"محمد علي باشا هو مؤسس مصر الحديثة, و هو الذي انتشلها من حالة ترد بالغة ووضعها علي أول طريق نهضة شاملة, كما سعي لأن يحقق لها كيانها الوطني المستقل عن الدولة العثمانية, و أذكي الروح الوطنية للمصريين الذين انخرطوا في الجيش الذي شكله منهم .. "
المقولات السابقة التي تمثل التأريخ الأكثر شيوعا لمحمد علي و مصر في عهده, هي تحديدا التي ينقدها و ينقضها د.خالد فهمي, أستاذ التاريخ بجامعة نيويورك, في كتابه " كل رجال الباشا " .
تحدث خالد فهمي عن كتابه و رؤيته النقدية في ندوة " الحزب الديمقراطي الاجتماعي " السبت الماضي . و ناقش هذه المقولات بالعودة إلي وثائق و مكاتبات هذه الفترة, محاولا تجنب السقوط في شرك إعادة رواية تاريخ السلطة كما ترويه هي عن نفسها . فيكشف سعي محمد علي الدؤوب لإضفاء غموض و أسطورية علي شخصيته, بجانب ما يمكن أن نسميه بالفعل سعيه لكتابة تاريخ شخصي له و لمصر في عهده باعتبارها انتقلت معه من حالة أقرب للصفر إلي نهضة شاملة . يشكك خالد بالتبيعة في التاريخ الذي كتب علي عين محمد علي و أولاده و بمعرفة مؤرخين مقربين منهم , و يشير لاجتهادات مؤرخين معاصرين نقديين يكشفون عن أشكال من الحيوية في مصر العثمانية ما قبل محمد علي . كما يشير هو لما يظهر جليا في خطاب محمد علي نفسه من كون هدفه لم يكن بشكل أساسي الاستقلال عن الدولة العثمانية أو بناء دولة مصرية وطنية, و لكن كون ذلك قد تحقق نسبيا فهو قد كان في إطار سعي محمد علي لاقتطاع مصر كولاية خالصة له و لأولاده من بعده, و هو ما يحقق مجدا شخصيا و أسريا لمحمد علي و أبنائه , و هو مشروعه الأساسي الذي نجح في تحقيقه .
علي جانب آخر يتساءل خالد فهمي عن ثمن هذا الهدف المركب الذي امتزج فيه مشروع مجد الحاكم و أسرته ,بأهداف مثل الاستقلال و بناء دولة وطنية حديثة . و يحاول في كتابه رصد تاريخ الفلاحين المصريين في مؤسسة جيش محمد علي , المؤسسة الأهم لمشروع التحديث و بناء الدولة , و يتابع تفاصيل يومياتهم من خلال وثائق السلطة نفسها و ما تفلت منها من صوت هؤلاء الأنفار المستخدمين كوقود للمشروع .
يرصد يوميات القهر و العسف و الاستعلاء الإثني من جهة السلطة التي قامت علي نخبة تركية , ومن جهة المحكومين يرصد المعاناة و غياب التفهم و من ثم الإحساس بالمشاركة في مشروع قاهرهم الوطني – وصل معدل التهرب من التجنيد لثلث عدد المستهدفين , كما كانت فرق كاملة في الجيش من المشوهين و المعوقين, ممن فعلوا ذلك بأنفسهم عمدا للتهرب من التجنيد الذي كان مفتوح المدة – .. أي روح وطنية إذن ؟
بل إن الكتاب يرصد التضييق الشديد علي الطبقة الوسطى المصرية , و التنكيل بالأعيان و الوجهاء و أرباب البيوت العريقة و العلماء ممن لم ينخرطوا طوعا في خدمة شخص الباشا . الأمر إذن يشير لانحطاط في الروح الوطنية رصده فيما بعد المؤرخون الذين ربطوا بين غياب النخب المصرية الفاعلة و بين غياب أي مقاومة مدنية شعبية تذكر للاحتلال الانجليزي , بينما قبل محمد علي و مشروعه" الوطني" , واجهت الحملة الفرنسية مقاومة مستميته .
يصل الأمر فعلا لنقيضه عندما يشير الكتاب إلي أن ما يمكن أن يكون قد أسس فعلا لشعور وطني مصري هو التوحد تحت قهر الباشا و مشروعه الشخصي و بطانته التركية المتعالية, و هو ما سيكون واضحا فيما بعد في حركة عرابي التي قامت لتحتج علي معاملة المصريين كعبيد و تحديدا حرمانهم من الترقي في الجيش و قصر المراتب العليا علي ذوي الأصول التركية .
الكتاب كما عرضه مؤلفه, و كما يبدو لي بينما لم أنته بعد من قراءته , يثير أسئلة حول مفاهيم مثل " الوطنية " و " الاستقلال" و " التحديث " و ماذا تعني بالنسبة للمقهورين الذين يكتب لهم القادة و السادة دورهم كوقود من أجل تلك المفاهيم العالية المتعالية . و ماذا تعني بالنسبة لمؤرخ يحاول ألا يعيد كتابة صدي صليل السيوف و دوي المدافع و يحاول ألا يكون عمله رسم بورتريهات القادة و الملوك نافذي البصر و البصيرة , أو كتابة ما يملى عليه من قبل " صناع التاريخ " بخط حسن .