
كحَكَم بلا معنى مثل ذلك الذي في حلبات المصارعة الحرة, كنت علي الرصيف بين شيخ و شاب غاضبين. الأول يحمل قالب طوب و مَفَكا , و الآخر يحمل غصن شجرة – به بعض الأوراق – و قضيبا معدنيا غامضا .
أنا أحمل علي كتفي حقيبتي , هادئا بحسب انطباعي عن نفسي , و إن مستاء . أحاول أن أفهم بعد أن توقفت عن محاولة تهدئتهما .
الشيخ, سائق التاكسي الذي كان يقلني, مهتاج و يهذي بسباب متقطع . الشاب مفتوحة عيناه عن آخرهما علي نظرة محدقة مستنكرة و كأنها تدافع عن مقدس .
التاكسي واقف مشرعة أبوابه كإعلان حالة. و سيارة الشاب, نصف النقل , واقفة خلفها بقليل , مصطفة بعناية بجوار الرصيف.
مع الشاب الغاضب, شاب آخر أقل غضبا, يبدو متأففا و متورطا مثلي رغم أنه الطرف الأكثر أصالة . هو الذي كان يقود السيارة النصف نقل, و هو الذي أطل من شباك سيارته عن يميني يعاتب الشيخ علي سوء أدبه , أخبرني فيما بعد أن الشيخ لوح له بيده ليمر و بالغ في استخدام اصبعه الوسطى ..
الشيخ رد علي عتابه صارخا, في تصعيد لم أفهمه : أنه لا هو و لا أهله يقدرون علي شيء ! ثم استجاب لدعوة الشاب الآخر للتوقف و اختبار قدرته علي فعل هذا الشيء .
توقفت سيارة الشابين بهدوء , ثم توقف الشيخ بعدهما بمسافة و كأنه فكر لوهلة ثم غلبته حماسة غامضة كألسنة لهب أمسكت فجأة بأطراف جلبابه . نزل مسرعا و انتزع قالب الطوب من سور كورنيش الكيت كات بسهولة أدهشتني – ساورني قلق مهنيّ بشأن كفاءة بناء السور - و اتخذ مكانه عن يساري بينما اكتفي الشاب الهاديء بمواصلة العتاب , خلف زميله الغاضب الذي استلهم البيئة بدوره أسوة بالشيخ و انتزع غصن الشجرة .
الشاب الغاضب كان فيما يبدو محموما بحمية عائلية, كان يصرخ ملتاعا : أنت تعرف أهلي ؟! أنت تعرف أهلي ؟!... و ألقى غصن الشجرة بتشنج فسقط عند قدمي بينما احتمي الشيخ خلفي و ألقي قالب الطوب لمسافة تأكد أنها لن تصيب الشاب, و احتفظ كل منهما بآلته المعدنية .
كنت أفكر في مدي أخلاقية أن أدعهم جميعا و أبحث عن تاكسي آخر, الشيخ غاضب بدرجة كافية لكي تتزن كفتي المعركة , و لا أمانع إن أصاب كل منهما الآخر بشكل يكفي لكي يتعقلا في مرات قادمة . شيء ما كان جعلني أبدو رغما عني مسؤولا عن الشيخ سائق التاكسي , ربما لأنه وافق علي اصطحابي في الرابعة من نهار رمضان متوجهين لامبابة . لكن كنت أحاول التملص بتذكر كيف أن الشيخ استجاب بلا أدني تردد لدعوة الشاب له بالتوقف للتقاتل . ثم إني لا أفعل أي شيء تقريبا. حتي كلامي كان فاترا و بلا معني , و يخرج من فمي بلا حرارة ... كان ما يدور بذهني منفصلا تماما عما أتفوه به من جمل التطييب و التهدئة و استرضاء الطرفين الخالية من المعني . كأنني أفكر بلغة أخري غير لغة هذه الكائنات البدائية المتقاتلة .
ما منع مواجهتهما المهتاجة أن تبدو كمعركة حقيقية هو ذعرهما المتبادل رغم حماستهما و نشاطهما الغرائبيين , و احتفاظهما بهذه المسافة اللاعقلانية بين متشاجرين ... بعد أن عدا كل منهما باتجاه الآخر ,أول ما اقتربا توقفا بغرابة , و تقهقر كل منهما خطوات متذرعا بتصويب سلاحه , غضن الشجرة وقالب الطوب .
بدأت أشك في اخلاصهما للعدوان, و بدأت أفسر الأمر بأنهما تحت تأثير حالة مزرية من أثر الصيام, الذي لعب دوره أيضا في تأخر وصول متدخلين حقيقيين- علي العكس مني أقصد - من أصحاب الورش و الدكاكين علي الرصيف الآخر .
لم أفهم لم توجه واحد إليّ يسترضيني , كان هذا نذيرا بأن ملامح وجهي تحولت لامتعاض أوحى بأني طرف في المعركة, التي تنفس طرفيها الصعداء و صعدا من لهجتهما و سبابهما من خلف أكتاف المتدخلين فاعلي الخير.
كنت قد تخليت عن مكان الحكم بينهما بعد أن صاروا و صرت أري الأمر من فوق أكتاف المهدئين , باعتباري واحدا وجدوه في أرض المعركة . أصبحت في جانب مع الشيخ و بعض المهدئين الذين فاجأوه بالسؤال : همّ عملوا لك إيه يا حاج ؟.. تحركت كل خلجاته و كأنه سينطق بأمر عظيم , و لكن زاغت عيناه كأنه نسي شيئا أو تذكر شيئا ثم صرخ فجأة و كأنه سيجهش بالبكاء : مش عارف ! مش عارف ! .
.. اندهشت من عدم قدرته علي الإتيان بأي تبرير لثورته العارمة , و يبدو أنه أيضا استنكر موقفه الغامض, و شعر, و شعرتُ أيضا, أن عليه أن يقدم تبريرا ما, لنفسه علي الأقل .. فسحب نفسا عميقا ثم أردف بحرقة بدت صادقة تماما موجها حديثه لطرف غير محدد: يا ولاد الوسخة!
ما حدث للشابين و سيارتهما بعد ذلك , يعني أنني الوحيد الذي لم يبد له ذلك مقنعا.
لا تعتذر عما فعلت : عنوان ديوان لمحمود درويش
اللوحة لكاندينسكي