ما زلت أذكر جيدا كيف كانت
مهابة تصيبني عند مروري في شارع رمسيس أمام مقر جمعية الشبان المسلمين حيث
تم اغتيال حسن البنا. كانت مهابة مصحوبة بقدر من الفخر والاعتزاز - رغم بعض
الأسى الشفيف - أن ذلك الاغتيال قد منح البنا لقب شهيد ورسخ كثيرا من
كونه«إماما مجددا ومجاهدا»، كما كنت أراه وقتها.
كانت قراءة مذكراته قد ألهمتني
وشغلت جانبا كبيرا من تفكيري رغم بساطتها، كانت أقرب لفيلم وثائقي جميل عن
بطل أسطوري، يحاول بهمة استعادة «الوحدة الإسلامية» المفقودة. ويبني ذلك
بدأب من خلال تنظيم يقوم على فكرة الأخوة الإسلامية، ويحاول أن يتجاوز
الخلافات العقائدية والفقهية قدر ما يستطيع، ويحاول الرجوع لمعنى أبسط
للإسلام. كنت وقتها أفكر أن تلك البساطة هي نقيض محاولة المنهج السلفي
استعادة الوحدة الإسلامية أيضا، ولكن عن طريق استعادة تصور صارم للإسلام
تحقق في التاريخ في لحظة معينة. ولكن ذلك التصور الصارم كان سببا في شقاقات
وخلافات كثيرة حول تفاصيله. التصورات الأكثر صرامة هي التصورات الأقل قدرة
على تحقيق «الوحدة» إلا وفق «سلطة» قاهرة.
كانت تجربة البنا ومحاولته حتى
بذل الجهد في «التقريب بين السنة والشيعة» ملهمة، ولكن كانت صورة الفيلم
تصيبها التشوش أول ما تبدأ مرحلة الدخول إلى المجال السياسي، وتبدأ تفاصيل
علاقة البنا بالملك وبالوفد وبالأحزاب. معاداته للأحزاب من أجل توحد الأمة،
ممالأته للملك أحيانا، اقترابه من أحزاب ذات طابع فاشي مثل «مصر الفتاة»
وإعجابه بنماذج «توحد الأمم» التي حققتها التيارات الفاشية في ألمانيا
وإيطاليا وتعبيره عن ذلك. كنت وقتها أرجئ حكمي على هذا الأمر حتى أعود
وأقرأ أكثر عن تاريخ هذه المرحلة لأحاول أن أتجاوز الغبش الذي أفسد جمال
وبساطة حلم الوحدة الإسلامية في أولى محطاته في مصر.
كان ذلك منذ أكثر من 15 سنة
تقريبا، ومرت مياه كثيرة تحت الجسر. وفي 25 يناير الماضي كنت أمر وسط
التظاهرات من شارع رمسيس التي تهتف «يسقط حكم المرشد» فوجدت شعاراتنا
مكتوبة على واجهة مقر جمعية الشبان المسلمين ، بل تزيد عليها: «حا .. شي ..
المرشد بيمشّيه». ولمحت أيضا اسم «جيكا»مكتوبًا في ركن ما.
كانت رائحة الغاز المسيل للدموع
تصل من جهة ماسبيرو. هناك تتقدم وتتقهقر جموع المتظاهرين التي تطالب بسقوط
النظام ورحيل الكاذب تابع المرشد الذي خان مؤيديه وحلفاءه، وحنث بكل وعوده
التي كانت كفيلة بتحقيق قدر من «الوحدة» بين صفوف المنحازين للثورة.
كنا نتقدم باتجاه ماسبيرو نأخذ أماكننا بدلا من المتراجعين تحت التأثير القوي للغاز الذي وصل لشارع رمسيس. كل المهابة وقتها كانت لاسم «جيكا» الذي كان المتظاهرون يهتفون باسمه أحيانًا في مواجهة الشرطة، كأنهم يذكرونهم بلعنة الدم التي ستظل تطاردهم، بينما خطوط سوداء عريضة على كل الحوائط حولنا توجه الإهانات للمرشد وللإخوان «الخونة الخائنين الكذابين»، وبين كل الكتابات يظهر اسم «جيكا» مرة أخرى كلعنة على هؤلاء الذين أعطاهم جيكا صوته الانتخابي انحيازا لـ«رفاق الثورة»، بل تظاهر معهم احتفالا بفوز رئيسهم الذي لم يعد رئيسه عندما انقلبت سلطته على أحلامه في الحرية، واستدارت إليه وقتلته برصاصها في شارع محمد محمود.
كنا نتقدم باتجاه ماسبيرو نأخذ أماكننا بدلا من المتراجعين تحت التأثير القوي للغاز الذي وصل لشارع رمسيس. كل المهابة وقتها كانت لاسم «جيكا» الذي كان المتظاهرون يهتفون باسمه أحيانًا في مواجهة الشرطة، كأنهم يذكرونهم بلعنة الدم التي ستظل تطاردهم، بينما خطوط سوداء عريضة على كل الحوائط حولنا توجه الإهانات للمرشد وللإخوان «الخونة الخائنين الكذابين»، وبين كل الكتابات يظهر اسم «جيكا» مرة أخرى كلعنة على هؤلاء الذين أعطاهم جيكا صوته الانتخابي انحيازا لـ«رفاق الثورة»، بل تظاهر معهم احتفالا بفوز رئيسهم الذي لم يعد رئيسه عندما انقلبت سلطته على أحلامه في الحرية، واستدارت إليه وقتلته برصاصها في شارع محمد محمود.
كان المشهد المستمر منذ صعود
الإخوان إلى السلطة نسخة من تشوش الأجزاء التي لم أستطع تبينها وقتها من
الفيلم الأسطوري لنشأة الإخوان المسلمين على يد الإمام المجدد المجاهد حسن
البنا.
ولكن التشوش الآن يستحيل وضوحا
بالغا.. أن الثورة في اتجاه حلم الحرية وأن حلم «الوحدة الإسلامية» لا
مجال له إلا بإخضاع المختلفين والمخالفين وإسكات صوت مقاومتهم بالدستور
والقانون أو بالرصاص إن فشل «القتال بالحب» في كسب أصواتهم في الصناديق.
حلم الوحدة الإسلامية ينكشف عما
رأيته سابقا في «الحلم السلفي»: لا يمكن تحقيق وحدة إلا باصطناعها ثم
حمايتها بسلطة قاهرة. ينكشف المشروع الإسلامي عن مشروع سلطوي باسم الإسلام.
يفشل في تحقيق توافقات أولية مع أولى خطواته ويسبب انشقاقا وصراعا مستمرا
حتى اللحظة.
لا يزال المشروع السلطوي مغرما بدرب المشروعات الفاشية القومية لتوحيد الأمم التي انتهت تجاربها الماضية بحروب عالمية دامية.
كان حولي وقتها أمام ماسبيرو
عدد لا بأس به ممن أعرف أنهم تركوا الإخوان والتيارات الإسلامية تركا لوهم
الوحدة التي ستنطلق منها الأمة الإسلامية لإخضاع العالم، وانحازوا إلى حلم
الحرية الذي يقاوم كل محاولات الإخضاع.
في الصفحة الأخيرة لجريدة
«الحرية والعدالة» نبهتني صورة رديئة الذوق للذكرى الرابعة والستين لاغتيال
البنا وهي تصوره وهو يحمل وردة ويقول: «سنقاتل الناس بالحب». رداءة الصورة
اجتمعت مع رداءة الفكرة التي تحتفي بها. ربما كانت جذابة وقتما كان القتال
في مواجهة سلطات غاشمة، منح ذلك القتال صورة المقاومة النبيلة كما منح
البنا لقب مجاهد وشهيد، ولكن الآن بعدما سقط أصدقاء ورفاق لي برصاص ذلك
القتال أو ذلك الحب، وجدتني أكتب بمنتهى المرارة والغضب مشاركا في سحابة من
الهجوم العاصف والمرير ضد حسن البنا الذي انتبهت إلى نطاقه الواسع لأول
مرة في ذكرى اغتياله.
وقت الذكرى السنة الماضية لم يكن قطار الإخوان قد وصل بعد إلى السلطة. يرتدي الإخوان "نظارة الحرب على الإسلام"ويرونها
موجهة ضد الإسلام وضد كل ما هو إسلامي بدلا من أن يدركوا مواقع أقدامهم
واتجاه سيرهم وأن البناء الذي بناه البنا صار مآله إلى تعليات لسور القصر
الذي يهينه الغاضبون كل يوم.
أنتبه الآن إلى أن الإخوان
كانوا تاريخيا يحفظون لكل قصر مهابته، من قصور ملوك الأسرة العلوية إلى رفض
إهانة اسم مبارك. حلم الوحدة يجب أن يمر عبر سلطة القصر ويجب أن يحمي
المشروع السلطوي أسوار القصر ومهابتها ولو كانت ضده لكي يعمل من داخلها
لاحقا، السعي إلى القصر لم يكن لتحريره ولكن لحماية المشروع بداخله. وهم
الوحدة محددة الملامح سلفا لا ملاذ له من واقع اختلاف الناس إلا سلطة القصر
وأسواره. انتهت إلى الأبد كل مهابة في قلبي. بئس البنا والبناء.
No comments:
Post a Comment