30 January 2013

«إذا اضطررت سأرجع .. وهأنذا أرجع»

إذا كان هناك ما يسمى «الثورة المضادة»، رغم أني لا أحب مطلقا استخدام هذا المصطلح، فإنها ستكون من هؤلاء الذين يحاولون ترويج أن الثورة هي شيء على طريقة يوم 25 يناير وليس على طريقة 28 يناير.
يوم 25 يناير كان يوم التهديد والتلويح والإنذار، ولكن يوم 28 يناير هو اللحظة الثورية الفارقة التي نقلت السلطة من خانة امتلاك اللحظة إلى خانة الاضطرار. ومن ساعتها والسلطة محبوسة في هذه الخانة، وكلما خرجت منها قليلا واجهت عواصف عاتية وطاقات ثورية جامحة متنوعة الاتجاهات والرغبات.
هذه الطاقات الثورية ليست كلها إيجابية وطاهرة، كما تحب نظرة «25 يناير الطاهر» أن تفعل. ولكنها طاقات متنوعة تمثل جانبا متصارعا أحيانا من رغبات المجتمع والاتجاهات التي يطمح في السعي إليها أو ينجرف تجاهها.
في شوارع 28 يناير 2011، حين حدث تحدي السلطة وهيبتها ووصل إلى الحد الأقصى كان هناك المتظاهرون أصحاب المطالب السياسية والغضب من السلطة، والغاضبين بلا مطالب واضحة، كما كان هناك من هاجموا محال وشركات وممتلكات وأفرادا. كانت هناك تيارات ومجموعات سياسية ترفع شعارات ومطالب وتفاصيل وسط سيول البشر الذين صنعوا أمواج اللحظة الثورية وصنعت كتلتهم الأكبر الأكثر صلابة المطلب الأكبر وهو رحيل مبارك أولا قبل كل شيء، فكان.
ولكن ذلك لم يتحقق إلا بوضع السلطة في خانة الاضطرار ودفعها لحل الأزمة والتراجع خطوة فخطوة.
وأثناء ذلك حدث شد وجذب من جانب السلطة وجانب المطالبين أخذ عدة أشكال يبدو أنها تتكرر:
أولا: الزعيم يخرج  ليؤكد مشروعية تظاهر المطالبين بالحقوق والحريات ويدعو المعارضة للحوار، لكن أجهزته وجماعته يمارسون الدعاية المنحطة الفجة ضد المطالبين والمعارضة.
ثانيا: ممارسة مساندي السلطة الترويع والابتزاز باستخدام كل نتاج الطاقات الجامحة التي تنطلق وقت اهتزاز السلطة ونسبتها للمطالبين وتحميلهم مسؤوليتها.
ثالثا: محاولة التعمية على حقيقة أن المعارضة تحاول التعبير في صياغات سياسية عن مطالب الشارع الغاضب باعتبارها جزءًا منه ولكنه ليس تحت سيطرتها. ومحاولة شخصنة المطالب وأسباب الغضب باعتبارها ترتيبات مطالب فئة معارضة يتم الحديث عن وزنها النسبي وفشلها الانتخابي، رغم تناقض ذلك مع مسؤوليتها عن اضطرابات واسعة مستمرة.
رابعا: الإنكار الحاسم أن هناك غضبا شعبيا غير منظم. اختلاق الروايات عن مؤامرات ومخططات والتي تحتاج لمتآمر ومخطط،  لكي يرى الناس ما يحدث من اضطراب باعتباره أفعال «طرف» له أهداف وأطماع وليس أبدا غضبًا متعدد الأطراف والأطياف أو اضطرابًا لا يمكن نسبته لمركز واحد.
خامسا: ضغط خطاب السلطة والكتلة الشعبية المؤيدة أو المعادية  للتغيير والمفضلة للاستقرار يتم الاستجابة له جزئيا من أطراف من النخبة السياسية التي تسعى لاجتذاب هوى المجتمع القلق، فيتبنون  مواقف «وسطية» تدين «الطرفين» وتصرخ بأن الجميع «قتلة» و«مراهقون سياسيا» وتتخذ وضعا دراميا يلوم الجميع في حكمة أو هستيريا ويشتم «الاستقطاب» دون أن يقدم قطبا بديلا سوى كرسي إضافي على مائدة الحوار الوطني الذي تنظمه السلطة دائما في مثل هذه المواقف.
سادسا: عندما تصل السلطة لحالة الاضطرار تضطر للاستجابة جزئيا للمطالب التي تعرفها وتسمعها جيدا، بعيدا عن استعباط السلطة أو استعباط الوسطيين عن ضرورة الحوار لاستخراج المطالب من بطن الحوت. تحاول السلطة الاستجابة أو إبداء الاستجابة لمطالب أو أجزاء منها تدريجيا مع اختبار صلابة الغضب الشعبي بموجات قمع، مثلما حدث في مهاجمة ميدان التحرير بعد خطاب مبارك العاطفي المستجيب لبعض مطالب «المعارضة» لا مطلب «الميدان» الوحيد.
 ما سبق هو «النظام» الذي تكرر مرات عديدة في التاريخ،  أو هو جزء من «نظام» التعامل السلطوي مع الاحتجاجات الشعبية كما استمر دائما وما زال مستمرا.
يمكنك أن تتحدث كما تشاء عن أخطاء ومثالب وعيوب المعارضة والتيارات السياسية كما تتحدث عن المشكلات التي تحدث في ميادين وشوارع الاحتجاج. وكل تلك أجزاء من أزمة مجتمعية وسياسية أوسع يجاهد ثوار في الشوارع وميادين الاحتجاج وفي داخل الأحزاب الجديدة لتغييرها.
 ولكن استجابتك وترديدك أن محيط الغضب الواسع ومطالبه وبواعثه هي مجرد مخطط لقوى معارضة أو نتيجة لعنادها أو اختزال كل ما يحدث في بعض جموح الشوارع الذي ترفضه،  فإما أنك تساند السلطة بترويج دعايتها، أو أنك لم تزر شارعا من شوارع الاحتجاج يوما لتعرف ماذا يحدث هناك ساعتها، فأنت فعليا تحتاج لتعرف بنفسك بدلا من ترديد دعاية السلطة.
ولكن إن كنت لم تستطع أن تنزل أو لن تنزل الشارع فأنصحك بالعودة إلى صحف وبرامج الأيام التالية ليوم 28يناير 2011وأن تجري مقارنة بسيطة، لتعرف أن مساومات اليوم هي نفسها مساومات الأمس بشكل مدهش، وإن لم يتمكن الثوار من إجبار السلطة على التراجع وقتها  لكنا الآن نتحدث عن كل الثوار والقوى السياسية، بمن فيهم السيد مرسي، باعتبارهم المخربين والخارجين على الشرعية.
 وستعلم ساعتها أن السلطة التي تتجاهل رضا الناس وتطيح به وهي تبني مسارا سياسيا أو تعد به وبتحسينه دائما سترفع إصبعها في مواجهة الغضب وتحذره بأنها إذا اضطرت ستفعل وها هي تفعل، ولكنها يحدث أن تتراجع وها هي تتراجع. ولو كانت تتراجع أمام «مخربين» لا مطالب وجيهة لهم فهي سلطة ساقطة. وإلا فإنها سلطة تعرف أن هناك «مطالبين» و«مطالب»، ولكنها سلطة ساقطة أيضا «تخاف ما تختشيش» وتحتاج لمن يظهر لها صلابة الغضب لكي تضطر أن تتراجع أكثر فأكثر، فساعدوها.
---
العنوان مستلهم من خطاب الإصبع والحظر الذي ألقاه محمد مرسي في27يناير وقال فيه:«إذا اضطررت سأفعل، وهأنذا أفعل». وطبعا من تراجعه عن بعض ما فعل كالمعتاد

نشر في المصري اليوم بتاريخ 30 يناير 2013

26 January 2013

طريقة وحيدة للهروب من القصر







أعترف، مساء الخميس10 فبراير 2011 شعرت بالشفقة تجاه مبارك.
كنت آتيا من اجتماع دعاني إليه صديق، مع مجموعة من الشباب أعرفهم لأول مرة وينشطون سياسيا للمرة الأولى، كان الاجتماع لمساعدتهم في التخطيط لطباعة مجلة ومنشورات توزع ورقيا على الجمهور الأقل تعرضا للإنترنت، تدعوهم وتحرضهم لاستكمال الثورة، لا تراجع.

وصلنا خبر الاستعداد لبث خطاب لمبارك. نزلنا جريا إلى ميدان التحرير لنسمعه هناك. كان الميدان ممتلئا عن آخره. توجهت إلى مقهى أبحث عن مكان هناك. بعد فترة من الانتظار بدأ بث الخطاب. فرق كبير من ملامح مبارك في خطابه السابق بداية فبراير، وبين ملامحه الآن. صوته أيضا كان مختلفا. كأنما مرت عليه أيام في مستشفى تحاول عبثا وقف تردي حالته فلم تزده إلا إنهاكا
لم أستطع تبين مشاعري إلا عندما بدا من مضمون الخطاب ما يوحي أنه ليس خطاب تخلي عن السلطة، وبدأت الشتائم المنفعلة تقاطعه غير مبالية بوعوده وتطميناته لتعلن أنه لا أقل من تخليه عن السلطة. وانقسمت الشاشة إلى نصفين لأرى الأحذية المرفوعة في وجهه في ميدان التحرير.الشفقة ..
اتضحت لي مشاعري: هذا رجل مثير للشفقة، وهذه وعود وتطمينات رجل مثير للشفقة. ليست الشفقة هنا تلك الوصمة السياسية المعتادة من باب الإهانة. كانت فعلا شفقة إنسانية على رجل محبوس داخل أسوار السلطة ولا يتصور لنفسه مهربا منها. حسنا، ونحن سنساعده على ذلك بلا أدنى رحمة.
"إلى قصر الرئاسة!" خرجت مجموعة من أمام المقهى في مسيرة إلى قصر الرئاسة. المسافة بعيدة وكنت متعبا. فضلت الانضمام إلى مجموعة أخرى اتجهت لمحاصرة مبنى الإذاعة والتليفزيون، القريب من التحرير والمقهى.
أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون على كورنيش النيل، على الرصيف البارد، جلست بجوار صديقة في مواجهة الأسلاك الشائكة ووراءها جنود الجيش الذين ينظرون إلينا بترقب وقلق، كأننا نحن من نقف فوق المدرعات نمسك البنادق.

فكرنا بصوت عالي:
- لوتنحى مبارك تنحى، من سيتسلم السلطة بعده؟
  • غالبا الجيش.
  • يادي المصيبة! سيتمسكون بها لفترة، ولو أجروا انتخابات طبعا سيتصدر..
  • نعم، غالبا الإخوان.
  • يادي المصيبة!
بالنسبة للبعض كان هذا الحوار كفيلا بجعلهم في صف أعداء الثورة، ولكننا بقينا حتى أول الفجر نناقش في حماس نافد الصبر كيفية التصعيد كما لو أن مدينتنا الفاضلة ستسود مع مطلع الشمس.
مع مطلعها بدأت أعداد المتظاهرين تتوافد لمحاصرة مبنى الإذاعة والتليفزيون فرجعت إلى البيت، نمت بضعة ساعات وأخذت حماما ثم نزلت وركبت تاكسي: “إلى قصر الرئاسة لو سمحت".
بالقرب من قصر الرئاسة نزلت وتمشيت مع الأصدقاء وتبادلنا الأخبار مع المجموعات الأخرى التي تحاصر المداخل المختلفة إلى القصر. ركبت تاكسي لأصل إلى أقرب مجموعة بجوار سور القصر. نعم كانت الحياة تسير حول القصر بشكل معقول والكل يتناقش عن مصير ذلك البائس ساكن القصر. في التاكسي سمعت خطاب عمر سليمان يلقي بيان التخلي عن السلطة وانتقالها للمجلس العسكري. نزلت قرب أسوار القصر واحتفلنا.
لم يمر وقت طويل، حتى بدأ مأزق السكان الجدد للقصر، لم يدم شعار "الجيش والشعب إيد واحدة" طويلا، وتابعت كيف بدأ هتاف "يسقط حكم العسكر" بين عشرات ثم مئات ثم مئات الآلاف ليهدر في شوارع وميادين مصر في يناير 2012.
المؤسسة العسكرية التي كانت عماد الدولة المصرية الحديثة، وكانت القصر الحقيقي للرؤساء منذ ناصر إلى مبارك، عندما أدار قادتها المرحلة الانتقالية للحفاظ على نفس هيكل وطبيعة مؤسسات هذه الدولة، كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، كلما اتسعت قاعدة المشاركة في حصارهم. بدأ يتضح لي أكثر فأكثر كيف أن الثورة تحيل القصور إلى سجون، وأن حالة ساكني القصور تتردى لتثير الشفقة أكثر فأكثر. وكلما اعتصم ساكني القصور بسلطتهم ورغباتهم السلطوية وتمسكوا بحقهم وصلاحيتهم في إدارة حياة الناس على مسافات متفاوتة من رضاهم وحريتهم وإرادتهم، فإن الناس يمكن أن تحيل أسوار القصر إلى أسوار سجن.
الفترة الانتقالية كانت "لانتقال السلطة" ولكن لم تقم "بتقويم السلطة" ولم يصبها خيال تفكيك الطابع السلطوي للدولة. مؤسسات الدولة المصرية التي بلورها أو أسسها الانقلاب الناصري السلطوي لا زالت على حالتها، والناس في الشارع لا يزالون على حالتهم يطلبون "عيش وحرية وعدالة اجتماعية". والأهم أنهم لن يقعدوا في بيوتهم في الانتظار بعد الإدلاء بأصواتهم في صناديق، إنهم بأنفسهم هناك في كل مكان يحاصرون أسوار السلطات جميعا ولا يستأذنون للاشتراك والتشارك في إدارة شئون حياتهم وفي احتلال مساحات حرية أوسع وانتزاع ضمانات أفضل للعدل.

بدا لي الحوار على الأسفلت أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون يتحدث عن الترتيب المتوقع لسجناء القصر: الجيش، الإخوان.
هؤلاء الذين سيتداولون السلطة والقصر.سيبدأون مدركين لمأزق السلطة وسجن القصر وقت الثورة. وسيسعون مخلصين أحيانا للتوافق، وسيعلنون صادقين عن مخاطر تولي السلطة منفردين في هذا التوقيت المتأزم وفي مواجهة هذه التحديات الجسيمة.ولكنهم بدلا من تفكيك الأسوار، يتمسكون بطبيعة السلطة ويدعون الآخرين للتوافق معهم على دستور سلطوي وإدارة سلطوية. يدعونهم لمشاركتهم سجن القصر.
رغباتهم السلطوية تسبب الشقاق وتحول بينهم وبين الحركة في اتجاه الثورة، في اتجاه إزالة أسوار السلطة والقصر والتفكير في أوسع مساحات الحرية وأكبر توزيع للسلطات والمسئوليات وأكبر مساحة للتشارك،
في اتجاه تواضع فكرة السلطة لفكرة الحرية.
سيبنون أسوارا قديمة وجديدة لحماية تصورات الأكثر والأقوى وأحقيته في تشكيل حياة الناس بدلا من تركهم في ساحة الحرية الخطيرة ووسط التنوع الجميل المرعب الصاخب.
ربما تتزين الأسوار باسم الثورة، وبديباجات: الشرعية، الاستقرار، الهوية، الشريعة، الأغلبية، الصناديق.
ولكن المأزق يتكرر، ولا يتصورون بديلا عن مأزق السلطة إلا السلطة. كما تصور الرئيس محمد مرسي أن الحراك المتصاعد والمطالبات غير الخاضعة لسلطته هم مؤشر مؤامرة، وأن المهرب من المؤامرة هو إعلان دستوري يمنحه المزيد من السلطات وسرعة إنجاز الدستور بأي ثمن وبأي شكل ليستكمل بناء مؤسسات نفس الدولة، ليتمكن حزب الأغلبية من ممارسة المزيد من السلطات. لا مهرب من مأزق السلطة إلا إليها؟

عادت مشاعر الشفقة إليّ، وأنا أتوجه في مسيرة إلى قصر الرئاسة مرة أخرى عقب إعلانه الاستبدادي. الشرطة هناك كانت تعاني من الترقب والقلقمرة أخرى - كأننا نحن من يحمل السلاح. بعد احتكاكات طفيفة وسحابات باهتة من الغاز تبخرت سريعا، انسحبت الشرطة إلى شوارع جانبية.
وصلنا هذه المرة لأسوار القصرـ وسمعنا أن سيارة الرئيس هربت مسرعة قبل أن تتمكن حشود المتظاهرين من محاصرة كل مداخل القصر.
اشتريت عددا كبيرا من علب الإسبراي من مكتبة قريبة وأهديت بعضها لمن لا أعرفهم وكتبنا على أسوار القصر العديد من رسائلنا حتى بدا مشهد القصر جميلا ومثيرا للشفقة. وكانت الرسالة الأساسية: هذا سجنك لو احتميت به في مواجهة حريتنا.
غالبا سأتوجه بعد أيام، في 25 يناير 2013، مرة أخرى في مسيرة إلى قصر الرئاسة. لست مشغولا بالجدل عن الاحتمالات والتكهنات. ولكني ببساطة سأفعل ما اعتدت أن أفعله منذ سنوات، واعتاد آخرين فعله بغير حسابات كثيرة: سنحاصر بحريتنا هذا القصر وقصور أخرى لكي نساعد ساكنيها المثيرين للشفقة الذين يصرون على حبس أنفسهم بالداخل، ونعلمهم أن هناك طريقة وحيدة كريمة للهروب من حصار الثورة للقصر: لا مهرب من الحرية إلا إليها.