فيم كنا نتحدث قبل أن يقرر عدد كبير من المسلمين أن يصبحوا مجاميع كومبارس لمنتج مغمور نشر مقاطع من فيلم تحت الإنشاء عن الإسلام؟
كنا نتحدث عن «الحماسة السلفية» التي تتقدم وتجر قاطرة «التفكير الديني الراكد»،
وأعتقد أنه ظهر واضحا الأيام الماضية كيف تقدمت الحماسة السلفية فعلا وكيف
انكشف مستنقع التفكير الديني الراكد كله في معركة خائبة ضد مقاطع من فيلم
مجهول، ولكني لا أعتقد أن الأمر بلا فائدة. حتى هذا الفيلم البائس، أو
بالأصح الفيلمين – الموجود على يوتيوب والموجود على أرض البلدان المسلمة -
ليسا بلا أدنى فائدة. فالحكمة ضالة المؤمن. هي في الحقيقة ضالة المؤمن
الذي يتقبل انتقاد إيمانه أو مراجعته. أما الكثير من المؤمنين بأديان أو
الكفار بها فهم في الحقيقة أبناء دين واحد هو «ما وجدنا عليه آباءنا».
وهو دين رائع وعظيم ومريح وبداخله كلام كثير عن تلك النعمة التي أنعم الله
بها عليهم فولدوا على الدين الصحيح فلا حاجة بهم إلى مزيد من الحكمة في
هذا الخصوص.
وبهذا الخصوص أود أن أتحدث أولا عن مقاطع هادفة من تلك
المنشورة على يوتيوب قبل أن أتحدث عن المشاهد الحصرية التي لا يبدو لي أن
أحدا ينتبه لإساءتها البالغة للإسلام.
في الثلاثة عشرة دقيقة الموجدين على يوتيوب، هناك مشهد لأناس
يخربون صيدلية مسيحي بينما الشرطة تتفرج والضابط يأمرهم بعدم التدخل وشيخ
ملتح يقف على مسافة يتابع التخريب.
هذا المقطع الهادف من هؤلاء المسيئين ربما نجد حكمة فيه
تنبهنا أن هناك بالفعل الكثير من المصريين المسيحيين يشعر بمرارة لأنه في
كل أحداث العنف الطائفي التي وقعت في مصر كان هناك جموع تهاجم الكنائس أو
بيوت المسيحيين أو محلاتهم، في حالات كثيرة لم تتدخل الشرطة أو تأخرت أو
أعلنت حمايتها للكنيسة فقط ونصحت المسيحيين بمغادرة منازلهم حرصا على
حياتهم، كما حدث في دهشور مؤخرا. وفي كل الحالات لم يحاكم متهم واحد بتهمة
مهاجمة بيوت أو محلات مواطنين، وفي معظم الحالات شهدت جلسات الصلح العرفية
شيوخا يمثلون «الجانب المسلم» ومثلت محاضر الصلح هذه مخرجا ومهربا لجموع المخربين من الغاضبين المسلمين.
المقطع مبالغ بعض الشيء لكن الواقع مسيء بما فيه الكفاية.
المشهد الثاني الهادف هو أيضا مبالغ فيه كثيرا، لكنه مشهد
جامع يتضمن لقطات لأفعال للنبي فيما يخص الحث على الجهاد واتخاذ الأسرى من
الأعداء عبيدا وإماء وأيضا أفعالا تخص العلاقة بين الرجال والنساء ووضع
المرأة بشكل عام. ولا يمكنني التعليق على هذا المشهد والحديث عن المشكلة
فيما يتضمنه من أفكار إلا بالانتقال إلى المشهدين الحصريين الذين لا ينتبه
أحد إلى إساءتهم الأبلغ.
المشهد الأول
الحكمة الإلهية إلى ناس 1 + لحظة زمنية 1 = خطاب وتشريعات 1 ( شرع من قبلنا، رسالات قبل الإسلام)
الحكمة الإلهية إلى ناس 2 + لحظة زمنية 2 = خطاب وتشريعات 2 (المنسوخ من شريعة الإسلام، ما تم تشريعه في لحظة وتم نسخه في أخرى)
الحكمة الإلهية إلى ناس 2 + لحظة زمنية 3 = خطاب وتشريعات 3 (
شريعة الإسلام الناسخة، ما تم تشريعه لاحقا لينسخ المنشوخ وشرع من قبلنا )
الحكمة الإلهية بعد وفاة النبي وناس 3 ولحظة زمنية 4 = خطاب وتشريعات 3
الحكمة الإلهية بعد وفاة النبي وناس 4 ولحظة زمنية 4 = خطاب وتشريعات 3 مع اعتذارات تجميلية وتجديدات شكلية
أتى رجل عدل من نظارته الطبية وقال أنه بما أن الحكمة الإلهية
يتغير خطابها وتشريعاتها بتغير المخاطبين ولحظتهم الزمنية التي تتضمن
ثقاقة وملابسات تاريخية، إذن الخطاب والتشريعات ليسا أبديين، ويبدو انه من
المنطقي أن نفكر في «خطاب وتشريعات 4 » يحاول
أن يسترشد بالحكمة الإلهية ويكوّن حكمة إنسانية تاريخية متنوعة ومتعددة
تتجادل بدون ادعاء امتلاك الحكمة الإلهية بعد أن توقف الوحي بدلا من
الترقيع في خطاب وتشريعات 3.
لم يكن هذا الرجل أول من يقول ذلك، ولكنه ربما قالها بشجاعة
وسمعه علماء الأزهر وعلماء وجماهير التيارات الإسلامية ومنهم الإخوان
والسلفيين، فكفروه جميعا وترك وطنه زمنا ليمكنه أن يعيش في أمان. هذا الرجل
يسمى نصر حامد أبو زيد.
أما التفكير الديني الراكد فما زالت تتوالى عليه الأجيال
واللحظات الزمنية بينما هو عاشق للحكمة الإلهية في تجليها في خطاب وتشريعات
3 » واعتبرها "ثوابت" مع تعديلات واعتذارات
وتجميلات هنا وهناك في محاولة لتثبيت حكمة في أحد تنوعاتها الزمنية وبالطبع
كانت هذه أبلغ إساءة للحكمة وخطابها وتشريعاتها.
المشهد الثاني
ساء حال الأمة الإسلامية وتساءل مفكروها: «لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟» وغير ذلك من الأسئلة وأخذوا يتسائلون إن كانت المشكلة في الفكر أم في التطبيق أم في الظروف السيئة.
وتوالت إجابات أغلبها اعتذارية تحاول عصر وليّ حروف وكلمات «خطاب وتشريعات 3 » فذهبت
في المتاهات. لكن حياة المسلمين استمرت في طريقها تحاكي حياة الأمم
الأخرى وتنقل تنظيما اجتماعيا مبنيا على فلسفات وأفكار وخطابات وتشريعات من
تجارب الأمم الأخرى ونشأت سلطات مبنية على هذه الهياكل بدون روحها. وفي
المقابل عاشت الشعوب في حلم مجد تحقق في ظل «خطاب وتشريعات 3 » ونظرت للدولة الحديثة باعتبارها كائنا غريبا هجينا أو مستوردا أو غير مفهوم.
إلى أن أتى رجال قالوا المشكلة ليست في «خطاب وتشريعات 3 »، لكن المشكلة أن «خطاب وتشريعات 3 » لا
يحكم، وكان هذا في رأيهم أن الله لا يحكم! والمسلمون حققوا المجد عندما
حكموا به في لحظة زمنية 3. ولذلك فإن الحل هو أن نصل للسلطة باسم «خطاب وتشريعات 3 » لكي
يكون لله السيادة والحكم. والدولة الحديثة ليست إلا أداة ووسيلة لهذه
السيادة، مثل سائر الأدوات المستوردة. هؤلاء كانوا منظري الإسلام السياسي،
حسن البنا وأبو الأعلى المودودي وغيرهم.
طبعا لدواعي التجريد أعتبر كل ما يقولونه عن التجديد ومواكبة المتغيرات هو اعتذارات شكلية أو تعديلات محدودة.
ولكن في النهاية هذان المشهدان وصلا بنا إلى أن يكون التيار
الأساسي للتفكير الإسلامي هو تفكير ديني راكد يفتقر لشجاعة التجديد ولكنه
يملك شجاعة طلب السلطة باسم أفكار راكدة يعتقد أنها الدين.
ربما لو عدنا للمشهد 2 من ملف مقاطع اليوتيوب الحمقاء سنجد «المسيئين» فرحين بهذا الركود. وفي مشهد يشرح أب لابنته كيف يتحول الإنسان لإرهابي يقوم بجريمة تخريب مملتكات مواطن من عقيدة أخرى بالرجوع «فلاش باك»
إلى أيام بعثة النبي ليريها كيف أن أفكار جهاد الكفار وأسرهم واستعبادهم
أو قتلهم أو دفعهم للجزية ودونية المرأة عن الرجل هي التي تحكم بعض مسلمي
هذه اللحظة.
يحاول التفكير الديني الراكدالاعتذار والتبرير والتعديل ولكن
الحماسة السلفية ترفض ذلك وتعتبره هزيمة نفسية وما زال علماؤها المعاصرين
يتحدثون عن «ديار الكفر»
وعن عدم السفر إلا لضرورة ويقولون أن من شرائع الإسلام الثابتة مثلا جواز
استرقاق الأسرى وقتال الكفار وقتل المرتد وتبعية المرأة للرجل وحبسها في
مهام بعينها وتفضيل تركها لغيرها. وستظل تلك ثوابت لأن الاعتذارات
والتعديلات مؤقتة أو عارضة.
ويبدو لي أنه في المجمل ستستمر إساءة معظم المسلمين لدينهم
وللحكمة الإلهية التي يؤمنون بها وسيجدون دائما أنهم في معارك كثيرة
تتقدمهم الحماسة السلفية الواثقة وسيجدون أرجلهم في مستنقع التفكير الديني
الراكد الذي لم يقرر بعد الدخول في التاريخ.
يبدو لي أن الإساءة الحقيقة للإسلام أن من حاول إنقاذ الحكمة
الإلهية من هذه المهزلة تم تكفيره ولا يزال يحدث. ولا يبدو لي أن هناك
فرصة إلا بعد مراجعة سؤال ذلك «الكافر» الذي لم يطلب من المسلمين مثلا مراجعة اختيار الإسلام نفسه أو التساؤل بخصوصه. فمعظم أبناء دين «ما وجدنا عليه آباؤنا» لا يطيقون مثل هذه التساؤلات ولا هم من المؤمنين الذين يعتبرون الحكمة فعلا ضالتهم.
المهم هو «هوية» واحدة ثابتة جامعة للأمة كما في المشهد الأول، و«سلطة» تطبق هذه الهوية وتحميها كما في المشهد الثاني. أما الحكمة فهي التي يتم إهانتها والإساءة لها في المشهدين.
No comments:
Post a Comment