(1)
رغم كل أغاني كاميليا جبران التي سمعتها , و رغم فيلمي " شكوكو " اللذين وقعت عليهما بالصدفة ليومين متتالين , و تركت ما أفعل و شاهدتهما كاملين .. إلا أن مزاجي لا يزال معتلا .
لا يزال مخيما علي ذلك الشعور المزيج من الكآبة و الهزلية , منذ كنت واقفا في حارة " كريم الدولة " السد بجوار حزب التجمع مع ما تبقي من المظاهرة التي حاولت الوصول لميدان التحرير للاحتجاج علي التعديلات الدستورية . الظلام يحل و لا أضواء بالحارة , طبقات متتالية من الجنود تسد مدخل الحارة لمزيد من التأمين , تصلني أسماء الأصدقاء المعتقلين , بينما يهتف المتظاهرون لكل شيء ما عدا موضوع المظاهرة حتي أن كمال أبو عيطة هتف : " اسمع صوت المكن الداير ..." - ؟ - قبل أن يطالبنا بنصف ساعة من الصمت ,مستجيبا لرغبة رجل حزبي أطل من شرفة " التجمع " ليطلب الهدوء اللازم لأن أصدقاءا حزبيين في وضع حرج بالأعلي في محاولة للم شمل الحزب الناصري , سيخرج رفعت السعيد لاحقا و يختبر الميكروفون جيدا قبل أن يعلن فشل المحاولة . و لكنه متخذا وضع الاستعداد أعلن لاحقا أيضا أنه سيفصل أي عضو في حزبه سيثبت أنه منتم لتنظيم (أمين العالم – رانيا بدوي ) الذي تم اكتشافه علي رأس الصفحة الأولي من " المصري اليوم ", و الذي يمتد من الاسكندرية لأسوان و يحرك كل الاضرابات العمالية و يدعم اليسار في أمريكا اللاتينية , و يرفض التعديلات الدستورية في بيان خطير و سري للغاية , ستفاوض رانيا العالم علي نشره قبل الحصول علي توقيعه شخصيا علي هذا البيان الانتحاري .
(2)
سأقاوم رغبتي في أن أسخر أكثر من اكتشاف المصري اليوم , فالهزلية وحدها هي التي استدعت ذكره . و سأظل مع مزاجي المعتل الذي كلما كاد يتعافي قليلا , يتلقي خبرا جديدا , كئيبا بشكل هزلي :
-المعارضة تدعو الشعب لمقاطعة الاستفتاء بينما يهز الشعب رأسه و يبتسم . ليملأ الموظفون الصناديق الخالية بما تيسر من أصوات الشعب .
-قمع مظاهرة أخري في ميدان التحرير و تواصل برنامج اعتقالات اليوم الواحد الذي تلقي الشرطة في نهايته المعتقلين في الصحراء أملا في أن يضلوا طريقهم إلي القاهرة مجددا .
-مشاركة غير مسبوقة في الاستفتاء من مواطنين مجهولين , ثلاثة أرباعهم يؤيدون التعديلات الدستورية .
-اعتقالات رموز الإخوان المسلمين و وضع أموالهم و شركاتهم تحت الحراسة , و فصل طلابهم بمعدل يستعصي علي المتابعة .
-القاضي المحترم عبد الفتاح مراد يرفع دعوى ضد الحكومة لحجب مواقع و مدونات تسيء لسمعة مصر , كما أنها نشرت موادا لم يقتبسها هو , لأنه بالإضافة لكونه رجل قانون يعرف جيدا القانون و العيب و الحرام , فإنه يحفظ عن ظهر قلب مواد قانون الملكية الفكرية و حقوق المؤلف , و له عشرات المؤلفات التي تجعل منه مؤلفا أكثر تأليفا من كل المؤلفين , فضلا عن أنه حبا في المؤلف و حقوق المؤلف ,ألف نص قسم يصدر به كتبه , بعد تحية العلم , لكي تحل اللعنة علي ناسخي الكتب و لصوص الكلام و من تبعهم .
-اعتقال ممدوح إسماعيل , المحامي القريب من الجماعات الإسلامية , لأنه يكتب مقالات تضعف صورة مصر في أطلس الدول .
-إغلاق الأمن لفرع دار الخدمات النقابية و العمالية بنجع حمادي , و هي الدار النشطة في توعية العمال بحقوقهم و تعريفهم بسبل المطالبة بها .
- و أخيرا , منال و علاء و جمال عيد متهمون بإهانة نفس القاضي المحترم , الذي سيحارب الجميع و سيخرج منتصرا , و لن نتمكن من التدوين ثانية إلا بملء استمارة الحصول علي إذن مسبق بالكلام سيضمنها مؤلفه القادم . و سنضطر جميعا لشرائه لكي يمكننا الحصول مع الاستمارة علي عبوة الكلمات المسموح بها , لنعيد ترتيبها و نوّلفها في أشكال مختلفة كالبازل – كما يفعل مؤلفنا في مؤلفاته المؤلفة - و نرصها في مدوناتنا .لكي لا نقع في ورطة تجاوز المسموح مثل كريم عامر و أبي إسلام و ممدوح اسماعيل و منال و علاء و الإخوان المسلمين و طلعت السادات و أيمن نور و نوال السعداوي . و ليحفظ الله تنظيم" المصري اليوم " الشيوعي من مصير ميليشياتها الإخوانية .
(3)
ما الذي تبقي من الأمل في " التغيير " .....باستثناء ما كان في الحارة السد .
(4)
لن أتوقف هنا , لن أعكر مزاجي أكثر بهذه الخاتمة الكئيبة , سأحاول أن أفهم ماذا تعني كلمة " التغيير " التي رصعت نهايات أسماء حركات كثيرة , قامت لكي تكافح اليأس الذي فاح من مؤخرات أسماء أحزاب المعارضة التي تحاول أن تجمع شملها و تشجب ضوضاء التظاهر من شرفات الشرعية , و تفصل أعضاءها المارقين و لا تكلف جماهيرها سوي بلادة مقاطعة كل شيء .
لقد فهمت أنها تعني " الأمل " , سيتغير شيء ما للأفضل , سنخطو خطوة للأمام , سنغير ذلك الإيقاع الرديء الهابط إلي إيقاع صاعد أكثر مرحا و فرحا , سيتغير الأمر , سيكون هناك أمل , سنحاول أن نبتهج لنلم الناس و نلنلم فتات الأمل من هنا و هناك , و لا تهدأ شهوتنا للمزيد من الأمل .
توهمت أن ذلك يعني أن ترسم طريقا ما , أن تكتب مشهدا واحدا تعرفه من سيناريو طويل للتغيير, لا يجب أن تعرفه كله الآن , و لكن عليك أن تغوي الناس للمشاركة لاستكمال الكتابة - نعم , المشاركة - , لا أن تخبرهم نائحا, بعد أن ملأت الدنيا ضجيجا , أن لا طريق , خليكم هنا ... لننتظر الثورة التي ستغسلنا جميعا و ستغير كل شيء , فقط كونوا مستعدين , و لنتظاهر أسبوعيا , حاولوا أن تكونوا جميعا نشطاء متفرغين لكي يمكنكم أن تواكبوا معدلات التظاهر المرتفعة التي تسبق الثورة مباشرة .
و لأننا بذلك سنكون مستعدين للثورة , فلا حاجة بنا أن نشارك في أي ألعاب , كل الألعاب قذرة , لنحافظ علي نظافتنا و لنبق بعيدا عنها , سنمكث هنا مقاطعين , و لتخبروا من خلفكم علي مقاهي الانتظار أن يواصلوا الانتظار , حركة التغيير ستقتل الحكومة كمدا بأن ستهبط بمعدلات التصويت الخرافية إلي الحضيض , و لحسن الحظ أنها لن تحتاج لشيء لتحقق ذلك , فالناس يستخدمون بالفعل هذه الخطة من قديم , و تتراوح معدلات التصويت رغم ذلك بين الخرافية و المعقولة , بالتزوير أو غيره , و لا تموت الحكومة كمدا و لا تأتي الثورة .
(5)
أنا لا أتهكم عندما أتحدث عن " الثورة " , فلقد سمعت بأذني رأسي المتحدث الرسمي لـ" كفاية " يبشر بمظاهرة المائة ألف التي تسقط النظام و تملأ الأرض عدلا . و في النهاية لا تجد مائة شخص يصلون ميدان التحرير .
(6)
أنا أقصي أمانيّ أن أضع ورقة اقتراع في صندوق انتخاب أمين لجنة لنقابة المهندسين الفرعية بالجيزة , و أن ينتخب في المجلس المحلي لإمبابة واحدا أعرفه .
(7)
و فهمت أيضا بالمناسبة , بعد تفكير عميق , أن تضامن كل محبي التغيير مع ثورأبيض غشيم أساء التعبير , ينفع في يوم أسود تقف فيه الحظيرة طابورا أمام المحكمة بتهمة إساءة التعبير و هذا الهراء . و كل من يتلوي تمنعا لأن ثور اليوم تجاوز الحدود و يستحق الذبح , سيجد يوما من الثيران - أو البقر - من يتمني له شواء جيدا و للراعي وجبة شهية .
(8)
و تخيلت أن دور حركات التغيير سيكون دور المنسق لمجموعات عمل , تعمل أي شيء , و أن يعود الاحتجاج و التظاهر إلي حجمهما . استبشرت بالمجموعات التي سبقت حركات التغيير , مثل 9 مارس , و التي تلتها مثل أدباء و فنانون من أجل التغيير , و كفاية الفيوم ,و مركز تضامن إمبابة ,و مصريون ضد التمييز الديني و غيرهم . و لا زلت أري أن تغييرا ما سيحدث ليس إلا نتاج الدأب المتناثر هنا و هناك .
و لكن لا زالت الدائرة تفتقد لمن ينظم هذه الجهود في عقد واحد , أو أكثر , لكي يمكن التأثير في المجال العام , بدلا من أن يهيمن المجال العام بكياناته الكبري عليها . و في المأثور المبتذل أن الاتحاد قوة .
(9)
حتي النضالات العمالية التي تلمع هنا و هناك و تغشي أبصار الكل , كيف سيمكنها أن تتواصل ضد القمع و سطوة المال , و تستقر مكاسبها بدون روابط عمالية حرة ثم اتحادات عمالية ترتبط بتيارات سياسية حقيقية تدعم مشروعا اجتماعيا تنتظم فيه مطالبهم .
(10)
أنا أحب المسيري , أحب انحيازه البسيط . إيمانه بالمشروع الخاص ,بجانب الاشتراك في الكرنفال العام للسياسة المصرية بالانضمام لحزب , و الانخراط في حركة تغيير , بل و تولي مسؤولية منسقها العام . أحب فيه تجاوزه لوهم المفكر المتعالي فوق الأحزاب و الحركات , لأنه ملك للوطن و للدين و للإنسانية .
من يثق في فرديته و جهده و نزاهته, مفكرا أو باحثا أو فنانا أو أديبا , لا يخشي من إعلان الانحياز .
و مناسبة هذا الكلام , أن وجوده في الحارة السد يومها خفف عني كثيرا .
(11 )
هذا ليس كل ما أود قوله , و ربما منه ما لا أود قوله , و لكني لأني ذكرت توا بضعة أشياء ربما تبعث علي الأمل في خروج , فسأتوقف هنا لأنهي هذه السطور الكئيبة الهزلية , التي كتبت في الفترة ما بين النهاية السعيدة لفيلم " عنتر و لبلب "أول أمس ,و النهاية البائسة الرومانسية لفيلم وثائقي عن الشيوعية في تركيا علي الجزيرة منذ قليل .