20 February 2008

تجاوز الحدود

كان وقتا مناسبا جدا للحديث عن "الوطن". فعلها وحوش منتخبنا الوطني, و الأعلام كانت ترفرف في كل شوارع الوطن, كل شوارع تلك المنطقة من العالم المسوّرة بحدود مرسومة بدقة تعرفها كل خريطة, و على حافة الوطن وقف وزير خارجيتنا أبو الغيط يهدد بقطع رِجل كل من سول له فرط بؤسه أن يتجاوز حدودنا متجها إلى داخل وطننا, الطارد للسكان عادة .

العلاقة بين الوطنيين رافعي الأعلام في الشوراع و بين أبي الغيط, هي الحدود التي تجمعهم معا و تعطي لهم و لنا معنى.. مثلا, لولا الحدود الجنوبية لما كنا قادرين على هزيمة السودان و تصدر المجموعة وصولا للكأس. لولا كل الحدود بين الأمم الإفريقية, أصلا, لما كنا سنعرف كيف نقيم كأسا للأمم الإفريقية .
و لولا الحدود لما كان هناك سبب ليكون أبو الغيط وزير خارجية و ليكون آخر وزيرا للداخلية . الداخل و الخارج هما داخل هذه الحدود و خارج هذه الحدود. فريقنا الوطني هو الفريق الذي ينوب عمّن هم داخل هذه الحدود و يلعب ضد كل من هو خارج هذه الحدود, و هذا الوزير يختص بما هو خارج الحدود, و عندما يتجاوز من هم خارج الحدود الحدود, لا نعرف من يجب أن يتعامل مع هؤلاء الذين هم من الخارج بينما أصبحوا في الداخل, هكذا يختلط الداخل بالخارج , و يصبح "انتصارنا" و "مجدنا القومي" الذي حققناه, كما " الأمن القومي ", الذي نسمع عنه, في خطر.

هناك مشكلة صغيرة, أن من وضعوا هذه العبارات المعرضة للخطر كانوا في أعماقهم يكرهون هذه الحدود و يؤمنون بـ" القوم " و "أمن القوم" و ليس الداخل و الخارج . ربما لأنهم كانوا حديثي عهد بالخبراء الأجانب الذي قاموا برسم الخرائط و الحدود, و لكن الأكيد أنهم كانوا يريدون رسم خرائط أخرى و كانوا يريدون حدودا أخرى.
المشكلة - الأخرى -أن المؤمنين بالقوم كانت حدودهم بعيدة فرحلوا في طلبها و لم يعودوا حتى الآن, و أصبحت حكايتهم أنهم قوم لديهم خارج ذهبوا ليضعوا له حدودا, بينما لم يستطيعوا إلى داخلهم سبيلا. و أطلق على هذه الحالة التي لها خارج و ليس لها داخل اسم " القومية العربية ".
حسنا, نحن على الأقل في الداخل - داخل شيء ما - و لدينا داخل نعرفه و حدودا وجدناها, لا يهم من أوجدها, الأهم أن نعيد اكتشافها... و هكذا,تطوع البعض و قام بكشف جغرافيّ وطنيّ, و وجد أن هناك شيئا اسمه " القومية المصرية ", هذا الشيء يلمع في القاهرة و الإسكندرية و البحر الأحمر و السلوم المصرية و في الجزء الخاص بنا من النوبة , و لكنه ينطفيء فجأة عند الحدود المرسومة . يمكنك أن تمسك بهذا الشيء, " القومية المصرية ", و تذهب باتجاه السلك الشائك الذي يؤدي دور حدودنا , شرقا أو غربا أو جنوبا أو حدود المياه الإقليمية في الشمال و الجنوب الشرقي , لتجد هذا الشيء يتوهج كرامة و عزة و إباء و "أمن قومي" و سيادة كلما اقتربت من السلك, و لكن لو أخرجت يدك لتتجاوز السلك و لو بسنتيمتر واحد إلى حدود القوم الآخرين ينطفيء الشيء فجأة. و لو وقف على الجهة المقابلة من السلك, افترض شرقا, واحد فلسطيني يمسك بـ " القومية الفلسطينية "- افترض أنه عثر عليها - سيكتشف أيضا أنها تنطفيء في الجانب الخاص بنا عبر السلك. تجاوز الحدود إذن شيء ضار للجميع, للقوميات حواف يجب على كل قوم أن يلتزموها, هناك داخل و خارج, علينا أن نعي ذلك جيدا, فلا يتجاوز أي قوم حدهم و حدودهم.

قوميتنا, للأسف, تنطفيء لو تجاوزت أيدينا الحدود عونا لمن هم بخارجها. يجب أن يعذرنا أهل غزة, ليس لديهم كهرباء و شيئنا لن ينير في ظلام داخلهم. الصبر و ليس تجاوز الحدود هو الحل حتي يتمكنوا من العثور على حدودهم , و عندما يعثرون على حدودهم ستتوهج قوميتهم في داخلهم و سيصير كل شيء على ما يرام . و حتى ذلك الحين عليهم أن يوقدوا في أجسادهم النار لكي ينيروا ظلام غياب قوميتهم, و لكي تبقى جذوة النضال و المقاومة موقدة, و عليها ستنضج مأساتهم التي ستخلدها الإنسانية الغراء التي بلا حدود, و ربما تنتهي مأساتهم بسلام يأتيهم في القريب بخبراء أجانب يمنحونهم حدودا و قومية تنير في داخلهم و تنطفيء في داخلنا و ينتهي الأمر.

10 comments:

أبوفارس said...
This comment has been removed by the author.
بطوط حبوب said...

كلامك صعب اوى فعلا
بس الواقع اصعب
استمعت بقدر ما شعرت بالحزن
اظن تستطيع ان تحدد كم الاستمتاع الان

Dina El Hawary (dido's) said...

عمرو ... هذا النص أكثر من رائع وأكثر من صعب
اقشعر بدني وأنا أقرأ .. ولا أملك أكثر من أخجل من نفسي ومن قوميتي المصرية المطفأة

أحييك بشدة .. من أجمل ما قرأت

أبو عمر - الصارم الحاسم said...

اممممممممم


حلوة يا عمرو

محمود المصرى said...

بسم الله الرحمن الرحيم

قد نختلف فى امور كثيرة , لكن اعجبنى جدا ما حواه مقالك من اظهار خواء دعاوى الوطنية المغلقة داخل حدودها المصطنعة المستحدثة , ما اظهره من معانى التضحية للوصول للغايات التى وجهتها للفلسطينيين , وان اختلفنا حول توصيف الغاية المنشودة من وراء التضحيات .
اتمنى ان اكون فهمت ما قصدته على الوجه الصحيح .

Anonymous said...

موضوع "و شيئنا لن ينير في ظلام داخلهم"...ده صعب قوي..في دراسة علي الكلام ده؟

Anonymous said...

موضوع "و شيئنا لن ينير في ظلام داخلهم"...ده صعب قوي..في دراسة علي الكلام ده؟

فادي العبد الله said...

مرّ زمن كانت الحدود فيه أماكن تلاقح ثقافي وتلاق وعبور
أما الآن فالحدود سدود، سواء كانت في اطراف البلاد أو في قلب عواصمها,
موضوع السيادة متشابك ومعقد وقابل للتفكيك، بما أنك تهوى دريدا فقد عمل على ذلك، بما فيه في خطابه في جامعة القاهرة إن كانت ذاكرتي صائبة.
يظل أن إقامة دولة حديثة يفترض حتماً تحديد أراضيها،
لن أناقشك طبعاً في القومية العربية والقومية المصرية،
يكفيني التساؤل
كيف نعيد لنرسي مفهوماً إنسانياً للحدود، لا يجعلها حد الشوفينية، بل نقطة اللقاء بالآخرين ؟

حنة said...

عمرو باتابع كتاباتك من فترة بلا تعليق
لكن المسألة الكروية تشابكت عندي مع المسألة الوطنية واجدك تعيد ربطها بالمسألة القومية في تحليل بديع
بس عاوزة اقول لك انه حتى لو تغاضينا عن فكرة الدولة القومية التي كنا نحلم بها ونحن كذلك فعلا فالحلم بمثل هذه الدولة في ظروف كهذه قد يصبح كابوسا ، كما ان ربما نمتثل لما ان يعوزه البيت يحرم ع الجامع خلينا نصلح قطريتنا مصريتنا حماها الله
لكن السؤال هنا هل تتعارض المصلحة القطرية الضيقة لاهل مصر مع مصالح اهل غزة وتتلاقى مع مصالح اسرائيل .. هذا هو الكذب الذي يريد اعلام مبارك تمريره / الحقيقة هي ان مصالح الاسرة الحاكمة في مصر هي التي تتقاطع مع مصالح اسرائيل وتعادي مصالح اهل غزة كما تعادي مصالح اهل مصر
اما ما حدث في مولد سيدي الافريقي فتقديري انها هيستريا المحبوسين خلف اسلاك شائكة لا تصلح لأن تسمى وطنا
هيستريا فعلا لناس وكأنها بتشرب كورة علشان تنسى
طولت عليك
وتقبل مودتي

Anonymous said...

في الحقيقة أنا لا أفهم سر استياءك الشديد من فكرة الحدود . أأليست فكرة الحدود مرتبطة ارتباطا عضويا و مفهوميا بفكرة السيادة لدرجة ان المفهومين يدوران معا وجودا و عدما كما يقول المناطقة؟أليست المشكلة الفلسطينية في المحصلة النهائية هي مشكلة اقامة دولة حقيقية ذات "حدود" واضحة و "سيادة" حقيقية؟ألم تكن فكرة السيادة و الحدود هي السبب الأساسي لرفض الفلسطينيين كل المحاولات ا لتصفية عن طريق توطينهم داخل "حدود" دول أخري ووضعهم تحت "سيادة" هذه الدول (الشقيقة و غير الشقيقة)؟

ماشي . دعنا نسلم أن الأنظمة العربية بما فيها النظام المصري( بالأضافة الي
نفر قليل من رعاياها المتواطئين)هي أنظمة موتورة ضد الفلسطينيين , بل و يمكن الحديث أيضا عن اصابتها بفلسيطينو-فوبيا مزمنة . كما دعنا نتفق أن الحدود العربية كانت في الغالب الأعم مغلقة في وجوه الفلسطينيين بكل ما يتضمنه هذا الأغلاق من دلائل الأنكفاء علي المصالح القطرية الضيقة وما يستتبعه من ممارسات شاذة من قبيل العكوف علي الأكتشافات العبثية لأشياء وهمية مثل القومية المصرية وما شابه .
لكن دعنا نتفق أيضا أن هذا الغلق لم يكن أبدا مطلقا وأن الحدود فتحت أحيانا طوعا أو عنوة أمام الفلسطينيين و فماذا كانت اانتيجة؟بدون الخوض في التفاصيل يمكن الأجابة عن هذا السؤال في كلمة واحدة : كارثية!نعم كارثية و لكلا الطرفين الضيف و المضيف . لقد فتحت الحدود الأردنية , طوعا أو عنوة , أمام الفلسطينيين في أعقاب حرب يونيو , فماذا كانت النتيجة؟و في أعقاب أحداث أيلول الأسود التي نتجت عن هذا الفتح الأول , فتحت الحدود البنانية , طوعا أو عنوة , أمام الفلسطينيين , فماذا حدث؟
(غني عن القول طبعا أن في كلتا الحالتين الأردنية و اللبنانية كان من أهم أسباب المأساة هو محاولة الفصائل الفلسطينية المسلحة ونجاحها المؤقت في اقامة دولة أو شبه دولة ذات حدود و سيادة داخل الأراضي التي استضافتهم)
ومرة أخري ,
لقد فتحت بلدان الخليج العربي حدودها أمام الفلسطينيين ليعملوا ويستقروا هناك , و خزائنها"للمقاومة الفلسطينية
لتغرف منها كيفما شاءت , فماذا كانت النتيجة؟ ألم تكن النتيجة
تأييد فوري و مطلق لصدام حسين عندما أقدم علي ابتلاع الكويت كخطوة أولي لابتلاع هذه" الدويلات العميلة" ؟
و ماذا عن الحدود البين-فلسطينية ؟تلك الحدود التي لم يتوانوا يوما عن أقامتها فيما بينهم كاما حلت مؤقتا أو تراجعت مرحليا مأساة الحدود الخارجية التي
تقيمها الأنظمة العربية أمامهم؟لعل الأقتتال الأخير بين فتح و حماس
قريب بما يكفي لعدم الحاجة اعادة التذكير به (وهو مجرد حلقة , وليس أكثرها دموية بالتأكيد , في مسلسل الحدود البين-فلسطينية )
. لكن ربما ما يجب التذكير به هو أن النظام السوري , الحليف الأكبر و الراعي الرسمي لحماس في صراعها ضد فتح , هو نفسه النظام الذي أشرف علي مذبحة تل الزعتر الشهيرة التي ارتكبتها قوات الكتائب ضد مخيمات الاجئين و قد لعب فيها نفس الدور الذي لعبته قوات شارون بعد ذلك بست سنوات في مذبحة صبرا و شاتيلا , والتي تمت "بالصدفة" علي أيدي قوات الكتائب أيضا
تحت اشراف ايلي حبيقة و الذي أصبح فيما بعد(بالصدفة أيضا) من أهم عملاء هذا النظام
داخل لبنان.
هل يخبرنا هذا شيئا عن طبيعة الحدود البين-فلسطينية و عن معايير (اللامعايير؟)التي يستندون اليها في اقامة هذه الحدود؟