24 March 2008

زفة المولد و الدراويش .. " الدُوسَة " و ضيق الأحوال


في مسجد صالح الجعفري بالدرّاسة, صاح شيخ أتى من العياط خصيصا و انتظر منذ صلاة الظهر بلا جدوى :" أين الإنشاد يا إخواننا ؟ ". و أُجيب بأن الإنشاد سيبدأ قبيل صلاة العصر, و بعدها يتحرك الموكب .
الشيخ كان واحدا ممن توافدوا على المسجد لشهود الاحتفال بالمولد النبوي الشريف الخميس الماضي, و المسير مع موكب الصوفية من الدرّاسة إلى مسجد الإمام الحسين .

حافلات توافدت من بعد صلاة الظهر إلى صلاة العصر تقل أبناء الطرق الصوفية من كل محافظات مصر, و معهم أفراد و أسر اتخذوا شهود احتفال المولد, عادة سنوية لا يخلفونها .
بعد فترة من صبر الشيخ بدأ الإنشاد مع " الحضرة ": جلس الحاضرون في صفوف متقابلة موازية لاتجاه القبلة, و أمام المحراب فوق كرسيّ مميز جلس لفترة شيخ الطريقة الجعفرية ثم خلفه ابنه, و أنشد منشدو الطريقة في مديح النبي و آل بيته, و ردد الحاضرون. و أثناء " الحضرة" حافظ منظمون من الطريقة بصرامة على مسار خال بين الصفوف يمتد حتى باب المسجد, بحسب التقليد الصوفي الذي يرمز لحضور روح النبي عند مديحه .

و على دفعات قام المنظمون من أبناء الطريقة بدعوة الحاضرين للذهاب إلى ساحة خلفية للمسجد لتناول الطعام. بينما يشرب الحاضرون " الشربات " الذي يسقيه شيخ هرم تحدب ظهره فيما يبدو من ممارسة مهنة السقاية.

بعد صلاة العصر, بدأ خروج الجميع من مسجد الجعفري و الاصطفاف أمام المسجد بالرايات و الأعلام , الطرق مرتبة ترتيبا متفقا عليه. في المقدمة الطريقة الجعفرية الأحمدية ثم الطريقة الجازولية الحسينية الشاذلية ثم الدسوقية المحمدية و غيرهم . لكل طريقة لون مميز لها. الرفاعية يتميزون باللون الأسود و الدسوقية باللون الأبيض , و الأحمدية باللون الأحمر , و يشترك الجعفرية و الشاذلية مع طرق أخرى في اللون الأخضر, و لكن بدرجات مختلفة. الألوان هي نفسها التي ذكرها " مكفرسون " في كتابه " الموالد في مصر" و أشار لولع طرق كثيرة باللون الأخضر و لكنه ميز اللون الأخضر الداكن كعلامة على الطرق التي ينتمي مشايخها لآل بيت النبي .

يصطف أبناء الطرق براياتهم و أعلامهم و تصطف معهم سيارات تحمل مكبرات الصوت , و يقف أتباع كل طريقة ينشدون الأشعار و الأهازيج و ربما يتمايلون و يرقصون على وقع الطبول و الدفوف و الصاجات النحاسية . يستمر الإنشاد و الرقص وقوفا بينما تستكمل المسيرة انتظامها. لكل طريقة راية لمشيختها العامة أمامها يسير شيخها و أبناؤه - الذين هم في العادة خلفاؤه- ثم تتوالي رايات لكل فرع من فروع الطريقة في مصر و خارجها . و اهتمت الطريقة الدسوقية بإظهار رايات فروعها في النمسا و الهند و إيطاليا و ماليزيا, و إن لم يحمل الرايات بالضرورة أبناء هذه الفروع .

تبدأ المسيرة في التحرك من الدراسة إلى شارع المنصوري ثم شارع الأزهر. في طريق المسيرة يصطف المئات من سكان المنطقة على جانبي الطريق يرددون الأناشيد مع كل طريقة أو يصفقون على وقعها أو تطلق النساء الزغاريد انتشاء عند مرور الطرق الأكثر نشاطا في الإنشاد و التوقيع . تمتليء جوانب الطريق بالنساء و الأطفال بينما ينضم الرجال للمسيرة, أما نساء الطرق الصوفية القادمات مع أزواجهن فيسرن مع المسيرة في جانب الطريق أو ينتظرن في ساحة مسجد الحسين حيث ينتظر الآلاف المسيرة التي يتصاعد حماسها و يعلو إيقاعها و هي تدخل إلي ميدان الحسين .

تنتهي مسيرات الموالد عادة عند قبر صاحب المولد. لذا فالمولد النبوي حالة خاصة, و لكنه ينتهي عند قبر حفيده و أقرب آل بيته إليه الإمام الحسين, و تنشد الطريقة الجازولية عند بوابة ميدان الحسين نشيدا خاصا بها معبرة عن هذا المعني :
" مين يا حسين / مين يفتح لنا / باب النبي يا حسين/ و إنت هنا "
تلقى أناشيد الطريقة الجازولية الشاذلية بالعامية المصرية – على خلاف القصائد الفصحى للطرق الأخرى - إعجابا أكبر من البسطاء منتظري الموكب.
ينتهي الموكب داخل مسجد الحسين و يطوي الصوفية أعلامهم و يفترشون الأرض في حلقات للإنشاد و الذكر.

تغيرت وجهة و طبيعة المسيرة مرارا, و يطلق عليها المؤرخون اسم " زفة المولد ", و كانت بدايتها مع احتفالات الفاطميين بالمولد و استمرت معها و توقفت أيام الأيوبيين و عادت مع المماليك ثم توقفت مع تقليص العثمانيين للاحتفالات ثم عادت مع الحملة الفرنسية التي تقربت للمصريين بإحياء الاحتفال مرة أخرى بل و المساعدة فيه كما يذكر الجبرتي .

و يحكي "إدوارد لين" في " شمائل و عادات المصريين المحدثين " عن طقس " الدوسة " الغريب الذي ميز " الزفة " لعقود, حيث كان شيخ الطريقة السعدية يمر بحصانه فوق أجساد دراويش الطريقة المنطرحين أرضا, و هم يرددون أذكارا و أورادا خاصة. و كانوا يعتبرون مرور "الدوسة" دون أن يتألم أحدهم أو يصاب بأذى من الكرامات و بركة المولد . و لكن تم منع " الدوسة "مع مجموعة من الطقوس العنيفة الأخرى في عهد الخديوي توفيق. و يرجح "مكفرسون " أن المنع تم بعد اعتراضات من زائر أوروبي !
بسبب حصان شيخ الطريقة السعدية في " الدوسة " أو بسبب حصان شيخ عموم الطرق الصوفية المزين بأردية عليها نقوش و أذكار و آيات قرآنية , فإن الزفة سميت أيضا " زفة الحصان ".

و من عادات " الزفة " التي استقرت منذ الأسرة العلوية أن يجتمع في نهايتها الحاكم- أو من ينوب عنه – مع شيخ عموم الطرق الصوفية و نقيب الأشراف في احتفال رسمي . وكان ذلك الخميس الماضي في ساحة مسجد الحسين حيث اجتمع محافظ القاهرة نائبا عن رئيس الجمهورية مع نقيب الأشراف و الشيخ حسن الشناوي شيخ مشايخ الطرق الصوفية مع عدد من علماء الأزهر.
كان غريبا أن تبتعد كلمة شيخ مشايخ الطرق الصوفية عن البهجة التي تلف المكان و تتطرق إلى الرد على انتقاد السلفيين للصوفية لاحتفالهم بالمولد, أو أن يحث المسلمين على مقاطعة المنتجات الدنماركية, و يدعو دعوة غامضة لرد إساءتهم لرموزنا بالإساءة لرموزهم باستثناء الأنبياء !
يمكن أن تلحظ بوضوح المسافة و الاختلافات بين دائرة الاحتفال الرسمي في المسجد التي أضاءتها كاميرات التليفزيون و ضمت المسئولين و كبار مشايخ الطرق بهيبتهم و كبريائهم في ترك أيديهم لتقبيل المريدين و الفقراء , و بين دوائر أبناء الطرق ببساطتهم و عفويتهم . و بين كل هؤلاء و بين البسطاء و الفقراء الذين ملأوا المسجد و خارجه طلبا للبركة و البهجة و ربما الرزق أيضا .

الفقراء يمثل المولد لهم فرصة لنيل ما أصبح صعبا هذه الأيام, أكياس فيها أرغفة من الخبز وقطع لحوم يوزعها القادرون في الميدان أمام المسجد, و الوليمة قبل الزفة و بعدها . و الباعة يبتغون رواجا لبضاعتهم من الألعاب و المأكولات و المشروبات . الأسر البسيطة افترشت خارج المسجد يبتغون نسائم بداية الربيع و بركات الإمام و جده و وقع أناشيد الطريقة الجازولية من سرادقهم المقام بجوار المسجد, و المستمرة إلى منتصف الليل.
يهتم الجازولية و غيرهم بتوزيع أوراق تضم أناشيدهم و قصائدهم, و لا تفسير لدي لتسابق- بل و عراك – البعض لنيلها , سوى ظنهم أنها أحجبة تجلب البركة, و توزيع الأحجبة يذكره " مكفرسون" ضمن طقوس المولد, و إن كان يبدو أن معظم الطرق الصوفية قد هجرت هذا التقليد .

" عم محمد " الذي كان يجلس بجانبي مستندا لنفس العمود في مسجد الحسين, حكى لي عن قدومه من أسيوط شابا و عمله في البناء ثم إصابته في قدمه و تعثره في العثور على عمل, و لأنه بلا عمل و لا عائلة و لا مال فقد أصبح من " أهل الله " يقيم ليلة في مقام عليّ زين العابدين بن الحسين و ليلة في مقام الشيخ على البيومي , و يروّح عن نفسه بزيارة موالد آل بيت النبي الكرام . "عم محمد" انتفض لما شاهد شابا يوزع أوراقا , قام مهرولا و هو يعرج و حصل على ورقة. و لما عاد سألته عما فيها , فقال أنه لا يعرف القراءة , و طلب مني قراءتها . كانت قصيدة في مدح النبي و آل بيته, قرأتها له محاولا أن أحافظ على إيقاعها رغم صعوبة بعض المفردات . و عندما انتهيت أعطاني قطعتي " بونبون " و قال : " خذ .. نفحة ! ". داعبته : " بونبون !.. و حلاوة المولد ؟ ", ابتسم و قلّب كفيه و رفعهما إلى السماء, ثم قبّل ورقة القصيدة و قال مشيرا لها " هي دي حلاوة المولد ". ثم أضاف بيت شعر لم يكن في الورقة : " و إن ضاقت بك الأحوال يوما / فبالأسحار صلّ على محمد " . و لم يكن من الذوق هذه الليلة الكلام في السياسة بأكثر من ضيق الأحوال.


05 March 2008

تجاوز الحدود 2



آخر ما أود أن أسخر منه هو فرحة المصريين بانتصارهم الكروي. أنا لا أتبني الرأي القائل أن فرحة المصريين قد " تجاوزت حدودها ", فأنا لا أعرف أين تقع تلك الحدود المسموح بالفرح داخلها . من حسن الحظ أنه لا يوجد حرس حدود للفرح !
كما أنني لا أتبني على الإطلاق موقفا يرى أفضلية ما للجد على اللعب. بالعكس, ربما أعتقد أنه يبقى للعب – و كل نشاط لا يدعي الجدية و لا ينشد النفع و المصلحة بمعانيهم الجافة - تلك الإمكانية لاختراق اللحظات البائسة و القاحلة ببارق من السعادة يهدى للبشر كمنحة إلهية لا تنتظر المقابل . و أرى روح " اللعب " التي تجعل من سعادة الإنسان غاية صافية و واضحة غاية الوضوح, هي أساس المقاومة " الجدية" ضد استخدام الإنسان أو جعله ثانيا بعد أي غاية أخرى.

ربما يخرج عن حدود ما أود قوله - و من الصعب أحيانا الالتزام بالحدود - أنه حتى " اللعب " لا يسلم من تدخل " الجد " و مشكلاته, لنرى مثلا, " احتكارا " في حق عرض المباريات . ربما لأنه لا حدود حقا بين اللعب و الجد, فكل عمل جدي يحبه الإنسان يجد فيه متعة أعظم من اللعب, كما أن اللعب الممتع حقا هو إبداع و ابتكار, و ربما كان أعظم نفعا من جدية فاقدة للخيال . و من جانب آخر فاللعب بأشكاله محور لأكثر من صناعة و مجال إنتاج و أداة إعلام, كلهم في غاية الجدية في تحقيق الربح . كما أن كثيرا من الجد هو هزل ثقيل الظل, وربما ضره أكثر من نفعه !

يصعب حقا تبين الحدود بين الأشياء , ربما لأنه لا وجود للحدود إلا في تصورات الإنسان و من صنعه . الخط الفاصل تصور مجرد , كل خط يفصل بين مساحتين يحتاج سُمكا ليظهر, فهو مساحة أخرى بدوره, ماذا إذن بينه و بين المساحتين المتخيلتين ؟ خط آخر أم مساحة أخرى من لونين متداخلين ؟
الوجود ظاهرة واحدة متشابكة, و الإنسان يحدد و يرسم الحدود و يصنف الأنواع لكي يمكن أن يسمي الأشياء و يتكلم و يفكر و يعمل. كل موجود يعطي ويأخذ, و يؤثر و يتأثر , بالمعنيين المادي و المعنوي. هو و غيره في علاقة و تداخل مستمرين .
لاحظ الانسياب الإنساني على الخريطة, لا يوجد خط فاصل ينتهي عنده شيء ليبدأ آخر, طيف متدرج بلا حدود من الثقافة المادية و المعنوية و الملامح و اللغات و اللهجات, يسلمك من شيء إلى آخر دون أن تشعر أنك تجاوزت شيئا إلى شيء . ابدأ من القاهرة إلى الدلتا إلى مدن القناة إلى سيناء إلي فلسطين , و من القاهرة للصعيد للنوبة للسودان لإفريقيا . لا توجد حافة تمنعك من رؤية أن الناس متشابهين على جانبي كل حدود, بين النوبة المصرية و السودان , بين رفح المصرية و الفلسطينية, بين السلوم المصرية و ليبيا. لابد أن أضيف صفة "المصرية" لكي أختلق " حدا " في الجمل السابقة لأن المناطق على جانبي الحدود أحيانا بنفس الاسم ! حتى على جانبي البحر تنشأ المدن المتعددة الثقافات التي تأخذ من كل ميناء و تعطي له .

كيف إذن, مع كل هذا التشابك و التداخل و الانسياب, بدا أن الحدود تفصل بين جماعتين من البشر, إحداهما في جانب تعيش نشوة الانتصار الكروي الجميل – جادا أقول ذلك – بينما في الجانب الآخر تعيش الجماعة الأخرى وضعا مأساويا؟
هذا السؤال يمكن الإجابة عليه بعيدا عن الحدود , يمكن لبعض أهل القاهرة أن ينسوا مؤقتا أو تماما أهل غزة, و لكن لو اقتربنا من الحدود, لا يبدو للسؤال معنى : عاش أهل رفح و العريش معاناة أهل غزة وقت حصارهم و بعد "تجاوز الحدود" , تأثروا بذلك شاءوا أم أبوا , تعاطفوا أم تجهموا .هم بالأساس يعيشون معاناة وضع سيناء الخاص و السيئ المرتبط بالمأساة الفلسطينية و توابعها و معاهداتها, هذا فضلا عن القبائل و العائلات "المنقسمة" على جانبي الحدود و بفعلها . و لكن أين الانقسام و الحدود و فعلها.. و أهل غزة- الذين يصل لبعضهم إرسال القنوات الأرضية المصرية, و لا يمكن التزام الحدود بدقة بهذا الشأن - عندما هدأ القصف قليلا, رفع بعضهم الأعلام المصرية وصور أبو تريكة و احتفلوا بالانتصار الكروي المصري !
أين الجد و أين اللعب فيما يخص " الأمن القومي المصري " و سياسة مصر الخارجية .. الأعلام المصرية المرفوعة في غزة , أم " الوطنية المذعورة " خلف حدودها و الوزير أبو رجل مكسورة !

الحدود واضحة جدا من بعيد , من العواصم . و إن اقتربت منها اختفى أثرها . في هذه الحالة لا يصح إلا أن نقلب التشخيص من " طول نظر" إلى " قصر نظر" !


04 March 2008

المصارحة أولا


وسط ضجيج الأحداث الطائفية في محرم بك بالإسكندرية في أكتوبر 2005, قامت مجموعة من شباب المدونين بالتوقيع على بيان, أعلنوا فيه رفضهم لهذه الأحداث , و في نفس الوقت رفضهم إنكار أن هناك مشكلة ذات طابع طائفي في مصر . و طالبوا بضرورة فتح الجروح و علاجها بدلا من تجاهلها بالإشادة بالوحدة الوطنية و النسيج الواحد. و حمل بيانهم اسم " مصارحة و مصالحة " .

عنوان البيان أصبح اسم مبادرة, انضم لها شباب آخرون , و بدءوا بجلسات المصارحة فيما بينهم و تناولوا كل الأساطير التي يعتقدها بعض المسلمين عن المسيحيين و العكس , و ناقشوا بصراحة كل ما لا يخرج من بين أصحاب الدين الواحد من حساسيات و هواجس .

الآن انطلق موقع مبادرة "مصارحة و مصالحة " أو " معا أمام الله " , الذي يدعو كل المصريين للاشتراك معهم في الخطوة الأولى : المصارحة , و ذلك بالإجابة على أسئلة استطلاع رأي أعده فريق المبادرة .

تم إعداد استطلاعين مستقلين, واحد للمسلمين و آخر للمسيحيين . يتضمن أسئلة عن المعلومات الدينية التي تعرفها عن الدين الآخر , و عن حدود علاقتك بأفراد من دين آخر, و تقبلك لتحول أفراد من دينك للدين الآخر, و رأيك في وجود سلوك طائفي لأصحاب الدين الآخر, و غير ذلك .

ينوي مؤسسو المبادرة الانطلاق من "المصارحة " عبر الاستطلاع و نتائجه و ما ستشير إليه من مشكلات, إلى الخطوة الثانية : العمل سويا على مقترحات عملية لتجاوز هذه المشكلات وتحقيق " المصالحة " .. الحقيقية
.