بالنسبة لي لم تكن الثورة إلا تصعيدًا في الاستقطاب بين من يريد التغيير وبين من يتشبث بالاستقرار.
في فبراير 2011 تشبث من أرادها ثورة بإزاحة رأس النظام لفتح
الباب أمام التغيير. وتشبثهم ذلك تم اتهامه بأنه إثارة للانقسام الاجتماعي
وشق المجتمع إلى شقين متناحرين، ولكن ذلك لم يثنِ هؤلاء الذين أصروا أنهم
«ثوار» فكانت معارك الشوارع في 2 و3 فبراير، التي يشار إليها عادة باسم
«موقعة الجمل»، نموذجًا لذلك الانقسام.
الآن نتذكر ما حدث باعتباره جريمة في حق الثوار، فالمنتصر
يكتب التاريخ دائمًا، إلا أنه بالعودة إلى وسائل الإعلام وقتها لا يمكن أن
يخفي نفس الخطاب الذي يحذر من الاستقطاب والانقسام الاجتماعي ويدعو للحكمة
والتعقل.
مؤسف بالتأكيد أن يحدث اقتتال بين الناس في الشوارع، ولكن التغيير مغامرة ولها ثمن.
أذكر أنني كتبت في مدونتي وقتها صارخًا: «أعلنوا انحيازاتكم الآن»!
وقلت إنني ربما أتعاطف حتى مع الجنود النظاميين وربما أجلس
بجانب أحدهم فيما بعد بشكل شخصي حزينًا على ما أصابه من جراح في معارك
الشوارع، ولكني في لحظة المواجهة لا أتردد ثانية في ركل درعه والإطاحة
بخوذته لكي أهزم هرّاوته التي يوجهها إليّ مهما كانت نواياه وما يعتقده
بشأن نبل أو خسة ما يقوم به، أو مدى عدالة وقداسة هرّاوته.
الجمعة قبل الماضية التي عرفت باسم «جمعة الحساب» أعادت إلى
الأذهان بعضًا من ذكرى معارك الشوارع، وهو أمر مؤسف أيضًا مثل معارك
الشوارع في فبراير قبل الماضي، ولكنه كان من الضروري أن يعلم أصحاب
«الهرّاوات الجديدة» أن استعراض القوة والسطوة لا يجب أن يكون مجديًا بعد
الآن.
من المفترض إن كنا نبني ديمقراطية أن نتجاوز مرحلة معارك
الشوارع إلى الاعتراف بساحة واسعة من الحريات والحقوق تسعنا جميعًا يمكن
للمجتمع أن يحيا بها في حرية وكرامة، وأن تتنافس القوى السياسية في تقديم
البدائل التي تحقق العدالة وتحفظ الحرية والكرامة.
ولكن إن كان هناك طرف سياسي يفضل إشهار هرّاوات «الهوية
والدين والأغلبية» فإنه يضع نفسه «قطبًا» ينحاز لتقييد الحريات والحقوق
وتهديدها باسم الهوية أو باسم مزاج الأغلبية الحالية وينحاز لتركيز السلطة
التي تقلل من قدرة يد المجتمع على المحاسبة والتغيير. وفي هذه اللحظة لا
أفهم ولا أتفهم المواقف الوسطية المائعة التي تخشى «الاستقطاب» و«الانقسام»
وتتحرج من أن تشكل «قطبًا» مقابلاً يحتجّ ويطالب بأوسع مساحة للحرية وأوضح
ضمانات للحقوق، ونظام سياسي يوزع السلطات ولا يكدسها، ويكثف من ضمانات
المحاسبة، ويفتح أبواب التغيير والتنوع والتعدد. إلى الدرجة التي تشجب فيها
احتشاد «القطب المقابل» لإعلان احتجاجه ومطالبه كما حدث في الجمعة
الماضية.
لا يبدو لي في هذه اللحظة إلا أن أدعوكم ونفسي إلى
«الاستقطاب» وإلى أن تعلنوا انحيازاتكم الآن. انحيازاتكم إلى الموقف وإلى
المبادئ والحريات والحقوق وليس إلى «قبيلة» سياسية أو أخرى.
هناك مسافة واضحة بين الانحياز إلى المواقف المختلفة وبين
حالة من «القبلية» السياسية التي تتسلل أحيانًا للجدل لتوجه اتهامات
أخلاقية للقبيلة السياسية الأخرى باعتبارها سمات جوهرية كامنة فيها كالكذب
أو الحماقة أو تناقض بعض المواقف مع المبادئ في مقابل تمجيد «قبيلتنا»
وهويتها وزعيمها وطهارة كل أبنائها.
فانحيازي الواضح الآن إلى قطب «القوى المدنية» – رغم أنني لا
أحب هذه التسمية - الذي تمثله أحزاب «التحالف الشعبي» و«المصري الديمقراطي
الاجتماعي» و«الدستور» و«التيار الشعبي» مع أحزاب وحركات ومجموعات أخرى.
وهذا لا يعني اعتقادي أن ممثليه وأفراده ومجموعاته منزهون عن الخطأ أو
ارتكاب ممارسات لا أخلاقية أو لا تعجبني، ولكن الانحياز للموقف طاهرًا
منزهًا عن الشوائب العملية والشخصية يعني البحث عن حزب الملائكة الأطهار
لكي يمكنني أن أقف بجانبهم في الميدان أو أعطيهم صوتي في انتخابات.
وعلى الجانب الآخر يبدو لي أن القوى السلطوية الإسلامية تشكو
من شراسة الهجوم عليها، وهو هجوم أحيانًا ينطوي على اتهامات فيها روح
القبلية السياسية، ففي الواقع لست في الطرف المقابل لأن بعض أفراد هذه
القوى فاسدون أو كذّابون أو لا أخلاقيون. فأنا في الطرف المقابل بسبب موقفي
وانحيازاتي التي ترفض اعتقادهم بأن الدنيا ستنصلح بمطاردة التنوع باسم
هرّاوة الهوية أو ضبط المجتمع بهرّاوة سلطة الدين.
أجواء الصراع القبلي تجعل البعض يشعر بالقرف والنفور من مجمل
المشهد السياسي، ولا يبدو لي أنه سيتحول في وقت ما إلى صراع سياسي طاهر
يلتزم باللعب النظيف، ولكننا بالتأكيد لا يمكننا أن نقترب من ذلك قبل أن
نرسم أرض ملعب يتسع للجميع. الدستور هو هذه الأرض التي يجب أن تسعنا
جميعًا، ولكن هرّاوات الرغبات السلطوية التي تريد عمل كردونات لملعب ضيّق
هي التي تُحوّل الجدل السياسي إلى صراع أكثر حدة وعدوانية.
لا يبدو لي أن الحل هو الالتفاف وتجاهل الاستقطاب عندما يتعلق
الأمر بترسيم أرض الملعب. فالرغبات السلطوية بادية من أولها ! وتاريخ
الإنسانية وتاريخنا القريب يخبراننا بأن الحريات والحقوق إما أن تكون هبات
ومنحًا من سلطة تريد تجميل صورتها ثم تطؤها أقدام سلطة تالية أو تكون تلك
الحقيقة التي جربنا طعمها منذ انطلاق هذه الثورة: تلك التي تُنتزع بعد
معارك ونضال يخوضه محبوها وأهلها الذين يخوضون الموقف جماعات وأفرادًا دون
أن تجمعهم «قبيلة» ولا تستهلكهم عداوة «قبيلة»، ولكن انحيازهم لحريتهم
وحقوقهم واضح بلا مواربة، ولا يخافون في ذلك هرّاوة متسلط مهووس ولا لومة
لائم وسطيّ توافقيّ يحاول التهدئة وهو يمسك الهرّاوة من المنتصف.
No comments:
Post a Comment