لأنه لا يمكنك أن تطلب المطافئ من أجل شرارة صغيرة. إذن اجعلها حريقًا ضخمًا واملأ الدنيا صراخًا، لكي تتسابق المطافئ إليك.
يبدو أن هذه فلسفة قادة موجة الغضب ضد «الفيلم المسيء» وما
بعده. مشعلو الحرائق من «الإعلاميين الإسلاميين» والدعاة ورجال الأزهر
والإخوان والسلفيين ومن ركب معهم السفينة، اقتناعًا أو مسايرة وخوفًا من
الوقوف ضد انتفاضتهم المباركة والجموع الهائجة التي خلفهم، يعلنون الآن أن
حريقهم الذي صنعوه من شرارة يؤكد ضرورة التشديد في الدستور والقانون، بل في
دساتير وقوانين الدول الأخرى وإقرار اتفاق دولي على مطاردة ومحاكمة أي
تعبير يرونه ازدراء للدين والمقدسات. بل شكل عدد منهم ائتلافًا لمطاردة كل
تعبير يرونه إساءة يسمعون عنها للإسلام، وسموا هذا الائتلاف «صوت الحكمة«!
حسنًا..المبجلون أصحاب «صوت الحكمة»
يقترحون مرة أخرى مطاردة الشرارات في كل مكان. وهكذا يمكن أن تتحول كل جملة
أو مقال أو فيديو على الإنترنت إلى قضية وطنية أو عالمية، وبالتالي تنتشر
الإهانة ويحتدم الصراع من أجلها في ساحات المحاكم وفي اشتباكات الشوارع.
وتتكسر مشاعر المؤمنين من مطاردة مضمون الإهانة في كل وسائل الإعلام
العالمية والمحلية.
من لديه أدنى فكرة عن وسائل الاتصال الحديثة يدرك أن التحكم
في مضمون كل ما يبث وينشر هو العبث بعينه، خاصة على ساحة الإنترنت. ووسط
الجدل المحتدم على أكثر من صعيد وأكثرهم سخونة هو الجدل الديني، فإن
التعبير الانتقادي الحاد والساخر أمر معتاد ومتكرر بشكل يستحيل ضبطه.
ومضمون الفيلم موضوع الضجة مثلا موجود في آلاف المقالات والمواقع والكثير
من المراجع عن تاريخ الإسلام وكتب المستشرقين والكثير من الفيديوهات أيضا
التي تقوم بالمقارنة بين الأديان وتنتقد الإسلام وتاريخه. وفي المقابل هناك
سيل من المقالات والفيديوهات والكتب المماثلة التي تنتقد بحدة وسخرية
وبعنف بالغ وبتعمد في الإهانة الأديان والعقائد الأخرى وأهلها. وليس ما
فعله أبو إسلام وما خرج من جوف الداعية وجدي غنيم إلا نماذج مألوفة من
«الخناقات الدينية» الأشد ابتذالاً التي تجري كل يوم على الإنترنت وفي
ساحاتها الحوارية.
محاولة إيقاف ذلك أو معاقبة كل مشارك هو العبث بعينه وهو
التخريف الذي يؤدي لتحويل الدولة والشرطة والقضاء إلى هيئة تربوية فارغة من
المسؤوليات تقريبًا، إلا من مراقبة كل ساحات الجدل والحوار لتتأكد أن
الشعب يتناقش بأدب وخلق.
ولكن الحقيقة أن الدولة لم تكن ولن تكون بهذا العبث الضروري،
إن كنا نريد فعلا وقف كل أشكال وتنوعات التعبير المهين والمسيء. فما يحدث
الآن هو ما حدث سابقا طوال التاريخ وكانت نتيجته واحدة.
أن كل النصوص الدستورية والمواد العقابية عن ازدراء الأديان
والذات الإلهية والشخصيات المقدسة لم تستخدم لضبط الحوار ولم تنجح في ذلك،
لكنها فقط قامت باستخدامها في حماية الدين الذي ينتمي إلى السلطة
والأغلبية. وحاكمت من يرى الذات الإلهية بشكل مختلف عما تراه السلطة،
وعاقبت من مس قداسة الشخصيات التي تراها السلطة والأغلبية مقدسة.
النماذج متعددة في التاريخ، لكن أبسطها هو ابن تيمية، الذي
يعد المنظر الأهم للمنهج السلفي، الذي حوكم في مصر، لأنه قدم تصورًا
لتفاصيل في العقيدة رآها علماء المذاهب الأربعة تصورًا شاذًا عن الذات
الإلهية، ولأن رأيه كان حادًا في أقطاب الصوفية مثل ابن عربي فاعتبروا
كلامه مهينًا للشيخ الأكبر.
تمت محاكمته على أفكاره وازدرائه للدين وبسبب التقارب بين
الصوفية وأعداء ابن تيمية من العلماء وبين الحاكم تم سجنه أكثر من مرة في
مصر لمدد متفاوتة وصل مجموعها عامين، حتى أفرج عنه عندما تعاطف الحاكم مع
فكره.
ابحث عن السلطة!
والآن، تتهادى الدعاوى القضائية وتتبختر في طريقها إلى أمثال
أبي إسلام الذي مزق الإنجيل أمام السفارة الأمريكية وإلى وجدي غنيم الذي سب
وشتم القساوسة والرهبان. رغم أن مضمون كلامهم شاهده الملايين على وسائل
الإعلام وعلى الإنترنت. لكن محاكمة ألبير صابر تسير بسرعة البرق، بسبب كلام
له على الإنترنت لم نكن نسمع به أصلا لولا تحريض ضده من صفحات إسلامية
سلفية أدت لتجمهر حاول الاعتداء على بيته وهدد أسرته. طبعا يحاكم ألبير
صابر لكن جموع المجرمين الذين حاصروا المنزل وهددوا أسرته لم تتم مساءلة
أحدهم. وكما تروي والدة ألبير في مؤتمر صحفي أن الضابط قال لها: «لا يمكنني
إبعاد المتجمهرين ولذلك سأقبض على ابنك حماية لكم».
وها هو ألبير الذي أخذه الضابط حماية له، وأخذ حاسبه الشخصي
أيضا، يُسأل في النيابة عن عقيدته وعن مواظبته على أداء الشعائر الدينية،
ويتعرض لمحاكمة قد تؤدي به إلى السجن مدة تصل لخمس سنوات. لكن من لم تستطع
الشرطة حماية ألبير منهم أحرار طلقاء. ذهبت بنفسي بعد القبض عليه ووجدت
بعضهم يجلس يتسامر مع قوة الشرطة التي تواجدت أسفل المنزل لأيام، تحسبًا
لأي طارئ. ويشترك الضباط والمواطنون الغيورون في ممارسة السخافة على
الصحفيين والحقوقيين الراغبين في متابعة القضية.
سول الجدل الديني المليء بالسخرية والانتقاد العنيف والإهانة
المتبادلة موجودة على صفحات الإنترنت، ولكن سلسلة المحاكمات بازدراء
الأديان لا تمس إلا الجانب الأضعف، الأقلية. والدعاوى التي يتم تحريكها ضد
أطراف قوية لا تتحرك بنفس السرعة والحماسة.
منذ انطلاق الثورة فقط، رصدت «المبادرة المصرية للحقوق
الشخصية» عددًا بلغ 14 دعوى ازدراء أديان – قبل التحقيق مع خالد عبد الله
وأبي إسلام - بعضهم كانوا ضد أطراف قوية تنتمي لدين الأغلبية أو شخصيات
عامة ورجال أعمال »ساويرس (قضيتان)، عادل إمام (قضيتان)، يحي الجمل، أحمد رجب ومصطفى حسين».وبالطبع
لم يسجن واحد منهم ولم يتم القبض عليه، رغم أن تعبيرهم محل الشكوى وصل
لأكبر عدد من الناس. ولكن الضحايا الآخرين فيهم واحد مسلم اتهم بإهانة
الإسلام بالإضافة لـ6 مسيحيين وواحد مسلم شيعي. وتم اتهامهم نتيجة أفعال
محدودة لم تصل للإعلام ولم يسمع بها عدد كبير، ومعظمها مناقشات شخصية بين
موظف وزميله أو حوارات على الإنترنت.
وكلهم تم القبض عليهم سريعًا وتعرض معظمهم لاعتداء بدني وسوء
معاملة كما حدث لألبير، وفي أكثر من محاكمة دعت تجمعات سلفية للتجمهر أمام
مكان المحاكمة أو داخلها وتم الاعتداء على المحامين في أحد هذه المحاكمات،
وفي كل تلك المحاكمات التي تخلو من ضمانات المحاكمة العادلة حصل المتهمون
على أحكام بالسجن تصل إلى 5 سنوات.
امنح السلطة أداة طيعة للقمع!
ابحث دائما عن الخط الفاصل بين السلطة والأغلبية وبين الطرف
الأضعف والأقل في قضايا محاكمات الرأي والتعبير و«ازدراء الدين» يمكنك أن
تجد التفسير الواضح.
والأمر لا يخص التطبيق فقط. فصياغة المادة 98 وتعاقب «كل من
استغل الدين فى الترويج أو التحبيذ بالقول أو بالكتابة أو بأي وسيلة أخرى
لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية
أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلام
الاجتماعى». وهذه الصياغة الفضفاضة كانت تصلح لمحاكمة الإخوان المسلمين
والسلفيين وتصلح الآن لمحاكمة محمد أبو حامد ومعارضي الإخوان، والعقلية
التي تمثلها هي التي حركت محاكمات ابن تيمية السابق الإشارة إليها.
الصياغة المقترحة في الدستور أيضا التي تنص على صيانة «الذات
الإلهية والأنبياء والصحابة وأمهات المؤمنين والخلفاء الراشدين»، هي صياغة
واضحة بنفسها في حمايتها وصيانتها للمقدسات فقط من وجهة نظر الأغلبية
المسلمة السنية. لا إشارة مثلا للقديسين المسيحيين؟ أليس لليهود مقدسات؟
أليس من حق أبناء الطوائف الصغيرة مثل الشيعة والبهائيين أيضا حماية
مقدساتهم من الإهانة؟
ما هذه الأسئلة السخيفة! هؤلاء مرهونون برأي الأغلبية المسلمة
السنّية فيهم، وهذه المواد هي عصا السلطة والأغلبية فقط. وادعاء حماية
المقدسات كان دائما أداة السلطة والأغلبية لحماية الذات الإلهية «كما
يرونها» والشخصيات المقدسة الخاصة بهم فقط.
طوال التاريخ لم تنجح هذه المحاكمات والمطاردات في وقف إساءات
متبادلة للمشاعر وإرساء الاحترام المتبادل، بل كانت أكبر إساءة تاريخية
لها. وتم استخدامها دائما لمواجهة أي فكر أو تعبير يحاول مراجعة ونقد ما هو
سائد عند السلطة والأغلبية باتهامه بإساءة الأدب والتعبير، بدءًا من اتهام
معظم الأنبياء بإهانة مقدسات القوم الذين أرسلوا إليهم، مرورًا باتهام
العلماء والصوفية والفلاسفة والأدباء والفنانين بإهانة المقدسات، بينما هم
في الحقيقة يناقشون «أفكار أناس آخرين عن المقدسات» أو يجادلون في كونها
مقدسات أصلاً.
هناك شعوب تعلمت نسبيًا دروس التاريخ وأوقفت محاكمات التعبير
مهما كان مسيئة. لم تتوقف الإساءات والشرارات لكنها لم تشتعل حرائق، حتى في
وجود أعمال سينمائية وكتب ذائعة تنتقد بحدة وسخرية السيد المسيح والمسيحية
في دول ذات أغلبية مسيحية.
ولكن مطاردوا الشرارات عندنا لا يريدون أن يتعلموا، بل يريدون أن يعلّموا العالم، ويحثوه على سن تشريعات عقابية مسيئة مثل التي عندنا!
الهيئات الدعوية التي تشكل الآن حياتنا السياسية، بدءًا من
الإخوان المسلمين والدعوة السلفية، وانتهاءً بالقيادة الأزهرية التي يريدون
لها المرجعية، التي لا تستطيع أن تميز بين دورها الدعوي المتعلق بالمشاعر
والعقائد والإيمان المتعلق بطائفة من الناس، وبين دورها السياسي الذي «من
المفترض» أن يحمي مصالح «كل الناس» وحقوقهم وحرياتهم في توازن بين السلطة
والأغلبية وبين معارضتها والأقليات، وهذا هو هدف السياسة والقانون والعقاب
الجنائي الذي لا يطال في هذه القضية إلا الضعفاء لدينا والذين سيدفعون ثمن
الحريق الكبير الذي أشعلوه بلا طائل!
فكروا في الضحايا الذين هم من لحم ودم تحت عجلات القوانين التي تريدون تشديدها وتصعيدها في الدستور. فكروا في ازدراء وإهانة الإنسان بدلاً من المزيد من الإساءة لأنفسكم ودينكم والمزيد من الحرائق والضحايا وأوقفوا محاكمات الكلام
No comments:
Post a Comment