21 July 2012

طرف السجادة الحمراء أو الحقيقة وراء عمر سليمان


في الثامنة صباحا تقريبا من كل يوم، كان رجلا وحيدا يفتح البوابة ويرتب الكراسي والطاولات في الحديقة. وينظف السجاجيد الحمراء التي تصنع طريقا فوق السلم العريض من الممر إلى داخل الفيلا.

بعد ان ينظف السجاجيد المستطيلة كان يضعها بعناية بحيث تبدو وكأنها سجادة واحدة طويلة من أول السلم إلى آخره. فكرت كثيرا، وأنا أراقبه من نافذة مطبخ المكتب في انتظار غليان المياه لأشرب الشاي، أن شراء سجادة  واحدة بطول مناسب ستوفر وقتا طويلا للرجل، الذي كان يضطر أحيانا لطلوع السلم ونزوله أكثر من مرة والابتعاد قليلا ليلقي نظرة على محاذاتها عن بعد.

بعد أن ينتهي من  بعض الاعمال، التي يبدو أنه يقوم بها في داخل الفيلا، كان يخرج  ويجلس على كرسي في الحديقة تحت الشمس. ينتفض دائما عندما تأتي العاشرة صباحا بالظبط ويقف بجوار الباب،  تدخل السيارة السوداء في موعدها. تقف في الممر بالقرب من الكراسي، ينزل اللواء عمر سليمان وبيده كيس سندوتشات. تكمل السيارة طريقها إلى آخر الممر وتقف. لم ينزل السائق منها أبدا.

يتجه عمر سليمان إلى الكراسي ويجلس ويضع كيس السندوتشات أمامه على الطاولة. كثيرا ما لمحني أحدق فيه من نافذة الشباك فظل بصره مثبتا عليّ بلا أدنى حركة أخرى. فكرت دائما أنه ربما يفكر في قصتي وفي مج الشاي في بدي مثلما أفكر في قصته وفي كيس السندوتشات أمامه.
كان ذلك يستمر أحيانا كلعبة بلا معنى ولا مغزى إلى أن يقطعه ذلك الرجل الذي يأتي ويجلس بجانبه ومعه حزمة من الصحف. كان بصر سليمان يتجه إليه ويراقبه وهو يحاول أن يفك الحبل الذي يربط الحزمة. في مرة استعصت عليه وطالت محاولة الرجل في فك الحبل، فقام عمر سليمان وأمسك حزمة الصحف ورماها على الأرض ووضع إحدى قدميه عليها وباليد الأخرى فكها بسرعة كما يفعل بائعو الصحف المحترفون. وفي مرة أخرى لم تفلح هذه الطريقة فوضعها على الطاولة واستعمل أسنانه في قطع الحبل.
في النهاية كان الرجل يمسك الصحف ويتصفحها وهو يشير لعمر سليمان إلى أخبار وصور ويقرأ له بصوت مرتفع. كان عمر سليمان وقتها يفتح كيس السندوتشات ويتناول واحدا ويأكله، كان دائما يحاول أن يقدم نفس السندوتش للرجل لكنه كان دائما يهز رأسه ويربت على كتف اللواء، بالتأكيد كان يقول له: سبقتك يا سيادة اللواء.

كانت السندوتشات في عيش بلدي ومعها دائما قطع من المخلل. كان اللواء عمر سليمان يأكل ببطء ويحرك فكه بشكل ملحوظ يبدو لي من نافذتي. كنت كثيرا ما كنت أراه يتابع ببصره كلب أو قطة أو حركة الرجل الذي يضع السجاجيد وأعتقد أنه كان  يشرد تماما بينما الرجل يقرأ له من الصحف. 
في مرة قام  وذهب إلى ركن الحديقة ورمى بجانب قطة راقدة هناك قطعا من الخبز والمخلل، يبدو لي أنها كانت تلد وأثارت شفقته.  في تلك اللحظة أشار الرجل الذي يقرأ الصحف للرجل الذي يضع السجاجيد بيده يعني أنه لا يعرف ماذا يفعل اللواء، فأشار رجل السجاجيد إلى رجل الصحف مجموعة من الإشارات التي تعني بوضوح: يا عم نفض وكل عيش دا راجل أهبل.

في بعض الأحيان كان رجل الصحف يتوقف ويلفت انتباه عمر سليمان  بشدة  لشيء ما، فيهز سليمان رأسه كثيرا وهو يمضغ بحركة مميزة من فكه تشبه حركة فك نوع معين من الكلاب لا أدري اسمه، كان الرجل ينظر إليه ينتظر رد فعله، طال ذلك أحيانا واستغرق نصف ساعة  مثلا. وفي النهاية كان عمر سليمان يشير بإصبعه وينقر به مرتين على الصحيفة. فيُخرج الرجل من حقيبة معه "كاتر" ويقطع قصاصة من الصحيفة ويمدها لعمر سليمان، الذي يتوقف عن الأكل ويضع الساندوتش في الكيس ويخرج من جيبه مناديل يمسح بها يده وفمه ثم يعيد المناديل إلى جيبه ويتناول القصاصة من يد الرجل ويتأملها للحظات، بلغت أحيانا نصف الساعة أيضا، ثم يدسها في نفس الجيب الذي يخرج منه المناديل ويضعها فيه.

مرات كانت تمر لحظات وعمر سليمان ومعه رجل الصحف بلا أي تغيير ولا قص قصاصة ولا أي شيء مثير. كان اللواء أحيانا ما تتهدل رأسه خلفه على الكرسي ويذهب في النوم، وينتهي الرجل من مهمته ويرحل وهو يهز رأسه عجبا. وأحيانا أخرى كان اللواء يقف على  بعد خطوات يحدق في أرض الحديقة أو يحاول النظر للشمس رافعا يده أمام عينه أو محدقا في وأنا أحدق فيه من نافذتي.
كنت قد بدأت أقضي الكثير من الوقت في مراقبته من نافذة المطبخ. يستغرق مني إعداد الشاي ساعة متنقلا بين الغلاية وبين النافذة، وأحيانا كنت أقضي مثلهم أشرب الشاي وانا أتأمله. بعد الظهر كان آخرون يتوافدون بسياراتهم ويدخلون إلى الفيلا ويتحدثون إلى رجل السجاجيد ويشيرون إلى عمر سليمان فيذهب إليه ويخبره فيتوجه وراءهم إلى داخل الفيلا.

في مرة كان نائما واضطر الرجل لحمله وهو مستغرق تماما في النوم، ولكن عادة كان اللواء يقوم من مقعده ويسير من الحديقة إلى الممر حيث يضع يده في جيبه ويخرج المناديل الوسخة ويرميها على أرض الممر، فيما يبدو كان يحافظ على نظافة الحديقة الخضراء، وفي مرة من المرات يبدو لي أنه رمى قصاصات الأخبار أيضا.

تكرر كثيرا أن يتعثر اللواء في طرف السجادة الحمراء بعد درجتين أو ثلاث. كان ذلك مبررا إضافيا لكي أفكر أنه من الأجدى لهم أن يجدوا سجادة حمراء واحدة طويلة بدلا من القطع التي يتعثر اللواء عند تقاطعها.

في يوم ما لاحظت تعليق أعلام مصر بطول الفيلا، وكانت هناك صورة كبيرة لعمر سليمان بنظارة سوداء رافعا يده. شاهدت قبلها بأيام  مصورا يحاول أن يأخذ له صورة مناسبة ويعاني بسبب شرود اللواء في متابعة كلب أو قطة أو تحديقه فيّ وانا واقف في النافذة. اللحظة  التي نظر فيها اللواء إلى الشمس ورفع يده أمام عينه، رغم نظارة الشمس السوداء، أعتقد أن المصور وقتها أشار بإبهامه للواء وذهب إليه وجعله يشاهد شيئا في الكاميرا. حدق اللواء في الكاميرا لساعة إلا ربع قبل أن يربت على كتفه ويقبله في خده.

أعتقد أنها هذه الصورة التي علقوها في أعلى شرفة في الفيلا. ولكن اللواء شاهدها وهي تسقط بعدها بأيام وهو يأكل السندوتشات واستمر هو ورجل الصحف في التحديق فيها لساعة إلا ثلث قبل أن يأتي رجل السجاجيد ويحملها ويذهب إليهما ويريه الحبل المقطوع الذي كان يحملها. سكن الجميع للحظات ثم هز اللواء رأسه فأخذ رجل السجاجيد اللوحة ووضعها في الحقيبة الخلفية لسيارة اللواء.

في تلك الفترة كانت الفيلا نشيطة، وفي الحديقة وعلى الكراسي كانت اجتماعات كثيرة تجري، وكان اللواء دائما يأكل سندوتشاته ببطء ويقضم من المخلل ووكعادته يشرد في متابعة القطط والكلاب أو محاولة التحديق في الشمس أو  يبادلني النظرات المعتادة الخالية من التعبير.

مرة واحدة فقط كان مشهد مميز يجري هناك في هذه الفيلا الغريبة. خرج  واحد يجري من الفيلا وتدحرج على درجات السلم ووراءه خرج عمر سليمان يجري بسرعة أقل ولكن بخطوات واسعة. كانت رأسه مدفوسة قليلا في البذلة الرسمية التي يرتديها، كأنه يخفض رأسه يخشى الاصطدام بشيء أو أنه يحاول التركيز في هدفه.
 طارد اللواء عمر سليمان الرجل في أرجاء الحديقة ودارا أكثر من دورة حول الكراسي والطاولات. في النهاية كانت خطوات اللواء الواسعة كفيلة بأن يقترب من الرجل من الخلف فضربه بالشلوت من الوضع طائرا، فوضع الرجل يده على مؤخرته  وهنا توقف كلاهما. اقترب اللواء من الرجل وضربه شلوت آخر في عضوه الذكري، فانحنى الرجل متألما وسحبه اللواء من شعره وأجلسه على كرسي. ساعتها انتبهت أن في يد عمر سليمان آلة حاسبة. جلسا واللواء يجري عمليات بمنتهى البطء على الآلة وفي وسط البطء والسكينة يرفع كفه ويصفع الرجل ويبصق عليه. في نهاية الجلسة قام ورفعه من على الكرسه وخبطه "روسيّة" ورماه على أرض الحديقة وركله ثم جلس على ركبتيه ورفع رأسه إلى السماء وحدق تجاهي مباشرة. بدا لي أنه يبكي.

لم أر هذا الرجل ثانية، لكن استمرت حياة اللواء كما هي، السيارة وكيس السندوتشات ورجل السجاجيد ورجل الصحف والقصاصات والشرود والقطط والكلاب وتعثره المعتاد عند تقاطع السجاجيد. يقضي قليلا من الوقت بالداخل ثم يخرج ويتجه إلى السيارة التي لم ينزل سائقها أبدا فيركبها ويرحل.

المرة الأخيرة التي تعثر فيها كانت الأسوأ، كان نازلا ففقد توازنه تماما وظل يجدف بيده كأنه يسبح قبل أن ينقلب على وجهه ويتدحرج حتى وصل إلى أرض الممر. سكن تماما وظل المشهد هكذا لدقائق حتى خرج رجل السجاجيد وظل يحدق فيه لدقائق أيضا. رفع الرجل السجاجيد من على السلم وذهب بها إلى مكان ما خلف الفيلا ثم عاد واخرج موبايله والتقط صورة للواء ثم انهمك في موبايله، خمنت أنه يرسل الصورة عبر تويتر أو فيس بوك. أجرى مكالمة سريعة رفع فيها صوته بشكل ملحوظ كأنه يستغيث، وخلال دقائق كانت طائرة هليوكوبتر تهبط في الحديقة  ويخرج منها الرجل الذي كان يجري خلفه اللواء ويضربه، ومعه آخرون. 
توجهوا إلى جسده الساكن تماما. تفحصه أحدهم وهز رأسه لهم. الرجل الذي تلقى الشلوت سابقا ضرب رأس اللواء بالشلوت وبصق عليه ثم أخرج موبايله والتقط له صورة وانهمك هو الآخر في موبايله قليلا بينما حمل الباقين جسد عمر سليمان إلى الهليوكوبتر التي حملته وانطلقت بعيدا. 
صرخ الرجل المنهمك في موبايله تجاه الهليوكوبتر ثم أمسك موبايله وأخذ يصرخ فيه إلى أن عادت الهليوكوبتر وركبها وطارت ثانية.

رأيت رجل السجاجيد يأتي بالسجاجيد مرة أخرى ويضعها مكانها بدون عناية كبيرة ثم يذهب ويلتقط مناديل رماها اللواء في الممر بين السلم والحديقة ويهز رأسه ويتجه لرميها في سلة المهملات ثم يذهب إلى السيارة ويكلم السائق الذي لا ينزل أبدا فترحل السيارة هذه المرة بدون اللواء.

 كانت هذه آخر مرة أرى أحدا من كل هؤلاء في الفيلا. وظلت الكراسي والطاولات وأعلام مصر وبعض السيارات في مكانها وظللت أحدق فيها كل يوم وأنا أعد لنفسي الشاي وأشربه. وفي اليوم الأخير قبل أن ننتقل لمكتب آخر رأيت اثنين يجلسان بالقرب من البوابة، كما لاحظت أن دواسة لونها بني كانت موجودة في الممر عند بداية السجاجيد الحمراء.
 أخرجت موبايلي والتقطت صورة للذكرى وندمت أني لم ألتقط صورا لكل ما كان يحدث. ولكن نظرة اللواء المحدقة فيّ  لم تفارقني، كنت أحيانا أنفجر في الضحك لمجرد تخيلها.