
لا يبدو أن تحول تحرك الجيش لصالح الثورة إلى انقلاب لصالح حكم عسكري هو المقلق حقا. ولكن المقلق هو أن يحاول الجيش محاصرة الحركة الجماهيرية الدافعة للثورة وإعادة بناء الدولة برؤية تضيق بالحريات العامة وحرية المطالبة الاجتماعية والفئوية التي تعد الضمانات الأهم للديمقراطية الحقيقية والجذرية. مقال هام للصديق عمرو عبد الرحمن، الباحث السياسي والزميل في هيئة تحرير "البوصلة" صوت اليسار الديمقراطي.
الانقلاب الثانى: أسباب وجيهة للتفاؤل .. وللقلق أيضاً
عمرو عبد الرحمنتشكل الإشارات المتناقضة التى تنطوى عليها بيانات المجلس الأعلى للقوات المسلحة خلال اليومين الماضيين مصدراً لتخوف الكثيرين من أن يكون التدخل العسكرى لإزاحة مبارك مقدمة لتصفية الحركة الجماهيرية الواسعة وإعادة تأسيس دعائم النظام القائم منذ يوليو1952. غنى عن الذكر أن الانقلابات العسكرية لم تكن حدثاً مطمئنا للقوى الديمقراطية فى أى يوم من الأيام، وإذا أخذنا فى الاعتبار ما أفضى إليه تدخل العسكر فى مصر لاكتسب القلق مبرراً إضافياً. إلا أنى أحسب أن القلق فى هذه الحالة فى غير محله أو على الأقل لا ينصب على مايستدعى القلق بالفعل. أظن أنه من غير الوارد تراجع الجيش عن وعوده بشأن تعديل دستورى موسع وانتخابات حرة وغيرها من إجراءات إصلاح سياسى جدى. إلا أن ذلك لا يعنى انتفاء دواعى القلق والتى لا تنصب بالضرورة على موقف الجيش من هذه الإجراءات بقدر ما تنبع من قراءة لطبيعة العلاقات المدنية-العسكرية المركبة التى تم غزلها خلال حقبة الرئيس مبارك نفسها، وهى العلاقات التى قد تقف بحد ذاتها كحجر عثرة فى طريق مد مفاعيل الانتفاضة الديمقراطية إلى ما هو أبعد من ميدان التحرير، حتى فى ظل إقرار الإصلاحات الديمقراطية.
لنبدأ بدواعى التفاؤل... للوقوف على فهم أفضل لطبيعة التدخل العسكرى الأخير لا مفر من مقارنته بانقلاب يوليو 1952 والذى أسس للنظام الحالى. ما حدث فى يوليو كما هو معروف لم يكن انقلاباً باسم الجيش بقدر ما كان انقلاباً قادته مجموعة سياسية داخل الجيش ضد قيادتها وضد القصر فى ذات الوقت. هذه المجموعة السياسية كانت معروفة بتوجهاتها المعادية للديمقراطية الليبرالية وتحميلها مسئولية الأزمة التى عصفت بالنظام السياسى المصرى القائم منذ إقرار دستور 1923. هذا الملمح وسم طيف واسع من الانقلابات العسكرية خلال حقبتى الخمسينيات والستينيات فى الكثير من المجتمعات حديثة العهد بالاستقلال. أما ما نحن بصدده فهو تدخل للجيش بصفته المؤسسية وبكامل قيادته الموحدة ولسنا بصدد انقلاباً يقوده تنظيماً أو حزباً سياسياً داخل الجيش، وهذا الوضع الجديد، والذى يبدو أنه ناتج عن إجماع داخل هذه القيادات، قد يسهم فى حصار أية ميول سلطوية تخرج عن المهمة التى حددها الجيش لنفسه تحت ضغط الانتفاضة. كذلك لا يبدو أن هذه القيادة تكن عداءاً للديمقراطية الليبرالية، بل ولا يبدو عليها مظاهر تسييس من أى نوع. هى قيادة تشكلت فى ظرف تاريخى مغاير لحقبة التحرر الوطنى وتأثرت بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة طوال الثلاثين عاماً الماضية، وتكشف الأحداث الأخيرة عن عمق تنسيقها مع الإدارة الأمريكية فى كافة تحركاتها. ومن الواضح فى هذا السياق أنها تشربت بعقيدة جديدة قوامها أن حكم القانون وقدر من الديمقراطية الليبرالية هى مبادئ لا غنى عنها لتحقيق أهداف التحديث بالمعنى المجرد للكلمة والمهيمن على عقل مؤسسات الدولة فى مصر. وأخيراً، يأتى التدخل الثانى للجيش فى هذا الصدد على خلفية انتفاضة شعبية فتية دفعته دفعاً لحسم موقفه فى مواجهة سلسلة من التحركات العبثية فى كافة الاتجاهات لاتستهدف إلا ابقاء مبارك فى السلطة ولو على حساب الحد الأدنى من مبادئ الدولة الحديثة وبما يهدد مصالح الكتلة الحاكمة ككل بما فيها المؤسسة العسكرية. بالتالى فنحن بصدد انقلاب هو أقرب ما يكون إلى سلسلة التدخلات العسكرية التى سهلت أو أسست لموجة جديدة من موجات التحول للديمقراطية الليبرالية مع منتصف السبعينيات ونهاية الثمانينيات فى جنوب أوروبا وأميركا اللاتينية. من البرتغال فى منتصف السبعينيات إلى البرازيل مع نهاية الثمانينيات، ما كان لعملية تصفية الأوضاع السلطوية أن تنجح بدون ضمانات من المؤسسة العسكرية بوصفها مصدر القوة وأداة القهر الرئيسية القادرة على فرض حكم القانون فى مواجهة تحلل أجهزة الدولة المستمر بفعل التكلس السلطوى أو السطوة الأوليجاركية. بل فى الكثير من الأحيان، كالبرتغال مثلا، تولى العسكر تصفية الإرث السلطوى الذى خلفّه عسكرٌ آخرون. أظن أننا بصدد وضع مشابه لهذه التجارب أكثر من كوننا بصدد انقلاب ينتمى لمرحلة التحرر الوطنى: أى أن الجيش يحاول أن يستبطن منطق الدولة أكثر من محاولته الانقلاب علي الدولة. وهذه المحاولة وإن كانت تتمايز عن منطق الانتفاضة إلا أن دعمها، ولو مرحلياً، كان واجباً لحماية الانتفاضة نفسها فى مواجهة مناورة واضحة هدفها شراء الوقت والبدء فى إجراءات ثورة مضادة بالمعنى الحرفى للكلمة.
إلا أن إشكاليات تدخل الجيش بالمعنى المؤسسى السابق ذكره لا تقتصر على مدى وفاء الجيش بتعهداته من عدمه. فالمؤسسة العسكرية كأى مؤسسة تخترقها علاقات القوى الإجتماعية وتتحدد مواقفها واستراتيجياتها فى محيط من الصراعات السياسية والأيديولوجية بما قد يحولها من رصيد للتحول إلى حجر عثرة فى طريقه. بعبارة أخرى، حتى لو أوفى الجيش بكامل تعهداته، ستبقى طبيعة العلاقات العسكرية-المدنية كما نعرفها فى مصر نقطة إشكالية بحد ذاتها. وتعلمنا خبرة السياقات المذكورة سابقاً أن ضمان العسكر للتحول الديمقراطى لا يعنى بالضرورة قبولاً بأن تمتد مفاعيل هذا التحول إلى مواقع نفوذ المؤسسة العسكرية داخل القطاعات المدنية وأوضاعها المتميزة التى تراكمت عبر عقود، بل إن تصفية هذا النفوذ كان مجال الصراع الأساسى فى العديد من هذه التجارب بهدف دعم هذا التحول الديمقراطى وتحصينه.
فى هذا الصدد، يمكن الحديث عن ثلاثة إشكاليات تثيرها طبيعة العلاقات العسكرية-المدنية فى الحالة المصرية: إشكاليتان تتعلقان بمرحلة الانتقال والأخرى مرشحة للاستمرار إلى ما هو أبعد من ذلك. من جهة أولى، لا يبدو أن المؤسسة العسكرية بحكم طبيعة علاقتها بالميراث الاستبدادى للدولة المصرية وتشربها بمنطقها الأبوى تبدى قدراً من التفهم لتواتر الاحتجاجات الإجتماعية والتى تتجه لتشكل حلقة ثانية أكثر جذرية من حلقات الانتفاضة المصرية. فمن الواضح أن المجلس العسكرى يسعى إلى حصر الأمر فى نطاق التحول الدستورى ويصور خطابه اتساع نطاق الاحتجاجات كما لو كان خروجاً عن مسار الانتفاضة الوطنى وارتداداً إلى صراعات "فئوية الطابع". فى هذا السياق تعتبر التقارير الأخيرة عن حالات الاعتقال وقائع التعذيب المنهجى فى السجون الحربية أو معسكرات التدريب خلال فترة الانتفاضة مؤشراً على المدى الذى يمكن أن تصل إليه هذه الذهنية فى التعاطى مع الاحتجاجات المدنية. من جهة ثانية، يبقى موقف المؤسسة العسكرية تجاه القوى السياسية الحاضرة فى هذه الانتفاضة نفسها محل غموض. أغلب الظن أنه موقف مشبع بترسبات خبرة نظام يوليو مع الإسلام السياسى بصورة أساسية واليسار الراديكالى بدرجة أقل. يخاطب المجلس العسكرى فى بياناته كائنات غامضة تسمى "بالمواطنين الشرفاء"، وهى عبارة موروثة من البلاغة الناصرية التى اعتبرت كل مواطن منصرف عن السياسة بالمجمل هو "المواطن" بألف لام التعريف. غنى عن الذكر أن بدء مسار الإصلاح بتهميش الإسلاميين أو غيرهم لن يؤدى إلا إعادة إنتاج مصادر الخلل الرئيسية فى المجال السياسى المصرى والمتمثلة فى تهميش كل ما هو فاعل وذو حضور والابقاء على كل ما هو هامشى وعاجز. من ناحية ثالثة وأخيرة، قد تشكل طبيعة العلاقات المعقدة التى غزلتها المؤسسة العسكرية مع مؤسسات السوق الرأسمالى والأوليجاركية المتخندقة حول مبارك بدورها عائقاً إضافياً يحول دون مد مفاعيل الثورة الديمقراطية إلى نطاق أوسع. تننتمى غالبية الوجوه العسكرية التى تولت مناصب تنفيذية أو سياسية رفيعة فى العقد الأخير إلى هذا المركب العسكرى- الأوليجاركى (أحمد شفيق نفسه يعد مثالاً صريحاً على هذا التداخل منذ إلتحاقه بلجنة السياسات عام 2002 ثم حكوةمة نظيف فى 2004). هنا تتحرك القوى الديمقراطية فى حقل ألغام غير مطروق وقواعد الاشتباك داخله غير معلومة. المؤكد أن السوابق غير مبشرة سواء تعلق الأمر بنضالات مباشرة على الأرض فى هذه القطاعات أو بمدى القبول بتناول هذه العلاقات بالنشر والتعليق. شهد الصيف الماضى على سبيل المثال واقعة إحالة عدداً من العمال المضربين فى أحد المصانع الحربية إلى محاكمة عسكرية عاجلة، وهى واقعة لا يفصلنا عنها سوى شهور معدودة. كما لا يجب أن ننسى فى هذا الصدد أن ترسانة القوانين المقيدة للحريات، والتى أٌعلن عن نية مراجعاتها فى المرحلة الانتقالية تحت سلطة المجلس العسكرى، تحتفظ فى غالبيتها بمكانة متميزة للمؤسسة العسكرية تحصنها ضد النقد أو التعامل الإعلامى (التشريعات المنظمة للنشر الصحفى تعد مثالاً صارخاً من ضمن أمثلة عدة).
إلا أن الإشكاليات السابقة تطورت خلال حقبة مبارك وستلازمنا لمدة طويلة من الزمن على ما يبدو. وبالتالى لا تنتقص من افتراضنا الرئيسى بأن حسم الجيش كان ضرورياً فى هذه المرحلة وأن التطورات اللاحقة تشير إلى إمكانية إلتزامه بتعهداته الخاصة بانتقال سلمى للسلطة. أما مواجهة إشكاليات العلاقات العسكرية-المدنية فهى مسألة مرهونة بقدرة الحركة الشعبية على تطوير أدوات نضالها بما يتجاوز التظاهر الدائم وتوسيع رقعة هذا النضال إلى ما هو أبعد من ميدان التحرير، وهى الاشكاليات التى ينبغى أن تستحوذ على عقل الثوار بدلاً من الجزع المبالغ فيه بشأن نوايا العسكر.