
لقد ركلت الولد وأطحت به مسافة أربعة أمتار على الأقل قبل أن يتدحرج على الأرض ويصطدم بحافة الرصيف ليصاب بخدوش متفرقة في أنحاء جسده. كان ذلك قبل أكثر من ثلاثة عشر عاما عاما، وبعد أن تعدى علي ذلك الولد لفظيا بشكل ما، لا أذكر أي كلمة مما قاله، ولكن بالتأكيد كان الأمر فظيعا، وإلا لم أكن لأضربه.
كنت وقتها ألعب الكاراتيه ، أعرف جيدا كيفية توجيه الضربات الدقيقة التي تصل للخصم بأقصر طريق وفي مكان محدد لتفعل شيئا محددا. هذه الركلة المستقيمة توجه للخصم في بطنه فوق الحزام مباشرة، من المفترض أن هذه النقطة مركز كتلة الجسم، كنت أعرف ذلك، وسددت الضربة كما تمرنت عليها، وهذا دليل على أنني لم أكن ثائرا أو عواطفي العدوانية محتدمة، لقد أفلت مني الغضب ولكنه لم يمسني.
قام الولد الذي أذكر أنه كان أصغر مني قليلا ولكن جسده كان مساويا لجسدي إن لم يكن أكبر، ونظر لي بدهشة- اندهاشه دليل آخر على أن العدوانية ليست معروفة عني، لقد قضيت كل ذلك الصيف ألعب معه الكرة في شارعهم- قبل أن يركض سريعا صاعدا لمنزله.
بعد لحظات كان إصبعه يشير إلى، بينما يقف أبيه أمامي ثائرا، كانت العدوانية بادية عليه، وبدأ في الصراخ و الهتاف المتضمن سبابا غير مباشر لكل من يتجرأ ويتعدى على ابنه في شارعهم. قلت له أن ابنه تجاوز في حقي، ولو كررها سأضربه ثانية. بدا لي كلامي عدوانيا ولكن قيل لي أني قلته في هدوء مثير للإعجاب. ثار الأب وبدأت العدوانية تتصاعد في لهجته، وشعر صديق لي أن الأب على وشك الفتك بي ، فتدخل متحمسا وبدأ في محاولة تهدئة الرجل ولكن بصوت فيه لهجة شبه عدوانية تحاول موازنة عداونية الأب، الذي يبدو وكأنه وجد هذه اللحظة خصما حقيقيا فلم يتردد في صفع صديقي على وجهه، قبل أن يصرخ صرختين أو ثلاث معلنا أنه اقتص لابنه محذرا أي إنسان أن يقربه في هذا الشارع، ثم يتركنا ويرحل مع ابنه الذي يحاول أن يقاطع صراخه ويذكره، وإصبعه لا تزال تشير إلي، أنني أنا الذي ضربته وليس صديقي !
لقد بذلت أقصى ما في وسعي، ولكن يبدو أن ذلك لم يكن مقنعا.
حتى أخيه الشاب الذي يكبرنا بعدة سنوات قابلني في اليوم التالي، وسألني إن كنت ضربت أخيه أمس فأجبت بنعم، فسألني عن السبب وأجبته بكل وضوح وهدوء... فوقف للحظات ووجهه يتشكل في أشكال عجيبة وهو يحدق في، قبل أن يصرخ أنه في المرة القادمة لن يرحمني . ولم هناك ما يمنعه ألا يرحمني الآن، كما لا أذكر أنه احتاج أصلا لأي أسباب لكي يعتدي على العديد من شباب الشارع، بل كان يقوم بذلك لشغل وقت فراغه في الإجازة الصيفية.
أيا كان ما منعه، فأنا ممتن له، لم أكن واثقا أن الكاراتيه كان سينفعني في مواجهة أخيه الشاب. أنا فقط أفكر في أنني كنت ولا زلت أبعد ما أكون عن العداونية، هذا أكيد.
ولكن ما يحير أن يتكرر في حياتي مشهدا مفاجئا يطلب فيه صديق أو ولي أمره أن أقطع علاقتي به أو بهما. أتصور أنني لن أطلب ذلك من أحد إلا بعد أن يكون قد تجاوز في عداونه على بشكل لا يمكنني غفرانه.
ولأنني لست عدوانيا أصلا، أجد صعوبة في تفهم القدر البالغ من العدوانية في هذا الطلب. من العادي أن تنقطع علاقات الناس، يتركها الناس ويهملونها لتنقطع، ولكنهم لا يطلبون منك هذا، إلا إن كانوا يرغبون في إيذائك بعدوانية أو أنهم لا يطيقون عدوانيتك.
الأسباب لم تبد لي مفهومة تماما، ولكنها تشير ربما إلى أن العداونية الأصيلة في نفس الإنسان ترتبك أمام فاقد العداونية. فتبدو وكأنها فاقدة لأعصابها ومنطقها.
واحد أخبرني أني أضيع الوقت معه في الكلام عن البنات والأغاني، بينما أركز في المذاكرة في البيت، ولم أفهم ماذا يريد بالضبط. ولكنه حملني مسئولية أنه حصل على درجات سيئة في امتحان الشهر في الوقت الذي كنت فيه الأول على الفصل. وآخر قال لي أنني أؤثر على تفكيره بشكل يجعله قلقا على مسار تفكيري، الذي ينعكس عليه في النهاية وهو يريد أن يستقر على أي فكرة، أي فكرة بحق الله أو الجحيم أو أيا كان، ليعيش وفقها وينتهي الأمر: الحياة بسيطة ولا تستحق كل هذا التفكير. ورغم أن فكرته بدت لي وجيهة إلا أنه خشا من أن اعترافي بوجاهة فكرته قد يؤثر على تفكيره وقراره بقطع علاقته معي، وهو ما يزيد مأساته. فسارع بإنهاء الأمر بإيميل تجنبا لأي كلام معي.
والد هذا الآخر طلب مني قبلها أن أقطع علاقتي به لأنني شخص مثير للمشاكل، والسبب أنني تناقشت مع ابنه حول الصوفية، وربما انتهينا وقتها إلى ازدراء بعض أفكارها مما أثار حفيظته.
ولكن الأكثر إثارة كان طلبا مماثلا جاء من أبي الولد الذي ضربته، وطلب مني أنا وصديق أن نقطع علاقتنا بابنه الأكبر، الذي قال أنه لن يرحمني، ليس بسبب ضرب ابنه للكن لأن ابنه الكبير تأثر بنا وأصبح ينتقد الشيخ الشعراوي.
كان ابنه قد أطلق لحيته وبدأ يصلي معنا في المسجد، إلا أنه توقف بعد فترة، ليس بسبب طلب أبيه. بل تردد أنه تشاجر مع أبيه وكان يصرخ- كعادة هذه الأسرة- في وجه أبيه ويسأله كيف يطلب من أصدقائه هذا الطلب وكأنه طفل صغير، وهناك أنباء غير مؤكدة عن أن الشيخ الشعراوي طالته شتائم بذيئة في هذه المشاجرة .. ولكن كان السبب أنه حصل على وظيفة في بنك وعندما سأل كل الشيوخ السلفيين في المساجد القريبة وأجابوه أن قبول الوظيفة حرام، اتخذ قراره بشجاعة. حلق لحيته وقبل الوظيفة، وأخبرنا من البلكونة، لما سألنا عنه يوما، أنه لن يصلى ثانية في المسجد، وبعد أيام شوهد بوستر لعمرو دياب في بلكونة غرفته، التي عاود السهر فيها بالفانلة الداخلية يتأمل أي أنثى تمر هنا أو هناك، ويسمع عمرو ومحمد فؤاد من الكاسيت الكبير الموضوع على سور البلكونة.
ولكن قبل أن يتخذ قراره ويعود إلى بلكونته، قال لي ذات مرة، بعد صلاة عصر وكنا مستندين إلى أحد الأعمدة في المسجد القريب من بيته: "أنا مش عارف ساعتها ماضربتكش ليه، ومش عارف أبويا ما ضربكش ليه، ومش عارف ليه أخويا ما ضربكش على طول .. إنت شكلك طيب ومش بتاع ضرب أصلا .. بس هاتتعب في حياتك جدا، صدقني .. لحد ما تبدأ تنضرب وتضرب وتتمرمط كده ... وبعدين هاتستريح".
- "هذا هو الإنسان" عنوان الكتاب الشهير لـنيتشه
- اللوحة لجورج بيلوز