هناك بالتأكيد رغبة مشروعة في معرفة من هؤلاء الذين ما
زالوا يتظاهرون حول محيط وزارة الداخلية وماذا يريدون بالضبط، ومن بدأ
الاشتباكات و«إيه اللي وداهم هناك أصلا؟» إلى غير ذلك من الأسئلة المهمة.
كل تلك الأسئلة ستضاف إلى سجل الأسئلة العويصة المعقدة التي تبدأ بماذا حدث بالضبط يوم 28يناير 2011التي سيحاول التاريخ الإجابة عنها وسنسمع بالتأكيد بعض المحاولات الجادة للإجابة وسط ركام كبير من الكلام الفارغ.
ولكن حتى ذلك الحين ورغم التقدم الكبير في وسائل الاتصال وفي
ظل كل هذا العدد من وسائل الإعلام والمدونين فإنه تتعذر الإجابة حصرا من
كان هناك وماذا يحدث. بل يزداد الأمر تعقيدا عندما نعرف أن من كان هناك أو
لا يزال لا يمكنه الإجابة بدقة عن هذه الأسئلة، أعرف ذلك لأنني كنت هناك في
لحظة ما ولا أستطيع الإجابة بدقة مثلما كنت هناك – في مكان ما - يوم 28يناير ولا يمكنني أيضا أن أجيب بدقة، رغم أنني أفكر من ساعتها.
ربما يكون ذلك ما يسمى «ثورة». أن يخرج صانعوها والمشاركون
فيها عن السيطرة ولا حتى القدرة على الإحاطة بكنههم وهويتهم وأغراضهم
التفصيلية. يمكن الحديث عن «ثوار» ولكن لا يستقيم عادة الحديث عن «الثوار»
حصرا وإحاطة، وبالتالي فالكلام عن «غير الثوار» – الموجودين هنا أو هناك
المتآمرين ضد «الثورة»- هو من محاولات السيطرة والإحاطة والادعاء والحصر،
وهي المحاولات التي عادة ما لا ترتضي حالة «الثورة» بما هي عليه: حالة
الهدم.
حالة الهدم التي بدأت فعليا منذ 28يناير
ليست طاهرة ولا عمرها كانت طاهرة. بل «ما حدث» تضمن أيضًا، بخلاف العدوان
المجيد على حشود الشرطة وحرق مقارها ومقر الحزب الوطني، فوضى شملت إزهاقا
لأرواح وتخريبا لممتلكات وتعطيلا لمصالح وتهديدا – حقيقيا – لسلامة وأمن
الناس.
ولو أن هذه الثورة قد فشلت في خلع مبارك لكان تم الالتفاف عليها بتمجيد بعض شباب الشفيق على أنهم «ثوار 25يناير» والتنكيل بكل من له صلة بلحظة بدء الهدم الثوري فعلا من 28يناير أو له شبهة صلة بذلك، كما هي عادة الشرطة التي ستتولى مهمة الحصر والتنكيل.
ولأن الشرطة تحديدا هي التي تتولى مهمة الحصر والتنكيل وكل
ممارسات الإكراه بالقوة، كما هو معروف في الدولة الحديثة، فإن كل قرار وكل
ممارسة للسلطة عبر خطط وقرارات وقوانين لن يتم إنفاذها، لتمارس الدولة
السيادة، إلا بشيئين، رضا الناس وقبولهم بهذه السيادة وما يصدر عنها، وإلا
تتولي الشرطة بالقوة فرض تنفيذ ما حاول بعض الناس عدم تنفيذه لأسباب مختلفة
ربما كان من بينها عدم رضاهم.
لذلك من الطبيعي عندما يتناقص رضا الناس عن السلطة وعن
ممارساتها فإنهم يفكرون في طرق كثيرة للاحتجاج على ذلك وتغييره وعندما تؤدي
هذه الطرق للاشيء فإنهم يجدون عدم رضاهم وجها لوجه أمام مهمة الشرطة.
هذا لا علاقة له إطلاقا بمن يرتدي بدلة الضابط ومن يحمل سلاحه، هذا ما يحدث عادة.
وعلى ما يبدو فإن بعض الهدامين و«غير الراضين» عن عمليات
ترميم وتجميل النظام قد أتوا للاحتفال بذكرى مذبحة محمد محمود وتذكروا
جميعا أن نفس المجرمين ما زالوا يعملون في جهاز «مقاومة عدم الرضا» ولم
يحاسب منهم أحد على ما سبب «عدم الرضا» سابقا بل تمت ترقية «مجرم» منهم
ليصبح «وزيرا في حكومة رئيس الثورة».
ولعلك تلاحظ معي في الجملة السابقة ذلك التناقض الكبير الذي
يعكس الادعاء والاحتيال والصفاقة وانعدام الحياء. وكل تلك الأشياء تستثير
في النفس عدم الرضا وتستحث الهدامين – على الأقل - على محاولة إهانة
الجهاز الإجرامي. وذلك بالطبع يسوء الكثيرين من محبي الاستقرار لأن الجهاز
الإجرامي نفسه مسؤول عن حمايتنا. سبحان الله. ولذلك أمام هذه المعضلة فإننا
أمام اقتراحين:
الاقتراح الأول: أن يستجيب هؤلاء، الذين يديرون باسم الثورة،
لمطالب الثورة في الهدم، وأولها هدم إجرامية الجهاز الإجرامي والتفكير في
بديل جديد لحمايتنا غير المجرمين أنفسهم. ذلك بالطبع يتطلب بعض الخيال في
بناء البديل. وإن ندر الخيال فلا أقل من أن يتوقفوا عن منح كبار المجرمين
الذين أفلتوا من المحاكمات مناصب قيادية في الجهاز الإجرامي في محاولة
لإبداء حسن النية والتجاوب مع عدم رضا الناس عن الإجرام.
الاقتراح الثاني: أن يعجز الخيال عن التجاوب مع عدم الرضا
بخيال آخر للبناء بما يحقق الرضا فيسود المنطق البسيط العقلاني المتزن.. أن
المجرمين أحق بقيادة الأجهزة الإجرامية. هذا واضح. وما على الحكام الجدد
إلا أن يفرحوا ببدلة الضابط والاستعانة بــ«هيئة كبار علماء الثورة» من
التيارات المساندة للنظام الجديد، للمشاركة بعلمهم الفائض ومعرفتهم المحيطة
في الإجابة عن الأسئلة المشروعة التي بدأ بها المقال: «من اللي هناك دول؟»
و«إيه اللي وداهم هناك؟». والإجابة دائما وبالطبع هي نفي علاقة هؤلاء
الهدامين بالثورة ثم حصرهم وتعدادهم وتبيان أنهم بلطجية وفلول وكارهون
للثورة والإسلام ومدفوعون من الخارج وغير ذلك من الكلام الفارغ المعتاد
الذي سيقوم الجهاز الإجرامي بالتحرك في ظلاله.
وعلى الوارثين الجدد للأرض أن يحمدوا الله أن خيالهم لم
يسعفهم لهدم الجهاز الإجرامي بل قاد إلى عمليات ترميم وتجميل لم تمس جوهره
لأنهم يحتاجونه الآن لردع طاقة الهدم بدلا من الاستجابة والخضوع لها
والاضطرار إلى خيال بناء بديل جديد. والله أكبر ولله الحمد
No comments:
Post a Comment