يروي عبد الوهاب المسيري في سيرته الذاتية الممتعة «في
البذور والجذور والثمر» أن تساؤلات دينية راودته في سن السادسة عشرة، مما
قوّض إيمانه ودفعه إلى أن يعلن لأسرته أنه لن يصلي ولن يصوم وسيتوقف إلى أن
يجد إجابات شافية على تساؤلاته.
ومن ساعتها بدأ المسيري في اعتناق فكر يصفه بـ«المادي». أصبح
منكرًا للألوهية لأي بعد روحي لحياة الإنسان. يقول إن والده وقتها شتمه
ولكنه تركه لحاله.
ويروي أنه انضم لمجموعة من الشباب يماثلونه في تلك «الرؤية المادية» وكان يقضي طويلًا معهم في التأمل والنقاش.
كان ذلك في الخمسينيات من القرن الماضي، ولحسن حظ المسيري أنه
لم تكن هناك بعد شبكة إنترنت ولا مواقع تواصل اجتماعي، وإلا كان تعبير
المسيري عن بعض أفكاره ونقاشه بشأنها مع أقرانه أو مختلفين سيصل إلى شباب
غيور على الدين وعلى الله وعلى أنبيائه، وربما تجمهروا تحت بيته وهددوا
أهله وتسببوا في اقتياده إلى أقسام الشرطة والنيابات والمحاكم وربما واجه
شبح عقوبة السجن لعدة سنوات، كما هو حال ألبير صابر المدون الذي يُحاكم
الآن بسبب تعبيره عن معتقداته الدينية وانتقاده للأديان ببعض السخرية
اللاذعة. فالمسيري أيضًا كان حتى وفاته كاتبًا ساخرًا لاذع السخرية مع ما
يراه متناقضًا.
أنهى المسيري حياته وهو يرى أنه «مفكر إسلامي» يدافع بشدة عن
الإيمان ويرد بقوة وبسخرية لاذعة على «الرؤية المادية للكون» التي اعتنقها
في شبابه، ويروي كيف بدأ طريقه إلى الإيمان عبر تأمل الشعر الرومانسي
للشاعر الإنجليزي ووردزووث وأيضًا الأدب المسيحي للقرون الوسطى مثل
«حكايات كانتربري»، كما يروي أيضًا عن أثر نقاشاته مع الحاخام الأمريكي
يوسف بيخر، ثم أثر كتابات إسلامية غير شعبية أثرت في تكوينه فكرة جديدة عن
الإسلام، منها كتابات مالك بن نبي وفضل عبد الرحمن.
الدرس المستفاد مما سبق، عزيزي القارئ، ليس أن نصل إلى: ما
يحدث مع ألبير غير مقبول، لأنه يمكن أن نترك ملحدًا بيننا لأن تلك أفضل
طريقة يمكنه أن يعود بعدها مؤمنًا مسلمًا بطريقة أو بأخرى قد تبدو غريبة
لدى معظم المؤمنين، ولكن ما أود قوله إنك لو كنت تقبل فكرة «حرية العقيدة»
فأنت بالضرورة يجب أن تقبل حرية الناس في التفكير والتأمل والتساؤل والشك
والنقاش والانتقاد المتبادل الهادئ أو الساخر، وأن تترك نقاشهم المفتوح
وتجاربهم الشخصية تقودهم إلى ما تقودهم إليه.
أما إن كنت تفكر أن الدولة والمجتمع يجب أن يتخذا من
الترتيبات لحماية «الإيمان» من الشك وترويج الأفكار المضادة له أو التي
تنتقده بهدوء أو عنف، من أجل أن يكون مسار تفكير الإنسان في النهاية هو
الإيمان، فلا تخجل من نفسك عزيزي القارئ، أنت لا تحب فكرة «حرية العقيدة»،
لأن هذه الفكرة التي تمثل تراكم جهود أناس ومجتمعات في دساتير ومواثيق
حقوقية تعني أن عقيدة الإنسان وأفكاره الدينية وتعبيره عنها لا ترتب عليه
أي عقوبة، كما أنها لا تؤدي لتمييز بينه وبين إنسان آخر، بسبب أن الإنسان
الآخر يؤمن بالعقيدة والأفكار التي يراها المجتمع وتراها الدولة هي العقيدة
الصحيحة أو الدين الرسمي.
ولكن «حرية العقيدة» كما يفهمها البعض فهي قريبة الشبه مما
يكتبه المحترمون في اللجنة التأسيسية في «دستورهم». فالمادة تقول: «حریة
الاعتقاد مصونة. وتكفل الدولة حریة إقامة دور العبادة للأدیان السماویة على
النحو الذي ینظمه القانون».
المادة المخصصة في مسودة الدستور لصيانة حرية العقيدة هي ذات
نفسها تكرس لتمييز ديني ضد أي مواطن تقوده حرية العقيدة إلى ديانة أخرى أو
معتقد، ليصبح المواطن السماوي لديه حقوق وامتيازات ليست عند المواطن غير
السماوي.
وهذه المادة تأتي لتتوج قمة تل القمامة الذي تمثله ممارسات
عدة للدولة المصرية، شرطة ونيابة وقضاء، في تعبيرها عن كراهيتها لحرية
العقيدة.
ولماذا نذهب بعيدًا! إليكم نصوص رائعة من تحقيقات النيابة مع
ألبير صابر الذي كانت جلسة محاكمته قبل ساعات، حيث يقول شريف الشعراوي،
مدير نيابة شرق القاهرة، في قرار اتهام ألبير: «إن المتهم الماثل سيدي
الرئيس أعلن كفره وإلحاده عبر محافل عامة وجهر بأفكاره عبر شبكة المعلومات
الدولية واستباح لنفسه ما لم يأت به السابقون ولا اللاحقون عليه في هذا
المجال وسبَّ أنبياء الله المختارين وتهكم على الشعائر المقدسة وعلى
الكتابين السماويين وهما القرآن والإنجيل وكثير مما حوته أوراق القضية
تفصيلاً، مما يتنافى مع الفطرة الإنسانية السليمة بزعم حرية الرأي
والتعبير. إذ إن هناك اختلافًا بين حرية الرأي والتعبير وحرية العقيدة،
فالأخيرة مشروطة بعدم المساس بالخالق سبحانه وتعالى أو مقدساته أو شعائره
الدينية».
هذه القطعة الأدبية العاطفية البديعة، التي اضطررت لتصحيح كم
الأخطاء اللغوية والإملائية الفادحة فيها أثناء نقلها، والتي تحاول أن تشرح
لنا معنى الحرية توضح فعلاً كيف يحاول كاتبها أن يشرح شيئًا آخر وهو
«تقييد الحرية».
فهو يقول بصراحة إن حرية العقيدة مشروطة، أي مقيّدة، لو كنت
ملحدًا ولا تؤمن بالله أو مقدساته ولا شعائره فأنت لست مثل المسلم أو
المسيحي الذي يكتب وينشر عن رأيه الديني وانتقاده للأديان والمذاهب الأخرى.
أنت مقيد الحرية ولا يمكنك أن تعبر عن رأيك في ذلك ولا أن تشترك في
مناقشات بشأنها. ولو خالفت الشرط فإنك تستحق ما سيحدث لك. وما سيحدث هو
ببساطة ما يطلبه تقرير النيابة من حبس ألبير والدعوة لتغليظ العقوبة أكثر
من تلك المقررة قانونًا في المستقبل.
هذا المفهوم الجميل للحرية المقيدة، الذي هو مجرد اسم حركي
مقلوب لتقييد الحرية، لا يجب أن نخجل منه فهو نابع من تراثنا الاستبدادي
الجميل وتربيتنا القمعية الأصيلة التي يقول فيها الأب أو الأم للابن بعين
حمراء وحواجب معقودة ويد تلوّح وعيدًا: «أنت حر! افعل كما تحب ولكن تحمّل
ما سيجري لك! أنت حر!».
لحسن الحظ أن التاجر الدمنهوري والد عبد الوهاب المسيري قد
اكتفى بشتمه عندما صارحه ابنه بأن الأفكار الدينية غير مقنعة، ثم تركه
وشأنه ليخوض رحلته الفكرية الطويلة متأملاً في الأدب والفلسفة والسياسة
والتاريخ والدين، بدلاً من أن يسلمه للمجتمع والدولة يحاصرانه ويطاردانه
لكي يخوض رحلة في أقسام الشرطة والنيابات والمحاكم والسجون، يتعلم فيها
المعنى الحقيقي لحرية العقيدة كما تفهمها الدولة المصرية.
No comments:
Post a Comment