عندما وجدت مانشيت إحدى الصحف
المغربية يتحدث عن إطلاق شرطي النار على نفسه فكرت أن ذلك يمكن أن يكون
مدخلا جيدا لفكرة إصلاح الشرطة لنفسها من الداخل، الذي تحدث عنه أحمد مكي
وزير العدل، بدلا من دعوات هيكلتها أو الضغط عليها من الخارج، لأن ذلك خلفه
- بحسب علم الوزير بالنيّات وما تخفي الصدور – دعوة إلى تفكيكها وهدمها،
وبدلا من التشنيع بالقتلى الستة على يد جهاز الشرطة، فإن الحقوقيين يجب أن يتركوا الالتباسإلى
الاعتراف بالتقدم الكبير في هذا المجال، الذي يعبر عنه هذا الرقم مقارنة
بالأرقام السابقة، حتى إن القتلى الستة أنفسهم يمكنهم أن يشعروا ويشهدوا
بهذا التقدمإذا كان
لديهم نفس وعي وثقافة وزير العدل وشعروا بأنفسهم كأرقام. وبالتأكيد شعور
المقتول على يد الشرطة يختلف عندما يجد نفسه رقما مميزا وسط عدد أقل من
الأرقام.
المانشيت كان يتحدث عن انتحار
رقم واحد يعمل في جهاز الشرطة المغربية، ولكن بغض النظر عن ذلك، فأنا أشعر
أثناء وجودي في العاصمة المغربية كأنني في بلدي، ففي الجريدة المقربة من
الحزب الحاكم «العدالة والتنمية»، الذراع السياسية للطبعة المغربية من
الإخوان، لا أفتقد الأخبار التي تهاجم البرادعي وتتهمه بـ«التهديد بالعنف
في حالة عدم الاستجابة لمطالب المعارضة».
كما أنني لا أفتقد هنا
«مناصرين» للبرادعي وحمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح. وعندما سألتهم عن
ذلك قالوا إننا السابقون في هيمنة الإخوان المسلمين وهم يخشون أنهم
لاحقون.
بعد جولة سريعة على صفحات شباب
مغاربة وجدت أنهم قد اتخذوا مواقعهم، تماما كالمصريين أثناء كل معركة
سياسية، وتحزبوا واقتسموا الانتماءات، واستمتعوا ولا يزالون باللعبة
الصاخبة في مصر. بعض الشباب اعترف لي بأنه من «عاصري الليمون» الذين
انتخبوا حزب «العدالة والتنمية» قبل أن يشكو الآن من مرارته ويشارك
المصريين الانضمام لصفحات «إخوان كاذبون». وبعضهم من شارك في احتجاجات 20فبرايرمحاولا
الإمساك بطرف خيط الثورات العربية، لولا أن الملك قطع الطريق وقام بواحدة
من أسرع عمليات التعديل الدستوري ومنح بعض الصلاحيات الإضافية للحكومة التي
يشكلها البرلمان، وبالطبع كان الإسلاميون المستفيد الأول رغم أنهم لم
يكونوا أصحاب المبادرة.
يخلق من الشبه أربعين دولة.
حتى إن أكثر الشباب «الوسطيين» الذين لا يحبون «الاستقطاب» - كثير من
الأنصار الافتراضيين لأبو الفتوح - يرفضون أي إشارة ربع ساخرة تجاه الملك
المغربي أو لانتشار صوره في كل مكان، حتى إن صورة كبيرة له كانت تتصدر قاعة
الندوة التي أتيت للمشاركة فيها.
الندوة كانت حول تجارب الدول في
«إدارة التنوع» بين شعوبها، التنوع الديني والمذهبي واللغوي والعرقي،
وبالطبع لم أبخل عليهم بحكايات مسليّة تلخص حالة الحفاوة الشديدة بالتنوع
من جانب تحالف السلطوية الإسلامية الذي هيمن على كتابة الدستور المصري
الجديد الرائع الذي نسعد الآن بالاستقرار الناتج عن ضمانه للتنوع فيه،
وإحساس كل أطياف المجتمع المصري بالأمان وضمان الحقوق والحريات الذي طفح من
نصوصه وعملية كتابته لدرجة أن كثيرا منهم انسحبوا من عملية كتابته
واستأمنوا حسام الغرياني ويونس مخيون على هذا الأمر ثم خرجوا للاحتفال
والاشتباك في الشوارع.
والغرياني ومخيون كانا بطلي القصة الأكثر تسلية ودلالة، والتي خلدها لنا محضر الاجتماع العاشرمن
اجتماعات اللجنة التأسيسية. وقتها اعترض مخيون، الذي يرأس الآن حزب النور،
على ذكر الدستور المصري لتعبير «التنوع الثقافي» وقال إن هذه المصطلحات
توضع لكي تكون بداية انشقاق في المجتمع. ورد عليه الغرياني بحدة وقال له:
«سيادتك لا تعرف أن هناك في مصر تنوعا ثقافيا؟!» وحدثت بينهم مشادة صغيرة
دافع فيها مخيون عن نص آخر عن "الوحدة الثقافية"وقال
له الغرياني إنهما ليسا متعارضين – سبحان الله !- ولكن انتهى الموقف عندما
أخبر مخيون، الغرياني، الذي من المفترض أنه يترأس اللجنة التأسيسية، أن
«من خلفه» أخبروه أن كلمة «التنوع» حذفت بالفعل ولا داعي للنقاش. ويبدو أن
الغرياني تذكر ساعتها ولاءه لـ«من خلفه» فأوقف دفاعه الحاد وقال له: «الحمد
لله أنها حذفت!».
المهم أنه تم حذف كلام من لفظي
«الوحدة الثقافية» و«التنوع الثقافي» وتم استبدالهما بشيء غامض اسمه
«المقومات الثقافية» يجب أن تحميه وتحفظه الدولة، وهذا هو الإسهام الأساسي
للروح التوفيقية للإخوان المسلمين التي انتهت الآن إلى التوفيق بين
المتناقضين في الحلال أو الحرام – المهم أن يكون وفق اللائحة- للوصول إلى
مركب ثالث لا هو وحدة ولا هو تنوع ولكنه حالة بائسة من ضيق البلاد بأهلها
وضيق الجميع ببعضهم البعض واضطرارهم للصراع كل لحظة حول حدود ومعنى هذه
«المقومات».
ولا أعتقد أن الغرياني ومخيون كان يمكن أن يتفقا لو أرادا الخوض أكثر في التفاصيل بعيدا عن تنبيه «من خلفهما».
ربما يكون وراء بعض الاستقرار
في المغرب، الذي يجعل من الجميع راغبين في عدم تجاوز حدود الملكية
الدستورية، ذلك الإفساح الذي حدث في المجتمع لمزيد من التنوع بالاعتراف
رسميا باللغة الأمازيغية وأن ممارسة إسلاميين للسلطة لا تستطيع أن تمس
كثيرا – حتى الآن - حالة التنوع الثقافي في الشارع والمجتمع المغربي.
ويبدو لي أن الديمقراطية، بخلاف
كونها غزوة صناديق، وسيلة تحمي حرية الدعوة إلى تغيير هذه المقومات عبر
حريات التعبير والتجمع والتنظيم، لكن على العكس من ذلك نص الدستور المصري
على أن الحريات والحقوق الواردة به تمارس وفق «المقومات» فضلا عن إشارات
متناثرة عن التقاليد الأصيلة والقيم الدينية والوطنية والأخلاق، وكلها
أشياء عند التفصيل والممارسة محل خلاف كبير. وإذا لم يكن ذلك واضحا لك،
فاعتصم بأهم المقومات الإسلامية المعاصرة وهي «اتبع من هم خلفك» واسمع كلام
من هم خلف مخيون والغرياني وخلف وزير العدل وإخوان مصر والشام والمغرب
واتهم البرادعي بأنه سبب الانشقاق في المجتمع.
No comments:
Post a Comment