يقول الديكتاتور المخبول إنه اكتشف ابتكارًا جميلاً في
كتاب يسمى «الاشتراكية»، فيه يعمل الكل عند الحكومة وتلملم فيه الحكومة كل
الإنتاج. وعندما سألته حرمه السيدة الأولى: «وبعدين؟» يقول إنه معجب بهذا
الجزء فقط من الكتاب وسيطبقه.
ما سبق مشهد شهير من مسرحية «تخاريف» التي كتبها لينين الرملي
وأخرجها وقام ببطولتها محمد صبحي، وتعرض هذا الجزء من المسرحية تحديدًا
لقصقصة كبيرة من الرقابة وقتها تحاول تخفيف الملامح المشتركة بين
الديكتاتور المخبول ومبارك وأسلافه، ولكن الرقابة بالطبع لم تعتبر ذلك
موجهًا مباشرة ضد مبارك، ليس لأنه كان ديمقراطيًا، ولكنه كان – لحسن الحظ -
أكثر بلادة وفقرًا من أن يكون ديكتاتورًا على شاكلة الديكتاتور المخبول،
رغم أن غيره يحاول الآن، وبالطبع لا سقف للطموح البشري والإنسان يصنع
المعجزات.
ولكن الشاهد أن ذلك المشهد الساخر لا يلخص فقط التخريف بخصوص
فكرة «الاشتراكية» لكنه يلخص التعامل السلطوي مع تاريخ الأفكار السياسية
جميعًا. هناك جانب يعجب السلطة ويزيدها تكريسًا، وهناك جانب يقلقها ويقيدها
ويلقي عليها مسؤوليات ويضعها أمام تحديات ويفتح للناس أفقًا لمحاسبتها
وتغييرها.
الأمر نفسه ينطبق على أفكار مثل «الثورة» و«الديمقراطية». وربما يكون ذلك كاشفًا لكثير من الجدل السياسي الدائر الآن.
يمكنك أن تلاحظ ببساطة في خطاب السلطويين ومن هم في السلطة،
عادة، كيف أن كلمة «الديمقراطية» يمكن أن تحل محلها تعبيرات «إجراءات
الانتخاب والتصويت وصلاحيات الأغلبية»، في حين أنهم يغضون الطرف عندما توجه
الاعتراضات إليهم باسم «الديمقراطية» التي هي في الأصل حقوق وحريات أساسية
وضمانات للتوازن والمحاسبة وتوزيع السلطة تحاول الاقتراب من فكرة أن
«الشعب كله» يحكم.
من أول لحظات ثورتنا بدا أن المشاركة الواسعة المتنوعة هي سمة
هذه الثورة. لم يستطع تيار أن يدعي للحظة أنه يمثلها ليمارس باسمها شرعية
ثورية. ولا حتى نجحت محاولات التوافق بين عدة تيارات أن تدعي ذلك. ولذلك
كانت اللحظات المأزومة تحت حكم العسكر التي فشلت محاولات تجاوزها ببديل
ثوري، وكان المسار الذي فشلت بدائله هو إدارة العسكر للانتقال الديمقراطي،
بقبول ورضا من قوى وبمقاومة عنيفة من قوى أخرى.
بعد انزواء دور العسكر مع بدء الممارسة السياسية وأولى خطوات
الإجراءات الديمقراطية يبدو لكل مبصر أن الجدل السياسي تحكمه في معظم
الأوقات حالة من الاستقطاب العنيف. موضوعه الأساسي هو الانحياز مع أو ضد
تيارات السلطوية الإسلامية، وخاصة الإخوان المسلمين.
مشروع تيارات السلطوية الإسلامية يرى الثورة ثم الديمقراطية
مجرد فرص لإزاحة «استبداد سابق» لتفرض «الأغلبية» من مؤيديها قيودًا
ومرجعيات لا يرتضيها كل الناس بينما يتوجس المشروع بشكل عام من الحريات
وحقوق الإنسان. ويرى مشروعهم في الديمقراطية إجراءات تمكّن «الأغلبية» ذات
البعد الطائفي من فرض رؤيتها في كتابة الدستور وفي غيره.
بسبب تلك الملامح، فإن أي مبصر لم تحجب عنه السلطة نور
البصيرة سيرى كيف أن مجرد محاولة الدعاية باسم الثورة في الجولة الثانية من
انتخابات الرئاسة فرضت على «المرشح الإسلامي» أن يقوم بالكذب والخداع
والنفاق – الذي سيظهر فيما بعد – من أجل صنع صورة لتوافق قوى الثورة حول
المرشح الأقرب لها.
كان مؤشرًا أن النتيجة المأزومة بمثابة إنذار إليه وإلى
جماعته بأن ممارسة السلطة باسم الديمقراطية يجب أن تكون في توازن مع كل
ضمانات المراجعة والمحاسبة وفي توازن مع رغبات تنوعات الشعب الذي هو مصدر
هذه السلطة، لأن إجراءات الديمقراطية التي أتت به بالكاد لن تقف على أرض لو
أن قطاعات واسعة من الشعب، مصدر السلطات، ظلت على عدم رضاها وتوجسها من
مشروعه، ولأن نصف الناخبين تقريبًا - بعد انكشاف الخداع والكذب في الدعاية
الانتخابية ووعودها - صارت لا تثق به وهي تتوجس أصلاً من مشروعه السياسي
التسلطي.
ولكن لأن الخبل الديكتاتوري الذي صوره لينين الرملي ومحمد
صبحي ليس نكتة بخصوص شخص مريض، ولكنها سمة في النزوع السلطوي. فإن محمد
مرسي وجماعته وحلفاءهم من السلفيين لم يكتفوا برؤية الجوانب السلطوية فقط
في الإجراءات الديمقراطية كلها من انتخابات وتشريع وصياغة مشروع دستور،
لكنهم في تمادٍ للخبل السلطوي انتهكوا هذه الإجراءات الديمقراطية وقرروا
تمرير رغباتهم السلطوية باسم الثورة! وعبر قرارات ثورية تعلن نفسها قرارات
غير قابلة للمراجعة ولا المساءلة ولا الطعن!
ما وراء الخبل السلطوي الذي يحاول أن يكون ثوريًا هو ذلك
الضيق من وجود سلطات تنازعه فحسب. حتى فكرة القصاص ومحاكمات قتلة الشهداء
كأي فكرة سياسية يمكن أن يجد النزوع السلطوي فيها مدخلًا، فالرئيس لا يمكنه
أن يطهّر مؤسسة الجلادين بإجراءات ثورية جذرية أو يعيد هيكلتها لأنه
يحتاجها في مشروعه لحفظ الأمن وإعادة الاستقرار وكبح «المظاهر الثورية» في
الشارع لكي ننتقل إلى مرحلة العمل والإنتاج ودولة المؤسسات، كما في خطاب
الإخوان الإصلاحيين طوال الوقت.
وجود وجوه التكنوقراط من الحزب الوطني ومجرمي الداخلية في
حكومة الإخوان لا يضير الإخوان السلطويين، وما داموا تحت تصرفهم وسلطتهم،
وحتى لو كانوا من المسؤولين سياسيًا وعمليًا عن دماء شهداء الثورة
فبإمكانهم أن يعلنوا التوبة ويشاركوا في مشروع النهضة، ولكن أمثالهم في
سلطة القضاء الذين ما زالوا خصومًا للإخوان ويعملون بالتوازي معهم يجب
تقليص سلطاتهم، ويمكن الاستناد لعلاقتهم بالنظام السابق والمتاجرة بفكرة
القصاص ودماء الشهداء لبعض الوقت، وفي سبيل ذلك لا مانع أيضًا من استعادة
المتاجرة بالثورة والقرارات الثورية حتى لو ضحى ذلك بالأمن والاستقرار
وبالممارسة الديمقراطية ودولة المؤسسات وأعاد المظاهر الثورية إلى الشارع.
وما المانع؟ ذلك هو الجزء الذي أعجب الديكتاتور المخبول من كتاب الثورة.
No comments:
Post a Comment