31 October 2010

بكرين


لو كانت السخافة سائلا لكان منسوبها قد تجاوزارتفاع الحاجز الذي أوجع استنادي إليه ظهري في مؤخرة العربة نصف النقل. كانت العربة تشق طريق الظافرية من وسط سيوة لتأخذنا في جولة إلى جبل الدكرور وما حوله. ولو لم نكن وصلنا في تلك اللحظة لكنت قفزت في أي مكان وعدت مشيا إلى أي مكان بعيدا عن هذه الصحبة التي جمعت أتعس القاهريين والسيويين والأوريبيين.

كانت مشاعرنا متبادلة وكنت متأكدا أني أيضا في نظرهم مشارك في صناعة بحيرة السخافة التي نسبح فيها. لا أدري إن كانت سيوة لم ترق لي أم أن سخافة تلك المجموعة غير المتجانسة، التي ورطتني زميلتي المصورة في صحبتهم لليلة في الصحراء، قد انتهكت مزاجي.

انتظرتهم حتى قفزوا جميعا قبلي، كنت أستجمع مزاجي لأتحرك، وفكرت أن أنتظرهم هنا بما أنهم كلهم ذهبوا. ولكن شجعني مرأى بعض أفراد الطريقة المدنية الشاذلية يهمهمون ويتمايلون جالسين في مكان ما منبسط يصعد إليه سلم من سفح التل الذي يسمونه جبل.

تسلقت زميلتي المصورة الجبل لتلتقط الغروب ومعها السيدتان الأوروبيتان. تجول القاهريون مع السيويين قرب السفح . صعدت السلم متجها إلى مجموعة الصوفية. خلعت حذائي قبل أن أخطو على الجصيرة الخضراء، وألقيت السلام. ابتسم رجل وقور بتساؤل فعرّفت نفسي، وسلمت على شاب ذي ملامح أوروربية ولكنه يرتدي الثوب السيوي التقليدي، وكهل أسمر ذي ابتسامة عذبة وعينين طيبتين.

الملامح المتسائلة للرجل الوقور كانت تقول لي: هات أسئلتك يا صحفي. ابتسامة الكهل الطيب سألتني: إنت منين؟ قلت له: من إمبابة. اتسعت ابتسامته أكثر- ولم أكن أظن أن هناك أكثر - وقال: يا الله، انا قضيت تجنيدي في مطار إمبابة. اقترب مني أكثر وربت على كتفي: أنتم أهل كرم والله، كل ما كنت أقعد على قهوة أشرب شاي وبعدين أطلب الحساب، صاحب القهوة أو واحد قاعد يقول لي توكّل على الله يا دفعة، الله معاك! شربت الشاي طوال تجنيدي مجانا. تشرب شاي بقى؟
ابتسمت
: طبعا، بس خفيف، شايكم في سيوة تقيل. يضحك: تحت أمرك يا ... اسم الكريم إيه؟

عرفت أن اسمه بكرين، وأنه من منشدي الطريقة، موظف على المعاش في وزارة الكهرباء وعنده حقل زيتون صغير وستة أبناء.
عندما ذهب ليحضر الشاي، تبادلت مع الشيخ الوقور كلاما رسميا عن الطريقة، وحاولت أن أعرف شيئا عن الشاب الأوروبي، فقال لي أنه فرنسي اسمه ستيفن وأنه كان صحفيا قبل أن يصبح
"حرا مثل الفراشة" يقضي نصف السنة في باريس ونصفها في سيوة مع الصوفية، ولكنه لن يتحدث عن حكايته للصحافة، مال عليّ مستبقا: أعرف أنك ستقول أنك لست كباقي الصحفيين، ولكني لن أتحدث إلى أي صحفي. منظر ستيفن يثير شهية الصحفيين بالتأكيد، الأوروبي وسط صوفيي سيوة.
استأت من ستيفن بدون أن أظهر ذلك، فكرت أني أحب روح بكرين وأحب هؤلاء الذين لا يحتلون صدارة المشاهد بسخافة وفي الوقت نفسه لا يتمنعون عن الظهور في تواضع باطنه الترفع
. أحترم بعض الخصوصية، المزيد منها ضد شغلي بوضوح، والوجود في جانب كبير منه ظهور ومشاركة. فكرت أني بالتأكيد سأكتب شيئا عن بكرين، وربما أجعل شيئا يخصه افتتاحية ما سأكتبه عن أعياد سيوة.

كنا قبل يومين من بداية الأعياد، وأعضاء الطريقة يستعدون بمراجعة الأشعار والأناشيد. عاد بكرين بالشاي وأتى صبي ومعه أوراق بها نصوص الأشعار وجلس أمام بكرين مستعدا للإنشاد. طلبت نسخة من الأوراق، فقال ستيفن أنه سيعد واحدة لي غدا، ومال عليّ وأخبرني أنه يبيع شريحة ذاكرة عليها تسجيلات للقصائد وأخبرني السعر. اشتريتها منه فورا وأنا أبتسم وأقول في نفسي في سخرية، مبعثها أنه أحرجني قليلا، أني عرفت من أين تأكل الفراشة!

ولكني فكرت أيضا متعاطفا أنه قد يكون صوفيا هائما أو من هؤلاء الروحانيين المهاويس الذين يجوبون العالم يجربون كل تجليات الروحانية وربما كان باحث أنثروبولوجي يتم هنا بحثه الميداني، وفي كل الأحوال يساعد نفسه ببيع هذه الشرائح للسياح والمهتمين.

أكملت مع نفسي بعض الاحتمالات، منها: قد يكون مندوب شركة تسجيلات فرنسية ستسوّق هذه التسجيلات، ولكن لو كان كذلك لما باعها لي.

انتشلني من أفكاري إنشاد بكرين وهو يعلم الصبي. قصائد بسيطة وعذبة، المعاني نفسها في معظم قصائد الصوفية ولكن بتعبيرات مختلفة: "وتبكيهمُ عيني وهم في سوادها/ ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي". و"تيهتموني في بديع جمالكم/ فلم أدر في بحر الهوى أين موضعي".

في صوت بكرين شجن متعاطف يتلوّن كلما مر على التفاتة رقيقة. كنت على وشك البكاء بالفعل من وقع صوته ورقة القصائد التي كانت تجعلني أشرد متذكرا أحلام الليلة الماضية، زارني فيها بعض من أفتقدهم وبعض من فقدتهم وبعض من لا أعرفهم. تعيدني تلونات صوته إلى الانتباه مرة آخرى مع قصيدة جديدة.

أوقف ستيفن بكرين وسأله عن معنى قصيدة:" لو تهتكنا عليكم لا نلام"، كان بكرين يحاول أن يشرحها له ولكن لم تسعفه التعبيرات. أنا نظرت إليه صامتا، قال لي: إنت عارف معناها؟ قلت له مبتسما : أيوه، بس أنا صحفي ومش هاقول لك؟ فابتسم وضحك بكرين.

كان الصبي قد قام وأكمل بكرين الإنشاد وحده فتناولت الورقة التي تركها الشيخ الوقور وأنشدت معه حتى وصلنا إلى شطر بيت بعينه أخذ بكرين يكرره: "إليكم تذل النفس وهي عزيزة" ولا ينتقل إلى الشطر الآخر. توقفت عن الترديد معه ووضعت الورقة ونظرت إليه. انتبه لذلك فتوقف وقال لي: تعبت؟ ابتسمت وأنا أقول له: تعبت جدا، ولم أدر في بحر الهوى أين موضعي. كفاية ذل بقى!

ضحك وأكمل: إليكم تذل النفس وهي عزيزة/ وليست تذل النفس إلا لمن تهوى.

فكرت أنه يحاول أن يضبط إنشاده على الإيقاع المميز الذي لم أستسغه في البداية حتى اشتركت في الإنشاد ففهمته وأحببته. أخذت أتأمله وهو يردد نفس البيت مرة أخرى، شعرت تجاهه بمزيد من الألفة جعلتني أقاطعه: بخصوص الذل، رامي عياش بيقول: يا حلاوتك وإنت على قلبي قاسي، يا غلاوتك وإنت هاجر وناسي.

انفجر بكرين ضاحكا، وابتسم ستيفن: إيه الكلام ده؟ قلت: دي قصيدة "يا مسهر عيني"، انت فاهم كلام الأغنية؟ هز رأسه أن نعم. فقلت: هو ده التهتك.

هز بكرين رأسه مؤمنّا واتسعت ابتسامته الدائمة مرة أخرى.


الصورة: أنا وبكرين، خلفنا بعض متاع أهل الطريقة وعلى يسراي آثار معركة مع ناموس سيوة - تصوير: مصطفى أحمد

6 comments:

ألِف said...

جميل
:)

ahmad said...

هه!
فاكر المدونات...
افتقد مثل هذه الكتابة
:)

faisal said...

تذلل لمن تهوى فليس الهوى سهل
ففي حبه يحلو التهتك والبذل :)

Rana said...

(شعرت تجاهه بمزيد من الألفة جعلتني أقاطعه: بخصوص الذل، رامي عياش بيقول: يا حلاوتك وإنت على قلبي قاسي، يا غلاوتك وإنت هاجر وناسي.

انفجر بكرين ضاحكا، وابتسم ستيفن: إيه الكلام ده؟ قلت: دي قصيدة "يا مسهر عيني"، انت فاهم كلام الأغنية؟ هز رأسه أن نعم. فقلت: هو ده التهتك.)

:D

citizenragab said...

فشيخ جدا
مت من الضحك في منطقة رامي عياش

Anonymous said...

مساء الخير جميعا

اليوم يكمل كريم عامر اربع سنوات في السجن بالتمام و الكمال