عندما انتهيت من قراءة سيرة عبد الوهاب المسيري غير الذاتية –غير الموضوعية "في الجذور والبذور والثمر"، كان ذلك قبل خمس سنوات، وكنت في أتوبيس عائدا من السويس في رحلة عمل.
قرأت معظم الكتاب في الأتوبيسات والقطارات أثناء رحلات العمل، ولما انتهيت بدا لي العالم لحظة أغلقت الكتاب مختلفا عن ذي قبل. ولكني ازددت دهشة عندما بدا الطريق أيضا مختلفا، وكنت قد حفظته عن ظهر قلب ذلك الوقت، حتى اكتشفت عندما انتهت الرحلة في طنطا أنني ركبت الأتوبيس الخطأ بسبب شوقي لقراءة الصفحات الأخيرة.
ومن طنطا للقاهرة أعدت قراءة فصل "من بساطة المادية إلى رحابة الإنسانية والإيمان" باهتمام شديد.
أذكر أني بحثت في الإنترنت وعثرت على بريده الإلكتروني في موقع ما، وأرسلت له رسالة تضمنت سطرا أو سطرين عن الكتاب لا أذكر عنهم شيئا، ولكن ما أذكره جيدا أني أنهيت رسالتي قائلا:" استمتعت بصحبتك، وأود أن أقول إنني أحبك في الله".
لم أتلق منه ردا.. ولم يكن هذا مانعا أن أواظب في فترة لاحقة على حضور محاضرته الشهرية في جمعية "مصر للثقافة والحوار"، كما لم يكن سببا لكوني لم أتبادل معه كلمة أو أبدي تعليقا أو مداخلة خلال محاضراته. كنت أكتفي بمتابعة حديثه الشيق، وعندما كان يضع سبابته على فمه ويقول أنه سيذكر موقفا ما، كنت أخمن أي موقف من سيرته سيحكي.
كنت أرقبه وهو يمتع الحضور، بينما يضعهم في فوضى وهو يستخدم المصطلحات كما يحب لا كما تواضع عليه الاستخدام العام، وأتابع سجاله مع الحاضرين الذين أدهشهم انتقاده للعلمانية ، كما أرقب دهشة الشباب الإسلامي، الذين يعجبهم حديثه عن ضرورة "المرجعية الإسلامية"، عندما يجدونه خارجا متوكئا على ذراع ابنته غير المحجبة. سألني أحدهم مرة بحيرة شديدة كيف يترك زوجته وابنته غير محجبتبن بعد أن أصبح "مفكرا إسلاميا"! غير أن القاضية كانت عندما اعترف المسيري أنه لا يحضر صلاة الجمعة لأنه لا يضيع وقته في الاستماع لـ"هؤلاء الخطباء".
من الواضح أنه لم يكن نمطيا، و أنه كان يهوى "التفكيك والتركيب" وإعادة إبداع المفاهيم وفق نسقه الخاص. إلا أنه مع ذلك كان يملك بساطة الانحياز، التي جعلته يتجاوز حالة المفكر الذي يظهر في الصور يحك رأسه، إلى حالة أكثر تركيبا تجمع بين عمله البحثي والفكري وبين كونه أحد مؤسسي حزب " الوسط" وأحد رموز حركة "كفاية" ثم منسقها العام. وكان وجوده -وهو الذي يناهز السبعين- في مظاهرات كفاية إشارة إلى أن أصالته كمفكر ليست وليدة علاقة بالورق، بقدر ما وليدة علاقته الحميمة بالعالم عبر خياراته ومواقفه، وتأمله لهذه العلاقة والخيارات والمواقف. سيرته بدورها لم تتضمن مسارا لتطوره الفكري، بل كانت هي وقائع تطور أفكاره التي عاشها و"التزم" بها بحماسة الشباب حتى آخر لحظة.
ولكن البهاء الكبير لصورة الباحث الموسوعي في اليهودية والصهيونية وأستاذ الأدب ذي اللغة المحببة والمناضل بجسارة ضد النظام .. لهذا البهاء مخاطره أيضا. فصورة المفكر الذي انتقد "التسلع" لم تنج من ذلك، وأظن أنه من الصعب لوم التيار الإسلامي على "تسويقه" لصورة المسيري كمفكر إسلامي ناقد للعلمانية والغرب، في غياب واضح لملامح "المرجعية الإسلامية" التي يطرحها بالمقابل، بينما تختلف قطعا عن تلك التي ينادي بها معظم الإسلاميين.
كما أن هذا البهاء الذي جعلني أكتفي بمتعة الاستماع إلى محاضراته، كان سببا أيضا ، فيما يبدو، في أني سمعت انتقادات موجهة للمسيري ولأرائه، بينما ندر أن أقرأ ذلك.
ورغم أن الأهمية الكبيرة لعمله الموسوعي ولأطروحاته حول مشكلات مهمة تجعل من التناول النقدي والمناقشة الواسعة لكليهما طريقا لا بد منه لمحبيه ومنتقديه على حد سواء، لا أذكر أني قرأت في مطبوعات سيارة نقدا لموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، أو مراجعة هادئة لإنتاجه الغزير في نقد الحضارة الغربية. بل إن كاتبا صحفيا بارزا وجه انتقادات لتكرار بعض الفصول في أكثر من كتاب للمسيري، قال ذلك دون أن يذكر اسمه وكان على أن أخمن. لذا قلت لصديقي "نواف القديمي" عندما أجرى معه حوارا سجاليا نشر في جريدة "الشرق الأوسط" أنني أخيرا قرأت كلاما للمسيري في مواجهة محاور بعد أن قرأت له كثيرا مما قاله في حضور "حواريين"، ولا ألومهم.
قبل أن أستيقظ صباح الخميس على رسالة تعزيني في وفاة المسيري، كان عمرو عبد الرحمن، الصديق والزميل في مجلة "البوصلة"، يحدثني مساء عن إنهائه لمقال للعدد القادم من المجلة في نقد رؤية المسيري للرأسمالية، وكنت أفكر في مقال مماثل في مناقشة أطروحته حول العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة.
سيفتقد كلانا ،وآخرون بالتأكيد، حضور الراحل العزيز. ولكن أتمني أن لا يمنع جميل ذكراه المناقشة الواسعة لأفكاره، بعد أن منع بهاء حضوره بعض ذلك.
14 comments:
شكرا ياعمرو ، مقال يدفع للقراءة والبحث ،لست على علم بالملامح المختلفة للمرجعية الإسلامية التي يطرحها المسيري، أحسست كم ينقصني الكثير لأني لم أقرأ إلى الآن سيرته التي كتبها ،وسأفعل قريبا إن شاء الله ، بانتظار مقالتك التي تناقش أطروحة المسيري رحمه الله حول العلمانية ، وكذا مقالة عمرو عبد الرحمن ..
بساطة الانحياز .. هذا المعنى يحتاج لمدونة وحده حقا ..
رحم الله الرجل
فقد كان رجلا
انا مش عشاق فكر المسيري بشكل جنوني
و هو حقا كاتب اسلامي و حتي ان افتقد الشكل التقليدي للكاتب ا لاسلامي و لكني اراه افقة و اكثر علما و تطبيقا من مسلمين كثيرين متشدقين بالمظاهر و لكن لا يدرون عن دينهم ابسط قواعد العمل او الاخلاص او حسن الخلق و دماثة الاخلاق
انني سوف ا فتقد نبعا متدفقا من الحكمة و التي قلما توجد في هذا العصر... سيترك فراغا فلسفيا متسقا مع عمق فكرنا الاسلامي و فلسفتنا الاصيلة بفهل عقلاني منقطع النظير دون تغريب و توجه علماني قميئ
نعيك له جميل و هادئ للغاية
و ا تمني ان تعقج حلقات للنقاش في فكره بشكل مثمر و ان كنت اشك ان يتم تناول فكره بمثل السلاسة التي كان قدمها
اسكنه الله فسيح جناته ,
يا خسارة
يا بختكم يا من اتيح لكم حضور لقاءاته الحية بانتظام
هل تم تسجيل هذه اللقاءات، في زمن الفيديو واليوتوب؟ أم أنها تركت لتضيع في محدودية اللحظة وتعداد من حضروها؟
رحيل كان لابد ان يكون لان الله يقدر دائما ان يكون العظماء اصحاب المبادرة ومن خلفهم يسير الناس
رحم الله الدكتور المسيري
ادعوك لزيارة مدونتي واتمني التواصل الدائم بيننا
قرأت نقدًا للمسيري في كتاب مجدي يوسف: محاورات نقدية، وهو من منشورات الهيئة العامة للكتاب.
الله يرحمة
كان شخص محترم جدا
صفية الجفري
شكرا لتعليقك
وسيرته من أجمل ما قرأت وأكثره صدقا وثراء
شمس الدين:
بالفعل، كان يمتلك سلاسة وأسلوبا جميلا جعلاه قريبا من القراء رغم صعوبة الموضوعات التي تناولها.
ربما يكون صدور العد الخامس من البوصلة قريبا فرصة لنقاش حول بعض أفكاره.
محمد شدو:
جمعية مصر للثقافة و الحوار تقوم بتسجيل كل ندواتها على شرائط كاسيت
علكت مؤخرا أنهم بدأوا في تخزين ملفات صوتية للندوات على اسطوانات
سأحاول متابعة هذا الأمر، و سأحثهم على نشر هذه التسجيلات على الإنترنت.
محمد
شكرا لأنك ذكرتني بهذا الكتاب، إذا كان ما تقصد هو "معارك نقدية"، هو أيضا صادر عن الهيئة العامة للكتاب و عندي طبعة مكتبة الأسرة منه.
أذكر أني اشتريته لأني وجدت على غلافه أنه في نقد المسيري وجلال أمين وآخرين.
لا أخفي إحباطي من الكتاب، فبرغم ما يبدو واضحا من أن د.مجدي يوسف واسع الإطلاع "متبحر" في الفكر الغربي، إلا أنني لم أجد منه تطويرا لكم المعلومات التي ذكرها، باتجاه تكوين فكرة ما أو أطروحة مقابلة لما يطرح المسيري. و إن فعل في مسألة ما فأنه يقتضب جدا في المناقشة بينما يسهب في سرد المعلومات والخلفيات.
ناهيك أن معظم النقاش كان حول فلاسفة مدرسة فرانكفوت.
وقعت أيضا على مناقشة مقتضبة لمقال المسيري عن معالم الخطاب الإسلامي الجديد، كتبها د. علي مبروك في " لعبة الحداثة .. بين الجنرال و الباشا " نشر دار رؤية.
ومبروك ، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، ينتقد المسيري في محاضراته باعتباره رفاعة الطهطاوي الجديد، فيما يخص نفده للحضارة الغربية. و لكني لا زلت أظن أن مناقشة أفكار المسيري لا زالت دون أهميتها وإشكاليتها وجماهيريتها النسبية بين أوساط القراء و المهتمين.
شكرا على معلومة صلاة الجمعة
للاسف لم يخب ظني
ومفيش صدمات...عادي خالص...
قد افضى الى ربه
:))
خللي كل واحد شايف انه ذو عقل ونظرة...يبقى ينفعه عقله - او لنقل شيطانه من يزين له المنكر معروف - امام حساب الله
أحسن الظن بالله وبعباده يا أخي ( الصارم الحاسم ) .. اسمحلي ياعمرو أحيل على مدونتي في مناقشة موضوع صلاة الجمعة
نعم هو معارك نقدية. أعتذر لأنني بعيد عن مكتبتي وأكتب من الذاكرة.اشتريت الكتاب لنفس أسبابك :)
أوافقك أن مناقشة أفكاره لا زالت دون الكم والانتشار اللازمين.
كلامك عن مقاله عن الخطاب الاسلامي الجديد - أحد أقل دراساته مستوى في رأيي، وتكشف عن المام أقل من المامه وتمكن أقل من تمكنه من بقية ما كتب فيه- يذكرني بنقد متميز لها كتبه بشير موسى نافع ونشر في كتاب " في عالم عبد الوهاب المسيري" ، الجزء الأول على ما أذكر.
كنت اعتقد ان لا يوجد ما يسمي قدوة وان البشر لا يصلحون ان يكونوا قدوة لانهم بشر و الفارق بينهما هو مدى قوة كل فرد على نفسه وشيطانه
ولكني اكتشفت ان فى حياتنا من يستحق التامل و التوقف عنده وعند مواقفه ..ان لم نتخذه قدوة نتخذ من مواقفه و فكره و بعض خصاله -ان لم تكن كلها - قدوة
رحم الله الفقيد
تحياتي
لم اقرأ سيرته بعد
ولكنك الان تدفعنى دفعا الى وضعها على قائمة اولوياتى
فشكرا لك
Post a Comment