
ما أتفق مع علاء سيف بشأنه هو أن هناك فجوة بين صورة الواقع في الصحافة المصرية و بين الواقع نفسه. أكثر من تجربة شخصية أقارن فيها بين ما أعرفه عن موضوع أو حدث ما اقتربت منه أو انخرطت فيه , و بين ما نشر في الصحافة, أجد الأمر مأسويا و مزريا .
ليست الصحافة وحدها , بل السياسة أيضا , فالصور التي يكونها " الوسط السياسي المعارض" عن الواقع يسري عليها هذا الأمر أيضا, و نموذج ذلك ما كتبته عن تعامل الصحافة و المعارضة مع الحقائق البسيطة في قضية خصخصة عمرافندي, بغض النظر عن الموقف منها, أتكلم فقط عن الحقائق المعلوماتية البسيطة الغائبة أو المغيبة بدافع الاستسهال أو تعمد إعادة إنتاج نفس الصورة التي يجب أن تظهر فيها الحكومة بمظهر الشيطان, لكي يمكن أن تتخذ المعارضة موقفا بسيطا مواجها و تصير ملاكا مجنحا..
الصحافة و السياسة مجالان , مثل مجالات أخري كثيرة , يصيران أقرب للانحراف و الفساد إن لم يجدا تصحيحا ما من قبل الجمهور, أو من قبل منافسة حقيقية علي الجمهور .
في الصحافة كما السياسة, الجمهور يستهلك ما يؤمن به مسبقا : صور الشياطين و الملائكة, و صور الأشرار الجبابرة المتغولين الذين لا قبل لأحد بهم . لا مجال أصلا لكي يتعامل الجمهور مع ما يصدره إليهم الصحفيون و السياسيون من معلومات و أفكار , بحس نقدي .. سواء منهم من أعرض عن الشأن العام و قضاياه فهي عنده من ظواهر الطبيعة أو كالأقدار لا يملك فيها دورا و لا لها دفعا , أو من يهتم منهم بالشأن العام علي طريقة التعاطف مع جموع الملائكة في مواجهة الشياطين. لذا فالصحافة و التيارات السياسية مستمرون في إعادة إنتاج نفس الصور بكفاءة و دأب و حماسة . و بالتبعية تتحول المنافسة لكسب الجمهور من مجال تقديم خدمة مهنية متميزة, بالنسبة للصحافة , أو تقديم صور صادقة للواقع و رؤي بديلة نقدية علي أرضية هذا الواقع في مجال السياسة .. إلي التباري في درجة شيطنة الشياطين ,أو في مستوي خفة ظل السخرية المريرة العاجزة أمام الواقع الذي يسيطر عليه هؤلاء الأبالسة .
هذا المناخ العام الذي يشد إليه حتي التجارب السياسية و الصحفية التي تحاول أن تكون مختلفة , لا يبدو لي أن مواجهته يمكن أن تقتصر علي مبادرات سياسية أو صحفية جادة , بل يتوقف بالضرورة علي مشاركة من جمهور ناقد و مهتم , ليس ذلك فحسب بل و منحاز أيضا ... ليس بالضرورة للتجربة السياسية أو الصحفية, بل منحاز و مهتم بضرورة خلق مجال عام أكثر احتراما و عقلانية و شفافية.
و هنا أختلف مع علاء في نقده العنيف لجريدة البديل لما اعتبره تلفيقا و نسبة ما لم يقله إليه في تحقيق صحفي , و مبالغته في الهجوم علي التجربة الجديدة برمتها, و الدعوة لمقاطعتها , بشكل رأيته عدوانيا بعض الشيء .
طبعا أتفهم غضب من يفتح الجريدة في الصباح فيجد عكس ما يؤمن به يروى علي لسانه, و لكن اختلافي مع تعبيره سببه أن علاء نفسه مهتم بالصحافة الشعبية علي الإنترنت , و هي بالإضافة لكونها صحافة أخري موازية , فهي يمكن أن تكون أحد وسائل الجمهور الناقد و المهتم للمشاركة في تصحيح أخطاء و عثرات الصحافة التقليدية , لذا فإن رد الفعل الواعى بهذه المهمة لا يجب أن ينزلق للعدوانية تجاه التجارب الجديدة أو أشخاص الصحفيين .
بالإضافة للمناخ العام السابق ذكره , و بعيدا عن أي صحيفة أو صحفي بعينهما , فاحتمالات سوء النية أو التلفيق العمديأو التردي اللامسؤول للمهنية الصحفية ... كلها واردة , و لكن افتراض ذلك مسبقا هو نوع من إعادة إنتاج صورة مشيطنة جديدة و لكنها هذه المرة للصحافة نفسها باعتبارها مجالا فاسدا ابتداء , و ليس لأسباب يمكن مواجهتها . فينتهي الأمر إلي دوران في الدائرة المغلقة ذاتها .
فالأمر كما يحتمل ما سبق فهو يحتمل أيضا الخطأ غير المقصود في فهم كلام المصدر أو في اعادة صياغته و اختصاره لدواعي صحفية, و ربما يحتمل خطأ فردي لصحفي, تلفيق أو غيره , لا يستدعي بالضرورة حكما علي الصحيفة بأكملها , فرئاسة التحرير لا يفترض أنها تملك خلفيات مكتملة لكل موضوع تمكنها من الحكم علي مدي صدق النقل عن المصادر أو الجزم بصحة خبر ما .
و لكن ما يصلح لهذا و ذاك هو رد الفعل المهتم و المنحاز لمجال عام أكثر شفافية , الذي يهتم بالرد و التصحيح عموما, و يهتم أيضا بوصول الرد لهذه الجريدة لاختبار صدقيتها, و استعدادها لتقبل النقد و التصحيح. و يصعب الحكم علي ذلك إذا أحال المنتقد هذا الاختبار لأزمة بمزجه انتقاده و تصحيحه بسباب مقذع للجريدة و الصحفي.
كنت أود أن أكتب شيئا أقل إشكالية , علي سبيل الدعاية لجريدة " البديل " التي أنحاز إليها , و لكن ما كان يمكن تجنب الحديث علي خلفية هذه الأزمة الصغيرة . ربما كان ذلك من حسن الحظ, لكي يمكن أن أقول أنني منحاز للبديل و أدعوكم للانحياز إليه ليس لأنه آت من الفردوس بالبديل الجاهز و لكن لأنه محاولة لانجاز هذا البديل عن طريق تقاطع بين الصحافة والسياسة يتجنب المناخ الرديء إياه , فالتجربة الصحفية و أصحابها يعلنون انحيازهم السياسي الواضح المتجه يسارا , بما يعني التعبير عن مصالح أوسع دائرة من الناس تشمل بالضرورة المقهورين و المهمشين و المحرومين من الفرص, و يتجنبون الحياد الذي تبدو عليه تجارب أخري , أعني تحديدا " المصري اليوم " رغم كفاءته و مهنيته العالية , بينما الحياد وهم .
الانحياز يسارا , كما أراه , لا يعني ابتذال حالات البؤس لاستخدامها في السجالات و الحديث باسمها , و لكن النظر النقدي للواقع و إمكانات تجاوزه و محاولة البحث عن البديل الممكن . البديل الذي لا يلامس الأحلام البعيدة ادعاء , و لكنه يخطو خطوة ممكنة باتجاهها .
التجربة الصحفية المتزنة التي يمكن أن تجعل ذلك ممكنا هي التي تتجنب الشيطنة و ممارسة المعارضة كهوس محموم و حديث زاعق عن رؤوس النظام , و لكن تلتزم بالأمانة في النظر للواقع و تفاصيله بغرض التامل في البدائل التي يمكن ان تجعل للناس طريقا إلي وضع أفضل .
إلي الآن , بينما لم يمر علي صدور البديل الكثير, يمكنني بوضوح أن أراه يسير في هذا الاتجاه و ينحاز بهذه الكيفية , و إن لم ينجز ذلك يمكنني أن ألمس ما يحاول أن يكونه.
لا أحد يدعي أن البديل جريدة ممتازة تجاوزت كل مشكلات الصحافة المصرية, البديل تجربة ممكنة لو توفرت جهود و إرادات تريد لها أن تكون . و لعلي أظن أن الأمر ليس فقط معقودا بإرادة صناع التجربة, بل أيضا بإرادة جمهور يساند التجربة و يشارك فيها مهتما و ناقدا و منحازا, إن لم يكن للاتجاه السياسي فعلي الأقل لصالح توافر نوافذ صحفية حقيقية و مختلفة .