قرأت مذكرات حسن البنا ورسائله ووسائل التربية عند الإخوان المسلمين بالكامل في أوقات الحصص في المقعد الأخير في فصل المدرسة الثانوية، ومن مقعدي ذاك أعجبني اصطلاح "أستاذية العالم" الذي يحاول أن يجد تعبيرا عصريا لاستعادة أمجاد المسلمين، ويرده لمجاز تعليمي، بديلا عن مرادفات المُلك والسيطرة والعلو التي تبدو في النصوص والأدبيات القديمة ويتحسس منها الحس المعاصر.
لم أنتبه وقتها أن "الأستاذ" كان هناك في الطرف المقابل من الفصل يشكل خلفية صوتية باهتة لقراءاتي واهتماماتي الأخرى. ولكن بالتأكيد كان "الأستاذ البنا" يبدو لي وقتها أستاذا من نوع مختلف.
لم أكن ساعتها قد عرفت إخوانيا واحدا عن قرب، والطالب الإخواني الوحيد الذي رأى معي هذه الكتب جلس بجانبي في حصة واحدة مستأنسا ثم قال لي في نهايتها مستاءا "آه. أنت منهم!" لأنه استنكر أن أقرأ – ولو كتب الإخوان - وقت الحصص، ولأني سخرت مرة من شيء قاله أستاذ اللغة العربية.
في الجامعة انتهزت فرصة تنظيم الإخوان لحفل تكريم الطلبة المتفوقين الذين التحقوا بكلية الهندسة وصارحتهم بوضوح إني أريد الاشتراك معهم في الأنشطة الطلابية.
كلفوا طالبا إخوانيا زميلا أن يحاول التحقق من أنني لست "إخوانيا تائها" ضل طريقه في التنسيق بين إخوان المناطق وإخوان الجامعة، والتحقق من أنني لست "مخبرا" أيضا. ثم انزعجوا من خلفيتي الفكرية السلفية وقتها المهتمة بالاتساق بين الخطاب السياسي والدعوى مع المرجعية الشرعية، ثم انزعجوا في نهاية المرحلة الجامعية – بعد تغيرات كثيرة – من أنني أصبحت أميل يسارا، وفي المرتين استأت من إدراج قراءة كتب بائسة كتبها المرشد الأسبق مصطفى مشهور في برنامج تثقيفي.
كنت دائما عضوا في "أسرة" مخصصة "للمشاغبين" الذين لم يتمكنوا من التوافق التام مع خط الجماعة ويرفض أن يكون تلميذا طيعا. “الأسرة" هي مجموعة تربوية تمثل النواة التنظيمية الأولى للجماعة. أجواء العمل الطلابي التي تتسم بالندية و"الأخوة" كانت تخفف من كل ذلك، ثم كانت محاولة واحدة لضمي لأسرة في منطقة سكني كانت حاسمة بعد أن قابلت كهلا إخوانيا كان من المفترض أن يكون الأستاذ المربي لي بينما لم يرقني اللقاء الأول به.
كان مقام "الأستاذ" في مصر - ولا يزال - في وضع هش، ينحدر بسرعة إلى مقام المسخرة، إن لم يكن الأستاذ يملك من الذكاء الاجتماعي ليعرف حدود أستاذيته ويكون صديقا بقدر ما، بل وتلميذا في أحيان أخرى. يمكن لغير المصريين الرجوع لمسرحية "مدرسة المشاغبين". وفي ما يخص الإخوان، فإن عددا كبيرا ممن رافقوني رحلة النشاط داخل الإخوان المسلمين خرجوا أو تم طردهم من الجماعة في أوقات مختلفة لأنهم لم يكونوا في مقام التلمذة الكاملة أمام أساتذة من نوع محمد مرسي وخيرت الشاطر ومحمد بديع. وهي شخصيات وذهنيات لا يمكن لها أن تكون ملهمة إلا بعد أن تعينها مؤسسة ما في منصب أستاذ. ولا يمكن أن يحترمهم إلا تلاميذ بايعوا المؤسسة على عقيدة الاحترام المطلق لمقام "الأستاذ" ولأي أستاذ مثل التلميذ الإخواني الذي استاء مني في الثانوية.
وكما تقوم المؤسسة التعليمية على ضرورة الاحترام المطلق لأي أستاذ تراه أمامك لكي لا تنهار المنظومة التعليمية مهما كان إلهامها وقدرتها على كسب احترام التلاميذ،، كذلك الجماعة تقوم على الثقة المطلقة بين الأتباع المنخرطين في أنشطة تربوية ودينية وتنموية تذكي روح الأخوة الإسلامية وبين أساتذة يستخدمون نتاج ذلك من "أتباع" في احتلال المجال العام الاجتماعي والسياسي بأي أفعال، مهما بدا حمقها، موقنين أن الثقة والتماسك التنظيمي أدوات مهمة على طريق مشروع "أستاذية العالم".
تبدو "أستاذية مصر" هذه اللحظة عنوانا مناسبا لمأساة وملهاة لا حل سياسيا لها. فمن جهة تتألق قدرة الجماعة وقواعدها على احتلال المجال العام والفوز بالانتخابات خاصة في الأماكن الأقل مدينية. بينما أولى خطوات المشروع انتهت إلى تفجير ازدراء عميق لهذه الأستاذية. ازدراء هو أبعد من السياسة ويصل إلى وصم اجتماعي لـ" طائفة الإخوان" وانتشار وصفهم أفرادهم بـ”الخرفان" (الخراف) الممتثلة لراعيها. وانتشر تعبير ساخر يجسد هروب كثير من المتعاطفين معهم من "وصمة" عضوية الجماعة بالقول المستدرك: "أنا مش إخوان بس باحترمهم"
فوجئت أن منشقين أحدث عن الجماعة يستخدمون وصف "الخرفان" ويدافعون،عن قدرته التفسيرية العالية، ربما لأن ما فجر علاقتهم بالجماعة هو أنه لا يمكن أن تستمر داخلها من دون أن تكون "خروفا" تحترم مقام "الأستاذ/ المربي/ الراعي" وتنقاد له وتبرر أخطاءه وتناقضاته إلى أن تصل إلى مقام الأستاذية.
قبل أيام في انتخابات الاتحادات الطلابية الجامعية، وفي ظل نتائج عامة أعلنت الجماعة أنها لم تحصد فيها إلا ما هو أكثر قليلا من ربع المقاعد ، نافس ائتلاف من الطلبة المستقلين ائتلافا آخر لتحالف الإخوان وقوى سياسية أخرى في كلية التجارة بجامعة عين شمس في القاهرة.الائتلاف المستقل استثمر وجود الإخوان في الائتلاف المنافس واكتسح الانتخابات وحصد 88% من المقاعد، وكان ذروة استثماره لوجود الإخوان في الجانب المنافس هو أن هذا الائتلاف اعتلى موجة الازدراء لشباب الإخوان ومن يتعاطف ويتحالف معهم وخاض الانتخابات بقائمة كان اسمها "ائتلاف بلا خراف".
نشر في موقع المدن بتاريخ 15 مارس 2013
نشر في موقع المدن بتاريخ 15 مارس 2013
No comments:
Post a Comment