13 October 2012

«من الميدان إلى الفاتيكان».. مسرحية هزلية من أربعة فصول

1
الاعتقاد بأن القانون نفسه الذي يحفظ «النظام» يصلح لمحاكمات تعاقب رموز «النظام» على ما ارتكبوه بحق ثوار قاموا لإسقاط «النظام»، وذلك من خلال أجهزة دولة ونظام قضائي شكلوا عماد هذا «النظام» ورجاله طالما عملوا في خدمة هذا «النظام» وحماية استقراره، اسمح لي، ربما يكون ذلك هو أحد تعريفات الدرجات الميئوس منها من الحماقة.
ومن نتائج الاعتقاد في هذه الحماقة الإصلاحية وقت الثورات أن تقبل بعمر سليمان نائبًا للرئيس قبل خلعه، وبعد تنحيه تقبل برجله شفيق رئيسًا للوزراء وتتخاذل في إسقاط وزارته ثم ترفض مطالب إسقاط حكم عسكر مبارك ثوريًا، وتتركهم يديرون أجهزة الدولة لسنة ونصف السنة وترفض إسقاط وزارة الجنزوري، أحد رجال مبارك، وتدعها تدير أجهزة الدولة وقت تسليم السلطة وتترك رجال الداخلية وأمن الدولة يرتبون أوراقهم على مهل طيلة سنتين، وتتجاهل مطالبات حقوقيين بتبني أي إجراءات للعدالة الانتقالية، ومطالب الثوار بالإقصاء الثوري لكل رموز نظام مبارك، وببرنامج ثوري لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، ثم تشكل حكومة ائتلافية مع الفلول، ثم تأتي الآن بعد صدور حكم ببراءة رموز الحزب الوطني المتهمين بقتل الثوار، وتشعر بالمفاجأة وتتجاهل كل هذا وذلك، وكل تلك المشكلة الضخمة المتراكمة وتكتشف فجأة: يا للهول! النائب العام هو المشكلة! يجب أن يذهب النائب العام إلى الفاتيكان فورًا!
2
أنا أصدق كل أصدقائي من كوادر الإخوان عندما يقولون إنهم ليسوا جماعة ثورية ولا مكان لفكرة الثورة في أدبياتهم وأدواتهم، وأنهم جماعة محافظة إصلاحية، وأصدق فعلًا كل ما يقوله الكتاتني ثم مرسي عن أنهم يفضلون العمل من خلال «اللائحة» نفسها، ومن خلال ما يسمح  به القانون الحالي من منافسة في الانتخابات التي يحتل بها الإصلاحيون مواقعهم، ثم يبدأون التعديلات والإصلاحات من داخل بنية النظام نفسها، وليس بتغييرها جذريًا وثوريًا بالإطاحة بها ولا هيكلتها بشكل عنيف ومفاجئ، وأصدق فعلاً وصفهم للمطالب الثورية بخصوص أجهزة الدولة بأنها «إسقاط للدولة».
حسنًا.. الإخوان وحزبهم ومرشحهم رفضوا الاستجابة لهذا النهج الثوري، وفضلوا اللعب بطريقة أخرى، بل أدى الرئيس مرسي اليمين الدستورية أمام المحكمة الدستورية العليا وفق الإعلان الدستوري المكمل الذي ألغاه هو نفسه حفاظًا على ذلك النهج الإصلاحي الجميل في احترام المؤسسات، وكل ما يصدر عن السلطة وقت تسلطها.
لا أعتقد أنه يتسق الآن مع هذا النهج أن يستخدم الرئيس وحزبه وجماعته حشود الشارع وضغط الشامخين المقربين للنظام على النائب العام من أجل تصوير مشهد ثوري هابط، فيه ضغوط من وراء الكواليس على النائب العام، وأمام الكاميرا حشود شعبية تهتف ضده غضبًا من أجل دماء الشهداء.
 وهذا المشهد الجميل الذي سيستهدف «الحطّ على» النائب العام وتحميله كل المسؤولية سيحاول «الغَلوَشَة» على الحماقة الإصلاحية البائسة التي أهدرت فعلًا -  في المشهد الأحمق السابق -  دماء الشهداء وتهاونت في كل ما تتطلبه محاكمة حقيقية لقاتليهم.
3
لكن ترتيبات هذا المشهد الأحمق الثاني تناست أن النائب العام يمكنه أن يحاول الفرار من أن يكون هو خروف العيد مستغلاً الحماقات الكثيرة في الكواليس.
فترتيبات المشهد التي رتبها الإصلاحي التائه لم تترك أمام النائب العام إلا خيارين: أن يتحمّل إعلاميًا مسؤولية كل حماقة الإصلاحي التائه ويستقيل متحملاً مسؤولية فساد المحاكمات، ثم يرضى أن يكون أضحوكة ويذهب لممارسة عمله كسفير في الفاتيكان، أو أن يتحول إلى بطل يدافع عن استقلال القضاء ومتمسك بالقانون وتقاليد الدولة والفصل بين السلطات ملوحًا بذلك في وجه رجال الرئيس مرسي وحكومته.
وبذلك قفز عبد المجيد إلى الأمام متخذًا الخيار الثاني ليضع كل أبطال المشهد الثوري المفتعل في مشهد ماسخ، ويتركهم يلقون باللائمة على بعضهم البعض، من فيهم المسؤول عن قرار بهذه الرعونة. بينما تتحول القضية إلى معركة محتدمة بين الرئاسة والإخوان من جهة، وبين القضاة من جهة أخرى.
4
بالتوازي مع هذه المشاهد، كان مشهد رابع ينضج على النار. قياديو الحزب الإصلاحي التائه في موقف لا يحسد عليه فيما يخص كتابة الدستور.
فممثلو الحزب الإصلاحي التائه في اللجنة ينحازون لدستور لا يجرأون على إقرار حريات واسعة يستحقها شعب ثار من أجل حريته وكرامته، وأيضًا لا يجرأون على اتخاذ موقف «إسلامي ثوري» بالمضي قدمًا في تقييد الحريات والحقوق بها بما يرونه حاكمية «الشريعة الإسلامية».
الإصلاحيون التائهون يخطون خطوة هنا وخطوة هناك، بينما تتهمهم القوى الديمقراطية بتدشين أولى خطوات دولة دينية طائفية ويتهمهم السلفيون بالتخلي عن حلم حاكمية الشريعة.
القوى الديمقراطية أعلنت منذ أكثر من أسبوعين عزمها تنظيم يوم احتجاجي من المسيرات والاحتشاد في ميدان التحرير للتعبير عن مطالبها بشأن الدستور، ويبدو أن التحضير لمشهد النائب العام قد ألهم بعض  قياديي الحزب الإصلاحي التائه، لأن تجهيز هذا المشهد بسرعة في نفس الوقت والمكان سيغطي على مشهد الاحتجاج ضد مشروع الدستور.
فالدعوة للاحتشاد تأييدًا بهذه السرعة يمكن تداركها باستخدام رجالهم القابلين للتعبئة في أتوبيسات والانتشار في أي ميدان حسب الحاجة، كما ستحتشد جماهير شعبية لديها معركتها الوهمية من أجل الإسلام ضد العلمانيين الحاقدين واليساريين المخربين المعترضين دائما والليبراليين عملاء الغرب.
 وتخيل النابهون أن أقصى ما يمكن أن يحدث هو بعض المناوشات ستنسحب على أثرها القوى الديمقراطية الأقل عددًا.
لكن يبدو أن بعض شباب القوى الديمقراطية كان لديه رأي آخر في ظاهرة الاحتشاد تأييدًا في نفس وقت ومكان الاحتشاد المعارض. فبعضهم واجه نفس الظاهرة من أيام مبارك أثناء وقفات حركات التغيير في 2005 وإلى رغبة المؤيدين لمبارك في اقتحام ميدان التحرير للتظاهر تأييدًا له يوم 2 و3 فبراير 2011 واعتراض «المواطنين الشرفاء» مسيرة القوى الثورية إلى العباسية في يوليو 2011.
وتسببت مقاومة هؤلاء الشباب في معركة جديدة بين حشود مؤيدة تحاول التسخيف على حشود معارضة، وتخرج الاشتباكات بينهم عن السيطرة وسط تخبط قادة الحزب التائه بين نفي وجود كوادرهم في الميدان إلى إعلان انسحابهم منه في الوقت نفسه.
وبدلًا من الاعتذار عن استلهام البلطجة والحماقة والرعونة التي أدت فيما سبق إلى إهدار الدماء، كاد تصوير المشهد الخائب المفتعل بدعوى القصاص لدماء الشهداء أن يتسبب في شهداء جدد بعد أن تسبب بالفعل في وقوع أكثر من 100 إصابة من الجانبين.
بدلًا من الاعتذار ومراجعة كل هذه المشاهد المبتذلة الخائبة، يستعد الآن الحزب الإصلاحي التائه للاشتراك في مشهد جميل نناقش فيه جميعًا: هل بدأ هيثم بضرب تامر، أم أن تامر هو من بدأ بإلقاء الطوب؟.
وهذا المشهد الأخير العظيم سيحاول طبعًا أن يستمر لأطول فترة ممكنة حتى تتحقق العدالة ونقتص من تامر أو هيثم، كما أن ذلك المشهد سيكون مفيدًا في «الغلوشة» لفترة على مشهد آخر حقيقي جدًا، مشهد ربما يجعلنا أول أمة احتفلت بدستورها الذي يعبر عن توافقها بمعارك شوارع بالأيدي والأرجل والطوب المتبادل.
 فما حدث في ميدان التحرير كان ببساطة مجرد تجسيد «شوارعي» عن مستوى التوافق حول مشروع الدستور الجديد.

No comments: