الأيام الماضية، زار مصر شخصان تجمعهما دائرة الاهتمام
بالفكر الديني وإن كانا في اتجاهين متعاكسين. أحدهما وجدت زيارته وكلماته
اهتماما شعبيا وأثارت جدلا كبيرا في دوائر واسعة، والآخر اقتصر الاهتمام به
والتفاعل معه والجدل مع كلماته على دوائر محدودة. وكان ذلك مؤشرا كبيرا
على الحالة السائدة للتفكير الديني في مصر.
الأول هو محمد العريفي، الداعية السعودي السلفي، الذي أتى في أعقاب الاحتفاء الكبير بخطبته "فضائل مصر"، والآخر هو المستشار عبد الجواد ياسين، القاضي المصري المقيم بالإمارات، الذي أتى لحضور فعاليات إطلاق أحدث كتبه "الدين والتدين"الصادر عن دار التنوير.
ربما كان كافيا أن كثيرا من القراء يعرفون بالفعل الشيخ
العريفي وخطبته الشهيرة أو تناهت إليهم أخباره وأخبارها والجدل حولهما،
بينما القليل فقط ربما يعرفون عن عبد الجواد ياسين وكتابه.
لو حاولت أن تفهم العلاقة بين الاحتفاء الحكومي والأزهري
والشعبي الواسع الذي أحاط العريفي وخطبته أو حتى مسيرته الفكرية والدعوية
فلا يمكنك إلا أن تتحسر على حالة البؤس التي ينحدر فيها التيار الرئيسي
للتفكير الديني على كل المستويات، الشعبية والرسمية والعلمية.
فالخطبة التي تخلو من أي اجتهاد أو إبداع ليست إلا ترديدا لنصوص جمعتها مصنفات تراثية تحت مسمى "فضائل البلدان"،
ويبدو أن العريفي يحفظ بعضها جيدا عن ظهر قلب، أو يحفظ نسخة إلكترونية
منها على الآي باد الذي يضعه أمامه وهو يخطب، ويستخدمها كأسطوانة في
العلاقات العامة والمجاملات الدولية، فهو يرد على متصل من سلطنة عمان بفقرة
عن "فضائل عمان"، وعند توجيه حديثه إلى السوريين يفتح على فصل "فضائل الشام"وعندما يوجه حديثه إلى اليمن يشغّل أسطوانة "فضائل اليمن".
وفي كل بلد تفتح طائفة من الجمهور أفواههم مذهولين من اكتشاف
فضائل بلدهم، ربما لأنهم لا يعرفون شيئا من تاريخ بلدهم وربما لأنهم لا
يقرأون تراثهم الديني أصلا فضلا عن أن يقرأوه بعين ناقدة.
ولكن الباب الذي لا يحب العريفي أن يقرأه في كتب «فضائل
البلدان» هو باب «فضائل فارس»، لأنه ببساطة طائفي يبغض الشيعة ويحرّض عليهم
مثل معظم السلفيين.
لو راجعت تاريخ الرجل ومواقفه، تجد أن الاهتمام الأليق به هو
دراسته باعتباره نموذجا مأساويا يتخبط في ظلمات التفكير السلفي بكل سوءاته
وعوراته، من طائفية ضيقة ضد الشيعة، ونظرة بائسة للمرأة، ومعاداة للخيال – انظر كتابه في خطر الرسوم المتحركة على عقيدة الناشئة– وتوزيعا لاتهامات العمالة والخيانة على مخالفيه، وتبريرا للاستقرار تارة ثم مناصرة للثورة تارة،
بحسب مقتضى الحال، كما فعل بعض مشايخنا السلفيين الذين نهوا عن الاشتراك
في مظاهرات الثورة ثم كتبوا دستورها وحاولوا قدر استطاعتهم أن يملأوه
بالتقييد وتفريغ ضمانات الحريات من محتواها.
ولكن ما صلة ذلك بموضوعنا؟ الصلة هي علاقة التفكير السلفي بفكرة التاريخ.
عشق الماضي وكراهية التاريخ
التوجس الشديد من حرية السلوك والتعبير ومحاولة فرض ضوابط
وحدود للفاعلية الإنسانية هما توجس من كل ما يمكن أن يقود المجتمعات إلى
تغيرات واجتهادات مخالفة لأوهام السلفيين عن المدينة الفاضلة التي يجب أن
تحفظها «سلطة إسلامية» من حركة التاريخ وفاعلية الناس الحرة.
وفي الوقت نفسه هناك معاداة للدعوة إلى التغيير الجذري
للواقع عبر ثورات وانتفاضات ضد «السلطة» رغم مخالفتها البائنة للفكر السلفي
وابتعاد الواقع عن المدينة الفاضلة بمنظار السلفيين – سبحان الله - ولكن
التمسك بالواقع الرديء خوفا من حدوث الأسوأ، وراءه حالة بائسة من الذعر من
الفاعلية الإنسانية وحركة التاريخ ومحاولة التعامي عنها.
الاحتفاءبأدبيات من عينة «فضائل البلدان والشعوب» هي في جوانب
كثير منها نماذج لحالة إنكار التاريخ. فهذه الأدبيات تأخذ نصوصا ومأثورات
وحكايات عن الشعوب والبلدان، قيلت وحدثت في لحظة زمانية وسياق معين
لتعتبرها فضيلة مطلقة تقال في كل زمان لأنها قيلت في سياق «نص مقدس» أو من
«أحد السلف الصالح» أو اتصلت بتاريخ ينسب للإسلام، فتكتسب نفس أو بعض
القداسة والديمومة والإطلاق.
كما يقول العريفي:«فكم لمصر وأهلها من فضائل، ومزايا، وكم لها من تاريخ في الإسلام».
ويضيف مثالا: إن مصر فيها خزائن الأرض بشهادة ربنا جل وعلا لما قال عن يوسف عليه السلام
(( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ))
(( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ))
أو إشارته لضرورة فخر المرأة المصرية لأن ماشطة آل فرعون التي نجّت النبي موسى كانت مصرية.
يا راجل؟
عندما تحتفي شعوب بصورتها وتاريخها بهذه البساطة والسذاجة
فإنها تتوهم وجود فضائل جوهرية لها أصل وطني أو قومي تم اكتشافه في النص
المقدس أو في التاريخ الجميل، فيغرق الحاضر بأكوام من الخطابيات الفارغة
والتيه بأمجاد الأجداد أو لأن اسم أرضنا ظهر في القرآن وقيل إن فيه خزائن
الأرض التي لا نعلم إن كانت ما زالت مليئة أم يجب علينا إعادة ملئها.
عندما تخرج هذه الأدبيات - المنتزعة من سياقها التاريخي -
من نطاق المجاملات التي تستغرق دقائق والإشارات اللطيفة طلبا للود، فإنها
تتحول إلى فقرة طويلة فارغة المعنى من تحيات ونقوط الأفراح الشعبية التي
تهلل لإمبابة واللي منها، واليمن والجدعان اللي في اليمن، كما اعتاد الفنان
العريفي أن يفعل.
ولكن يبدو أن الفنان العريفي لا يستطيع الاقتراب في خطبته التي قالها في
مدينة الرياض في السعودية من فضائل «ثورة المصريين» وخروجهم في الشوارع
بالملايين لإسقاط طاغية ونظام فاسد. ربما لأنها ليست مذكورة في الكتب
التراثية، وربما لأن من شأن ذكر هذه الفضيلة المعاصرة في خطبة دينية في
السعودية أن يغري جمهوره من السعوديين لا سمح الله بمحاولة استلهامها، ولا
يمكن لأي خطاب سلفي أن يحاول أن يكون باعثا لهمة فاعلية إنسانية حرة تمضي
في التاريخ قدما أو يكون داعية لتحرر الناس من استبداد الأفراد والأسر.
حاشا لله.
ولذلك فقد أرجأ فقرة نقوط «الثورة المصرية» إلى حين قدومه
للصوان المصري لاستثارة مشاعر المعازيم المصريين بالفقرة الكاملة المعدّلة
عن «فضائل مصر». كأن مصر كتلة واحدة وجوهر واحد عبر التاريخ، مثل معدن
القصدير أو نبات الجرجير وليست أطيافا من البشر والتجارب والتحولات تشهد
الآن صخبا وجدلا وصراعا.
التدين البائس
الأكثر بؤسا ومدعاة للأسف من حال الشيخ السعودي أن يأتي
الاهتمام البالغ به والامتنان الكبير له والانتشاء العظيم بكلامه معبرا عن
الحالة البائسة للتفكير الديني السائد الذي استقبله. وهذا البؤس هو ما
يحاول عبد الجواد ياسين الحديث عنه في كتابه «الدين والتدين. التشريع والنص
والاجتماع» الذي أطلقه متزامنا مع مولد العريفي، ومن الطبيعي ألا يلقي
اهتماما مقاربا من جمهور الحالة البائسة.
مجمل الكتاب المهم هو تقديم محاولة أخرى – تضاف لسجل من
الاجتهادات في هذا المجال – تسعى لقراءة وفهم حركة التاريخ وفاعلية البشر
التي شكلت تاريخ «التدين» الإسلامي الذي يحمل ملامح تجربة البشر التاريخية
في أماكنهم وزمانهم وسياقهم الاجتماعي، ولكن وقع التيار الرئيس من التفكير
الإسلامي في فخ تحويل هذا «التدين» إلى «دين» ثابت ومطلق، متجاهلا أو جاهلا
أثر حركة التاريخ وفاعلية البشر عليه في الماضي، ليكون هذا التجاهل أو
الجهل أداة سلطة في وجه كل حركة قادمة لفاعلية البشر في الحاضر والمستقبل.
يرصد الكتاب جوانب التجاهل والجهل بالتاريخ وفاعلية البشر،
الذي ينتهي إلى توسيع نطاق «الدين» ليشمل أطيافا من تفاصيل التدين
والاجتماع الإنساني وتاريخه، لتكتسب صفة «الدين» وتكون مطلقة ومقدسة ودائمة
وصالحة لكل زمان ومكان. كما يردد السلطويون الإسلاميون عن التشريع
التاريخي الذي كان تفاعلا مع واقع الناس وقتها، ولكنه أصبح عندهم شيئا
مطلقا خارج التاريخ يسمى «الشريعة الإسلامية»، وكما يردد العريفي نصوصا عن
مآثر وأفضال بعض الناس والجماعات في التاريخ باعتبارها «فضائل البلدان».
ولذلك كان طبيعيا أن الجمهور الذي يناصر السلطويين الإسلاميين سيهلل بمنتهى الابتهاج للفنان العريفي وفقراته.
ولكن بعض العزاء أن بعض التوجس والانتقاد العنيف الذي صاحب
وجود العريفي كان بمثابة إعلان عن صوت مصريين كثر لم يعد ينطلي عليهم مثل
هذه الفقرات. وأن اطلاعهم على سوءات التفكير الديني الراكدوسلطويته قد جعلهم يتوجسون من احتفاء مبالغ فيه بفقرة ترديد محفوظات فارغة المضمون. ليس "عداء لكل مظاهر حضور الدين ومنابره"أو "قلة أصل"كما
ردد البعض من ناصبي الصوان ومحبي النقوط والتحيات جهلا وخلطا بين الدين
والتدين، ولكن لأن تفكيرا يشاغلهم عبر عنه عبد الجواد ياسين قائلا: «المشكل
الأساسي هو أن نمط التدين العام بحاجة إلي إصلاح، ولذلك فإنه يحق لنا أن
نتوجس من أي طرح ديني - يخلط الدين بالتدين - قبل الدخول في التفاصيل».
وفي كتابه المزيد من التفاصيل.
No comments:
Post a Comment