24 March 2011

الطواريء مرة أخرى: تسيير الأعمال وتعطيل الثورة؟

Owly Images

قبل عشرين يوما فقط، كان د. عصام شرف معنا في ميدان التحرير الممتليء عن آخره بالمتظاهرين المرحبين باختياره لتشكيل وزارة جديدة لتسيير الأعمال بدلا من وزارة شفيق التي شكلها الرئيس المخلوع. استجاب شرف سريعا للدعوة التي وجهها إليه الشباب لبدء عمله من ميدان التحرير وقال يومها لجموع المتظاهرين: "صحيح أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قام بتكليفي بتشكيل الوزارة، ولكنني هنا لأنني أستمد شرعيتي من هنا.. منكم.. من ميدان التحرير". وأضاف : "الوقت الذي لن أستطيع فيه تحقيق مطالبكم، لن أكون هناك (يعني في مقر الوزارة)، ولكن سأكون معكم هنا في ميدان التحرير".

لا الثوار ولا د. عصام شرف كانوا يعنون أن ميدان التحرير هو الثورة المصرية، ولكن الميدان أصبح رمزا لـ"الشارع" الذي تشكلت فيه الثورة المصرية وكان أداتها الوحيدة لإسقاط الرئيس وتحقيق أول مطالب الثورة. في الشارع تجمع ملايين المصريين وبدأوا في إسقاط النظام السابق الذي حرمهم عمليا من حرية التجمع والتنظيم بينما ردد أنه يتيحها عبر نصوص مطاطة قابلة للالتواء على الفور إن تجاوز المواطنون الهوامش الآمنة – بالنسبة للنظام – في تعبيرهم أو تجمعهم أو تنظيمهم. ردد النظام السابق دائما مبررات الطواريء واللحظات الحرجة التي تمر بها "بلادنا المستهدفة" ومقتضيات الأمن القومي والحفاظ على الاقتصاد وهو يتجاوز حقوق المواطنين بدءا من تعذيبهم فرادي إلى تقييد حرية جموعهم في التنظيم الطلابي والعمالي والحزبي.

أمس وافق مجلس الوزراء على مشروع بمرسوم قانون يسري في حالات الطواريء يجرم الاشتراك في بعض أشكال التظاهر المعطلة للأعمال أو التحريض عليها، ويعاقب على ذلك بالحبس سنة أو الغرامة التي تبلغ قيمتها نصف مليون جنيه. وبموافقته أعاد إلينا أشباح النظام السابق جميعا: تقييد حق التجمع والتعبير بنص مطاط عن "تعطيل الأعمال" مرتبط بحالة الطواريء.

وبعد ساعات من الموافقة على مشروع القانون فضت الشرطة العسكرية اعتصام طلاب كلية الإعلام بجامعة القاهرة بالقوة وباستخدام العصي الكهربائية. وهي حلقة أخيرة من سلسلة ممارسات، رصدتها تقارير منظمات حقوقية وشهادات ناشطين، استخدمت فيها قوات الجيش القوة لفض الاحتجاجات والتجمعات وانتهكت حقوق المواطنين بالاحتجاز غير القانوني والتعذيب والإحالة للمحاكمات العسكرية، كما هددت بعض الاحتجاجات بتطبيق قانون البلطجة على المشاركين فيها، والمبرر دائما ضرورة الحفاظ على الأمن والتعلل بالطواريء.

قبل الثورة عشنا ثلاثين عاما من الطواريء استخدمها النظام لإيقاف وكبح عجلة التغيير، ومنذ بداية الثورة ونحن أيضا في حالة طواريء، ولكنها هذه المرة حالة "طواريء مضادة" صنعتها الثورة وتتمسك بها حتى تتحقق كل مطالبها وحتى يتشكل النظام السياسي المنتخب المعبر عنها. وحتى ذلك الحين لا يزال الشارع هو الساحة التي تثور فيها القوى الاجتماعية والفئات المختلفة لتسقط "النظام الفاسد" في مواقعه المختلفة البعيدة عن المركز السياسي. وحتى بعد تشكل النظام السياسي المنتخب يحب أن تظل حقوق الاحتجاج والتظاهر والاعتصام والإضراب متاحة باعتبارها حريات أساسية.

الآن يعيدنا الجيش ووزارة تسيير الأعمال، الذين يعلنان انحيازهما لمطالب الثورة، إلى مربع الاحتجاج على انتهاك حقوق المواطنين بدعوى الطواريء، بينما كان هذا الاحتجاج الشرارة الأولى في الثورة المصرية. وعجلة الأعمال والاقتصاد، التي يريدان تسييرها، لا يجب أن تسير فوق حقوق العمال والموظفين المنتهكة حقوقهم والذين لا يزالون تحت قيادات فاسدة قمعتهم ونهبتهم.

القوى الاجتماعية المشاركة في الثورة، من عمال ومهنيين وطلبة، لا يمكن أن تقدم مطالبها في التماسات إلى المجلس العسكري والوزارة وتترك لبقايا النظام في كل مكان حرية المناورة والتمسك بمواقعها بألاعيب إدارية.

للأسف الشديد، لا يمكن فهم القانون الأخير إلا كإرهاب لجماهير الثورة في مواقعهم، حيث يمكن اتهام كل احتجاجات المهنيين والعمال والطلبة بـ"تعطيل الأعمال"، فضلا عن احتجاجات ميدان التحرير الذي يمكن اتهامها بتعطيل أعمال القاهرة كلها.

رغم قمع اعتصامهم أمس، احتجاج طلبة كلية الإعلام مستمر وانضم إليهم طلاب كليات أخرى مساء أمس ودعوا للتظاهر اليوم في كل أنحاء جامعة القاهرة. ودعت مجموعات ومنظمات شبابية إلى الاحتجاج الجمعة القادمة في ميدان التحرير وميادين المحافظات ضد الطواريء وتقييد حق التظاهر. وليس هذا إلا نموذجا ومؤشرا أن الثورة التي قدمت التضحيات لن تتراجع وتترك شارعها ومطالبها.

الاحتجاجات المستمرة يا د.شرف تعني أن مطالب جماهير الثورة لم تتحق كلها بعد. ولو أردت أن تنفذ وعدك، في حالة عدم قدرتك على الوفاء بمطالب جماهير الثورة، بتقديم استقالتك والعودة معنا إلى ميدان التحرير، ستكون تلك بالتأكيد حالة طواريء، وسيكون عليك ساعتها أن تواجه معنا إما تهمة البلطجة أو تهمة تعطيل الأعمال.

19 March 2011

في طابور استفتاء ما بعد الثورة: جدل «لا» الممكنة و«نعم» المختلفة


أمام مجمع المدارس بأرض الجمعية في إمبابة، وقف شحاته حماد، المدير العام المتقاعد بإحدى شركات القطاع العام، وابنه العشريني يتأملان الطابور الطويل الممتد بمحاذاة السور الذي يحيط بالمجمع ويمتد إلى مدخل المدرسة وصولا إلى اللجان الانتخابية للاستفتاء على التعديلات الدستورية. يشير أحمد لأبيه ضاحكا إلى الطابور القصير أمام كشك بيع الخبز المجاور. يتذكر أحمد أن الأمر كان معكوسا في آخر انتخابات برلمانية.

يتذكر شحاته المرة الأولى التي أدلى فيها بصوته في استفتاء، كان على بيان 30 مارس 1968 الذي أعلنه جمال عبد الناصر متضمنا إصلاحات باتجاه الديمقراطية بعد احتجاجات من عمال وطلاب. لا يتذكر شحاتة حماد النتيجة ولكنه يضحك قائلا: «تقريبا كانت 99.9%».

يتذكر أنه قال «نعم» وقتها مع الجموع التي يقول أنها لم تكن تتصور أصلا أن هناك إمكان لـ«لا». ولكن هذه المرة مختلفة والنقاش يدور بين كل اثنين حول مزايا وعيوب «نعم» و«لا».

أمامه في الطابور يشتعل نقاش بين ناشط في حزب التجمع بامبابة وشاب سلفي. الناشط كان يتحدث عن ضرورة «لا» لأننا نريد إعلانا دستوريا ودستورا جديدا والشاب السلفي احتد عليه وطالبه بالتوقف عن الدعاية لرأيه أمام اللجنة. يحتدان للحظات قبل أن يتدخل آخرون للتهدئة ويطالبون الجميع بالانتظام في الطابور والنقاش بهدوء وبدون صوت عال.

يقترب شحاتة حماد من مدخل المدرسة حيث يقف جنديان من القوات المسلحة مع فردي أمن من الشرطة يتابعان في كسل الطابور الطويل ويتدخلون كل فترة عندما يطالب أحدهم بمنع أي مواطن من تجاوز دوره. مجموعة من الشباب تتطوع لتنظيم الطابور ومراقبته ويشكلون طابورا خاصا موازيا لكبار السن.

لا يترك شحاتة مكانه في الطابور الرئيسي ويظل يتناقش مع ابنه ومجموعة من الشباب حوله. يقول لهم أنه كان يشارك في السياسة ولكن بحذر، وانضم إلى منبر اليسار بقيادة خالد محيي الدين في السبعينات عندما أنشأ السادات المنابر، لكنه خرج منه بعد انتفاضة 18 و19 يناير1977 مع جموع خرجت خوفا بعد اتهام كوادر يسارية بالتورط في الانتفاضة، ولكنه رفض أن يدخل مع الجموع منبر الوسط الذي تحول فيما بعد إلى الحزب الوطني.

يبدي شحاتة أسفه لأن بعض الشباب المتحمسين الذين يدعون لرفض التعديلات يصفون المؤيدين بأنهم فلول الوطني وأتباع الإخوان والسلفيين ويقول: «عهد الوصاية انتهى بعد ثورة الشباب الأنقياء. بلاش الكلام ده. سيبوا الشعب يختار».

يتقدم مع الطابور إلى داخل المدرسة. بجانبه تظهر مجلة حائط صنعها التلاميذ تتحدث عن ثورة 25 يناير وسط ألوان العلم وفي المنتصف تحية للجيش المصري وفوقها صورة للمشير محمد حسين طنطاوي.

يعلق شحاتة أنه سيقول «نعم» من أجل سرعة الانتقال إلى الديمقراطية لكي نحمي الجيش من السياسة ونحمي السياسة من الجيش، وفي النهاية سنحصل على دستور جديد بعد الانتخابات البرلمانية، ويضيف ببعض الغضب :«فيه ناس بتفهم الناس إنهم لو وافقوا مافيش دستور جديد. ده غلط. في كل الحالات لازم هاييجي دستور جديد. هو احنا والشباب دول هانسيب حقنا تاني بعد الثورة؟».

يبتسم شحاتة في أسى لأن جيله فرط أحيانا في حقه. يقول أنه كانت لديه 3 تذاكر انتخابية. واحدة في الباجور مسقط رأسه حيث يدلي بصوته لكمال الشاذلي من باب العصبية، وواحدة في شبرا الخيمة حيث مقر عمله ويترك رؤسائه يصوتون باسمه وواحدة في روض الفرج حيث يسكن قبل أن ينتقل إلى إمبابة:«تركت آخرين يصوتون باسمي لكن في منطقة سكني صوتت أحيانا لصالح مستقلين ومرشحي المعارضة المحترمين. عمري ما صوتت لمبارك ولا مرة. ما كانش عندنا أمل، الكل كان عارف الطبخة إزاي. دلوقتي الشعب هايقول كلمته بقى».

يدخل ابنه في نقاش مع ماجد الذي يبدو الصليب من فتحة قميصه، الذي يؤكد أنه سيقول «لا» من أجل فرصة لكل التيارات لكي تنظم نفسها قبل الانتخابات البرلمانية. مجموعة من الشباب المسيحيين يوافقون ماجد ولكن بينهم يقول مينا أنه سيقول «نعم» ولا يخشى من سيطرة الإخوان المسلمين على البرلمان لأنه شارك بجوار بعضهم في الثورة ولأنهم أعلنوا أنهم لن ينافسوا على أكثر من ثلث البرلمان وأن كل من شارك في الثورة يريد الآن دولة مدنية. مثل مينا كان هناك محمد عبد الفتاح الشاب السلفي الذي يخوض نقاشا مع زملائه السلفيين مختلفا معهم أن الجدل ليس حول المادة الثانية وأنه سيقول «لا» مخالفا لهم جميعا لأنه يريد إعلانا دستوريا جديدا باسم الثورة التي شارك فيها.

يتابع شحاتة نقاشهم قليلا قبل أن يقرر الانتقال إلى طابور كبار السن، يدلي بصوته سريعا ويخرج. يمازحه الشباب أنها ثورة شباب ويجب أن يكون الاستثناء لصالحهم. يربت على كتف أحدهم ويقول ببعض التأثر: «إحنا خلاص يا بني عشنا أيامنا. دي دولتكم بقى. خلوا بالكم منها.إنتم مسئولين عنها».

17 March 2011

أكثر من «نعم» وأكثر من «لا»

ورقة الاستفتاءعلى التعديلات الدستورية المقترحة التي سيدلي فيها المصريون باختيارهم السبت القادم، لم تسمح لهم إلا بالانقسام إلى كتلتين يدور بينها نقاش وجدل محتدم بين «نعم» و«لا». ولكن التفاصيل داخل كل موقف تحمل تنوعات أكثر وربما بعض تناقضات داخل كل كتلة.

هناك «نعم» اقتناعا بأن التعديلات ترسم طريقا محددا مقبولا نحو دستور جديد يمر عبر برلمان منتخب وفترة انتقالية أقصر، وهناك «نعم»، منتشرة على بعض المواقع السلفية، تعتقد أن التعديلات تقطع الطريق على دستور جديد تماما وذلك يحمي المادة الثانية في الدستور المتعلقة بالشريعة الإسلامية ويقطع الطريق على «مؤامرات العلمانيين والنصاري» بحسب تعبيرات هذه المواقع.

هناك «لا» لا تزال تعتقد أن التعديلات فعلا تقطع الطريق على دستور جديد وتجعله رهنا برغبة رئيس الجمهورية أو أغلبية البرلمان ولا تزال تجادل في إلزام المادة 189مكرر في التعديلات. وهناك «لا» تتمسك بدستور جديد الآن قبل أي انتخابات تجرى وفق الدستور القديم.

هناك «نعم» من تيارات متشوقة إلى صندوق الانتخابات البرلمانية أولا ثقة في انتشارها، في هذه الجبهة يقف الإسلاميون. وهناك «نعم» تؤكد ضرورة خوض المغامرة الديمقراطية في أقرب وقت بدلا من فترة انتقالية مرتبكة وتراهن على تغير خريطة الشارع السياسي بعد المشاركة الواسعة المتوقعة كنتيجة لثورة شعبية استطاعت حشد الملايين في الشوارع هتفوا معا من أجل دولة مدنية وديمقراطية.

هناك «لا» من تيارات لا تزال تطالب بفترة استعداد و تؤكد وجاهة ثقة الإسلاميين وتخشى من انتخابات برلمانية مبكرة، وهنا يقف العديد من الأحزاب والحركات والنشطاء وكتلة كبيرة من الأقباط. وهناك «لا» تعتد بثقتها على حشد إجماع في الشارع وتوافق بين القوى السياسية يمكنه أن يضغط من أجل استكمال تحقيق مطالب الثورة وفق سيناريو تطرحه هذه القوى وليس السيناريو الذي فرضه الجيش بهذه التعديلات، و

هناك «لا» أخرى تعلن ثقتها في الجيش وتطالبه بإعلان دستوري وتعيين لجنة تأسيسية أو تشكيل مجلس رئاسي للفترة الانتقالية.

هناك مثلها «نعم» تطرح ثقة كبيرة في الجيش وإدارته للبلاد وتحديد الخطوات نحو الديمقراطية، وهناك «نعم» لا تزال تميل للموافقة على كل بديل تطرحة السلطة المطروحة خوفا من الفوضى والمجهول. ولكن هناك «نعم» تعترض على أسلوب طرح الجيش للاستفتاء وقلقة من استمرار الجيش كسلطة تدير البلاد، ولكنها توافق علي الاستفتاء رغبة في تقليص فترة إدارة الجيش للبلاد وتعلن قلقها من أسلوب تعامله مع التجمعات الجماهيرية واستخدام العنف في فض الاعتصامات وإحالة المدنيين لمحاكمات عسكرية وتعرضهم للتعذيب وانتهاك حقوقهم أثناء احتجازهم.

هناك «لا» قلقة على الديمقراطية من أن تبدأ في ملعب غير مؤهل ووقت غير موات فتجهض الثورة، وهناك «نعم» قلقة على الديمقراطية من استمرار الفترة الانتقالية في أجواء أمنية متوترة تدفع الجيش لإجراءات تحدد الحريات ومنها حق التظاهر والاعتصام فيجهض غياب الديمقراطية الثورة.

هناك «لا» تتمسك بالشرعية الثورية وتخشى ذوبانها وسط محيط انتخابات تتوقع أن تحكمها العصبيات والأموال ومراكز القوى القديمة في النظام، وهناك «نعم» تتمسك بالشرعية الثورية وتخشى ضياعها وسط مداولات رموز سياسية وتفاوضها مع الجيش، ولأن الثورة لا مركز لها يعلن عن هذه الشرعية – كما هو الحال في حركة الظباط الأحرار في 1952– لذلك ترى ضرورة أن تكون أقرب هيئة منتخبة تعبيرا عنها ولا تريد أن يظل الجيش متحدثا باسم هذه الشرعية الثورية التي انتزعها الشعب.

هناك «نعم» تريد أن تلتقط أنفاسها بعد التسارع الجنوني للإيقاع الفترة الماضية، وهناك «نعم» تريد أن تشمر فورا للمعركة الديمقراطية متفائلة بنفس الإيقاع. هناك «لا» تريد استمرار الإيقاع الثوري وترفض الهدوء والقبول بما تراه أنصاف حلول، وهناك «لا» تريد أن تلتقط أنفاسها قبل المعركة الديمقراطية.

الجدل المحتدم المضغوط في الفترة القصيرة الماضية يعكس مشهدا مثيرا للتفاؤل. «نعم» و«لا» التي تقال باهتمام وحماسة هي أكثر من «نعم» و«لا» باردة في خانة استفتاء. الاهتمام السياسي الوطني المتوقد حاليا يقول أنه مهما كانت النصوص فإن إرادة هؤلاء الذين يعتنون بمصيرهم بهذه الحماسة لا يمكن أن يتم تجاوزها دون رضاهم.


06 March 2011

ليلة اقتحام أمن الدولة بمدينة نصر: النظام القمعي مقلوبا



بعد الرابعة عصرا بقليل، كنا لا نزال أقل من مائة متظاهر أمام مقر أمن الدولة بمدينة نصر، نحدق في مبانيه الضخمة المهيبة ذات الشكل الهرمي المقلوب. باستثناء بعض الرهبة التي تجاوزناها سريعا كان المشهد لوحة كاملة للنظام القمعي مقلوبا.

كان النشطاء في الطريق يتصلون ببعضهم ويتضاحكون من أنهم للمرة الأولى يتجهون هم بأنفسهم إلى مقر أمن الدولة الذي تم اقتيادهم واستدعاؤهم إليه قبلا. يذهبون هذه المرة لحصاره. الأعداد القليلة تتجمع أمام الناصية التي تلتقي فيها زاوية سور المقر بمبنى قسم الشرطة. الضباط على أبواب القسم لا يتجاوزونه. أعداد من الشباب السلفيين تتوافد، حواجبهم معقودة وبداخلهم غضب مكتوم، واحد منهم يقول: كنت أمر من هنا وأضع عيني في الأرض قهرا، اليوم لن أمشي إلا عندما نخرج ومعنا كل إخواننا المتعقلين بالداخل!

نترك الناصية ونتوجه إلى الرصيف المقابل لأحد الأبواب الإلكترونية التي تسدها مدرعة جيش وعدد قليل من جنود الشرطة العسكرية. الأعداد تزيد، فنتقدم ونحتل الجزيرة الوسطى ونقترب أكثر من الباب. بعض الشباب مهووسون بتنظيم المرور ووضع حد لصفوف المظاهرة لكي لا يتعطل الشارع، آخرون يتفاوضون مع بعض ظباط الجيش. يحاول الضباط تهدئة المتظاهرين بأن العمل مجمد والمقر خال. المتظاهرون يطلبون التأكد بأنفسهم، وضباط الجيش ينظرون إليهم في دهشة!

شاب سلفي اعتلى أكتاف الشباب وبدأ يهتف بحرقة ويقسم: مش هانمشي إلا لما ندخل!

تزداد أعداد المتظاهرين في سرعة إلى عدة مئات ثم عدة آلاف. وتبدو أعداد جنود الجيش والشرطة العسكرية قليلة، ويبدو أنهم لم يتوقعوا إلا مظاهرة رمزية. يتقدم المتظاهرون ويحتلون الشارع أمام المدخل مباشرة ويتركون حارة واحدة لمرور السيارات. عدد كبير من عربات القمامة يمر بشكل يثير ريبة المتظاهرين. يوقفونها ويعتلي الشباب العربات ويفتشونها: لا شيء، مجرد قمامة. أعدادنا تزيد ونحتل الشارع بالكامل. تتوجه مجموعة لإغلاق مدخل الشارع وتوجيه السيارات إلى شارع آخر. يشك الشباب في عربة قمامة أخرى ويعتلونها ويجدون بداخلها أكواما من الورق المفروم. عند المفرق يلحظ أحدهم شارعا جانبيا مؤديا إلى مدخل للسور الكبير الذي يحيط بمقر أمن الدولة لا تحرسه سوى مدرعة واحدة وجندي واحد. يصرخ الشباب ويجرون إلى المدخل. ينظر الجندي فوق المدرعة إلينا في ذعر ودهشة ولا يحرك ساكنا. يتجاوز الشباب المدرعة ويكسرون الباب الحديدي العادي ويدخلون إلى ساحة بها مبان ملحقة ويتجهون فورا إلى باب داخلي مؤد إلى مباني أمن الدولة. المجموعة التي تصعد السلم وتحاول كسر قفل الباب تهتف بالشهادتين وتصرخ: أهلا بالشهادة! حدقت أنظارنا في الداخل، توقعنا طلقات قناصة أو ظهور ضباط أو جنود. ولكن الشباب كانوا يقتحمون الباب ويعتلون السور وهم يصرخون: الله أكبر!

انتشر الشباب في المباني المختلفة، يكسرون الأبواب بأقدامهم وبطفايات الحريق، يقلبون في الأوراق والملفات وينصحون بعضهم بعضا بالحفاظ على كل شيء. أحدهم انتابته هستيريا وأخذ يركل الكراسي ويرمي بالأدراج ويركل المكاتب، فاحتضنه أحدهم هاتفا: مش هانخرب حاجة، حافظوا على كل حاجة!

أمام ثلاجة مياه وقف بعض الشباب يتناقشون حول أحقيتنا في شرب هذه المياه، وأحقيتنا في أخذ تذكارات من مكاتب الضباط.

آخرون يهتفون أن الأولوية هي العثور على أماكن احتجاز المعتقلين. بين حين وآخر يخرج شاب هاتفا أنه كان محتجزا في سجن الاستقبال، بعضهم يشكك ويقول إنهم كانوا من العمال القلائل الباقين في المبنى، يذوبون وسط الزحام ويشتركون في تفتيش المكاتب وحمل الملفات إلى الخارج ويرفضون الحديث مع أحد، بعضهم يبكي وبعضهم يصرخ: تحيا مصر .. تحيا مصر!

سريعا يشكل المقتحمون مجموعة لاستلام الملفات وتجميعها قرب المدخل. شباب سلفيون ينخرطون في بكاء وهم جالسون على مكاتب الضباط يقلبون في الأوراق. بين حين وآخر يدوي هتاف: ملف كنيسة القديسين! ملف عبارة السلام! ملفات الإخوان هنا!

شباب فتحوا أجهزة الكمبيوتر وانتزعوا منها القرص الصلب وسلموه إلى اللجنة بالخارج.

جنود الجيش والشرطة العسكرية يتجولون في الممرات حولنا غير مصدقين ويحاولون إقناع الشباب بالخروج. شاب سلفي يصرخ فيهم: أنا اتعذبت هنا! مش خارجين! يقترح البعض: مش هانمشي إلا لما النيابة تيجي وتستلم المبنى والملفات! ينتشر الاقتراح ويتحول إلى إجماع: لن نسلم الأوراق إلى الجيش، نريد لجنة من النيابة والقضاء لتستلم الملفات والمبنى.

يحاول الجيش إيقاف سيل المواطنين الذين سمعوا بالاقتحام وتوافدوا إلى الداخل. كثيرون يلتقطون صورا تذكارية في مكاتب الضباط، وبعض الشباب وصلوا إلى قمة المبنى الرئيسي وأنزلوا علما فوقه وسط هتافات الشباب.

الشباب يضعون الأعلام على السور خلف أكوام الوثائق والملفات والأقراص الصلبة. أكوام أخرى من الوثائق المفرومة. شاب يصرخ بجانب كومة مفرومة: الجيش اتأخر ليه؟ فرموا الملفات المهمة!

يطلب الجيش من الشباب الابتعاد عن الملفات، ولكن الشباب يرفضون ويتفاوضون مع أحد الضباط ويقنعونه بتشكيل مجموعة لحراسة الملفات مع بعض الجنود. نجلس فوق أكوام الملفات وأمامنا صف من الجنود المسلحين.

يحضر مستشار يعرف نفسه للشباب بأنه المستشار وليد شرابي. يطلب ظابط الجيش منا الرحيل فيرفض المستشار ويطلب اختيار عشرين شابا يبقون معه للمساعدة في نقل الملفات ويختارهم من بيننا.

نعرف أن أعدادا أكثر تتجمهر بالخارج، أنباء عن وصول النائب العام إلى المبنى. نشاهد المستشار زكريا عبدالعزيز يدخل. يطمئن الشباب ويبدأون في طاعة أوامر الجيش بالخروج بعد خضوعهم للتفتيش. في الخارج حشود كبيرة تتجمهر أمام المداخل وتشير بعلامة النصر للخارجين والكل يهتف: أمن الدولة بره! مصر هاتفضل حرة!


05 March 2011

الشرعية في الميدان




ظهر أمس اشتريت علما للمرة الثانية في حياتي. المرة الأولى كانت بعد سقوط مبارك. هذه المرة لوحت به ورئيس الوزراء الجديد عصام شرف يلقي كلمته في ميدان التحرير بعد أن لبى دعوتنا لبدء عمله من الميدان ليستمد شرعيته منه. الثورة أكبر بالطبع من ميدان التحرير ولكن الميدان الرمز الأبرز للشارع، وفي الشارع كانت الثورة ولا تزال.