ما انتقلت النقود من يدي إلى يده، والوصل من يده إلى يدي، تنهد ارتياحا، وتغيرت نظرة عينه وبدأ النصف الأيسر من شفته العليا في الاقتراب من أنفه تلقائيا. وبعدما كان الهارد الديسك - الذي تشككت في أن سعته قليلة بعض الشيء- في رأيه يسع وزياده وسيقسمه لي إلى أربعة أقسام، أصبح في رأيه الجديد، بعد استلام النقود، لا يحتمل إلا قسمين، وانفراجة إضافية لشفته العليا تقول وحدها " وما توجعش دماغنا ".
التمست له عذرا، فهو لا يستطيع أن يبقى شفته تحت السيطرة كل هذه المدة، تكفي فترة التفاوض الأولى. وأشفقت عليه عندما سيطر عليها مرة أخرى لأن واحدا آخر دخل يسأل عن مواصفات لاب توب بينما كنت أهم بالرحيل.

بعد بضعة أيام لاحظت شيئا ما في أحد مفصلي الشاشة، فتوجهت لتوكيل الشركة المنتجة للاب توب، فعلمت منهم أن هناك وثيقة ضمان كان يجب أن أحصل عليها من الشركة التي باعتني اللاب توب. أما في حالتي هذه فيجب أن أتوجه إلى "نور الهدى جروب" وهي المسئولة عن ضمان جهازي. توجهت إليهم مستفسرا، وكان جوابهم أن الجهاز كان ضمن شحنة بلا وثائق ضمان، وعندما أبدت استيائي البالغ ولم تردعني شفته المشرعة، سيطر عليها مؤقتا، واعتذر طالبا أن أطمئن لأنهم سيقومون بالواجب وزيادة. وأعطاني عنوان قسم الصيانة بالشركة وزميل له يؤكد لي "اطمئن تماما، "نور الهدى جروب" شركة كبيرة مش صغيرة، وإحنا ناس ملتزمين وحقوقك محفوظة".

ذهبت إلى مقر قسم الصيانة في شارع السودان، فإذا بكل العاملين به من الملتحين لابسي الجلابيب، بينما كان كل العاملين الذين رأيتهم في منافذ الشركة بالمول من غير الملتحين، وإن كانوا جميعا إخوة في "نور الهدى جروب". استقلبني واحد يقال له باشمهندس، قال لي بعد ثانيتين أن هذا عيب مستخدم وأن صيانته ستكون على حسابي. جادلته قليلا ولكنه كان ممن لا يحبون الجدال ولا حتى بالتي هي أحسن، فهو يغمض عينيه وأنت تكلمه وأول ما تنتهي يقول "شوف، الخلاصة .." ثم يفتح عينيه ويعيد ما قاله سابقا دون أن يرد على شيئا مما قلته مهما كان، كما هي عادة السلفيين الجدد الذين يعتنقون كراهية السماع حتى لا تكون فتنة تحرفهم عن الحق الذي تنطق به ألسنتهم.

الخلاصة، أني تركت جهازي للفحص، لكي يحدد الباشمهندس إن كانوا يستطيعون الإصلاح، والتكلفة التي سأتحملها. وأخذت منه موعدا ثم مواعيد أخلفها كلها، ولكنه كان يبهرني بثباته وهو يرد على توبيخي وتبكيتي له على الإهمال وإخلاف المواعيد بجمل تبدأ دائما بـ"الخلاصة،.. " ثم يضرب الموعد الآخر بدون أن يدفعه غضبي إلى محاولة التأكيد أنه آخر المشوار. وآخر المشوار هنا لا يتضمن الصيانة- تذكر حيدا- بل يتضمن نتيجة الفحص، الذي كانت "خلاصته" أنهم توصلوا إلى ضرورة تغيير المفصل، ولكن لا توجد قطعة غيار متوفرة الآن، وعليّ أن آتي لاستلام جهازي حتى تتوفر ويتصلون بي لا قدر الله.

أتيت لاستلام جهازي، ووصلت في الموعد المحدد تماما ولكن تصادف أن كان ذلك عقب أذان العشاء بنحو ساعة، ولم يكونوا قد عادوا بعد من الصلاة في المسجد المجاور. انتظرت حتى عادوا جميعا وسألتهم عن الباشمهندس، فقالوا أنه قد رحل لتوه ، فقلت إلى الجنة إن شاء الله، وطلبت جهازي. طلبته منهم واحدا واحدا فأخبروني واحدا واحدا أن الباشمهندس والذين معه، هم المسؤولون عن تسليم الأجهزة الواردة إلى قسم الصيانة. ولكن واحدا منهم، كفاعل خير، طلب مني أن أنتظر قليلا هناك وهو سيحاول الاتصال بأحدهم، وأوصاني إن رأيت واحدا منهم يدخل- وكأنهم تعرفهم بسيماهم- أن أتشبث به لكي أستعيد جهازي سريعا. ولكن لأن هؤلاء الشباب في "نور الهدى جروب" فتية آمنوا بربهم، فإنني وجدت جهازي في المكان الذي طلب مني الشاب فيه الانتظار. بل ووجدته متصلا بالإنترنت وعملية تحميل لبعض البرامج تقترب من نهايتها.

خرجت إليهم وسألتهم واحدا واحدا مرة أخرى عمن شغّل جهازي واستخدمه دون إذني، فأجابوني واحدا واحدا أن العلم عند الله طبعا. فما كان مني إلا أن عدت إلى جهازي وأوقفت التحميل وأغلقته وحملته معي وهممت بالرحيل دون أن يسألني أحدهم ماذا أحمل معي وإن كان هذا الجهاز يخصني.
ولما كان الباشمهندس قد أعطاني وصلا باستلام جهازي، فقد دخلت على بعضهم، وكانوا يتناقشون في مسألة فقهية، وقلت لهم: "إخوتي في الله، هذا وصل استلام جهازي من الصيانة،إن كان يعنيكم في شيء، وهذا جهازي والله على ما أقول شهيد. أعتذر لكم عن مقاطعتي لتحميل أحدكم بعض البرامج عليه، ولكني للأسف مرتبط ببعض المواعيد. وأود أن أشكركم واحدا واحدا والسلام أمانة للباشمهندس خلاصة، والخلاصة أنني ممتن جدا من تعاملي مع "نور الهدى جروب" وأعدكم أني سأخبر كل من أعرفهم، ومن لا أعرفهم إن استطعت، عن أماكن فروع "نور الهدى جروب" لأن الاحتياط واجب".
وقد وفيت، وليغفر الله لي التأخير.

02 December 2008

البندول لا يحتاج مساعدة.. يحتاج بعض الوقت


أستيقظ على صوت أعمال التشطيبات في البناية المجاورة، تحديدا في الجدار الذي يلصق ظهره بظهر جدار غرفة النوم. مرآة الجدار تهتز فعلا؟ أم أنه أثر الأدوية التي دفعتني للنوم لأكثر من 10 ساعات، أو هكذا أظن. أتذكر سدس ظفر الإصبع الأكبر لقدمي اليمني الذي انترعته جراحة من داخل لحم الإصبع، أشعر بدغدغة في مكان الجراحة، أشعر بالجوع وبالرغبة في كوب شاي. غلاية الشاي تسرب البخار وتبخر كل الماء، أستخدم واحدة أخرى لا تصدر صوتا عند انتهائها من غلي الماء، أنساها وأعود إليها لأشغلها مرة أخرى ثم أنساها، عدة مرات حتى أنسى أمر الشاي تماما. يجب أن أرد على العديد من الرسائل، يجب أن أتصل بالعديد من الناس، لدي أفكار أود أن أكتبها، وأخرى بدأت في كتابتها وعلي أن أتمها. جرس الباب يدق، محصل شركة الغاز. يدق، نورا الصغيرة حفيدة صاحبة العمارة تريد الإيجار. يدق، المكوجي الذي توقفنا عن التعامل معه "مافيش مكواة". يدق، المكوجي الذي نتعامل معه، أيضا "مافيش مكواة". يدق، وصلتني مجلة اشتركت فيها مجانا. يدق، مجلة أمريكية متخصصة في علم النفس اشتركت فيها رضوى، يوم المجلات! يدق، نورا الصغيرة تحمل في يدها حصاد الإيجار "لأ، مش إنت، أنا عاوزة حمدي" تضحك وتنزل السلم جريا.
تدق الساعة هذه المرة، ليس لساعتنا صوت، ولكنها مستطيلة ببندول طويل يعمل بجد طوال النهار ذهابا وإيابا. لسبب ما اختل توازن الساعة، والبندول يدق على جانب الساعة. أفكر في أن أحدا لم يلمسها، ولكن أثر الفراشة يفعل أكثر من ذلك. أحاول ضبطها رأسية تماما، لا أنجح، لم لا يعيدها لاتزانها أثر فراشة أخرى! أعرف الآن لماذا صحت في رضوى"ساعة ببندول ليه؟!"، ولكني استسلمت لأنني لن أنزل للبحث عن ساعة، ولأنها أنيقة وحمراء مثل الكنبة وملائمة للون الأسود للسفرة والبوفيه.
أقرأ بعض الأخبار والمقالات وأشعر بزغللة في عيني وصداع يتسلل لرأسي، وأتذكر أني لم آكل شيئا منذ الصباح، أنسى الإفطار دائما عندما تسافر رضوى، أتناول الأسهل في إعداده وأنا أشاهد جزءا من فيلم "خد الفلوس واجري" لوودي آلان. يشهر فيرجيل/وودي آلان مسدسه في وجه رجل ويطلب منه محفظته، يذكره الرجل بأنه صديقه من أيام زمان، ويسأله "إنت بتعمل إيه في الدنيا؟"، يهز فيرجيل رأسه ويقول "أنا عازف في الأوركسترا الفيلهارموني!". يأخذ منه فيرجيل محفظته وساعته وهما يتذكران ضاحكين أيام زمان، وبعد أن يفترقا يعود الرجل ويقول"آسف فيرجيل، تذكرت الآن أني ضابط بوليس"، ويأخذ أشيائه وفيرجيل إلى السجن وهما يستمران في تذكر المواقف الطريفة من أيام الشباب.
أشاهد الفيلم إلى نهايته، لا يمكنني مقاومة أفلام وودي آلان. الفيلم مكتوب بطريقة ساخرة على غرار أفلام "الجريمة لا تفيد" والتقارير التي تذيعها البرامج التليفزيونية عن حياة المجرمين الخطيرين، في نهاية الفيلم يجلس فيرجيل الذي لم يقم بأي سرقة ناجحة، في مواجهة مذيع تليفزيوني يسأله"هل أنت نادم على اتخاذك طريق الجريمة؟" يرد فيرجيل بجدية وبراءة "أعتقد أن حياة الجريمة لها ثمنها، ولكن ذلك طبعا بسبب ما تعلمه من أن الجريمة كارير رائع، أوقات ممتعة، أنت رئيس نفسك، تسافر كثيرا، وتلتقي أشخاص مثيرين للاهتمام". يسأله عن رفاقه في العصابات التي انضم إليها أين هم الآن، يقول بفخر وهو يتذكر ويرفع حاجبيه "كثير جدا منهم ..مممم... أصبحوا مثليين جنسيا، وآخرون اتجهوا للسياسة و الرياضة".
ينتهي الفيلم ويتوقف العمال عن الضجيج، يحل الظلام، يتوقف بندول الساعة عن الدق على جانبها، ربما أمكنه أن يزحزح بدقاته جسم الساعة حتى أعاد اتزانها. أستغل الهدوء وأطفيء كل الأنوار وأشغل موسيقى بول سالم، أستلقى على الكنبة وأحدق في الظلام وأسمع، أشعر بالصداع وأحاول ألا أفكر في شي، فأفكر في آلاف الأشياء وأضحك عندما أتذكر مشاهد من الفيلم أو نورا الصغيرة.
عندما استيظقت صباح اليوم التالي ووجدت نفسي على الكنبة، كان العمال يدقون أيضا، ولكن الساعة كانت متزنة وهادئة ولم يدق جرس الباب، والصداع خف قليلا هو ودغدغة مكان الجراحة في إصبعي. قررت أن أقوم بأشياء كثيرة وألا أشاهد أيا من أفلام وودي آلان أثناء الأكل، وأن أتجاهل تماما أي إحباط قد يسببه لي تذكر يوم أمس الضائع، وألا أذكر منه إلا القرارات التي اتخذتها قبل أن يغلبني النوم. لن أشرب ذلك الدواء سيء الطعم الذي أعتقد أنه سبب كل هذا النوم والإرهاق إلا مرة واحدة بدلا من مرتين. أن أذّكر مرة أخرى المكوجي الذي نتعامل معه، إن أتى، ألا يرن الجرس إلا مرة واحدة، وأن أذكره للمرة الألف أن يحضر لي رقم تليفونه لنتصل به وقتما نحتاجه. وأن لا أصارح صبي المكوجي الذي توقفنا عن التعامل معه أننا توقفنا عن التعامل معه، سأتركه يأتي هكذا للأبد، ويدق الجرس، لأقول له دائما "مافيش مكواة"، إما أن يفهم أو يظل هكذا يأتي ويروح عقابا على غبائه وغباء معلّمه وجليطتهما معنا. كما يجب ألا أنسى أن أشتري علبة بونبون، وأمنع نفسي ورضوى من أكلها كلها، لأعطي نورا الصغيرة منها رغم أنها تأتي أحيانا قبل نهاية الشهر تدق الجرس وتطلب الإيجار.

28 November 2008

لكن مكسوف أقول

black Theama

لم أفهم لماذا كان الفتيان يختلسون النظر إليّ، وبهذه اللوعة! لم تراودني أحلام الشهرة ولا أعتقد أنه كان غريبا جدا أن أكون جالسا مع عدد قليل وسط جمهور يفضل الوقوف، على الأرض أو فوق الكراسي، في حفل "بلاك تيما" الأخير.
ولكني فهمت عندما اصطدمت يدها برأسي من الخلف، الفتاة الجميلة بالتي شيرت الأبيض والجينز والبيريه اللطيف الذي يخفي بعض شعرها الطويل، ثم اعتذرت لي وهي تربت بكلتا يديها على كتفيّ، وباقي جسدها يواصل الرقص في منتهى النشوة.
عرفت أيضا، وأنا أبتسم وأخبرها أنه "لا مشكلة" ثم أنظر أمامي، أن هؤلاء الفتيان يعتقدون الآن أنني كنت محظوظا للحظات، ولكنني لا زلت صاحب أسوأ مكان في الحفل.


19 November 2008

الشرطة والجنس والجريمة



هناك بالتأكيد سوء تفاهم كبير يقف وراء "النشاط الجنسي" المتصاعد مؤخرا للشرطة المصرية. ويبدو أن المتسبب فيه هم من طالبوا الشرطة ببذل المزيد من الجهد لمواجهة ظاهرة التحرش الجنسي، ومن ظلوا يرددون أن مدونين ونشطاء هم الذين اخترقوا حالة الصمت تجاه هذه الظاهرة وكشفوها على الإنترنت وتناقشوا حولها قبل أن تتحرك وسائل الإعلام.
الشرطة فهمت أن المطلوب هو حصار النشاط الجنسي للمصريين، ونظرا لصعوبة هذه المهمة فإنهم استعانوا بنفس التقنية المبهرة: الإنترنت، تلك الساحة التي تنكشف فيها الظواهر الخفية.
وفي الغالب قضى ضباط ساهرون لحماية الشعب والوطن، وقتا طيبا ولذيذا في تصفح المنتديات وساحات الدردشة التي يمرح فيها الأشقياء، وشاهدوا كما لا بأس به من الفيديوهات المثيرة للشكوك قبل أن يخرجوا بقضايا خطيرة وتهم كل مصري: القضية التي عرفت بـ"تبادل الزوجات"، وقضية فيديو النجم الكبير سعد الصغير والراقصة قليلة الحياء في فرح شعبي.
أما عن قضية "تبادل الزوجات"، التي يذكرني اسمها بتبادل الطوابع، فلا أظن أنها تهمني بأي حال أوتهم الكثيرين ممن يشاركونني الميكروباص على خط إمبابة- الجيزة، الذين تتلخص مشكلتهم يا حضرات في أن الميكروباص بعد أن يقسم الرحلة إلى رحلتين أو ثلاث، كل واحدة مقابل أجرة كاملة، يرفض في النهاية أن يتخطى نفق إمبابة ليصل إلى محطته النهائية عند كشري أبو مداح، فيما عرف بظاهرة "إمبابة أول النفق"، التي تنتشر بلا رادع.
وإن كانت الشرطة لا تفضل العمل على الانضباط في مثل هذه المجالات ثقيلة الظل، وتفضل مطاردة المتبادلين في أوكارهم، فأنا أفضل أن تبدأ بمطاردة هواة تبادل الطوابع. على الأقل هؤلاء المدللون لا يزالون يثيرون حنقي منذ أن كنت طفلا أراهم يتبادول الزيارات بصناديق وأكياس الطوابع ويجلسون في خشوع يتأملونها ويتبادلونها بينما كان يجبرني أبي على قضاء الإجازة الصيفية أتعلم الكاراتيه. ولأنه حقا يجب ردع هؤلاء، بعيدا عن الحساسيات الشخصية، لأن طوابع الدول ليست لعبة، الحكومات تطبعها لغرض محدد وهو اللصق على الرسائل البريدية وليس للعب والكلام الفارغ.
وأما عن كليب سعد الصغير، فأعتقد أنها خطوة غير محسوبة من جهاز الشرطة. قد تبدو لهم خطوة تجاه معين لا ينضب من فيديوهات القضايا الجاهزة لمطربين وراقصات من المحتمل أن يكونوا قريبا نجوما للغناء الشعبي أو نجمات للاستعراض، وهو ما يعني مساحات كبيرة في الصحف تنقل أسماء السادة الضباط من صفحة الحوادث إلى الصفحات الأولى. يكفي فقط أن تبحث عن "فرح شعبي" في أي محرك بحث أو موقع تحميل لملفات الفيديو لتعرف ما أعنيه. ولكن في المقابل قد يغري ذلك البعض ليطالبوا الشرطة بضبط الجناة متلبسين، وهو ما يعني اضطرارهم إلى مداهمة الأفراح الشعبية في أحراش العشوائيات ومنازلة الشعب المصري على أرضه وبين جمهوره.
الأفراح الشعبية، مثل تلك التي يغني فيها سعد في الفيديو القضية، هي مناسبات يستغلها قطاع كبير من السكان الأصليين لمصر لتكون فرصتهم للتمتع بليلة من المجون والانفلات، بالإضافة للخمور والمخدرات المجانية التي يوزعها أهل الخير والكرم، لذا فهم ليسوا بحاجة لعراقي كردي يهودي ليغويهم على منتدى إلكتروني.
هناك بروتوكول غير مكتوب بين الشرطة وسكان الأحياء الشعبية أن صوان الفرح منطقة حرة، يتم التغاضي عن كل ما داخلها بدءا من إغلاق الشارع تماما وسرقة الكهرباء إلى التبادل العلني للمخدرات والخمور المغشوشة، مرورا بكلمات الأغاني وحركات الراقصة والمطرب. وتجاهل هذا البروتوكول لم يحدث أبدا من قبل الشرطة التي تعرف جيدا العواقب، ولكن ما حدث هو أن تطورات أخيرة تسببت في سوء تفاهم آخر. فمن جهة نقلت كاميرات الموبايل الأمر إلى المواطنين الجدد الذين يظنون أن الأفراح الشعبية هي التي يغني فيها حكيم، فأصيبوا بالصدمة. ويبدو أن ذلك حدث أيضا للضباط حديثي التخرج الذين يقضون يومهم في النقر على الكيبورد وعلى رأسهم الهيد فون، والذين اكتشفوا الفيديوهات على اليوتيوب.
سوء التفاهم يحدث أيضا من تغير الخريطة العمرانية للمناطق الشعبية. وهو ما حدث في "أرض الجمعية"، موطني الأصلي والحالي، والموطن المختلط لأغلبية من البرجوازية الصغيرة الصاعدة من أبناء إمبابة وأقلية من السكان الأصليين.
كانت المرة الأولى التي يقام فيها "فرح شعبي" في أرض الجمعية، وحدث ذلك في شارعنا، لأفتح النافذة ذات ليلة، لأجد الشارع وقد أغلق من الجانبين وامتلأ بطاولات مستديرة يجلس حولها المدعوون وأمامهم زجاجات البيرة وأنواع أخرى من الخمور لم تسعفني ثقافتي لأعرف اسمها، وأكوام من سجائر لا يحتمل إلا أن تكون سجائر حشيش وبانجو، وكان هناك أيضا أكواب غامضة يضع فيها المدعوون أنوفهم، علمت فيما بعد أنها أكواب حشيش. وفي أحد طرفي المساحة المحررة من الشارع كان مسرح كبير عليه فرقة موسيقية ومطرب يرتدي بدلة حمراء وراقصة من الوزن الثقيل.
كان فرح ابن أحد الفاكهانية، وكان ذلك مثيرا لفزع أهل الشارع الذين يستعد أولادهم للامتحانات الجامعية،. كان عندي صباحا امتحان في تصميم المنشآت المعدنية، وهو ما كان أحد أسباب حنقي وتوتر مزاجي تلك الليلة، فتشاورت مع أبي في أن نقوم بإبلاغ الشرطة، على الأقل ليجبروهم على إنهاء الفرح مبكرا بدلا من الاستمرار حتى الصباح.
وكإمبابي أصيل يعرف مدى عدم لياقة إفساد فرح أحد الجيران، مهما انتمى لحيز حضاري مختلف، فإن أبي أجرى اتصالاته ليعرف من هم أصحاب الفرح وليتشاور مع أهل الرأي من باقي جيراننا. ولكن كان بعضهم قد سبقنا بالفعل وأبلغ الشرطة. وجاءت الشرطة وحصل لنا الشرف. وقف الضابط ممتقعا عند أول الشارع، واستقبله المطرب ذو البدلة الحمراء بتحية حارة، وشكر جهاز الشرطة وسرد عددا من أسماء العمداء واللواءات، وختمهم باسم الباشمهندس إسماعيل هلال وكيل أول وزارة الكهرباء ونائب مجلس الشعب عن إمبابة، الذي يسكن أيضا في أرض الجمعية وفي شارع متقاطع مع شارعنا، وشكره على توفيره الكهرباء لهذه الليلة الحلوة.
كان ذلك تعارفا سريعا، عرف عندها الضابط حدوده جيدا واستمر واقفا يفكروبجواره بضعة أفراد أمن يتمنون لو كانوا داخل هذا الفرح، بينما يتطلع العديد من أهل الشارع إليه من البلكونات ينتظرون ماذا سيفعل.
أنقذه رجل من أهل الفرح، وذهب إليه مسرعا يدعوه للجلوس. ولكن بعد محادثة قصيرة بينهما حدثت صفقة، على إثرها قام الرجل بتسليم الضابط صندوقا من البيرة، أمر الضابط رجاله بكسر كل زجاجاته على جانب الطريق قبل أن يشير بإصبعه إلى ساعته مخاطبا المطرب فوق المسرح وهو يبتسم ابتسامة عشم. وعلى الفور قطع المطرب أغنيته صائحا "أوام أوام يا سعادة الباشا، مسافة السكة" وضحك ضحكة ساخرة وطلب من الفرقة " أحلى سلام لكل باشوات أرض الجمعية وإمبابة ومديرية أمن الجيزة يا جدع إنت" وعزفت الفرقة اللحن الشهير للفنان شعبان عبد الرحيم "ما بخافش وإنت عارف، أنا أقدر أعمل إيه!".


-العنوان لاعلاقة له بكتاب"النفس والجنس والجريمة"، ولكنه مجرد عنوان "شعبوي" مناسب للتدوينة، ولضرورات الحملة الانتخابية في مسابقة "البوبز" للمدونات.
- والصورة بالطبع لشعبان عبد الرحيم، الذي لا علاقة له بأي مشكلات مع الشرطة أو الجنس أو الجريمة.. حتى الآن.

13 November 2008

بمناسبة البرتقال والأفراح

وأنا أتأمل في شاعرية البرتقال وأتذكر محمود درويش، تذكرت أيضا الصورة البديعة لعمر مصطفى "علشان هواكي ريحته فانيليا، طعمه مزازة برتقان ... ". شاعرية مزازة البرتقال لا يمكن لأحد عادة أن يلتفت إليها إلا إن كان محبا أحد أسباب انتظاره للشتاء هو حب البرتقال مثلي، أوأن يكون شاعرا فنانا كعمر.
الساحة الخلفية لمسجد عمرو بن العاص التي عقد عمر فيها قرانه منذ أيام كانت دليلا آخر على التفاتاته المميزة. كان كله مساء مميزا واحتفالا بسيطا وجميلا، حظيت فيه بلقاء العديد من الأحباب وسماع "مولاي صلّ وسلم دائما أبدا". وكان ذلك نموذجا آخر يقدمه جيلنا، الذي يمتلك أسبابه الخاصة الوجيهة للفرح، ليثبت أنه يمكن الفرح بأشكال أخرى غير "الأفراح" المزعجة المعلّبة.
ويبدو أن عمر كان متحمسا للدروب الأخرى للفرح من قبل زفافه، لأنه صنع بحضوره وعوده وصوته ما كنت أتمناه تحديدا عندما دعوت الأصدقاء لحفل زفافي الذي أقيم على نجيلة حديقة الأزهر.

للأسف، لم أستطع أن أقدم شيئا في فرح عمر. محاولة رفع صوتي بشيء ما سيتم إساءة تفسيره نظرا لأن الذوق العام غير مستعد لتقبل جماليات صوتي المختلفة، كما أن محاولاتي للتصوير باءت بهذه الصورة.
سأنتظر مرور فترة العسل لكي أزور عمر ببعض الهدايا والبرتقال، ولكن ما يمكن أن أقدمه لكم الآن هو هذا الرابط لأغان كتبها أو لحنها عمر، اكتشفته حالا.
كما لا أنسى أن أذكر المدعوين منكم، وأنبه العالم، بأن غدا هو موعد عقد قران زوج جديد من المتمردين على الأفراح، ربيع وأزميرالدا. أرق التهاني للعروسين، وتحية نضالية لهذا الجيل المجاهد.

11 November 2008

تعرف إيه عن المنطق ؟

حريق الغد
تصوير: عز الدين عبده

يحتاج الأمر لأكثر من المنطق البسيط لكشف المؤامرات المدبرة بأقل قدر من العناية، لكن يمكنه وحده أن يكشف المساخر الفجة.
ما يزيد عن 6 عربات أمن مركزي وعشرات من الضباط وأفراد الأمن بالملابس المدنية انتشروا في ميدان طلعت، وكانوا في انتظار أقل من عشرين شخصا أعلنوا عزمهم الوقوف أمس في الميدان أمام مقر حزب الغد المحترق، تضامنا مع الحزب ضد التخريب الذي تم في غيبة كاملة من الأمن الحاضر على الدوام في الميدان وأمام الحزب. وعندما انتقلت الوقفة إلى سلم نقابة الصحفيين بعد حصار المتظاهرين وتهديدهم، انتقل الأمن معهم إلى هناك حرصا على الواجب وشرف المهنة، ولمساعدة الصحفيين على التقاط صور الوقفة بلوازمها من الجنود.
ولكن عندما عزم الباشمهندس موسى مصطفى موسى على تنظيم مسيرة تتجه إلى الميدان لاستعادة مقر الغد فيه، وهو المقر المؤقت الذي لا يزال قانونا ملكية خاصة لأيمن نور، لم يشاهد أحد ظل جندي عابر في الميدان.
وربما لو كان الأمن تواجد كعادته وفتح الأبواب عنوة لأنصار موسى بحجة تنفيذ الأحكام التي قضت بأحقيته في رئاسة الحزب، كان سيمكن تفسير الأمر على أنه مشاجرة بين الطرفين داخل المقر وتضيع مسئولية الحريق بينهما.
الباشمهندس موسى أيضا لم يكلف نفسه عناء التفكير قليلا فجر يوم المؤامرة ليخصص بعضا من الألاضيش لتسيير موكبه، وبعضا آخر تكون مهتمهم إشعال النيران وتخريب العمارة وما حولها. ليكشف عمر الهادي في "البديل" أن الذين كانوا يفسحون الطريق لموكب موسى هم الذين كانوا يشعلون النيران في أبواب المبنى ويخربون السيارات ويعوقون عمال المطافيء.
حريق الغد ليس واحدا من سلسة الحرائق الأخيرة التي اجتاحت مصر. فهذه السلسة كانت كلها مساخر يكشف المنطق البسيط دور الإهمال فيها، بينما تتجاهل نظريات المؤامرة كليهما- الإهمال والمنطق - وتهيم وراء ما يثير خيالها. أما الإهمال في حريق الغد فكان إهمالا في المؤامرة جعلها مسخرة لا تدع ثغرة للخيال.

30 October 2008

التحرش الصحفي


تكلفة دقيقة المحمول صارت في متناول كل الصحفيين من زمن طويل، كما أظن أن من بديهيات الخبر الصحفي محاولة الحصول على تعليق الأطراف المعنية بالأمر، خاصة لو كان الخبر هو اتهام موجه إلى طرف واحد لا غير.
ولذلك عندما قرأت خبر "المصري اليوم" المثير عن تخلي محامية نهى رشدي عنها وانضمامها للمدان بالتحرش بها لاستنئاف الحكم متهمة إياها بأنها تحمل جواز سفر إسرائليا وأنها امتدحت إسرائيل في برنامج تليفزيوني، لم أعرف لماذا خلا الخبر من تعليق لنهى. ولا أدرى كيف لم ينتبه الزملاء في الصحيفة إلى أخطاء فادحة لابد أن يكتشفها من تابع تفاصيل القضية.

أولا، يعرف الكثير من المتابعين لهذه القضية، فضلا عن الصحفيين المهتمين بحكم عملهم، أن زياد العليمي هو محامي نهى وهو الذي ترافع في المحكمة وظهر معها بهذه الصفة في عدة مقابلات تليفزيونية، أما نجلاء الإمام فهي واحدة من عدة محاميات يمثلن منظمات مجتمع مدني، كانت صفتهن أنهن متضامنات مع نهى في هذه القضية.
ثانيا، كانت نهى ستجيب أو سيجيب محاميها زياد العليمي، مثلما صرح لموقع محيط، أن نهى من أصل فلسطيني حصل جدها على حق اللجوء إلى مصر، وأن اتهامات نجلاء الإمام لنهى بامتداح إسرائيل- التي قال أنها غير صحيحة وطالب بالرجوع لتسجيلات - سببها غضب الأولى بسبب عدم ظهورها إعلاميا باعتبارها محاميتها، وهي لم تكن. وهو الذي أفقد المحامية ذاكرتها القانونية وجعلها تنسى أنه لا استئناف في مثل هذا النوع من القضايا وإنما يتم الطعن بالنقض، بحسب زياد.
ثالثا: أعتقد أنه من واجب الصحفي والصحيفة التعليق أو التحفظ أو ذكر خلفية، توضيحا لمن لا يعلم، أن الفلسطينيين العرب المقيمين أو الذين تعود أصولهم إلى المناطق التي أقيمت عليها دولة إسرائيل، هم مواطنون في إسرائيل ويحملون جواز سفر إسرائيليا، ومن هؤلاء "الإسرائيليين" عزمي بشارة المفكر القومي العربي. أما ترك الأمر بصيغة "تحمل جواز سفر إسرائيليا" فهو يساعد المحامية الغاضبة في ما قد يعتبر تحريضا ضد نهى. وتعليقات القراء على المواقع التي قصت ولصقت الخبر توضح كيف أن ذلك حدث فعلا.

أفهم أن نهى لا تزال تثير حفيظة الكثيرين، ولكني لا أظن الجريدة متربصة بنهى، بقدر ما أعتقد أن تلك الأخطاء سببها الاكتفاء بالجزء الأسهل والأكثر إثارة في الخبر، على حساب التدقيق في تفاصيل الأخبار وصياغتها وتوضيح جوانبها للقاريء.
أقدر "المصري اليوم" كثيرا، وأحرص عند مناقشة أي قضية هنا في المدونة أن أضع روابط لأخبار منها. ولكن المؤسف أن أجد نفسي مرارا أمام أخطاء فادحة غير مبررة كلما كان في مقدوري التثبت من الأخبار وتفاصيلها. قبل خبر "محامية نهى" كان خبر "المبادرة الإخوانية". وما لا أفهمه أبدا كيف أن خبرا يعرض تدوينة موجودة على مدونة، وتكون كل المقتطفات التي يزعم الخبر أنه يقتبسها من التدوينة، ويضعها بين مزدوجتين إشارة للنقل الحرفي، هي مقتطفات غير موجودة في التدوينة من الأصل!

20 October 2008

البيان رقم 2

لأعترف، لم يكن الكسل وحده سببا في أنني توقفت من فترة عن تنفيذ بنود اتفاقية 3 إبريل 2007. ولكن كان ذلك متكئا على ميراث كبير من ثقافة سائدة ترى أن مثل هذه الاتفاقيات مجرد تفضل ونزول عن مكانة وسلطة مستحقّين، فهي مثل هامش الحرية التي تمنحه الحكومات المتجملة بالديمقراطية، فإذا تم سحبه مرة أخرى فقد عاد الأمر لأصله، لذا فـرضوى لم تعترض كثيرا.
ولكن هي فرصة، في اليوم التالي ليوم ليلى أن أعلن أنني أبدأ الخروج من حالة الكسل التي منعتني من الكتابة في يومها. كما أعلن أنني- وأنا أكثر ابتعادا عن متكأ السيادة الذكورية المريحة، ومعترفا بحق رضوى، وكل ليلى، في تقسيم منصف لأعباء الحياة- أعود مرة أخرى لتنفيذ بنود الاتفاقية، والله المستعان.


30 September 2008

متوسط الأحلام



’’ متوسط الأحلام
متوسط الإنتاج
في صراع مع الأيام
أشباهي منتشرة .. ،،



Amr%20Ezzat
Quantcast

28 September 2008

! اتفرج


الصورة في قناة "اللي ما يشتري يتفرج" ليست جيدة بما يكفي لتبدو، خلف الرجل وعبر إطاره الخشبي، عربات باعة الفاكهة وسيارات محافظة الجيزة تشغل وسط الطريق أمام سلم أرض الجمعية في شارع الوحدة بإمبابة، حيث كان يعتزم "أعضاء اللجنة الشعبية للدفاع عن أرض إمبابة" إقامة احتفاليتهم.
الأمن، ومعهم سيارات المحافظة، سبقوا أعضاء اللجنة إلى مكان الاحتفالية، وأمروا الباعة بترك جانب الطريق وشغل منتصفه. العديد من الجنود بملابس مدنية وقفوا أيضا على مدخل الطريق، وعدد من الضباط حاولوا بسخافة إجبار الميكروباصات على التضييق على أعضاء اللجنة الذين وقفوا إلى جانب الطريق، يفكرون في مكان آخر لإقامة عرضهم، ولما لم يعجبهم انتظارهم وتجمهرهم، أمر الضباط سيارة جمع قمامة بالانتظار بجانب الجزيرة الوسطى في مقابل تجمهرهم ليتذمر المارة والسائقون من ضيق الطريق.

الرجل في الصورة وإطاره الخشبي المكتوب تحته "قناة اللي ما يشتري يتفرج"، والذي كان من المفترض أن تبث من خلاله الأشعار والأغاني، كانا الأكثر إثارة لفضول المارة الذين وقفوا يسألون الرجل عن "قناته" وعن سبب هذا الزحام وعن ماهية اللجنة. ومن خلف إطاره الخشبي، وقف الرجل يبلغ المارة، كل على حدة، بأمر التجمهر وسببه. وفي الساعة العاشرة تقريبا، أذاعت قناة "اللي ما يشتري يتفرج" نبأ إلغاء الاحتفالية، بعد محاولة يتيمة لرفع لاقتة للجنة قوبلت بالمزيد من السخافة.


27 September 2008

اللي ما يشتري يتفرج



"واللي ما يشتري يتفرج" .. احتفالية شعرية غنائية تنظمها "اللجنة الشعبية للدفاع عن أرض إمبابة" التاسعة من مساء غد الأحد 28 سبتمبر، في شارع الوحدة أمام سلم أرض الجمعية.. والدعوة عامة طبعا.


17 September 2008

كسل


لو كان ممكنا
أن يرى الإنسان في العتمة
لو، وهو نائم .. وعيناه مغمضتان..
لو، بغير يدين
بغير أوراق
بغير أن يتكيء،
في العتمة الخالصة
في الدفء الخالص،
بعينين مقفلتين وقلب مفتوح
بجسم كسول وأفكار نشطة
لو، هكذا، يستطيع الإنسان أن يكتب
لجئتك صباح غد بأجمل القصائد

نزيه أبو عفش
من ديوان "ما ليس شيئا"
1992


22 August 2008

نصف عين


بنصف عين، قرأ سائق التاكسي معي عناوين تغطية حريق البرلمان في الصفحة الأولى من"البديل"، ثم وضع يده بكل ثقة على عنوان: "االحريق يلتهم ملفات ضحايا العبارة وأكياس الدم والمبيدات المسرطنة وقطار الصعيد" وقال:" هو دا الموضوع" وغمز بعينه يعني: اكتشفنا الأمر!
"البديل" صدرت أمس الخميس بنفس العنوان المشكلة الذي يعتقد أنه سبب "التعليمات الأمنية " التي كانت بدورها سبب رفض مطابع "الأهرام" طبع الطبعة الثانية من عدد الأربعاء.
وهو ما يعني عدة احتمالات، إما أن الأنباء عن التعليمات الأمنية لم تكن دقيقة، أو أن هذه التعليمات كانت تبريرا لرقابة ذاتية مارستها المطبعة، أو أن التعليمات لم ترد تصعيد الأمر في هذه اللحظة لتثار قضية منع جريدة من الصدور. وربما كان الأمر سببه السلوك المتكرر لمطابع الأهرام والضائق بـ"البديل" بشكل عام، بحسب تصريحات مسئوليها عن تكرار تأخر صدور الجريدة ، أو أن الأمر يندرج تحت ما يسمى بـ"حروب التوزيع" بين الصحف المستقلة.
ولكن فيما يتعلق بالعنوان نفسه، فالعنوان حرفيا يقول أن ملفات لهذه القضايا أكلتها النيران التي أصابت مقر لجان النقل والصحة والزراعة، وهو ما يحتمل وقوعه ولكن لم تؤكده مصادر بحسب ما قرأت. بالإضافة إلى أن ما يوحي به العنوان، وما يوحي وضعه كثاني عنوان في الصفحة الأولى، هو الإشارة إلى ضياع هذه الملفات وفقدانها نتيجة لذلك، وهو ما يجعل الأمر خطرا وهاما ويبرر إبرازه. وهو ما يبتعد عن الدقة في رأيي، خاصة وأن عدد الخميس نفسه تضمن تصريحات لبرلمانين أكدوا أن الملفات محفوظة في مكان لم تصل إليه النيران، بالإضافة لوجود نسخ من هذه الملفات في مبنى آخر.
ولكن مهما كان الأمر، فأعتقد أن إعاقة طباعة "البديل" لا خلاف على إدانتها ورفضها، فقبول عدم طباعة الجريدة بسبب عنوان رأته المطبعة أو الجهات الأمنية غير مناسب، هو قبول لرقابتهما – التي لا نفتقدها كثيرا - على الإعلام.
كما أعتقد أيضا أنه مهما كانت الحكومة سيئة، فليس هذا مبررا كافيا لحديث الناس بيقين عن تعمد ما بغرض إعدام ملفات القضايا الشائكة. فالإهمال والفوضى سيدا الموقف. ولكن سائق التاكسي لم يبد له ذلك مقنعا، إلا يعدما ذكرته أنه أيضا يتمم شكليا إجراءات الأمن والسلامة وأنه طلب مني التظاهر بربط الحزام عند اقترابنا من لجنة مرور، وذكرته أنه التفت عن الانتباه للطريق عدة مرات لكي يقرأ معي الجريدة. لذا فإنه اقتنع في النهاية أنني يجب أن أتهمه، إن وقعت حادثة، بالإهمال لا بالتآمر لقتلي. ولكن ما فشلت في إقناعه به هو أن الإهمال شيء مشين، وأنه مختلف عن الصدفة والقضاء والقدر. لأنه حاول بعدها بدقائق مدفوعا بقناعته الجديدة اختصار طريق بالسير عكس الاتجاه، وكدت أتهمه بالتآمر من أجل قتلي، ولكن قدر الله ولطف.

20 August 2008

طبعة "البديل" الممنوعة




من "البديل":

الأهرام تعترض على عناوين الطبعة الثانية من الجريدة التي تناولت حريق مجلسي الشعب والشورى .. و "البديل " تنشر الطبعة الممنوعة إلكترونيا
عناوين الطبعة الممنوعة :
حريق هائل يدمر مبنى اللجان بمجلسي الشعب والشورى في أقل من ساعتين
النيرات التهمت ملفات العبارة و أكياس الدم الفاسدة و المبيدات المسرطنة وقطار الصعيد
• اصابة العشرات من المواطنين .. وطائرات من القوات المسلحة لإطفاء الحريق بعد فشل الدفاع المدني
• الأمن يمنع الصحفيين من تغطيه الحادث .. و أمين شرطة يعتدي على مصور " البديل " ويحتجزه داخل المبنى و يحطم الكاميرا
• العاملون بالإدارة الهندسية يشتبكون مع أمن المبنى لمنعهم من الدخول قبل الحريق .. واللواء فؤاد علام يرجح أن يكون الحريق بفعل فاعل
• شطايا لهب تتطاير من المبنى إلى المنطقة المجاورة .. و شهود عيان يقولون أنها أدت إلى إشتعال النيران في عدد من المنازل القريبة
• إنفجارات متتالية تصيب المواطنين بالذعر .. و 40 سيارة إطفاء تفشل في السيطرة على الحريق لمدة 5 ساعات
• خبراء : الحريق كشف مفشل منظومة مواجهة الكوارث في مصر ..و القاء المياة من الطائرات السبب في تصدع المبنى

امتنعت مطابع الأهرام بالسادس من اكتوبر عن طبع الطبعة الثانية من جريدة " البديل " اليومية و التي كان من المفترض أن تصدر فجر اليوم مع تغطية شاملة لحريق مجلسي الشعب و الشورى الذي اندلع وقت مثول الطبعة الأولى من " البديل " للطبع .
و كانت " البديل " قد عنونت صفحتها الرئيسية في الطبعة الثانية بالعناوين التالية " حريق ضخم بمبنى اللجان بمجلس الشوري يتمد إلى مجلس الشعب " و " النيران التهمت مستندات العبارة و قطار الصعيد و المبيدات المسرطنة و أكياس الدم الفاسدة " . وكانت قوات الأمن قد احتجزت مصور الجريدة و حطمته الكاميرا الخاصة به أثناء تغطيه للحادث المروع . كما حصلت " البديل " على صور خاصة توضح مراحل تطور الحريق وافردت لها الصفحتين الأولى والأخيرة من الطبعة الثانية وهو الأمر الذي ازعج المسئولين في مطابع الأهرام الحكومية الذين امتنعوا عن طبع الطبعة الثانية بحجة عدم وجود أمر طبع و رفضوا استكمال الكمية المتبقية من الطبعة الأولى .
وقال مسئولون بإدارة الجريدة أن " مطابع الأهرام دأبت على مخالفة شروط التعاقد بما يضر بمصالح " البديل " فرغم أن العقد بين الجريدة و المطابع ينص على وصول الجريدة إلى المطابع في موعد أقصاه 6.30 مساء على أن يبدأ التوزيع في الأسواق في الساعة 8 من مساء نفس اليوم . ورغم أن الجريدة حرصت دوما على ارسال المادة للمطابع قبل الموعد المحدد بأكثر من ساعة إلا أن المطابع تتعمد تأخير الجريدة كما حدث في عدد الثلاثاء 19 أغطسطس الحالي حيث أخرت الأهرام طباعة " البديل " لأكثر من ساعتين بعد أن عنونت الجريدة صفحتها الرئيسية بالعنوان التالي " افراح في باكستان بعد استقالة الرئيس .. و سياسيون مصريون : عقبال عندنا " وهو ما اعتبره المسئولون سببا لعدم طباعة الطبعة الثانية أمس أيضا . و اكد المسئولون أن تأخر مطابع الأهرام تسبب في تعطيل توزيع الجريدة في محافظات الصعيد لفترات طويلة أمتدت لأسابيع "
و أضاف مسئولون في " البديل " أن " الجريدة أرسلت أكثر من فاكس لمطابع الأهرام لتحثها على طباعة الكمية المتفق عليها في الطبعة الأولى و الثانية . لكن الأهرام رفضت استكمال الطبعة الأولى و وامتنعت عن طبع الطبعة الثانية بالكامل "
من ناحية أخرى كانت " البديل " قد جمعت في طبعتها الثانية أراء العديد من الخبراء حول حريق المجلسين النيابيين . وناقشت الجريدة في طبعتها الثانية مسألة " احتراق مباني أثرية تمثل رموز سيادة الدولة و فشل قوات الدفاع المدني و الجهات السيادية في السيطرة على النيرات حتى وقت متأخر من مساء يوم الحريق " كما تسائلت " البديل" في طبعتها الممنوعة عن مصير مستندات العبارة السلام 98 خاصة بعد حكم القضاء ببراءة المتهمين جميعا فضلا عن مصير ملفات أكياس الدم الملوثة و قطار الصعيد المحترق و المبيدات المسرطنة التي أدان القضاء فيها مسئولين كبار بالدولة . وكانت هذه المستندات محفوظة في المباني التي دمرها الحريق نهائيا .

منع الطبعة الثانية من "البديل" بسبب عناوين تغطية حريق مجلسي الشعب والشورى


- من مانشيتات الطبعة الثانية : "احتراق مستندات عبارة الموت وقطار الصعيد والمبيدات المسرطنة في الحادث"
- ومطابع "الأهرام" تعترض وترفض طباعتها بسبب "تعليمات أمنية مشددة"
- "البديل" تنشر خلال ساعات نسختها الإلكترونية

من "البديل" - أحمد محجوب:

امتنعت مطابع الأهرام بالسادس من اكتوبر عن طبع الطبعة الثانية من جريدة " البديل " اليومية و التي كان من المفترض أن تصدر فجر اليوم مع تغطية شاملة لحريق مجلسي الشورى والشعب الذي اندلع وقت مثول الطبعة الأولى من " البديل " للطبع .

و كانت " البديل " قد عنونت صفحتها الرئيسية في الطبعة الثانية بالعناوين التالية " حريق ضخم بمبنى اللجان بمجلس الشوري يتمد إلى مجلس الشعب " و " احتراق مستندات عبارة الموت و قطار الصعيد و المبيدات المسرطنة في الحادث " . وكانت قوات الأمن قد احتجزت مصور الجريدة طارق جبر وحطمته الكاميرا الخاصة به أثناء تغطيه للحادث المروع . كما حصلت " البديل " على صور خاصة توضح مراحل تطور الحريق وافردت لها الصفحتين الأولى والأخيرة من الطبعة الثانية وهو الأمر الذي ازعج المسئولين في مطابع الأهرام الحكومية الذين امتنعوا عن طبع الطبعة الثانية من الجريدة وقلصوا عدد الطبعة الاولى المرسلة للمطابع منذ الخامسة عصرا بدعوى صدور تعليمات أمنية مشددة.

من ناحية أخرى كانت " البديل " قد جمعت في طبعتها الثانية أراء العديد من الخبراء حول حريق المجلسين النيابيين . وناقشت الجريدة في طبعتها الثانية مسألة " احتراق مباني أثرية تمثل رموز سيادة الدولة و فشل قوات الدفاع المدني و الجهات السيادية في السيطرة على النيرات حتى وقت متأخر من مساء يوم الحريق " كما تسائلت " البديل" في طبعتها الممنوعة عن مصير مستندات العبارة السلام 98 خاصة بعد حكم القضاء ببراءة المتهمين جميعا فضلا عن مصير ملفات أكياس الدم الملوثة و قطار الصعيد المحترق و المبيدات المسرطنة التي أدان القضاء فيها مسئولين كبار بالدولة . وكانت هذه المستندات محفوظة في المباني التي دمرها الحريق نهائيا .

تنشر " البديل " طبعتها الثانية في صورتها الالكترونية – على هيئة ملفات pdf – تشمل صور الحريق بمراحلة المتعددة وتغطية شاملة عن الخسائر في الأرواح والممتلكات والمستندات . كما تضم الطبعة الثانية أخبارا عن احتجاجات عمالية وشعبية في العديد من قرى مصر .

وكانت البديل في طبعتها الاولى قد افردت " المانشيت " الرئيسي لسلسلة المظاهرات التي اجتاحت مدن وقرى الصعيد والدلتا احتجاجا على سوء إدارة أزمات المرور والمياة وبعض المطالب الفئوية.

يرجى مراسلة البديل على العنوان التالي للحصول على المزيد من التفاصيل
elbadeel@elbadeel.net

15 August 2008

في حضرة الهباب

لم تدعني زميلتي في جريدة "البديل" لحضور "حفل خلع حجابها"، كما أني لم أسمع به أو ألحظه، ومن زار "البديل" يعرف جيدا أن مقرها شقة ليست بالمترامية الأطراف .. ولكن لم يمنعني كل هذا من أن أكذب عيني وسمعي وأصدق "المصريون". بل لم أصدق أيضا تكذيب الزميلة نفسها في تقرير "العربية"، بعد أن أصبح حجابها قضية دولية.
لقد اختبرت مصداقية "المصريون" بنفسي، وفي عدة مناسبات. أهمها وأبلغها عندما ثار الجدل حول فيلم "الأسانسير" الذي شاهدته وكتبت عنه. وما بدا لي على الشاشة أن الفيلم لم يكن به سوى ممثلة وحيدة تقوم بدور فتاة محجبة يتعطل الأسانسير وهي بداخله ولا تجد من يساعدها، فتستسلم للأمر وتجلس وتفك إيشاربها وتلهو بمحتويات حقيبتها ثم تجاري شابا يحاول الاتصال بها مرارا وتدردش معه قليلا إلى أن ينفذ رصيده وينتهى الأمر. ورغم ذلك فإنني لم أبادر بتكذيب "المصريون" التي نشرت أن الفيلم يضم مشاهد إباحية بين شاب وفتاة تخلع حجابها في الأسانسير. بل أرسلت إلى مسئول أعرفه في الجريدة وأخبرته بما شاهدته، فما كان منه إلا أن ذكرني أن مؤسسة الجزويت الكاثوليكية اشتركت في إنتاجه، وأن ذلك لن يكون بلا معنى، كما أنه يثق في محرر الجريدة ويعيذني من أن تغيرا في مرجعيتي وثقافتي هو الذي جعلني لا أرى ما يمس الإسلام والمسلمين والمسلمات وحجابهن.
لم أعرف تحديدا كيف ستحول مرجعيتي وثقافتي بيني وبين رؤية هذا الشاب وهذه المشاهد الإباحية. ولكن بعد احتدام الجدل حول الأمر، وكان الظاهر من الأمر أن "المصريون" في وضع حرج لأن أحدا غيرها لم يشاهد الشاب والمشاهد الإباحية في الفيلم القصير، كانت المفاجأة..
نشرت "المصريون" تقريرا يقول أن نسخة الفيلم التي شاهدها كل الناس في المركز الفرنسي وفي ساقية الصاوي وفي أماكن عدة أخرى، ليست هي النسخة التي عرضت في أقبية الجزويت الخاصة التي يكاد فيها للإسلام بليل. ولك أن تتخيل كيف وصل الحال بمتآمري الجزويت إلى صنع نسختين من فيلم، واحدة لتشيد بها الصحف وتحصل على الجوائز، وواحدة يعرضونها فيما بينهم ويضحكون ضحكتهم الشريرة تشفيا في الإسلام وفي السذج الذين يمدحون النسخة الأخرى.
وبهذا الكشف المبين، أسقط في يد الجميع ورفعوا قبعاتهم احتراما للجريدة المطلعة على الأسرار والخبايا، والتي لا يرقى شك إلى مستواها المهني الصحفي كما يظهر في هذا الخبر وذاك.
لا يخفى على الملاحظة بالطبع، أن تقريري "الأسانسير" و"حفلات خلع الحجاب" يتعلقان بالحجاب، وهو الأمر الذي لا يمكن الهزل بشأنه. فهو من ناحية يحظى بحساسية خاصة عند محرري الجريدة، كما أنه من المعلوم من الواقع بالضرورة أن حربا على الحجاب هي جزء من حرب كبيرة على الإسلام تدور رحاها، وإدراك هذه الحرب الشاملة يغني عن أي إثبات أو تثبت من صحة وقوع جولات منها هنا وهناك. وهذا ما يفسر أيضا مسارعة صحف ومواقع بنقل تقارير "المصريون"، فبالإضافة لمصداقية الجريدة التي لا أشك فيها، فإن تورط مؤسسة مسيحية أو جريدة يسارية في مؤامرة على الإسلام هو أمر منطقي وفقا لمنطق المؤامرة المعروف. وعند "المصريون" ومن تبعها فإن المنطقي حقيقي وليس العكس، وهو ما لا يمكن أن أناقشه لأنني رسبت في المنطق، والعاقبة عندكم في المسرات.

13 August 2008

للحياة قال: على مهلك..انتظريني


محمود درويش يلقي قصيدة " لاعب النرد" في أمسيته الأخيرة برام الله



,,مَنْ أَنا لأقول لكمْ
ما أَقول لكمْ ؟
وأَنا لم أكُنْ حجراً صَقَلَتْهُ المياهُ
فأصبح وجهاً
ولا قَصَباً ثقَبتْهُ الرياحُ
فأصبح ناياً ...

أَنا لاعب النَرْدِ ،
أَربح حيناً وأَخسر حيناً
أَنا مثلكمْ
أَو أَقلُّ قليلاً ...
وُلدتُ إلي جانب البئرِ
والشجراتِ الثلاثِ الوحيدات كالراهباتْ
وُلدتُ بلا زَفّةٍ وبلا قابلةْ
وسُمِّيتُ باسمي مُصَادَفَةً
وانتميتُ إلي عائلةْ
مصادفَةً ،
ووَرِثْتُ ملامحها والصفاتْ
وأَمراضها :

أَولاً - خَلَلاً في شرايينها
وضغطَ دمٍ مرتفعْ
ثانياً - خجلاً في مخاطبة الأمِّ والأَبِ
والجدَّة - الشجرةْ
ثالثاً - أَملاً في الشفاء من الانفلونزا
بفنجان بابونج ٍ ساخن ٍ
رابعاً - كسلاً في الحديث عن الظبي والقُبَّرة

خامساً - مللاً في ليالي الشتاءْ
سادساً - فشلاً فادحاً في الغناءْ ...

ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ
كانت مصادفةً أَن أكونْ
ذَكَراً ...
ومصادفةً أَن أَري قمراً
شاحباً مثل ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات
ولم أَجتهد
كي أَجدْ
شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً !

كان يمكن أن لا أكونْ
كان يمكن أن لا يكون أَبي
قد تزوَّج أُمي مصادفةً
أَو أكونْ
مثل أُختي التي صرخت ثم ماتت
ولم تنتبه
إلي أَنها وُلدت ساعةً واحدةْ
ولم تعرف الوالدة ْ ...
أَو : كَبَيْض حَمَامٍ تكسَّرَ
قبل انبلاج فِراخ الحمام من الكِلْسِ /

كانت مصادفة أَن أكون
أنا الحيّ في حادث الباصِ
حيث تأخَّرْتُ عن رحلتي المدرسيّة ْ
لأني نسيتُ الوجود وأَحواله
عندما كنت أَقرأ في الليل قصَّةَ حُبٍّ
تَقمَّصْتُ دور المؤلف فيها
ودورَ الحبيب - الضحيَّة ْ
فكنتُ شهيد الهوي في الروايةِ
والحيَّ في حادث السيرِ /

لا دور لي في المزاح مع البحرِ
لكنني وَلَدٌ طائشٌ
من هُواة التسكّع في جاذبيّة ماءٍ
ينادي : تعال إليّْ !
ولا دور لي في النجاة من البحرِ
أَنْقَذَني نورسٌ آدميٌّ
رأي الموج يصطادني ويشلُّ يديّْ

كان يمكن أَلاَّ أكون مُصاباً
بجنِّ المُعَلَّقة الجاهليّةِ
لو أَن بوَّابة الدار كانت شماليّةً
لا تطلُّ علي البحرِ
لو أَن دوريّةَ الجيش لم تر نار القري
تخبز الليلَ
لو أَن خمسة عشر شهيداً
أَعادوا بناء المتاريسِ
لو أَن ذاك المكان الزراعيَّ لم ينكسرْ
رُبَّما صرتُ زيتونةً
أو مُعَلِّم جغرافيا
أو خبيراً بمملكة النمل
أو حارساً للصدي !

مَنْ أنا لأقول لكم
ما أقول لكم
عند باب الكنيسةْ
ولستُ سوي رمية النرد
ما بين مُفْتَرِس ٍ وفريسةْ
ربحت مزيداً من الصحو
لا لأكون سعيداً بليلتيَ المقمرةْ
بل لكي أَشهد المجزرةْ

نجوتُ مصادفةً : كُنْتُ أَصغرَ من هَدَف عسكريّ
وأكبرَ من نحلة تتنقل بين زهور السياجْ
وخفتُ كثيراً علي إخوتي وأَبي
وخفتُ علي زَمَن ٍ من زجاجْ
وخفتُ علي قطتي وعلي أَرنبي
وعلي قمر ساحر فوق مئذنة المسجد العاليةْ
وخفت علي عِنَبِ الداليةْ
يتدلّي كأثداء كلبتنا ...
ومشي الخوفُ بي ومشيت بهِ
حافياً ، ناسياً ذكرياتي الصغيرة عما أُريدُ
من الغد - لا وقت للغد -

أَمشي / أهرولُ / أركضُ / أصعدُ / أنزلُ / أصرخُ / أَنبحُ / أعوي / أنادي / أولولُ / أُسرعُ / أُبطئ / أهوي / أخفُّ / أجفُّ / أسيرُ / أطيرُ / أري / لا أري / أتعثَّرُ / أَصفرُّ / أخضرُّ / أزرقُّ / أنشقُّ / أجهشُ / أعطشُ / أتعبُ / أسغَبُ / أسقطُ / أنهضُ / أركضُ / أنسي / أري / لا أري / أتذكَّرُ / أَسمعُ / أُبصرُ / أهذي / أُهَلْوِس / أهمسُ / أصرخُ / لا أستطيع / أَئنُّ / أُجنّ / أَضلّ / أقلُّ / وأكثرُ / أسقط / أعلو / وأهبط / أُدْمَي / ويغمي عليّ /

ومن حسن حظّيَ أن الذئاب اختفت من هناك
مُصَادفةً ، أو هروباً من الجيش ِ /

لا دور لي في حياتي
سوي أَنني ،
عندما عَـلَّمتني تراتيلها ،
قلتُ : هل من مزيد ؟
وأَوقدتُ قنديلها
ثم حاولتُ تعديلها ...

كان يمكن أن لا أكون سُنُونُوَّةً
لو أرادت لِيَ الريحُ ذلك ،
والريح حظُّ المسافرِ ...
شمألتُ ، شرَّقتُ ، غَرَّبتُ
أما الجنوب فكان قصياً عصيّاً عليَّ
لأن الجنوب بلادي
فصرتُ مجاز سُنُونُوَّةٍ لأحلِّق فوق حطامي
ربيعاً خريفاً ..
أُعمِّدُ ريشي بغيم البحيرةِ
ثم أُطيل سلامي
علي الناصريِّ الذي لا يموتُ
لأن به نَفَسَ الله
والله حظُّ النبيّ ...

ومن حسن حظّيَ أَنيَ جارُ الأُلوهةِ ...
من سوء حظّيَ أَن الصليب
هو السُلَّمُ الأزليُّ إلي غدنا !

مَنْ أَنا لأقول لكم
ما أقولُ لكم ،
مَنْ أنا ؟

كان يمكن أن لا يحالفني الوحيُ
والوحي حظُّ الوحيدين
إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ
علي رُقْعَةٍ من ظلامْ
تشعُّ ، وقد لا تشعُّ
فيهوي الكلامْ
كريش علي الرملِ /

لا دَوْرَ لي في القصيدة
غيرُ امتثالي لإيقاعها :
حركاتِ الأحاسيس حسّاً يعدِّل حساً
وحَدْساً يُنَزِّلُ معني
وغيبوبة في صدي الكلمات
وصورة نفسي التي انتقلت
من أَنايَ إلي غيرها
واعتمادي علي نَفَسِي
وحنيني إلي النبعِ /

لا دور لي في القصيدة إلاَّ
إذا انقطع الوحيُ
والوحيُ حظُّ المهارة إذ تجتهدْ

كان يمكن ألاَّ أُحبّ الفتاة التي
سألتني : كمِ الساعةُ الآنَ ؟
لو لم أَكن في طريقي إلي السينما ...
كان يمكن ألاَّ تكون خلاسيّةً مثلما
هي ، أو خاطراً غامقاً مبهما ...

هكذا تولد الكلماتُ . أُدرِّبُ قلبي
علي الحب كي يَسَعَ الورد والشوكَ ...
صوفيَّةٌ مفرداتي . وحسِّيَّةٌ رغباتي
ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلاَّ
إذا التقتِ الاثنتان ِ :
أَنا ، وأَنا الأنثويَّةُ
يا حُبّ ! ما أَنت ؟ كم أنتَ أنتَ
ولا أنتَ . يا حبّ ! هُبَّ علينا
عواصفَ رعديّةً كي نصير إلي ما تحبّ
لنا من حلول السماويِّ في الجسديّ .
وذُبْ في مصبّ يفيض من الجانبين .
فأنت - وإن كنت تظهر أَو تَتَبطَّنُ -
لا شكل لك
ونحن نحبك حين نحبُّ مصادفةً
أَنت حظّ المساكين /

من سوء حظّيَ أَني نجوت مراراً
من الموت حبّاً
ومن حُسْن حظّي أنيَ ما زلت هشاً
لأدخل في التجربةْ !

يقول المحبُّ المجرِّبُ في سرِّه :
هو الحبُّ كذبتنا الصادقةْ
فتسمعه العاشقةْ
وتقول : هو الحبّ ، يأتي ويذهبُ
كالبرق والصاعقة

للحياة أقول : علي مهلك ، انتظريني
إلي أن تجفُّ الثُمَالَةُ في قَدَحي ...
في الحديقة وردٌ مشاع ، ولا يستطيع الهواءُ
الفكاكَ من الوردةِ /
انتظريني لئلاَّ تفرَّ العنادلُ مِنِّي
فاُخطئ في اللحنِ /
في الساحة المنشدون يَشُدُّون أوتار آلاتهمْ
لنشيد الوداع . علي مَهْلِكِ اختصريني
لئلاَّ يطول النشيد ، فينقطع النبرُ بين المطالع ،
وَهْيَ ثنائيَّةٌ والختامِ الأُحاديّ :
تحيا الحياة !
علي رسلك احتضنيني لئلاَّ تبعثرني الريحُ /

حتي علي الريح ، لا أستطيع الفكاك
من الأبجدية /

لولا وقوفي علي جَبَل ٍ
لفرحتُ بصومعة النسر : لا ضوء أَعلي !
ولكنَّ مجداً كهذا المُتوَّجِ بالذهب الأزرق اللانهائيِّ
صعبُ الزيارة : يبقي الوحيدُ هناك وحيداً
ولا يستطيع النزول علي قدميه
فلا النسر يمشي
ولا البشريُّ يطير
فيا لك من قمَّة تشبه الهاوية
أنت يا عزلة الجبل العالية !

ليس لي أيُّ دور بما كُنْتُ
أو سأكونْ ...
هو الحظُّ . والحظ لا اسم لَهُ
قد نُسَمِّيه حدَّادَ أَقدارنا
أو نُسَمِّيه ساعي بريد السماء
نُسَمِّيه نجَّارَ تَخْتِ الوليد ونعشِ الفقيد
نسمّيه خادم آلهة في أساطيرَ
نحن الذين كتبنا النصوص لهم
واختبأنا وراء الأولمب ...
فصدَّقهم باعةُ الخزف الجائعون
وكَذَّبَنا سادةُ الذهب المتخمون
ومن سوء حظ المؤلف أن الخيال
هو الواقعيُّ علي خشبات المسارح ِ /

خلف الكواليس يختلف الأَمرُ
ليس السؤال : متي ؟
بل : لماذا ؟ وكيف ؟ وَمَنْ

مَنْ أنا لأقول لكم
ما أقول لكم ؟

كان يمكن أن لا أكون
وأن تقع القافلةْ
في كمين ، وأن تنقص العائلةْ
ولداً ،
هو هذا الذي يكتب الآن هذي القصيدةَ
حرفاً فحرفاً ، ونزفاً ونزفاً
علي هذه الكنبةْ
بدمٍ أسود اللون ، لا هو حبر الغراب
ولا صوتُهُ ،
بل هو الليل مُعْتَصراً كُلّه
قطرةً قطرةً ، بيد الحظِّ والموهبةْ

كان يمكن أن يربح الشعرُ أكثرَ لو
لم يكن هو ، لا غيره ، هُدْهُداً
فوق فُوَهَّة الهاويةْ
ربما قال : لو كنتُ غيري
لصرتُ أنا، مرَّةً ثانيةْ

هكذا أَتحايل : نرسيس ليس جميلاً
كما ظنّ . لكن صُنَّاعَهُ
ورَّطوهُ بمرآته . فأطال تأمُّلَهُ
في الهواء المقَطَّر بالماء ...
لو كان في وسعه أن يري غيره
لأحبَّ فتاةً تحملق فيه ،
وتنسي الأيائل تركض بين الزنابق والأقحوان ...
ولو كان أَذكي قليلاً
لحطَّم مرآتَهُ
ورأي كم هو الآخرون ...
ولو كان حُرّاً لما صار أُسطورةً ...

والسرابُ كتابُ المسافر في البيد ...
لولاه ، لولا السراب ، لما واصل السيرَ
بحثاً عن الماء . هذا سحاب - يقول
ويحمل إبريق آماله بِيَدٍ وبأخري
يشدُّ علي خصره . ويدقُّ خطاه علي الرمل ِ
كي يجمع الغيم في حُفْرةٍ . والسراب يناديه
يُغْويه ، يخدعه ، ثم يرفعه فوق : إقرأ
إذا ما استطعتَ القراءةَ . واكتبْ إذا
ما استطعت الكتابة . يقرأ : ماء ، وماء ، وماء .
ويكتب سطراً علي الرمل : لولا السراب
لما كنت حيّاً إلي الآن /

من حسن حظِّ المسافر أن الأملْ
توأمُ اليأس ، أو شعرُهُ المرتجل

حين تبدو السماءُ رماديّةً
وأَري وردة نَتَأَتْ فجأةً
من شقوق جدارْ
لا أقول : السماء رماديّةٌ
بل أطيل التفرُّس في وردةٍ
وأَقول لها : يا له من نهارْ !

ولاثنين من أصدقائي أقول علي مدخل الليل :
إن كان لا بُدَّ من حُلُم ، فليكُنْ
مثلنا ... وبسيطاً
كأنْ : نَتَعَشَّي معاً بعد يَوْمَيْنِ
نحن الثلاثة ،
مُحْتَفلين بصدق النبوءة في حُلْمنا
وبأنَّ الثلاثة لم ينقصوا واحداً
منذ يومين ،
فلنحتفل بسوناتا القمرْ
وتسامُحِ موت رآنا معاً سعداء
فغضَّ النظرْ !

لا أَقول : الحياة بعيداً هناك حقيقيَّةٌ
وخياليَّةُ الأمكنةْ
بل أقول : الحياة ، هنا ، ممكنةْ

ومصادفةً ، صارت الأرض أرضاً مُقَدَّسَةً
لا لأنَّ بحيراتها ورباها وأشجارها
نسخةٌ عن فراديس علويَّةٍ
بل لأن نبيّاً تمشَّي هناك
وصلَّي علي صخرة فبكتْ
وهوي التلُّ من خشية الله
مُغْميً عليه

ومصادفةً ، صار منحدر الحقل في بَلَدٍ
متحفاً للهباء ...
لأن ألوفاً من الجند ماتت هناك
من الجانبين ، دفاعاً عن القائِدَيْنِ اللذين
يقولان : هيّا . وينتظران الغنائمَ في
خيمتين حريرَيتَين من الجهتين ...
يموت الجنود مراراً ولا يعلمون
إلي الآن مَنْ كان منتصراً !

ومصادفةً ، عاش بعض الرواة وقالوا :
لو انتصر الآخرون علي الآخرين
لكانت لتاريخنا البشريّ عناوينُ أُخري

أُحبك خضراءَ . يا أرضُ خضراءَ . تُفَّاحَةً
تتموَّج في الضوء والماء . خضراء . ليلُكِ
أَخضر . فجرك أَخضر . فلتزرعيني برفق...
برفق ِ يَدِ الأم ، في حفنة من هواء .
أَنا بذرة من بذورك خضراء ... /

تلك القصيدة ليس لها شاعر واحدٌ
كان يمكن ألا تكون غنائيَّةَ ...

من أنا لأقول لكم
ما أَقول لكم ؟
كان يمكن أَلاَّ أكون أَنا مَنْ أَنا
كان يمكن أَلاَّ أكون هنا ...

كان يمكن أَن تسقط الطائرةْ
بي صباحاً ،
ومن حسن حظّيَ أَني نَؤُوم الضحي
فتأخَّرْتُ عن موعد الطائرةْ
كان يمكن أَلاَّ أري الشام والقاهرةْ
ولا متحف اللوفر ، والمدن الساحرةْ

كان يمكن ، لو كنت أَبطأَ في المشي ،
أَن تقطع البندقيّةُ ظلِّي
عن الأرزة الساهرةْ

كان يمكن ، لو كنتُ أَسرع في المشي ،
أَن أَتشظّي
وأصبح خاطرةً عابرةْ

كان يمكن ، لو كُنْتُ أَسرف في الحلم ،
أَن أَفقد الذاكرة .

ومن حسن حظِّيَ أَني أنام وحيداً
فأصغي إلي جسدي
وأُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ
فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق
عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً
وأُخيِّب ظنّ العدم

مَنْ أَنا لأخيِّب ظنَّ العدم ؟
مَنْ أنا ؟ مَنْ أنا ؟
،،