
في ليلة اليوم الموافق لتاريخ يوم ميلادي بالتقويم الميلادي من هذه السنة – نعم، هذا أفضل من أن أقول "عيد ميلادي"، وأليق بما سأقوله بعد أن أغلق هذه الجملة الاعتراضية- تناولت لأول مرة قرصا مضادا للاكئتاب قبل أن أنام.
لم يكن ذلك لأني أشعر بالاكتئاب، أنا أمر دوريا بأشكال مختلفة من الاكتئاب، لا أتعامل معها بأي تضخيم درامي أو جزع أو حتى أدنى شكوى. الاكتئاب عرض وجوديّ، هكذا أعتقد، ولا يجب أن نكتئب زيادة بسبب هذه الحقيقة.
ولكن كان ذلك بسبب اضطراب نومي، الذي يقل فجأة إلى الساعتين يوميا، ثم يمتد لأكثر من اثنتي عشر ساعة لأيام. وهذه الأقراص المضادة للاكتئاب كانت طبقا لمشورة طبيبة صديقة. وكان علي فقط أن آخذها قبل الموعد الذي أريد أن أنام فيه بساعتين، وفعلت، ونمت.
نمت أكثر من المتوقع قليلا، ولكني استيقظت نشيطا وبروحي خفة. عندما فكرت أنها يمكن أن تكون من تأثير الدواء المضاد للاكتئاب كاد ذلك أن يدفعني للاكتئاب حقا. أيكون اكتئابنا الوجودي النبيل أو خفتنا الصباحية الآملة مجرد كيمياء تتلاعب بها أقراص؟ سيأخذني ذلك إلى المزيد من التأملات الوجودية، وكانت المقابر مكانا جيدا لأقضي يومي.
قادني إلى منطقة قايتباي، الشهيرة بـ"ترب المجاورين"، موعد مع واحد من مشايخ طريقة صوفية. وأنا ممتن له جدا رغم أنه أخلف موعده معي. ولكنه كان يوما لطيفا وهادئا قضيته متجولا في المنطقة بين المقابر، ومتجاذبا أطراف الحديث مع رواد عشوائيين لمساجد طرق صوفية، ومريدين يقضون خلوتهم بجوار أضرحة شيوخهم، الذين لا يعرفهم غيرهم، ولكنهم عندهم الأئمة أقطاب الزمان ومجددي الدين.
منذ بضعة أيام، تذكرت حلما قديما. فيه كنت أدخل إلى مسجد كبير في الإسكندرية على شاطيء البحر، والشمس في كبد السماء، يرحب بي أهل المسجد ويأخذوني من يدي إلى رجلين جالسين في زاوية. أذهب إليها وأعرف من تلقاء نفسي أنهما أبا العباس المرسي وابن عطاء الله السكندري. أسلم وأجلس إليهما "لقد أتيت حسب الموعد، وأرجو أن تقبلوني معكم". ينظر أبو العباس المرسي إلى ابن عطاء الله بدون أن يتكلم، بشكل أثار ضيقي، فيقول ابن عطاء الله "أتقبل أنت بكل ما نحن عليه؟". تذكرت شيئا وكأنه حوار سابق دار بيني وبينهما فقلت "نعم، إلا أني كما قلت لكم لن أكون مريدا كالميت بين يدي المغسل، سأسأل وسأطلب أمارات على كل طريق قبل أن أسلك". رد ابن عطاء الله "إذن أنت لا تريد. أنت مرتاب، والإيمان أمان، ولو آمَنت لأمِنت". أحزنني ذلك، ورأيت الحزن على وجوه من استقبلوني. ولكن نظرة من ابن عطاء الله جعلتهم يقومون إلى أطراف المسجد ويتركونني أخرج وحيدا من المسجد لأجد الظلام مخيما وشارع الكورنيش خال تماما.
انتظرت طويلا تاكسي يأخذني إلى سيدي جابر لألحق بآخر قطار إلى القاهرة، واستيقظت قبل أن يأتي.
كان ذلك الحلم منذ سنوات، في فترة كنت أقرأ فيها لابن عطاء الله السكندري، "الحكم" وكتب أخرى. وكنت أفكر في تجربة ابن عطاء الله نفسها، فقد انضم إلى الصوفية وصار تلميذا لأبي العباس المرسي، بعد أن كان عدوا للصوفية "مرتابا" في طريقتهم.
كنت وقتها مهتما بالقراءة حول التصوف والصوفية، يستفزني اليقين المطمئن لذاته، السمح تجاه غيره. أذكر أني ذهبت إلى مسجد صوفي قريب وراقبت من بعيد وراقت لي المشاهدة ولم يرق لي الاقتراب.
كنت أعي تماما أن التصوف تجربة وخبرة ولا تجدي معه المراقبة من بعيد، وربما كان معنى التجربة كلها في التصديق والاستسلام الآمن لا في "التجريب" الحذر الفضولي. ولكني أعرف أنني لن أتخلص لا من التوق للتجربة ولا من الفضول الحذر، ولذلك أحزنني الحلم وقتها. وكأنها رسالة بأنني سأظل دائما تروق لي المراقبة ولن أقترب.
أيقظتني رضوى عصر ذلك اليوم نفسه، ليس من اللطيف أن أكرر وصفه الطويل، وكعادتها أخبرتني فورا نبأ هاما:"مامتك بتقول إن الحلاق بتاعك مات. مكتوب ورقة على المحل". كنت مرهقا من كثرة النوم أو من قلته، لا أذكر جيدا. وكان ذهني مشوشا، بآخر ما فكرت فيه قبل النوم، بأفكار حول الميلاد والموت، الإرادة ورخاوتها في هاتين اللحظتين. وفيما بينهما: عناء شحذ هذه الإرادة وإقامة عودها وجبر كسرها وتأمل معناها، الإيمان بها والكفر بها وما بين بين.
لست أدري تحديدا، وهذا ما يحير حقا بشأن "إرادتنا"، كيف أصبت بغصة عميقة، وصورة وجه الحلاق تبدو أمامي في مرآة صالون، بينما هو خلفي يقص شعري، وفي نفس الوقت انتبهت لمرأى شعري، في نفس المرأة، طويلا جدا وفي حالة رثة بين يديه.
غلبني استرخاء ساخر "ياه. طيب وهاحلق فين دلوقتي ؟!" هذا ما قلته فعلا، وأنا حزين. ولكن وأنا مسترخ جدا لا يبدو لي الموت عدائيا أبدا.
"البقاء لله. توفى إلى رحمة الله الأستاذ محمود عبد العزيز. والعزاء تليغرافيا:..." هذا ما تقوله الورقة البيضاء المعلقة على باب المحل المغلق. وقفت لدقائق قليلة أمام الباب أتذكر أنه قال لي آخر مرة، "هاغيب أسبوعين، هاعمل شوية تحاليل وأستريح. قل للدكتور محمود والدكتور مصطفى لو عاوزين يحلقوا بكره".
محمود عبد العزيز، هو صاحب كوافير "محمود عبد العزيز" للرجال في شارع طارق بن زياد في أرض الجمعية، كان يبدو لي في أوائل الخمسينات من عمره. له ابنه متزوجة وأم لطفلين، وابن مقبل على الزواج، وربما كان لديه أولاد آخرون لم أرهم. عمل فترة في الكويت، وادخر ما يكفي لكي يزوج ابنته وينفق على مصاريف دراسة ابنه في "مودرن أكاديمي" ويفتتح الكوافير. كان "نزيها"، أنفق الكثير على ديكور المحل الذي صممه ونفذه له مهندس ديكور استعان بلوحات تشكيلية ملائمة. انبسط عندما قلت له إن إحداها لفان جوخ. كان محبا لأم كلثوم، ونادرا ما رأيته يسمع غيرها، باستثناء تلاوة الحصري. ولا أذكر آخر مرة قلت له ماذا أريد بشأن شعري.
فكرت أني سأضطر للذهاب إلى ذلك الحلاق الآخر، ربما غدا أو بعد غد.
اشتريت فاكهة من الفاكهاني المقابل له، سألت ابن الفاكهاني، الذي عزيته في أبيه من شهر تقريبا، فقال أنهم لم يقيموا عزاء هنا، جاء ابنه في المسجد وتلقى العزاء واقفا وسريعا. قلت له "البقاء لله"، رد:"ونعم بالله"، ومد يده فصافحته.
في المساء، عاريا في البانيو، أحاول فتح الماء الساخن لكي أرقد قليلا في ماء دافيء. لا ماء ساخن. أنظر إلى السخان المعلق أمام وجهي وأجرب مرة أخرى، لا شيء.
في المرة التالية، تدوى صوت فرقعة وتومض ألسنة لهب عبر الفتحات الضيقة للسخان. لم أتحرك من مكاني لثانيتين أو ثلاث. فكرت فيهم في حوادث انفجار سخانات الغاز واختناق الضحايا، وإن كنت لا زلت حيا وكيف سأعرف ذلك.
في الثانية الرابعة – تقريبا - خطوت خارج البانيو، نبضي متسارع، وبي جزع صامت مكتوم يخفت تدريجيا لأعود إلى الاسترخاء. لم ينفجر السخان، فقط شيء ما بدخله فعل. أبدأ في الاسترخاء ثانية، وأنا أنظر لنفسي في مرآة الحمام أتثبت من وجودي. أضع كلتا كفي على رأسي أقبض على خصلات شعري الطويل وأفكر: هكذا كان يمكن أن يكون الأمر يا عمرو. ربما لم أكن لأذهب أبدا إلى حلاق آخر يا محمود.
اللوحة للفنانة هبة خليفة
لم يكن ذلك لأني أشعر بالاكتئاب، أنا أمر دوريا بأشكال مختلفة من الاكتئاب، لا أتعامل معها بأي تضخيم درامي أو جزع أو حتى أدنى شكوى. الاكتئاب عرض وجوديّ، هكذا أعتقد، ولا يجب أن نكتئب زيادة بسبب هذه الحقيقة.
ولكن كان ذلك بسبب اضطراب نومي، الذي يقل فجأة إلى الساعتين يوميا، ثم يمتد لأكثر من اثنتي عشر ساعة لأيام. وهذه الأقراص المضادة للاكتئاب كانت طبقا لمشورة طبيبة صديقة. وكان علي فقط أن آخذها قبل الموعد الذي أريد أن أنام فيه بساعتين، وفعلت، ونمت.
نمت أكثر من المتوقع قليلا، ولكني استيقظت نشيطا وبروحي خفة. عندما فكرت أنها يمكن أن تكون من تأثير الدواء المضاد للاكتئاب كاد ذلك أن يدفعني للاكتئاب حقا. أيكون اكتئابنا الوجودي النبيل أو خفتنا الصباحية الآملة مجرد كيمياء تتلاعب بها أقراص؟ سيأخذني ذلك إلى المزيد من التأملات الوجودية، وكانت المقابر مكانا جيدا لأقضي يومي.
قادني إلى منطقة قايتباي، الشهيرة بـ"ترب المجاورين"، موعد مع واحد من مشايخ طريقة صوفية. وأنا ممتن له جدا رغم أنه أخلف موعده معي. ولكنه كان يوما لطيفا وهادئا قضيته متجولا في المنطقة بين المقابر، ومتجاذبا أطراف الحديث مع رواد عشوائيين لمساجد طرق صوفية، ومريدين يقضون خلوتهم بجوار أضرحة شيوخهم، الذين لا يعرفهم غيرهم، ولكنهم عندهم الأئمة أقطاب الزمان ومجددي الدين.
منذ بضعة أيام، تذكرت حلما قديما. فيه كنت أدخل إلى مسجد كبير في الإسكندرية على شاطيء البحر، والشمس في كبد السماء، يرحب بي أهل المسجد ويأخذوني من يدي إلى رجلين جالسين في زاوية. أذهب إليها وأعرف من تلقاء نفسي أنهما أبا العباس المرسي وابن عطاء الله السكندري. أسلم وأجلس إليهما "لقد أتيت حسب الموعد، وأرجو أن تقبلوني معكم". ينظر أبو العباس المرسي إلى ابن عطاء الله بدون أن يتكلم، بشكل أثار ضيقي، فيقول ابن عطاء الله "أتقبل أنت بكل ما نحن عليه؟". تذكرت شيئا وكأنه حوار سابق دار بيني وبينهما فقلت "نعم، إلا أني كما قلت لكم لن أكون مريدا كالميت بين يدي المغسل، سأسأل وسأطلب أمارات على كل طريق قبل أن أسلك". رد ابن عطاء الله "إذن أنت لا تريد. أنت مرتاب، والإيمان أمان، ولو آمَنت لأمِنت". أحزنني ذلك، ورأيت الحزن على وجوه من استقبلوني. ولكن نظرة من ابن عطاء الله جعلتهم يقومون إلى أطراف المسجد ويتركونني أخرج وحيدا من المسجد لأجد الظلام مخيما وشارع الكورنيش خال تماما.
انتظرت طويلا تاكسي يأخذني إلى سيدي جابر لألحق بآخر قطار إلى القاهرة، واستيقظت قبل أن يأتي.
كان ذلك الحلم منذ سنوات، في فترة كنت أقرأ فيها لابن عطاء الله السكندري، "الحكم" وكتب أخرى. وكنت أفكر في تجربة ابن عطاء الله نفسها، فقد انضم إلى الصوفية وصار تلميذا لأبي العباس المرسي، بعد أن كان عدوا للصوفية "مرتابا" في طريقتهم.
كنت وقتها مهتما بالقراءة حول التصوف والصوفية، يستفزني اليقين المطمئن لذاته، السمح تجاه غيره. أذكر أني ذهبت إلى مسجد صوفي قريب وراقبت من بعيد وراقت لي المشاهدة ولم يرق لي الاقتراب.
كنت أعي تماما أن التصوف تجربة وخبرة ولا تجدي معه المراقبة من بعيد، وربما كان معنى التجربة كلها في التصديق والاستسلام الآمن لا في "التجريب" الحذر الفضولي. ولكني أعرف أنني لن أتخلص لا من التوق للتجربة ولا من الفضول الحذر، ولذلك أحزنني الحلم وقتها. وكأنها رسالة بأنني سأظل دائما تروق لي المراقبة ولن أقترب.
لست أدري تحديدا، وهذا ما يحير حقا بشأن "إرادتنا"، كيف أصبت بغصة عميقة، وصورة وجه الحلاق تبدو أمامي في مرآة صالون، بينما هو خلفي يقص شعري، وفي نفس الوقت انتبهت لمرأى شعري، في نفس المرأة، طويلا جدا وفي حالة رثة بين يديه.
غلبني استرخاء ساخر "ياه. طيب وهاحلق فين دلوقتي ؟!" هذا ما قلته فعلا، وأنا حزين. ولكن وأنا مسترخ جدا لا يبدو لي الموت عدائيا أبدا.
"البقاء لله. توفى إلى رحمة الله الأستاذ محمود عبد العزيز. والعزاء تليغرافيا:..." هذا ما تقوله الورقة البيضاء المعلقة على باب المحل المغلق. وقفت لدقائق قليلة أمام الباب أتذكر أنه قال لي آخر مرة، "هاغيب أسبوعين، هاعمل شوية تحاليل وأستريح. قل للدكتور محمود والدكتور مصطفى لو عاوزين يحلقوا بكره".
محمود عبد العزيز، هو صاحب كوافير "محمود عبد العزيز" للرجال في شارع طارق بن زياد في أرض الجمعية، كان يبدو لي في أوائل الخمسينات من عمره. له ابنه متزوجة وأم لطفلين، وابن مقبل على الزواج، وربما كان لديه أولاد آخرون لم أرهم. عمل فترة في الكويت، وادخر ما يكفي لكي يزوج ابنته وينفق على مصاريف دراسة ابنه في "مودرن أكاديمي" ويفتتح الكوافير. كان "نزيها"، أنفق الكثير على ديكور المحل الذي صممه ونفذه له مهندس ديكور استعان بلوحات تشكيلية ملائمة. انبسط عندما قلت له إن إحداها لفان جوخ. كان محبا لأم كلثوم، ونادرا ما رأيته يسمع غيرها، باستثناء تلاوة الحصري. ولا أذكر آخر مرة قلت له ماذا أريد بشأن شعري.
فكرت أني سأضطر للذهاب إلى ذلك الحلاق الآخر، ربما غدا أو بعد غد.
اشتريت فاكهة من الفاكهاني المقابل له، سألت ابن الفاكهاني، الذي عزيته في أبيه من شهر تقريبا، فقال أنهم لم يقيموا عزاء هنا، جاء ابنه في المسجد وتلقى العزاء واقفا وسريعا. قلت له "البقاء لله"، رد:"ونعم بالله"، ومد يده فصافحته.
في المساء، عاريا في البانيو، أحاول فتح الماء الساخن لكي أرقد قليلا في ماء دافيء. لا ماء ساخن. أنظر إلى السخان المعلق أمام وجهي وأجرب مرة أخرى، لا شيء.
في المرة التالية، تدوى صوت فرقعة وتومض ألسنة لهب عبر الفتحات الضيقة للسخان. لم أتحرك من مكاني لثانيتين أو ثلاث. فكرت فيهم في حوادث انفجار سخانات الغاز واختناق الضحايا، وإن كنت لا زلت حيا وكيف سأعرف ذلك.
في الثانية الرابعة – تقريبا - خطوت خارج البانيو، نبضي متسارع، وبي جزع صامت مكتوم يخفت تدريجيا لأعود إلى الاسترخاء. لم ينفجر السخان، فقط شيء ما بدخله فعل. أبدأ في الاسترخاء ثانية، وأنا أنظر لنفسي في مرآة الحمام أتثبت من وجودي. أضع كلتا كفي على رأسي أقبض على خصلات شعري الطويل وأفكر: هكذا كان يمكن أن يكون الأمر يا عمرو. ربما لم أكن لأذهب أبدا إلى حلاق آخر يا محمود.
اللوحة للفنانة هبة خليفة