20 January 2011

إلى الأرواح القابلة للاشتعال: بو عزيزي لم يفعلها


شعرت جدتي بالذعر عندما أشعلت جارتها النار في نفسها قبل أكثر من ثلاثين سنة. لم يكن ذلك الحادث الوحيد من نوعه، وكان ذلك بالنسبة لها سلوكا مروعا ومؤشرا على أخلاقيات جديدة شعرت أنها ستعانيها طويلا، وكان. خلال الزيارات المتقطعة سمعت العديد من الحكايات المماثلة.

انتقلت جدتي في الخمسينات من ريف الصعيد إلى حي شعبي قريب من وسط القاهرة إلى حي شعبي/ عشوائي في ضواحيها، واعتبرت السلوك المروع البائس المتكرر في الضاحية العشوائية الفقيرة واحدا من حزمة ممارسات أفزعتها، وشعرت أنها انتقلت من محيطات بساطة الحال إلى محيطات الضيق البائس للعيش الذي يبتذل الروح ويكاد ينزع منها احتمالات الأمل، ويبتذل الجسد الإنساني ويتركهما عرضة للإحراق في لحظة يأس خانقة لا ترى في الأفق مخرجا.

التداول الإعلامي لبعض محاولات الاحتراق التي ستشهدها الأيام القادمة، بخلاف المحاولات ذات الطابع الاحتجاجي السياسي، لن يكون إلا تسليط ضوء على حوادث متكررة لم تكن لتمثل خبرا ذا بال قبل أن يحرق بوعزيزي نفسه لتندلع سلسلة احتجاجات انتهت بانتفاضة شعبية في تونس. يعرف ساكنو الأحياء الشعبية والفقيرة والعشوائية ذلك جيدا. وكلهم سمعوا على الأقل بحادثة حاول فيها أحدهم إحراق نفسه يأسا وضيقا، وربما تشهد الأيام القادمة دراسات ترصد حجم هذه الظاهرة في سياقها الاجتماعي بعد أن تهدأ أيام استهلاكها السياسي.

التعاطف الكبير مع أصحاب هذا السلوك لا يغني عن وصفه بما يستحقه: سلوك بائس مروع يبتذل الحياة إلى حد مثير للإحباط والنفور.
الملمح السياسي الإضافي في بعض محاولات الاحتراق الجديدة، القيام بذلك أمام مجلس الشعب والهتاف ضد أمن الدولة، لا يستحق توصيفا أفضل.
الإحساس بالضيق وانعدام المنافذ الذي يلجيء إلى الأسوأ لا يشبه ابتذال الحياة دون ضرورة وبهوس سياسي مأخوذ بصور إعلامية ويريد جذب الشهية السياسية والإعلامية المستثارة حاليا بالحالة التونسية.
ربما كانت بعض تجليات تلك الشهية السياسية والإعلامية أكثر بؤسا: الشهية الباردة في التناول بدون ما يستحقه الأمر من تعاطف كبير ونفور أكبر، أو الشهية المترقبة الحماسية التي تقفز فوق هول المحاولة و تنتظر تكرار بقية سيناريو الفيلم الذي شهده الجيران.
مع كامل التعاطف، فإن ما فعله بو عزيزي كان سلوكا بائسا منفرا. أحيانا ما يأتي السيء بما هو أفضل، الحياة ليست فيلما تجاريا. الارتباط الشرطي بين ما فعله بو عزيزي وبين الانتفاضة التونسية يبدو مجرد ربط بين ما هو متوفر لدينا من ابتذال قابل للاشتعال وبين ما نريده من تغيير. بينما يمكن رؤية ما حدث بطريقة أخرى.

الانتفاضة التونسية لم يطلقها بو عزيزي بل أطلقها أولئك الذين لم يتعاملوا مع مشهد احتراقه ببرود أو بحماسة مبتهجة أننا وصلنا للأسوأ و«سيأتي» التغيير. أطلقها أولئك الذين شعروا بالمهانة والنفور من ابتذال الحياة وانسداد منافذها إلى هذه الدرجة وقرروا أن «يذهبوا» هم ويفتحوا منفذا. صحيح أن من نزلوا الشارع احتجاجا خاطروا بأرواحهم، وعشرات فقدوها بالفعل، إلا أنهم كانوا يدافعون عن حياتهم، عن حياة أفضل يستحقونها ويتعلقون بها ويغامرون من أجلها.
إلقاء النفس في هوة يأسا من أنه لا مصير أفضل غيرها لا يساوي مغامرة القفز بمنتهى الأمل لتجاوز الهوة والوصول لحافة أخرى.
الروح المغامرة هي التي قامت بالانتفاضة التونسية وإليها ينتمي شهداء المواجهات التي فتحت المنفذ إلى التغيير. أما الروح اليائسة فهي تستحق الشفقة. والسيء لا يأتي بالضرورة بالأفضل، أيضا لأن الحياة ليست فيلما تجاريا.


3 comments:

r said...

الحياه قد لا تكون فيلم تجارى ولكنها فيلم بالفعل
وليس هو التقليد بحد ذاته كما اعتقد هو تماما اليأس أو النهايه
مش هتفرق لان الناس بقت الحياه عندها تساوى الموت
اعتقد فى موقف بو عزيزى كان للفت انظار الدوله والمسئولين وبحمد لله الناس التفتت وحست
المشكله عندنا زى ماقلت سمعناها كتير خاصه بالصعيد او شرب السم حوادث متكرره
مش عارفه رايحين على فين بس النهايه ربما تكون قربت

صفية الجفري said...
This comment has been removed by the author.
صفية الجفري said...

أصيل ما كتبت .. شكرا لك.