09 May 2008

قطع كتاب داخل شاشة كمبيوتر

النشر الإلكتروني و التخفيف من سلطة النخبة


الحديث عن النشر الإلكتروني مشدود بخيط ، لا يخفى ، إلى النشر الورقي . لأعترف بذلك ! أردت أن أبدأ المقال بفقرة حماسية أقول فيها أن النشر الإلكتروني الحر قد دفع ناشرين للاتصال بأبناء جيلي من " المدونين " و " أدباء الإنترنت " لنشر كتبهم الأولى على خلاف العادة ، كمقدمة لأقول كيف يقلب ذلك المعادلة .. و لكن يبدو أن المعادلة لا تنقلب بل تميل قليلا لتعتدل ثانية باتجاه كتاب ورقي على أرفف المكتبات ، تكتب عنه الصحافة الثقافية و تقام له الندوات و حفلات التوقيع و يصبح اسم كاتبه :" كاتب".

لا ينطبق ما سبق على كل أشكال الكتابة على الإنترنت ، و لا تحتمل كلها دلالة ما يسمى بالنشر الإلكتروني .

ما سبق صحيح فقط , مع إضافة " حتى الآن " احترازا و انفتاحا على الاحتمالات , إن كان ما نقصد بالنشر الإلكتروني الكتابة التي تقدم نفسها كمادة كتاب ينتظر النشر .

و لكنه ليس كذلك إن كنا سنتطرق إلى كتابة أخرى لا تنتظر نشرا آخر فتبدو في مكانها على الإنترنت منجزة و مستقرة ، أو إن كنا سنتطرق إلى ما يسمى بالأدب الرقمي .

الكتابة الأخرى و التي تبدو لي مستقرة في مكانها ، بدون أن تنفي إمكانات نقلها ، هي كتابة " التدوين " أو فلنسمها كذلك . وهي الكتابة التي بدأت تتشكل مع المدونات و المواقع الشخصية ، بينما لم يتح لها الطابع الجماعي للمواقع المؤسسية و المنتديات و المجموعات البريدية أن تنتهي لما انتهت إليه الآن .

و لكن الحديث عن كتابة متميزة نطلق عليها " التدوين " لا يزال في طور الحديث عن نصوص مفردة يتم جمعها حال نشرها لا أعمال مترابطة يراد نشرها .. لذا يظل تعبير "النشرالإلكتروني " بعيدا عنها .

أما " الأدب الرقمي " فمصطلح يتبناه " اتحاد كتاب الإنترنت العرب " و مؤسسه الكاتب محمد سناجله الذي قدم تجارب لما يسميه " الواقعية الرقمية " . و هذا النوع من الكتابة ليس مكتفيا باللغة المقروءة ،و يستخدم وسائط متعددة : صور و صوت و فيديو , و يبدو متجاوزا لفكرة النشر الورقي ابتداء. و رغم أن هذا النوع يظل حاضرا في المخيلة و في النقاشات عن مستقبل الكتابة إلا أن الإنتاج الفعلي لأعمال من هذا النوع و باستخدام هذا المصطلح لا يزال مقصورا على مجموعة هذا " الاتحاد " ، و ربما لا يروق للكثيرين - و لي حتى هذه اللحظة - لابتعاده عن الاكتفاء باللغة كأداة للتعبير , و لاقترابه من الاستخدام الضعيف للوسائط الأخرى التي تمتلك قدرات تعبيرية عالية طورتها فنون أخرى .

الأدب الرقمي بعيد بالطبع عن نطاق الجدل بين النشر الإلكتروني و الورقي ، و هو بعيد عن الجدل المهتم بـ " الكتابة " تحديدا ،و ليس بأشكال تعبيرية تمزج الكتابة بأشكال تعبير أخرى, و ربما يقترب من الاتجاهات المتشعبة لما يسمى بفن الإنترنت Internet Art . وعلى الرغم من أن بعض منظري الأدب الرقمي يرون أن الإنترنت ، بسبب صعوبات التحميل ، تعتبر وسيطا يقيد التوسع في استخدام تقنيات أكثر قدرة ، بالمقارنة مع استخدام الاسطوانات مثلا . إلا إن هذا النوع لا شك يدين للإنترنت بوجوده أو على الأقل بمعرفتنا به .

تظل إذن الكتابة التي تنشر على الإنترنت و تسمى نفسها أدبا ، و لو احتارت في الاسم المحدد للقالب الأدبي ، هي التي تنسجم مع كلمة " النشر " بينما تظل في دائرة الأدب أو الكتابة و لا تخرج عنها . و نشرها على الإنترنت سواء مؤقتا منتظرة نشرا ورقيا ، أو كبديل نهائي تفكر به و هي لا تزال تتطلع إلى أصله .. هو ما يمكن أن نسميه : النشر الإلكتروني .

في هذا النوع ينشر الكاتب نصوصا شعرية أو قصصية أو مقاطع من رواية على منتدى أو مدونة أو موقع أدبي ، و ينتظر رأي جمهوره الذي يكون في أغلبه من الكتاب الآخرين من زملاء المنتدى أو أصحاب المدونات الأخرى أو المهتمين بالأدب من رواد الموقع الأدبي .

النشر الإلكتروني هنا يقوم مقام النشر في الصحافة الأدبية , غير الجماهيرية عادة , التي لا تغني عن الكتاب الذي يدشن دخول الكاتب إلى الوسط الأدبي و تقديمه لجمهور أوسع ، أو يحفظ نصوصه و يبقيها في ذاكرة هذا الوسط و وارثيه . ربما يقال أن تاريخ الأدب يحتفظ في ذاكرته أحيانا بقصة أو قصيدة منشورة هنا أو هناك لكاتب ما ، و لكن إن لم ينشرها الكاتب في حياته ، يكون التقدير الملائم لها هو ضمها إلى دفة كتاب تكريما و تخليدا .

فالأجيال الجديدة المهتمة بالأدب و الجمهور عامة هم بالتأكيد أقل إطلاعا على أرشيف المجلات الأدبية بالمقارنة بالكتب و إن كانت أقدم . ربما هنا يمثل النشر الإلكتروني لهذه النصوص فارقا فوجودها على الإنترنت يجعلها أيسر و أقرب من الكتب و إن كانت تظل أقل تقديرا في نظر الجمهور إن لم ترتبط باسم لامع .

ربما يكون الفارق الأهم هو في حرية الكاتب في عرض نصوصه هذه مباشرة ، بدلا من انتظار موافقة و اختيار محرر في صحيفة أو مجلة . و تتدرج مساحة الحرية التي يتمتع بها الكاتب صعودا من أشكال المواقع الأكثر جماعية و مؤسسية ، وصولا للمدونات الشخصية .. بينما بشكل معكوس تتدرج احتمالية الرواج، فالمدونة الشخصية تحتاج وقتا أطول لكي يتعرف عليها الجمهور بينما يحظى الكاتب بجمهور أوسع عند نشره لنصه الأول في موقع جماعي أو منتدى مطروق . و الحلول التي تجعل من المدونات الشخصية أكثر تأثيرا تعتمد أيضا على نوافذ جماعية ربما تفرض بعض الشروط أو الاختيارات في مقابل سرعة الوصول و التفاعل .

و ربما يكون إيقاع التفاعل مع هذه النصوص هو الأهم هنا ، فدورة قراءة النص و التعليق عليه تتسارع بشكل ملحوظ ، و لن يفني الكاتب عمره بانتظار أول تعليق على كتابته ، الأمر الذي يؤثر بالتأكيد على تسارع وتيرة التجريب حول الأشكال الأدبية و ظهور الأشكال الجديدة .

مما سينعش بالتأكيد سوق النشر الورقي التي يمكنها أن تتلقف بذكاء هذه التطورات و الأشكال الجديدة .

ربما يحمل هذا التسارع في التواصل و التقديم احتمالات افتقاد العمق و الروية : سيسير الأدباء الشبان في طرقهم مستندين لأكتاف بعضهم معتدين بقوتهم على خلق نوافذهم أو بجمهورهم الذي اختارهم , و ربما يفتقدون نوع الاتصال الكثيف و المعمق مع الأدب الراسخ قبلهم ، الذي كانوا سيحومون حول ضوئه كالفراش ، للانضواء تحته أو لخيانته في اللحظة المناسبة .

إنها مغامرة الحرية التي تحمل أجنة الجديد المباغت و المفارق ، مثلما تحمل أجنة غير مكتملة تسقط لأنها لم تتغذى جيدا .

هذه الوتيرة المتسارعة و الحرة تسبب قلقا آخر لدى بعض النقاد و الأدباء ممن يرون أن الأمر يتحول لفوضى و كثافة في النصوص التي لا ترضيهم ، و التي يخشون " إغراقا " لساحة الأدب بها . و لكن ربما كانت الرؤية الأكثر تدقيقا أن احتمالات الإغراق بالنصوص الرديئة – بحسب رأي ما - تنتقل من يد الناشرين ، التي ليست يدا أمينة دائما ، إلى أيد أخرى مختلفة و متعددة . تختلط فيها أيدي الكتاب بأيدي الجمهور : حرية المرء في أن يدشن نفسه كاتبا ثم حرية " الجمهور " في أن يعتبره كذلك ، و هو ما قد تعتبره " نخبة " ما تدخلا يتجاهل معرفتها بمعنى " الجمال الحقيقي " و مهمتها المقدسة في التبشير به و تقديمه .

نتفاءل بالتخفف من سلطة النخب أم نتشاءم من سلطة الجمهور التي أحيانا ما تكون أشد وطأة ؟

أظن أن التفاؤل يجد مبرراته الأقوى مثلما يجد أكثر الكتاب تفردا و نخبوية و اختلافا و تمردا مساحتة الخاصة إن ضاقت به السبل أو ضاق أفق الجمهور و مساحة حرية الورق ... محمد ربيع الروائي المتمرد الراحل مبكرا ، رغم حفلات التأبين و التكريم العديدة ، لن تحظي رواياته بحسب ما قرأت إلا بطبعة محدودة تفاديا لآثار حريته اللا محدودة . بينما يبدو السبيل الوحيد لانتشار رواياته هو النشر الإلكتروني .

هل تطرح إذن مبادرات " دور النشر الإلكترونية أو الافتراضية " – مثل دار "سوسن" و " ناشري " و "أدباء جيران " - نفسها بديلا نهائيا عن النشر الورقي ؟

لا يبدو ذلك ، حتى دعاوى الاستغناء هي بدوافع من الضيق و التبرم بقيود و سلطات النشر . و حتى الآن تزهو هذه الدور بالأعمال التي تنتقل من إصداراتها الإلكترونية إلى إصدارات ورقية و تعتبر ذلك بشارة للكتاب الشباب .

و رغم أن بعض هذه الدور تنشر كل ما يصلها و تنشيء مدونات مجانية للكتب لتضعها فيها ، و هو ما يمكن أن يقوم به الكاتب ، إلا أن حاجة الكاتب لنافذة يتطلع إليها جمهور لا بأس به تجعله يرسل عمله و ينتظر نشره !

ربما كان الأكثر دلالة بهذا الشأن ، هو قطع الكتاب الذي تستقر فيه النصوص وسط شاشة الكمبيوتر العريضة ، أليست أصلا برامج الكتابة على الكمبيوتر تضع النصوص في قوالب جاهزة للطباعة في مساحات الورق المتاحة و المعروفة ؟

دور النشر الإلكترونية لا تزال تترك مساحة شاشة الكمبيوتر لتصنع أغلفة لكتبها الإلكترونية تشبه قطع الكتب ، رغم أن صفحة الإنترنت باتساعها تحمل أبعادا جمالية أخرى يمكن استغلالها . إنه سحر الورق الذي لا يزال يسترق أصحاب الكلمات و يشد تجاربهم إليه .

هو نفسه السحر الذي يجعل أغلبنا يهز رأسه نفيا مجيبا على أسئلة الاستطلاعات التي تتكرر لتسأل عن تقبلنا لاحتمال اختفاء الكتاب الورقي أمام الزحف الإلكتروني .

ربما الإجابة بنعم ، التي ستقطع مع هذا الحنين ، هي نفسها التي ستقطع الخيط الذي تتبعناه ، و ستحرر النشر الإلكتروني ليستكمل تجربته و يختبر إمكاناته .

أو ربما هي بدائل الكتابة الأخرى التي ستتقدم لتكشف أن قوالب الأدب الحاملة لرائحة الورق هي نفسها الخيط الذي يشد أي نشر إلى قطع الكتاب المعروف حتى داخل براح صفحة شاشة الكمبيوتر العريضة و اللا متناهية الطول .

3 comments:

Solo said...

نفس منطق التفكير دا تتبعته و أنا بفكر فى الفنون البصرية كشأن مستقل بذاته ابتداءاً من فونت خطوط اللغة العربية إلى الأفلام المصورة بتقنيات رقمية

و النتيجة كانت واحدة

ألِف said...

"أليست أصلا برامج الكتابة على الكمبيوتر تضع النصوص في قوالب جاهزة للطباعة في مساحات الورق المتاحة و المعروفة؟"

تقصد برمجيات معالجة الكلمات؟
لا، بل حصرا فئة منها صممت لأجل مستخدمين تتطلب طبيعة عملهم أن ينتهي المآل بما يكتبون إلى الطباعة (ثم إلى سلة المهملات)، و أغلب تلك البرمجيات وضعت أساسيات تصميمها و الوظائف التي تؤديها قبل أن تكون هناك وب، و مع هذا ففيها جميعا أطوار للتابة لأجل الوب تتصف بأن حدودها مائعة كصفحات الوب.

و حتى تلك الفئة المحدودة تقع في عصر برمجي وسيط، كانت قبله برمجيات "الكتابة على الحواسيب" لا تضع في حسبانها وجود حدود للصفحة إلى أن تأتي لحظة الطباعة، إن أتت.

أو اكتب في "نوتباد" و لن تر للصفحة أبعادا.

أخشى الآن أن تتحول هذه النقطة إلى ترسانة حجج النقاد. تعرف أن النقاد يتبعهم الغاوون :)

عمرو عزت said...

solo

نعم , فعلا
أعتقد أن تحرير الكثير من الأنشطة من ارتباطها بنسق ما يمكن أن يفتح آفاقا أوسع


ألف

فعلا , ملاحظة في محلها
و يبدو أن استخدامنا المشدود إلى الورقة المطبوعة ، يخفي عنا الكثير من البرامج أو إمكاناتها التي تضع الكلمات في أشكال أخرى .


أما بخصوص النقاد الذين يتبعهم الغاوون ، فعلى الأرجح أنهم لن يقرأوا كلامنا لأنهم لا يزالون يتكلمون عن الإنترنت بعد قراءة تحقيق عنه في الأهرام
:)