28 June 2013

عفريت الصندوق والشرعية السخيفة

تقول النكتة السخيفة إن العفريت خرج من صندوق علاء الدين، وقال لاثنين كان أحدهما سخيفا: تطلبوا إيه؟
قال الأول: أنا عاوز أشوف المرحومة أمي.
وقال السخيف: أنا مش عاوزه يشوف المرحومة أمه.
النكتة سخيفة، ولكنها معبرة جدا عن سخافة «الرغبة السلطوية». رغبة السخيف لها عدة خصائص:
1- أنها رغبة غير خاصة بصاحبها، ولكنها تتعلق بغيره.
2- أنها تريد تحويل «غيره» إلى «خاضع» للرغبة السلطوية.
3- أنها لو فشلت في جعل «الغير» موضوعا خاضعا، فإن معركة «وجود» لابد أن تنفجر بين رغبة الآخر الحر المقاوم والرغبة السلطوية للسخيف.
معركة الوجود بين الرغبتين أو الاستحالة المنطقية لتحقق الرغبتين معا هي مفارقة النكتة، التي تقتضي الدهشة والضحك، ولكن في الواقع تلك الاستحالة المنطقية هي التي تسمى الاستقطاب، ومعركة الوجود بينهما هي التي تتجه الآن إلى إحدى أحرج مراحلها.
الرغبة السلطوية الإسلامية تنطبق عليها كل خصائص السخافة:
1-  هي رغبة غير خاصة بأصحابها، ولكنها تتعلق بغيرهم غير المتفقين معهم. «المشروع الإسلامي» هو عبارة عن تجميع كبير لرغبات خاصة بمنع آخرين من ممارسة حرياتهم، وأن يعيشوا حياتهم بطرق لا تعجب «السلطوي الإسلامي».
2- هي رغبة تريد جعل الغير المختلف موضوعا «خاضعا» باسم «مجتمع إسلامي» و«دولة إسلامية» و«هوية الأغلبية».
3-  لو أن الآخر رفض الخضوع، وتمسك بحريته، وأصبح مقاوما لها راغبا في حريته المضادة لهذه الرغبة، فإن «معركة وجود» تحدث. يتجاهل السلطوي الإسلامي أن رغبته السلطوية - لا رغبته في أن يحيا وفق عقيدته وأفكاره-  هي سبب معركة الوجود، ويقول إنه يعرف من زمان أنها معركة عقيدة بينه وبين أعداء الإسلام.
طيب لما إنت عارف إنها معركة عقيدة، ولن يرضى عنك أي أحد آخر إلا صاحب نفس عقيدتك وفكرتك. ماذا تتوقع منهم؟ طبعا لا تتوقع إلا أن يكونوا لك خاضعين غير مزعجين.
الرغبات السلطوية ليست إسلامية فقط بالتأكيد، ولكنها تلك الرغبة الاجتماعية الموجودة منذ الأزل في السيطرة على حرية الآخرين باسم «المجموع». وفي مواجهتها رغبة التحرر التي تفكر في «الاجتماع» الذي يكون أساسه نفي الرغبات السلطوية، والتفكير في «ضرورات» الاجتماع معا دونها.
وبين الرغبة الاجتماعية في «التسلط الجماعي» ورغبة التحرر تدور معركة طوال التاريخ الإنساني، هذه المعركة تدور على أرض «القانون» و«الدستور» والنظم السياسية، ومنها «الديمقراطية»، ولذلك فهي نفسها ليست انتصارا للتحرر، ولا هي أيضا أدوات للتسلط، ولكنها يمكن في كل موقف أن تكون عونا لهذا أو لذلك، ويمكن أن تكون تقدما في هذا الاتجاه أو ذلك.
السخفاء الجدد عبدة الصناديق يظنون أنه بمجرد الاحتكام إلى عفريت الصندوق ينتهي الإشكال، بينما يتجاهلون ويتعامون عن رغباتهم السلطوية السخيفة، التي تبدأ المعركة. يطلب واحد «حرية» فيطلب السخيف تقييد هذه الحرية،  لأنها تخالف ما يراه ثوابت دينه.
يطلب واحد أن يعيش وفق أفكاره، فيقول السخيف إن أفكاره تأمره بألا يدع الآخرين يعيشون وفق أفكارهم.
يهم أحدهم بطلب شيء، فيسكته السخيف، ويقول له: سأطلب أنا لي ولك! أنا عاوز أديلك حقك وزيادة وأكرّمك علشان أنا عارف الأصلح لك. اطلب لنا إحنا الاثنين «شريعتي» و«فقهي». لأن دا الأصلح للجميع، ولأني أنا الأقوى والأكثر وأنا اللي فزت أصلا بالصندوق دا ومعايا الشرعية!
السخافة السلطوية تتضمن أيضا إسكات صوت الغير. هو مجرد موضوع خاضع، كيف يمكن أن يتكلم ويطلب. هو مخدوع ومهزوم نفسيا ومتآمر، وعميل للخارج، وعدو للأمة، أو كائن له دور محدد في الكتالوج، وليس له أن يتكلم ويطلب، ولذلك فإن السلطوي الإسلامي يريد من المسلم غير السلطوي وغير المسلم، ومن سائر المختلفين معه أن يخرسوا، ويطلب هو لنفسه ولهم ما يحب.
السلطوي الإسلامي السخيف لا يحب أن يرى أمام رغبته السلطوية السخيفة رغبة أخرى في التحرر، وفي المساواة تطالبه بإسقاط رغبته لنتجنب «معركة الوجود» بين الرغبات. معركة الوجود بين الرغبات وليس بين الناس. لا يحب أن يرى الحل البسيط أنه بإسقاط الرغبات السلطوية يبدأ الوجود معا على أساس من الندية، كل الأطراف أحرار ومتساوون، أو هكذا نريد.
ولكن السلطوي السخيف يحب أن يرى المعركة باعتبارها «معركة وجود» بينه وبين أصحاب رغبة سلطوية أخرى. «دول عاوزين يرجعوا الإسلاميين السجون». يفضل السلطوي الإسلامي السخيف أن يداري سخافته بإلقاء المزيد من الضوء على السخفاء من أعدائه، الذين يريدون إعادته إلى السجون، وتدور بينهم فعلا معركة وجود، أحدهما يجب أن يكون في السجن أو خارج البلد، أو مقتولا.
يوم 30 يونيو إحدى محطات «معركة وجود» بين الرغبة السلطوية وسخافتها وبين أحرار مقاومين وعدوا أنهم سيحاولون دائما أن يكونوا مسمارا في نعش السلطويين، ولكن أيضا ستكون من جانب آخر «معركة وجود» بين سلطويين سخفاء وبعضهم البعض. كما كانت جولات نفس المعركة سابقا ضد سخافة مبارك، وكان بين الصفوف أحرار مقاومون، ولكن كان أيضا سخفاء من السلطويين الإسلاميين.
 معركة هذا اليوم التي بدأت مبكرا، ولن تنتهي سريعا، يمكن لها أن تبدأ في الانتهاء عندما يصبح المقاومون الراغبون في حريتهم هم كتلة حرجة، وليسوا أقلية قلقة وسط من لا يرون الخلاص إلا في سخافات سلطوية.
نشر في المصري اليوم بتاريخ 28 يونيو 2013

22 June 2013

مصر: “تمرد” والبحث المتجدد عن بداية !


حملة توقعيات واسعة في مصر لسحب الثقة من الرئيس المصري محمد مرسي في 30 يونيو
“لقد كنا نتألم ونحن نقف وراء هذه القضبان نستمع إلى مرافعة ممثل الادعاء وهو يصفنا بما ليس فينا، فقد كنا نؤدى دورنا بإخلاص وأمانة لا نبغى إلا وجه الله تعالى ومصالح شعبنا العظيم. لم نكن نعمل لحساب النظام أو حزب أو فصيل سياسي، بل كنا نرفع راية مصرنا الحبيبة عالية خفاقة.. ويشهد بذلك القاصي والداني، وكنا نضع نصب أعيننا مصالح شعبنا العظيم”.
من كان يتصور أن يمتلك حسن عبد الرحمن -الرئيس السابق لجهاز أمن الدولة- شجاعة التفوه بهذه الكلمات أثناء محاكمته قبل أسبوع، بل وتنتهي المحاكمة بالحكم ببراءته.
الوصول إلى ذلك لم يكن مفاجأة كبيرة، فالتمهيدات لذلك كثيرة، منها:
أولاً: اختار الرئيس الإخواني وحكومته وسط الصراعات التي تموج بها الساحة المصرية أن يفتحوا جبهات لتغيير وتطهير المؤسسات الحكومية، ولكن فقط تلك التي تضم معارضين ومزعجين لسلطتهم، -لم يكن منها جهاز الشرطة-. وبشكل ما تركوه لكي يكون عونًا لهم في حماية “أمن الدولة” تحت القيادة الجديدة. وبعيدًا عن المحاسبة ورياح التغيير، عادت انتهاكات الشرطة ضد الناس، ومعدلات الموت في أقسام الشرطة تقترب من معدلاتها السابقة بالتوازي مع حملة لملاحقة المعارضين وحبسهم ومحاكمتهم.
ثانيًا: الرئيس الإخواني الذي يقول عن نفسه أنه كان “مرشح الثورة” أهدر حتى ما يمكن أن يستخدمه كرصيد رمزي للحظة الثورة الأولى، التي انطلقت في يوم عيد الشرطة نكاية فيها، وقال وهو يمدح يوم 25 يناير في حضرة رجال الشرطة أن ذلك اليوم العظيم في تاريخ مصر كان عبورًا ثالثًا و”كانت الشرطة في القلب منه”.
ثالثًا: عندما غابت أي رغبة من السلطة الجديدة لتطهير وإصلاح جهاز الشرطة، الأداة الأساسية لقمع النظام، بل وتفوق الرغبة في تملقهم حياء حفظ هيبة تاريخ اللحظة التي مهدت لهذه السلطة، فليس غريبًا ألا يحاكم رئيس الجهاز الأساسي المسئول عن إخضاع المجتمع وقمعه، إلا بتهمة “إتلاف مستندات”، وهي كانت التهمة التي ألقى أثناء محاكمته بها مرافعته الجريئة.
رابعًا: أنه في ظل وجود “تيار سلطوي إسلامي” قد ترك موقف الثورة إلى موقف التطلع إلى “السلطوية الإسلامية” في مواجهة “أعداء الإسلام”، وفي ظل خطابه الدعائي الذي يفتقر إلى الحد الأدنى من الأخلاق والاتساق، فالمآل أنه سيتم تجاهل كل ما سبق، وسيتم تحميل “القضاء الفاسد” كل المسئولية عن تلك المحاكمة وغيرها، وسيصرخ أن أجهزة الدولة تنقلب عليه وتتواطأ مع أعدائه.
ورغم كل مشكلات النظام القضائي في مصر، فإن القضاء لا يمكنه أن يحقق “عدالة انتقالية” بدون إرادة سياسية وترتيبات قانونية تنجزها قوة يمكنها أن تبدأ الحديث حقًا باسم “الثورة”، ويمكنها أن تفرض “الترتيبات الانتقالية” بقوة حركة الثورة على أعدائها، وبتوافق واسع بين أبنائها.
أزمة سلطة الإخوان في مصر أنها حتى الآن لا تقوى على فرض لحظة بداية باسم الثورة على أعدائها، بينما هي تخجل من “لحظة البداية” التأسيسية للثورة وتزوّرها.
“أزمة البداية” هي أزمة الثورات، وهي –وفق حنا أرندت– لا يمكنها أن تؤسس لجديد وتدعي أنها ثورة إلا مع قدر من العنف.
السلطة الجديدة إما أن تحتضن لحظة البداية وعنفها، وتكمل طريقها في تقويض القديم بانعطافات جذرية عن المسارات القديمة. وإما أن تحتضن القديم وتقنعه أنها لم تكن ثورة ولكن كان إصلاحًا محدودًا، وعلينا أن نستمر في طريقنا نفسه بدون انعطافات جذرية.
تيه الإخوان بين الخيارين أوقعهم في مهب ثلاثة تيارات:
أولها: امتلاك القديم لشجاعة البروز والحديث باسم مصلحة الوطن، ومحاولة إدانة “لحظة البداية” وعنفها، كما في شهادة رئيس الجهاز القمعي أثناء محاكمته ثم براءته. وكما في أمثلة أخرى كاشفة مثل أن تجري الآن محاكمة تبحث في “جريمة” فتح السجون التي كانت تضم معارضين معتقلين أثناء بدايات الثورة.
وثانيها: ضغط الحلفاء من أجل “لحظة بداية” تخص مشروع “التمكين”.  
الرواية المحببة للسلطويين الإسلاميين أن يوم 30 يونيو هو “ثورة القديم”، لكي يساعد ذلك في مواجهة “المتمردين” بعنف   واثق أكثر في جهالته.. لكن أدوات “القديم” ومواقعه هي الآن بالفعل في الحديقة الخلفية لسلطة الإخوان

تيه الإخوان وافتقارهم إلى “لحظة بداية” تدعم سلطتهم التي تدعي الحديث باسم الثورة أوقعهم من تحت سخط حلفائهم من السلطويين الإسلاميين الذين بدأوا يميلون أكثر فأكثر إلى لحظة عنف ضد المعارضين. لحظة يستجيب فيها الرئيس الإسلامي إلى هتافهم “اغضب يا ريٍّس. اضرب يا ريّس” ويبدأ التقدم نحو “مشروع تمكين إسلامي”.
ثالثهما: التمرد. فبعدما انفتحت شهية السلطويين الإسلاميين لمزيد من الخطوات في اتجاه “تمكين إسلامي” بدلاً من خطوات نحو تغيير جذري في بنية الدولة، وسعي لصيانة وتوكيد الحقوق والحريات، فإن خطط التوافق تنهار تدريجيًّا ويزداد الانقسام في الشارع. لم يعد ممكنًا التوافق بين من انفتحت شهيتهم للسير عكس اتجاه التغيير مع من لا يزالون يطالبون به ويضغطون في اتجاهه.
“أهل التمكين” الآن في السلطة يحتمون بعنفها بقوة القانون، ويتحامون في بلادة طالما اشتهرت بها الدولة المصرية في مواجهة المظالم ومطالب التغيير. فيفتح ذلك كله الباب لفكرة حملة “تمرد” التي تدعو لسحب الثقة من الرئيس إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، والتظاهر من أجل ذلك في 30 يونيو، ولكن الحملة تفتح الباب وراء ذلك أمام “تمرد” بالمعنى الأوسع على الإخوان واتجاه سلطتهم.
وعلى عكس ما يبدو، فإن الاستجابة لمطلب “تمرد” هو امتصاص للحظة ثورية محتملة، وفتح الباب أمام محاولة أخرى للبحث عن توازن ديمقراطي. بينما تجاهل المطلب هو فتح المعركة على مصراعيها أمام فكرة “التمرد” الأعمق. فتح المعركة بما يعني بحث الأطراف عن “لحظة بداية” أو لحظة عنف تخص اتجاه سير جديد.
إما لحظة انتصار تمكين إسلامي تطيح بما تبقى من قناع الديمقراطية الكسيحة أو تواصل ذلك في هدوء، أو لحظة انتصار لمقاومة ذلك التمكين من قبل أطياف “التمرد” المتعددة، وهي لحظة لن تصب في “انتصار” لطرف بعينه أو قوة سياسية بعينها. ولكن ستصب ربما في صيغة أكثر ديمقراطية وأكثر توازنًا بين القوى الأكثر تنظيمًا واحتشادًا، وبين المطالب والمظالم المتعددة خلف “التمرد” وقواه الاجتماعية التي تفتقر للتنظيم، ولكن لا تفتقد للحيوية والتجدد والعناد وروح المقاومة.
الرواية المحببة للسلطويين الإسلاميين أن يوم 30 يونيو هو “ثورة القديم”، لكي يساعد ذلك دعايتهم لمواجهة “المتمردين” بعنف واثق أكثر في جهالته. ولكن من كانوا في المواقع القديمة يبحثون الآن عن مكان في ركب “التمرد” و”التوازن الديمقراطي” المأمول الذي ستتقاسمه أطراف كثيرة ولن يمكن في سياقه الحفاظ على معظم أدوات النظام القديم القمعية والسلطوية والاحتكارية والمركزية.
ولكن أدوات “القديم” ومواقعه هي الآن بالفعل في الحديقة الخلفية لسلطة الإخوان، يدافعون عنها بعد عمليات الإحلال والاحتلال، أو بصفقات الموالاة، إنها خزينة سلاح “العنف الدولتي السلطوي” -في مفهومه الواسع- تجاه مطالب التحرر، ولكنها في نفس الوقت أحد مصادر قلقهم واضطرابهم. وهو ما يعيدنا إلى أول المقال، ويعيدنا إلى أزمة البحث عن بداية جديدة لا يتم التنكر لها وتزويرها.



17 June 2013

خالد فهمي.. وخالد فهمي

فيما تتصاعد المعركة على وزارة الثقافة في مصر، لا يمكن تجاهل غواية المقارنة بين شخصين يحملان الاسم نفسه، وأصبح الخلط بين شخصيهما من مفارقات المعركة: خالد فهمي، المؤرخ ورئيس قسم التاريخ في الجامعة الأميركية... وخالد فهمي، أستاذ الأدب في جامعة المنوفية الذي أصبح رئيساً لدار الكتب والوثائق القومية قبل أيام.
 
تعرفت إلى خالد فهمي – المؤرخ، للمرة الأولى، عبر كتابه "كل رجال الباشا"، الذي حاول فيه قراءة تأسيس الدولة المصرية الحديثة على يد محمد علي، مستعيناً بوثائق عن تفاصيل حياة جنود الجيش المصري الذي كان وقتها قد التشكّل والتأسيس. 
كان الكتاب محاولة لقراءة التاريخ في شكل مقلوب: ماذا حدث للناس فيما الدولة تتأسس وتشد عودها، خصوصاً أولئك الذين كانوا وقود جيشها. حاول المؤلف السير بعكس اتجاه التأريخ القومي الذي ينظر من علٍ ويهتم بحسابات القوة والمصالح والتوازنات بين الأمم والدول.
 
أما المرة الثانية، فكانت ضمن ورشة  للنقد الثقافي. شاركنا خالد فهمي قراءة وثيقة حول تفاصيل الاشتباه في تعذيب أحد الأعيان لخدمه، وذلك في سياق اهتمامه بالوثائق التي تلقي الضوء على تطور الطب الشرعي وعلاقته بالقانون وما مثّله من نظرة مختلفة للجسد وعلاقة السلطة به وحدودها في التعامل معه، وهو ما يظهر في كتابه الآخر "الجسد والحداثة: الطب والقانون في مصر الحديثة" الصادر عن دار الكتب والوثائق.
 
في العام 2010 ترك خالد فهمي التدريس في جامعة نيويورك وقرر العودة إلى مصر. وفي حوار مع "أخبار الأدب"، قال: "هناك شيء ما يحدث في  مصر الآن وأحب أن أكون جزءاً منه". ومنذ ذلك الحين، كان جزء من وجوده هنا هو أن يحرضنا كل فترة على الانضمام إلى قضيته كباحث في التاريخ، أن نرفع أصواتنا كباحثين وصحافيين ومدوّنين للمطالبة بحقنا - وحق كل فرد -  في الإطلاع على وثائق تاريخية مهمة تخص تطور المجتمع والدولة في مصر، فنُساهم في كسر أو تخفيف الحس الأمني الذي تُدار به دار الوثائق القومية، من فوق مديريه أو من خلالهم، ربما بهدف  حماية "النظام" في مصر  من "المعلومات" التي تحملها وثائقه.
 
ثم انطلقت ثورة كان شعارها الأول "الشعب يريد إسقاط النظام". والتقيت خالد فهمي، أستاذ الأدب بجامعة المنوفية، على طاولة مستديرة نظمتها "أخبار الأدب" أيضاً، حول رؤية التيار الإسلامي للثقافة وحدود حرية التعبير. دُعيت بصفتي مدوّناً وباحثاً مهتماً بحرية التعبير. وبعدما قدّم خالد فهمي نفسه باعتباره عضواً في حزب "الحرية والعدالة"، وقدّم نادر بكار نفسه باعتباره متحدثاً باسم "حزب النور"، اعترضا على وجودي ووجود أشرف الشريف، الباحث في شؤون الحركات الإسلامية، قائلَين أن الحوار يجب أن يكون بين ممثلين لأحزاب وتيارات. 
 
 هدأت حماقة ممثلي التيار الإسلامي وصفاقتهم، بعد وقت ضائع وجهد مضن من مديرَي اللقاء اللذين حاولا عبثاً الشرح بأن هذه الندوة مخصصة لمناقشة ممثلي التيار الإسلامي في رؤاهم لحرية التعبير، وأننا لسنا في مناظرة حزبية، لكن يبدو أن الضيفَين الإسلاميَين لا يريان عالم اجتماع الناس مجالاً للاهتمام بتوسيع حدود الحرية وتوكيد الحقوق، بل لمنافسات القطعان على امتلاك المجتمع والدولة ورسم حدود الحرية. وكان هذا بالفعل مدخل خالد فهمي – الإخواني، للحديث عن حرية التعبير. إذ حرص على التأكيد أنه لا توجد "علمياً" حرية مطلقة، بل ثوابت، وأنه يجب على الجماعة/القطيع وضع حدود لممارسة الإبداع وإنتاج الأفكار لحماية هذه الثوابت. 
 
في هذا الاتجاه دفعت جماعة الإخوان المسلمين وحزبها، ترتيبات الحياة السياسية، لتصل إلى الانسداد الحالي. فكان من الضروري، في السياق هذا، أن يضع الإخوان وزيراً "إسلامياً قومياً" على رأس وزارة الثقافة، ليُعيّن بدوره خالد فهمي – الإخواني، رئيساً لدار الكتب والوثائق.
 
عندما ظهر خبر التعيين في الأخبار، ظن كثيرون – وبعض الظنّ وهم – أنه خالد فهمي، المناضل من أجل إتاحة الوثائق وحرية الإطلاع على المعلومات. لكن، بالطبع، وصل التصحيح سريعاً: إنه خالد فهمي الإخواني، المهتم بحماية الثوابت والهوية وبزرع الأسلاك الشائكة حول وثائق مصر. 
 
كتب خالد فهمي المؤرخ على  صفحته، ردّاً على الخلط بين اسمه وخالد فهمي الآخر، وليحاول القول بأن "الأخونة" ليست حجر الزاوية في مشكلتنا مع السلطة  والإدارة، بل إنهاء مرحلة  الوصاية على وثائقنا. غير أن خالد فهمي الآخر أكد، في تصريحاته الأولى، أننا نعيش مرحلة مضطربة، وأنه سيشدد إجراءات الإطلاع على الوثائق، ثم طالب الجيش بترشيح أحد رجاله المتخصصين ليساعده في ذلك. وكان كلامه بمثابة رد على خالد فهمي المؤرخ: "الأخوَنة" هي المرحلة الجديدة  من الوصاية.
 
ليس الهدف منه هذه المقارنة مديح خالد فهمي المؤرخ، أو ازدراء خالد فهمي الإخواني، رغم أني أقصد  ذلك. ولا الهدف هو المقارنة بين مرشح لائق لمنصب في مقابل مرشح آخر. لكنها مقارنة كاشفة عن موقع ما، يمثله كل منهما. ليسا مجرد مَيلَين سياسيَين يتصارعان. هما طريقتان في التفكير في الاجتماع الإنساني وعلاقته بالمعرفة. 
 
خالد فهمي المؤرخ، إذ يقرأ الوثائق ويطالب بإتاحة ما فيها، يحمل همّ باحث فرد، يبحث عن حقه وعن حريته، وحق وحرية كل المصريين في أن يكون بمقدورهم تأمل نقدي في تاريخ اجتماعهم ومجتمعهم ودولتهم والسلطة التي تحاول أن تدير ذلك كله. وخالد فهمي الإخواني، همّه حراسة "الثوابت" و"النظام" والذود عن هذه الحدود، وممارسة السلطة بعين زائغة ومتشككة في "الناس" وفي حركتهم المطالِبة بالحرية والحقوق - والتي يسميها اضطراباً -  خشية أن يكون بينهم أعداء داخليين وخارجيين يتآمرون على مستقبل هذه السلطة التي أهدته كرسيّه.
 
 الصورة الأكبر للصراع في مصر ليست بالضرورة بين كتل سياسية منظمة. وما يريده قطيع الإخوان هو رسم صورة للصراع على طريقتهم: "صراع القطعان". لكن وراء تلك الصورة الرديئة، هناك  لوحة معقدة من الصراعات، يمكن أن نرى فيها كل ما يمثله خالد فهمي المتطلّع إلى زيد من الحرية والمعرفة، متمرداً وحانقاً على كل ما يمثله خالد فهمي الآخر باعتباره جندي حدود الثقافة والهوية والنظام العام.
 
الخبر الجيد أن الكثيرين ممن يمثّلون ما يمثّله خالد فهمي الأول، احتشدوا مثله ليكونوا جزءاً مما يحدث. ربما لا يكونون في متن المشهد باستمرار، لكنهم في الهامش الذي يطرح اتساعه معنى آخر لاجتماع الناس... غير صراع القطعان.
 
 

12 June 2013

الانحياز رغم الابتزاز

هناك شيء ما  في عنوان المقال  غير مريح بسبب تكرار حرف «الزاي»، كما أن حرف «الباء» قبله يستدعي إلى الذاكرة صورة فنان إخواني شاب يحب فنون القتال  ورقصة هارلم شيك، ولكن هذه الإيحاءات التي تفلت من العنوان رغما عني  ليست ذات صلة مباشرة بالهدف من المقال.
الهدف المباشر للمقال هو دعمك عزيزي المنحاز إلى «موقف» المقاومين لدولة السلطوية الإسلامية التي تسير عكس اتجاه الثورة- لا تنس أن تضع خطًا تحت كلمة موقف - ومحاولة تخفيف تأثير الدعاية التي تحاول ابتزازك، ولكني من أجل ذلك الهدف المباشر سأبدأ بداية غير مباشرة بعض الشيء حتى أصل إلى هدفي.
في 2005 أمام إحدى لجان الانتخابات الرئاسية كنت أراقب الانتخابات ضمن ائتلاف شعبي لمنظمات مجتمع مدني ساهم فيه متطوعون من الشباب، وبعد أن قارب وقت التصويت على الانتهاء دخلت وأدليت بصوتي وخرجت، سألني صديق: «أبطلت صوتك؟». ولكني أجبت أني صوّت لأيمن نور، نظر لي بتساؤل واستنكار، فابتسمت وقلت له: هيا بنا نلعب.
في الواقع كان كلانا يلعب لعبًا جديًا. كنا معا في موقف واحد يحاول أن يختبر أو يفضح الديكور الديمقراطي عن طريقة مراقبة الانتخابات التي لا تعني لنا في الحقيقة شيئا، سوى أن النظام السلطوي يتظاهر أنه يتراجع خطوات ويفسح مساحة لحرية ولكن علينا نحن أن «نمثل« أن هناك مساحة حرية ونفتح معركة معه في هذه المساحة ونفضح سلطويته. 
ولكني بالإضافة لذلك، ورغم كل ما كان يقال وقتها عن أيمن نور من اتهامات أخلاقية وسياسية،  قررت أن أعطيه صوتي وأتجاوز عن كل ذلك، لأن من يتحرك ضد السلطة، ولو في معركة  ديكورية، هو عرضة لافتراءات أبواقها النافذة وابتزازها الوضيع الذي ربما كان مصحوبا بأذى وقمع مادي.
أبواق مبارك كانت دائما تركز على أسوأ معارضيها: السلطويين الإسلاميين أعداء الحرية، المستندين على علاقتهم بالخارج، المعارضة البائسة التي تتخبط في غياهب حب سلطويات غابرة أو تتورط في صفقات مع نظام مبارك من أجل بعض الفتات. وكنت أعتقد في صواب بعض ما يقال من أجل الابتزاز، ولأنه كذلك لم يكن يمنعني من الانحياز لموقف ضد هذه السلطة يعكر عليها حياتها.

ولذلك فإنني وضعت جانبا كل دعاية السلطة ضد خصومها، في كل الأوقات، ومنها وقت الانتخابات واعتبرت التصويت لأيمن نور«موقفا»  يهدد بانكشاف الديكور وأعطيته صوتي، وتضامنت معه بعدها وقت سجنه، لأنه في النهاية لا يسرني أن أعطي لهذه السلطة - التي لا أثق فيها  الفرصة أن تحاكم خصومها - فقط  بتهمة الفساد لأنه فساد يزعجها بينما تحتكر هي التأثير الجميل للفساد الذي يصب في مصلحتها.
لا كل مقاومي سلطة الإخوان الآن يعجبونني بالتأكيد، ولكن ابتزاز السلطويين الإسلاميين لمقاوميهم ومعارضيهم  بأن بينهم «فلول»، هو نفسه ابتزاز«الفلول» لمقاومي مبارك بأن بينهم«سلطويين إسلاميين» يهتفون كذبا «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية». وهو نفسه ابتزاز نظام مبارك للناس بأن معارضيه بائسون.
دائما ما يرى السلطويون أمثالهم في الفريق المقابل، ودائما ما يبتزون خصومهم بأسوأ من يقف في نفس  «موقفهم». أبواق سلطة مبارك حاولت أن توحي بأن هذه الثورة هي «انقلاب إخواني»، وأبواق سلطة  مرسي تحاول أن تصوّر للناس أن في مواجهتهم احتمالات «انقلاب فلولي». السلطوية ملة واحدة.
وهذه الملة الواحدة عندما تصبح على كرسي السلطة تقسم العالم بين المؤمنين والكافرين بها. إما مساند لهذه السلطة أو مقوض لها. إما مساند لهذه الخطوة السلطوية أو مقاوم لها.ولكن قد يتنوع المقاومون في البدائل التي يقترحونها  لهذه الخطوة.
مثلا: هناك مؤيدون لاحتلال الإخوان وحلفائهم حظيرة وزارة الثقافة، وهناك في مواجهتهم «موقف« مقاوم لذلك. ولكن لا أشك أن داخل هذا الموقف تنوع الرغبات بين تشبث بالوضع القديم للحظيرة بما يشمله من المناصب والكراسي، ورغبات تريد أن ترعى الدولة تيارات ثقافية بعينها لتكون هي ثقافة الشعب، ورغبات من يتخوفون من سيطرة سلطوية «الإخوان» على كل أدوات الدولة واستغلالها لصالح التيارات الثقافية المساندة لها، ورغبات من يقاتلون ببساطة لأجل مساحات يمارسون فيها الفنون التي سيعاديها الإخوان وحلفائهم، بالإضافة إلى رغبات من لا يريدون الحفاظ على الحظيرة مطلقا ولايؤيدون  تدخل الدولة في عالم الأفكار أصلا ولا يريدون وجود وزارة ثقافة من الأساس ويفكرون في شكل من أشكال تفكيك إدارة الدولة لأنشطة الثقافة والإعلام والتعبير وتحويلها لمؤسسات شعبية تدار بأكثر شكل لا مركزي وتعددي. وإلى الفريق الأخير أنتمي.
ولا أشك أبدا أن انحيازي لمقاومي سلطة» الإخوان «ووزيرهم يمكن أن يؤثر فيه وجود بعض السلطويين أو الفاسدين في نفس «الموقف».
 بل على العكس تركيزهم على ذلك من أجل الابتزاز أكثر ما يؤكد لي أن موقفي أكثر أخلاقية«الموقف السلطوي» الفاسد وغير الديمقراطي الذي يريد الاستيلاء على نفس الأداة السلطوية بدون تغيير هو الذي سمح لسلطويين مثله وفاسدين مثله أن يقفوا في موقف يدعي الانحياز للحرية وخلط أوراقهم مع أوراق آخرين، وهو ما يعيد الكرة للنظام السلطوي ليؤكد أنه أفضل من بعض خصومه السيئين.
 وقف تغول الممارسات السلطوية هو نقطة البدء، وقف صراع السلطويين على نفس أدوات الدولة هو البداية لتغيير حقيقي، وعندما تبدأ معركة تحرير هذه الأدوات والمؤسسات وتغيير هياكلها في اتجاه أكثر ديمقراطية وعدالة وأقل مركزية وسلطوية (لا تنسب الثقافة حصرا  لهذه  التيارات أو ضدها)  ساعتها سيتميز من هم في «موقف» التغيير ومن هم جميعا في «موقف« التشبث بالوضع القائم وسلطويته وفساده.
أما «موقف» السلطة الحالي فهو تماما كموقف السلطة  السابق: تواجه فساد من لا يساندونها وتتغاضى عن فساد من يدعمونها، فضلا عن الطرمخة والاستعباط  بخصوص فساد أبناءها.خارج اللعبة تماما يقع موقف «الوسطيين» أو«المتطهرين»، الذين يرفضون أن يقفوا موقفا مقاوما لأنه ليس مليئا بالملائكة الأطهار، لأن تقييمهم لـ«من» يقف بجانبهم يغشى أبصارهم عن إبصار «ما«  هو «الموقف» الذي يقفون فيه أو يجب أن يقفوا فيه. هم في النهاية متخاذلون عن «موقف حق» بسبب بعض أهله. بينما قيل في الأثر: اعرف الحق)الموقف) تعرف أهله. واعرف الرجال بالحق (الموقف) ولا تعرف الحق بالرجال.

نلتقي في "موقف" التمرد يوم 30 يونيو. هيا بنا نلعب.

08 June 2013

مقال جاد عن الحوار الوطني

يصل الرئيس إلى المطار ومعه شيخ بجبة وقفطان وعمامة مميزة وقس بزيه المميز. في استقباله مسؤول ما من تلك الدولة التي يتنازعون معها على مصلحة ما.

المسؤول: أهلا أهلا يا ريّس.( ينظر للشيخ والقس)  هل لديكما أي مناسبات دينية هنا؟
يبتسم الرئيس: لا يا سيدي. دول جايين معايا «قوة ناعمة». (ينظر إليهما بحب وهو يشبك كفيه تحت كرشه)
يبتسم المسؤول: طبعا، أكيد فضيلة الشيخ هايفتتح المعهد الديني علشان ينشر الإسلام الوسطي وتعملوا جمعيات إسلامية تقدم مساعدات خيرية لفقرائنا وبالمرة تؤثرون على المسلمين عندنا إنهم يكونوا سندا لمصالح دولتكم عندنا مش كدا؟ هاها.
يبتسم الرئيس: أكيد يا سيادة المسؤول. والحمد لله إن عندنا المؤسسة الإسلامية العريقة دي، وإنها مؤسسة عالمية بتروح تمارس نشر الإسلام عادي وفي نفس الوقت بتدعم مصالح دولتنا. هاها. إنت عارف بقى. إن الله أعزنا بالإسلام فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
يبتسم الشيخ: طبعا الدعوة للإسلام لا تتناقض مع ممارستنا للقوة الناعمة من أجل مصالح دولتنا على أراضي الدول الأخرى سواء إسلامية أو نصرانية. دعوة الإسلام عالمية ويحب أن تدخل كل بيت لتكون كلمة الله هي العليا، وإحنا طبعا بلد بنرعى الدعوة الإسلامية ابتغاء .. .
يقاطعه الرئيس: علشان دورها في أفريقيا يعلو. هاهاها
يبتسم المسؤول: ظريف جدا يا فضيلة الرئيس وسيادة الشيخ، لكن إحنا لو بعتنا جمعيات مسيحية خيرية أو دعوية عندكم يبقى تبشير واستغلال لفقر الناس ويتقبض عليهم. مش كدا! هاهاها
يرد الشيخ بسماحة: طبعا ما فيش معاملة بالمثل، لأن إحنا أهل الدين الحق ومن حقنا نعلّم عليكم في عقر داركم بفضل الله لكن إنتم طبعا لأ.
يغمز الرئيس للشيخ: مش قوي كدا فضيلتك، لازم ناخدهم بالتدريج، والتمكين مراحل (ويتلفت إلى المسؤول ويكمل) لكن يا سمارة يا أبو كف رقيق وصغير إنت أفريقي جميل تلعب في الغابات إنما نحن دولة كبيرة وعندنا مصالح وعاوزين نعيش زي البيض بتوع أوروبا وأمريكا. لكن إنت جميل زي ما إنت كدا متمسك بهويتك وبساطتك.
يبتسم المسؤول: طبعا يا سيادة الأخ. لكن موضوع الشيخ والمعهد الديني أعتقد وقته سيطول قبل تحويل الكثيرين إلى الإسلام. لأن المسيحية هي ديانة الغالبية هنا. وأظن لذلك حضر قداسة الأب. هاها (ينظر للأب)
يبتسم الأب: طبعا عزيزي المسيحي الأفريقي الجميل. أتيت هنا للتأثير على كنيستكم من أجل توصيل رسائل إلى دولتكم لتتخذ قرارات تراعي مصالح دولتنا. لكن كله بالمحبة إن شاء الله. والخيار العسكري مستبعد لأننا ما عندناش طائرات قادرة على دككم، ولأنكم متخصصون في حرب العصابات يا حبيب قلبي. ولذلك فضلنا خيار المحبة.
يبتسم المسؤول الأسمر الجميل: طبعا يا أبونا. ولكن يمكن أن تطبقوا اقتراح السياسي العظيم عندكم بتسريب معلومات لنا بأن لديكم طائرات قادرة على دكنا. هاها. كانت فكرة عظيمة والأولاد والمدام أعجبوا بها جدا. هاها.
يبتسم الرئيس: لا لا لا. نحن الآن في زيارة تستخدم أسلوب القوة الناعمة فقط. لكن مثل هذه الاقتراحات الوسخة بتتعمل في السر. لذلك أنشأت لجنة تسمى المجلس الوطني للمصلحة المستعصية والدناءة السرية. وأولادي في المخابرات دلوقتي بيظبطوا القبائل والحركات الانفصالية. إنت عارف طبعا يا عزيزي الأفريقي الجميل إن كله بيتظبط عندكم. هاها.
يبتسم المسؤول: طبعا عزيزي. أولادكم في المخابرات في الحفظ والصون. وأول ما سمعنا هذه الاقتراحات على الهواء مباشرة أرسلنا أولادنا في مخابراتنا في استقبالهم.
الرئيس: بس بلاش خطف وحياة أبوك يا شيخ! شعبي بيقفش قوي من موضوع خطف الجنود والضباط. ويسألونني: أين الخاطفون؟ .. وأنا أوشك أن أفعلها.
يبتسم المسؤول: لا تقلق عزيزي الرئيس. خطتكم بخصوص القوة الناعمة لا يمكن أن ننتبه لها وأنت تحاول اختراق مجتمعنا بقوة الإسلام والمسيحية والمخابرات وتأليب القبائل والانفصاليين ونجوم الكرة والفن. كل هذه قوة ناعمة جدا تنزلق وتزفلط بين أيدينا ولا نستطيع أن نقفشها (يمد يده ويمسك بأصابعه قفطان الشيخ وعباءة القس وبذلة الرئيس).
يزمجر الرئيس غاضبا ويرفع إصبعه: لا. أصابع لأ. لو شفت أي صباع بيلعب هاقطعه !
يبتسم المسؤول: لا تقلق يا سيادة الرئيس. وحق الكاميرا اللي بتصورنا دي كل ما سيحدث هنا سنقسم جميعا بألا نذكر عنه شيئا إلا بشكل مقنن يمكن أن تقوم به الأخت باكي. هاها. قفشات أفلام !  ولكن هل صحيح يا سيادة الرئيس أن قضاءكم حكم بالسجن على أعضاء منظمات أجنبية تقدم تدريبات سياسية وحقوقية بدون ترخيص وقلتم إن ذلك استعمار ناعم؟.
يبتسم الرئيس: نعم طبعا. هو اللي بنعمله في الناس هايطلع علينا ولا إيه؟ هاها. وبعدين إنتم هاتطلعوا لنا تراخيص عادي للمعهد الديني والجمعية الخيرية وهاتسيبونا نموّلهم من غير مشاكل، مش كدا؟ هاها.إوعى تقول لي استعمار ناعم وكلام من دا! هاها
يبتسم المسؤول: طبعا. سنعطيكم التراخيص وكأننا ولا واخدين بالنا إنها قوة ناعمة. وأنا عاملة نفسي ناعمة، وأنا عاملة نفسي ناعمة. شوف قلة أدبه. هاها. إن دولتكم العظيمة يا سيادة الرئيس ينطبق عليها قول القائل: الدولة تلهيك واللي فيها تجيبه فيك. هاها. أمثالكم الشعبية خطيرة..  اتفضلوا. اتفضلوا. دافعوا عن مصالحكم في بلادنا آمنين. هاها. وحفظكم الله لبلادكم ولبلادنا وسائر بلاد المغفلين.

يرفع الرئيس والشيخ أيديهم إلى السماء ويرسم القس علامة الصليب، ويتسع الكادر ليبدو في نفس اللحظة في الأحراش رجال مخابرات هذه الدولة وهم يرفعون أكفهم ويقولون جميعا: آمين.

نشر في المصري اليوم بتاريخ 8يونيو 2013

05 June 2013

مبروك الحظيرة

مازلت أذكر جيدًا سلسلة «المواجهة» التي كانت تصدرها وزارة الثقافة في التسعينيات لمواجهة التطرف والإرهاب، برعاية سيدة مصر الأولى سوزان مبارك.
تعرفت عليها - السلسلة طبعا وليس سوزان - عندما كنت أذهب إلى مكتبة «مبارك»، والعياذ بالله، ولأنني كنت أقضي الكثير من الوقت متأملا كل محتويات فرشة الجرائد التي تقع أمام كنيسة شارع الوحدة في إمبابة، التي حرقها مجهولون غيورون على الإسلام انتقاما من كنيسة أخرى قالوا إنه احتجزت أختهم عبير.
كنت وقتها فتى «مثقفا» أقرأ كل ما يقع تحت يدي، وأزور مكتبات وزارة الثقافة وأحضر ندواتها وأظن أني اشتركت في إحدى مسابقاتها في كتابة المقال وحصلت على المركز الرابع وكانت الجائزة «منبه». ولكن في الوقت نفسه تأملت كل محتويات فرشة الكتب أمام جامع «السنيّة» في إمبابة واشتريت منها الكثير وحضرت بعض الدروس.
ويبدو لي أنه في ذلك الوقت كان هناك جانبان: جانب فيه مبارك والسيدة حرمه ووزارة الثقافة ومكتباتها وكتب المواجهة التي تحارب التطرف والإرهاب، وفي الجانب الآخر كانت الأفكار السلفية التي كانوا يقصدونها عند الحديث عن التطرف والإرهاب، مع تلقيح كلام على الإخوان باعتبارهم ظلاميين ومتطرفين أيضا.
ساعتها وبشكل عفوي تماما اخترت التطرف والإرهاب. وأصبحت طالب علم سلفي مجتهدا.
ولا أذكر تحديدا إن كان كتاب رفعت السعيد عن حسن البنا قد تمت طباعته في نفس السلسلة وصدر عن وزارة الثقافة أم غيرها، ولكن هذا الكتاب الذي يحاول بكل السبل أن يثبت أن حسن البنا كان إرهابيا وحرامي غسيل كمان، كان سببا كبيرا في أنني بعد فترة من مراجعة الأفكار السلفية اقتربت أكثر من فكر الإخوان المسلمين حتى أني بادرت بعرض النشاط معهم في الجامعة بدون أي جهد منهم في محاولة تجنيدي مما جعلهم يشكون في كوني مخبرا، ولكن هذه قصة أخرى.
ولكن قصتنا هنا أن وزارة الثقافة كانت مثلها مثل الأزهر والإعلام والتعليم الحكومي، أدوات ثقافية وفكرية ودعائية في يد النظام يستعملها في معاركه مع خصومه ويحاول بها أن يخضع ويجند بها أنصارا أو ساكتين عن السلطوية ومبررين لها بخطر «الإسلام السياسي» الذي أصبح «العدو المشترك».
ورأى البعض ذلك حسنا ورأيته مقرفا. ورأيت أنه كان تعبيرا موفقا لهؤلاء الذين اصطفوا تأييدا وسكوتا وموالسة أنه فعلا قد تم احتواؤهم داخل «الحظيرة».
قبل عشر سنوات تقريبا أفلت تعبير «الحظيرة» من وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني في وصفه لما قام به من نجاح في جعل المثقفين جميعهم يعملون تحت مظلة وزارة الثقافة، أي تحت مظلة الدولة. ثم اضطر للدفاع عن التعبير الذي أصبح علامة مسجلة لفلسفة إدارة الدولة للنشاط الثقافي.
أقول قولي هذا بمناسبة أن إدارة الحظيرة انتقلت إلى السلطويين الإسلاميين، وبالطبع سيدعون الشعب للاحتشاد ضد «العدو المشترك» الجديد: الفاسدون الفلول أبناء الحظيرة السابقون.
سيتبعون سنن من خلفهم حذو القذة بالقذة، كما يقول الحديث. سيفرحون بالحظيرة وبسطوتها وسيحتل الأبناء الجدد للحظيرة محل الأبناء القدامى ليخدموا النظام الجديد.
وسيركز إعلام الحظيرة الجديدة على الفاسدين ممن يقاومون التغيير وسيغفل المقاومين الذين كانوا يقاومون الحظيرة القديمة والجديدة.
وبذلك تضيع قضية التغيير الجذري بخصوص وجود الحظائر نفسها، ويستمر الجدل حول من له الحق أن يسكنها: «الفلول» أم «الإخوان». ويستمر جدل «التطهير والأخونة» البائس الذي أصبح ستارا كثيفا للصراع على زبالة الحظائر. بدلا من هدمها جميعا والتفكير في مجتمع تخدم فيه الدولة الناس ولا تربيهم ولا تعلمهم دينهم ولا ثقافتهم.
حتى ذلك الحين فإني متفائل جدا بانتقال أبناء مستنقع التفكير الديني الراكد إلى الحظيرة، لأنه يبدو لي أن معظم الناس الذين يبحثون عن أفكار ملهمة لحياتهم لا يرتاحون لأبناء الحظائر ولا لنتاج هذه الحظائر.
وأن انبعاث هذه الأفكار من داخل الحظائر يعجل بتعفنها وطلوع رائحتها لتزكم الأنوف. وأن بعض الأفكار الملهمة تفقد كل شيء وهي منبعثة من حظيرة رسمية، وبعض الأفكار الراكدة البائسة تبدو بالغة الحيوية والنضارة وهي تهاجم أصحاب الحظيرة.
ولذلك فإنني هذه اللحظة ممتن ومتفائل ومن قلبي أتوجه بأحر التبريكات لوزير الثقافة الجديد علاء عبد العزيز وأنصاره من «المثقفين الإسلاميين» وأهنئهم: مبروك الحظيرة.