09 January 2013

من العبادة إلى التهلكة

من أين يستقي الجمهور «الرؤية الإسلامية للسياسة»؟
بعيدا عن الكوادر المنظمة من أعضاء الإخوان المسلمين والأحزاب السلفية، أشك أن كثيرا من عموم مؤيدي التيارات السلطوية الإسلامية قرأ الأدبيات المؤسسة للسلطوية الإسلامية ككتابات سيد قطب وحسن البنا، أو قرأ «العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية» للمسيري أو «الحريات العامة في الدولة الإسلامية» لراشد الغنوشي. 
يبدو لي أنهم مشبعون بشكل عام بخطاب سلطوي مبثوث وسط الخطاب الدعوي الإسلامي العام. هذا الخطاب العام ينهل من نبعين. النبع الأول هو إشارات ما في سيرة النبي وصحابته والتاريخ الإسلامي،  وبالأخص تاريخ الغزوات والفتوحات.
والنبع الثاني هو إشارات من نصوص القرآن والسنة ومأثورات السلف، لا تخص السياسة بشكل مباشر، ولكنها تتحدث عن الجماعة المسلمة التاريخية في عهد بعثة النبي أو الجماعة المسلمة بشكل عام.
هذه الإشارات تحمل ملامح مجتمعات تاريخية ودول تاريخية. ولكن الجانب الديني العاطفي في الخطاب يزاوج بين هذه الملامح بين رسالة الإسلام وبين سيرة النبي وأصحابه وتابعيه، فتكتسب قداسة في مشاعر الجمهور وأفكارهم.
 وربما كان الأسوأ أن تتم مزاوجة هذه الأفكار والمشاعر مع فكرة أخرى تنظر للجوانب السلطوية في الدولة الحديثة باعتبارها غاية الرقي والعصريّة والتنظيم وأهم أسباب القوة لدى الشعوب، وتنظر أصلا للتنظيم الاجتماعي باعتباره أداة قوة ومنافسة وصراع بين الشعوب والجماعات بدلا من أن يكون سعيا للتحرر والعدالة والمساواة والتعايش داخل الجماعات البشرية وبين بعضها البعض.
وبينما يشهد العالم صراعا وجدلا مستمرا حول «حدود ومعنى سلطة الدولة» بين أطياف من الرؤى تنقسم من أقصى اليمين، الذي يمثل نزعة سلطوية تبرر التفاوت وأشكال التقييد وتذكي النزعات الصراعات القومية والعقائدية، إلى اليسار بتنوعاته الذي يتبنى نزعة تحررية تسعى للمساواة وتقاوم أشكال التقييد والتفاوت وترفض النزعات والصراعات القومية والعقائدية، فإن الخيال الشعبي القريب من تيارات السلطوية الإسلامية يعيش في ظل تقديس فكرة «الدولة» بعد أن يضيف إليه ملامح تاريخية وإشارات دينية عاطفية تستدعي السلطوية والطائفية لتصبح «دولة إسلامية».
من العبادة إلى القيادة
وواحد من التعبيرات الأكثر بلاغة عن تجسيد هذا الخطاب الدعوي وزواجه بخطاب تيارات السلطوية الإسلامية كان بالنسبة لي كتاب «من الدعوة إلى الدولة» للدكتور صلاح الدين سلطان، الصادر في نوفمبر الماضي في إطار سلسلة «قضايا إسلامية» عن «المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية» التابع لوزارة الأوقاف.
ولمن لا يعلم فإن د.صلاح سلطان كان وما زال واحدا من أهم علماء ودعاة الإخوان المسلمين، قبل أن يشغل منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ورئاسة تحرير سلسلة «قضايا إسلامية» في أكتوبر الماضي، ليكون أول كتاب ينشره المجلس والسلسلة تحت قيادته كتابًا من تأليفه.
ولكن الأهم أن دكتور صلاح قد جمع في هذا الكتاب تجميعا وافيا للإشارات التي يمكن استخراجها من النصوص التي تتحدث عن العبادات مثل الطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج ولكنها تشير إلى ضرورة القيادة للجماعة المسلمة، وبالتالي -  بالنسبة له -  ضرورة انتقال الجماعة المؤمنة من الدعوة التي تربّي الناس بهذه العبادات إلى تسلم قيادة دولة ثم قيادة العالم أجمع.
ومثالا على ذلك الجزء الخاص بالطهارة، الذي سماه د. صلاح سلطان: «مقاصد الطهارة في التأهيل العملي للعبادة مع القيادة والدعوة مع الدولة». وكنت أعتقد أن فقه الطهارة من الموضوعات الأبعد أن يستدل بها في مسائل القيادة والسلطة. ولكنه عند ذكر حديث النبي «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» - والحديث يعني  أن كل الأرض في الأصل طاهرة وتصلح كمسجد ومكان لصلاة المسلم – يقول المؤلف: «نستطيع أن نلمح هنا بشكل جلي كيف تؤهل أبواب الطهارة لقيادة الأرض كلها» لأنه قال «جعلت لي الأرَض». ويناقش نصوصًا أخرى لينتهي إلى أنها تشير بشكل لا لبس فيه إلى «أن الله جعل للرسول وأمته الأرض كلها للسير والمشي والضرب فيها والتطهر من ترابها والوضوء والاغتسال من مائها تطهرا،وتمكينا من الأرض كلها قيادة وريادة ..».
ونموذج الطهارة واحد من نماذج العبادات التي تجتمع كلها لتعبر عن «عقيدة الانتقال من العبادة إلى القيادة ومن الدعوة إلى الدولة» كما يقول في مقدمة الكتاب. وباقي فصوله أفكار مشابهة مستقاة من نصوص الصلاة والصيام والزكاة والحج.
من القيادة إلى الحرب العالمية
هذه الروح أصيلة وجوهرية في المناهج التربوية للإخوان المسلمين. بينما هي ثانوية وعارضة في خطاب الدعاة الآخرين، ولكنها موجودة بقدر ما. وربما كان ذلك أحد ملامح تميز دعوة الإخوان في الانتقال الفعال إلى السلطة، فهذه الإشارات وغيرها تعد أسلوبًا أساسيًا لحشد محبي الإخوان وأعضائهم عبر دمجهم في عملية تربوية دينية من الالتزام بالعبادات وقراءة السنة والسيرة، ولكنها في النهاية تربط هذه التربية الدينية  بمشروع السلطوية الإسلامية، وتحشدهم في اتجاه دعم الجماعة (هنا تتحول الجماعة المسلمة إلى جماعة الإخوان المسلمين) إلى تسلم القيادة والانتقال من الدعوة إلى الدولة.
يمكن هنا فهم أحد جوانب تفكير ومشاعر قطاعات غير قليلة من الجمهور مشبعة بإشارات هذا الخطاب الدعوي الذي ينتقل من العبادة إلى القيادة، لتتجسد فكرة السياسة عنده بكونها عملية دعم وتأييد هذه القيادة الربانية التي تدعي أن «دولتها» هي امتداد طبيعي وضروري لدعوة الإسلام.
مد الأمور على استقامتها يوضحه الكاتب في مقدمة الكتاب قائلا إن «جزءا من مقاصد العبادات أن نكون نحن القيادات التي تقود العالم إلى رشده وسعادته في الدارين». وهو يقصد بـ«نحن» الشعوب الإسلامية في مواجهة أهل الأديان الأخرى الذين يجب أن يدينوا لهم ويخضعوا لقيادتهم. و.الشعوب الإسلامية اختارت بإرادة حرة قيادات إسلامية» في اللحظة الراهنة كما يؤكد في المقدمة أيضًا.
هذه الروح التي تربط العبادة بالسياسة وتجعل منها مسرحًا لمعركة قيادة السلطويين الإسلاميين للدولة، ثم مسرحًا لمعركة قيادة المسلمين للعالم، وترى كل عدوان على المسلمين، مثله كمثل معارضة السلطويين الإسلاميين،  هي “حرب على الإسلام”بالضرورة، وتحاول أن تعكس الآية وتتخيل النموذج المأمول في حرب المسلمين/ السلطويين الإسلاميين من أجل الهيمنة على الآخرين.
 هذه الروح هي تجسيد لفلسفة "حمادة ابن أرض اللواء" في المقال الأسبق، بدلا من فلسفة "سنحيا كراما .. كلنا"التي كنت أتحدث عنها في المقال السابق.
 كنت مندهشا لأني أجد هذه الروح للمرة الأولى في كتاب تابع لوزارة الأوقاف، التي انتقلت من الخطاب المتخاذل للسلطة قبل الثورة إلى خطاب السلطوية الإسلامية بعد التمكين الإخواني. ولكن كان لابد للتمكين الإخواني أن يهبّ علينا بنفحات فكرة «أستاذية العالم» كما صاغها مؤسس الإخوان حسن البنا وهو يمزج بين ملامح دولة المسلمين الأولى مستلهما روح المشروعات الفاشيةكما قادها هتلر وموسوليني اللذين سماهما البنا «قادة النهضات الحديثة»، منبهرا بصعودهما ونجاحهما في كسب ثقة الشعوب وتوحيدها تحت قيادتهما، بإرادة حرة وديمقراطية، لتنطلق بعدها المشروعات الفاشية بهمة عالية تستثير عزة الشعوب بثقافتها وشعورها بتفردها وتميزها، وتستنفرها لرحلة تطمح لقيادة العالم، فتقوده بدلا من ذلك إلى التهلكة.

No comments: