رحم الله تلك الأيام .. أيام كانت الحكومة تعمل بتوجيهات الرئيس , و كان المعارضون يتنازعون فيما بينهم أشياء ذات قيمة ....
(1)

إذا كان لكل وزارة تخصص ما , و كانت هذه التخصصات تغطي كل شؤون و قطاعات الدولة , فما هي مهمة رئيس الوزراء ؟
الإجابة عادة تحتوي عدة كلمات من نوع السياسات العامة و التخطيط و التوجيه و التنسيق و ... وكنت قديما لا أصدق هذا الهراء و أؤمن مع المؤمنين في أرجاء مصر المحروسة أن السيد رئيس الوزراء هو سكرتير أول رئيس الجمهورية و باقي الوزراء هم باقي فرقة السكرتارية .
ذلك لأنهم جميعا لم يكونوا يفقهون حديثا عن الخطط و التوجهات , و لا رئيسهم يتحدث حقا عن تنسيق ما , بل كانوا جميعا كجوقة واحدة يتغنون بتوجيهات الرئيس الحكيمة ,و يتحنثون انتظارا لوحيه الذي لا ينطق عن الهوي .
و لكن يبدو أنني بصدد تغيير معتقدي هذا .. فما حدث مؤخرا بين وزارة الكهرباء و بين محافظة القاهرة لا يشير إلا غياب الوحي الرئاسي في هذه المسالة . مما دفع السادة وزير الكهرباء و محافظ القاهرة و رئيس الوزراء للاجتهاد .. و كانت النتيجة أن السيد وزير الكهرباء أداه اجتهاده للضرورة العاجلة لتحصيل الفواتير المستحقة المتأخرة علي دواوين محافظة القاهرة و بأي ثمن , أما السيد محافظ القاهرة فأداه اجتهاده إلي ضرورة تجاهل وزارة الكهرباء مهما كان الثمن , بينما أدي اجتهاد السيد رئيس الوزراء في التنسيق و التوجيه و التخطيط إلي إصداره أوامر حكيمة لكليهما بأن يغربا عن وجهه و ليذهبا معا إلي الجحيم بمشكلاتهم هذه و ليتدبروها فيما بينهم بأي وسائل و بأي ثمن أيضا.
و كانت المهزلة .. وزارة الكهرباء أوقفت إيصال الكهرباء لكل دواوين و مكاتب محافظة القاهرة مما نتج عنه إيقاف الحواسب و الإضاءة و تعطيل مصالح قاطني القاهرة الملاعين .. و ردت محافظة القاهرة بحزم و أوقفت كافة أعمال وزارة الكهرباء كمد و توصيل خطوط الكهرباء لأي منطقة تدخل ضمن نطاق محافظة القاهرة , و لو عاني أيضا قاطنو القاهرة الملاعين .
دعك من أن هذه المشكلة يمكن أن تحل في " جلسة عرب " بتوسط " كبير القبيلة " لتحديد مهام كلا من الطرفين و وضعه المالي ثم تحديد حل مناسب يراعي أولويات برنامج الحكومة و مصالح المواطنين .
و دعك أيضا من أن كل أطراف هذه المسخرة هم أعضاء في السلطة التنفيذية لحكومة واحدة شكلها رئيس حزب واحد و كلهم أعضاء في نفس الحزب و السيد المحافظ ليس منتخبا مثلا فلا سلطة لرئيس الوزراء عليه , بل هو معين أيضا من قبل رئيس الجمهورية و الحزب , و هناك وزارة اختصاصها الحكم المحلي يتبع وزيرها رئاسة الوزراء ..
دع عنك كل شيء إلا السؤال الحقيقي : أين حقا السيد الرئيس و توجيهاته الحكيمة و هو الذي يختار و يعين فعلا كل أطراف هذه المهزلة ؟
للأمر إذن جانبه الإيجابي , أن التوجيهات أصبحت تتوقف أحيانا . ربما كان ذلك بسبب ضعف لياقة السيد الرئيس الذهنية أو البدنية بفعل السن , أو ربما لازدواجية الحكم بين الرئيس الأب علي رأس السلطة و الوريث الابن علي رأس الحزب فعليا , أو ربما لأسباب أخري .
و مهما كانت الأسباب فالتوجيهات بدأت تغيب أو تتأخر بالفعل و السادة المسؤولون بدأوا يجتهدون . و هذا ظاهره الرحمة و لكن باطنه أن اجتهاد مثل هؤلاء - كما تري - كارثة أو علي الأقل مهزلة .
و لكن المهزلة الكبري -أو الكارثة - لا تتعلق باجتهادهم , و إنما تكمن في " النظام " ...
فالسلطات و الصلاحيات و المنح و الإقطاعات مكدسة في يد رئيس الجمهورية .. و في غيابه و غياب توجيهاته و أوامره المدعومة بسطوته , تصبح السلطة التنفيذية فوضي بلا نظام . ... و السكرتير الأول لا يملك السلطة المناسبة للترغيب و الترهيب و كثير من بقية السكرتارية و المسؤولين لا يملكون حدا أدني من الاجتهاد أو الكفاءة و لا الاحترام لأنفسهم و للمواطنين , لأداء واجبهم بلا ترغيب و ترهيب و توجيهات عليا .
في النظم التي تستند إلي السلطة المركزية القوية المستبدة , يؤذن ضعف هذه السلطة أو تفككها أو تراخيها بالفوضى و الانحلال .
إنها الفوضى التي في ظل الاستبداد , الذي يحفظ " نظاما " وهميا و استقرارا واهيا , ثم ينكشف عندما تخف القبضة قليلا عن عجز حقيقي في إدارة أتفه الأزمات .
لو كان السيد المحافظ منتخبا و كانت الوزارة مشكلة من حزب حقيقي يحوز أغلبية برلمان حقيقي لاختلف الأمر كثيرا , و لحرص كل منهما علي ارضاء الناخبين و مصالحهم و الوصول لحالة من التوازن بين المصالح المتعارضة التي يجب أن ينسق بينها رئيس الحكومة - أيا كانت صفته - حرصا علي إرضاء ناخبيه المواطنين – لا الملاعين - و مصالحهم . و ما سبق لن يكون إلا في ظل نظام يكفل حرية حقيقية لا شكلية .
الـ " نظام " الحقيقي يحتاج لحرية تدفع أصحاب المصالح المختلفة للانضباط وفقه , و السعي لمصالحهم عبر الدخول في تجربة جماعية لإقرار " النظام " و الوصول لتوازن بين هذه المصالح , في تدافع مدني تحكمه أخلاق و خبرة الأحرار .
الحرية بدروها تحتاج لـ "نظام " . الحرية ليست شيئا طبيعيا غريزيا , إنها مفهوم مدني , و وعي مؤسس علي خبرة و تجربة و أخلاق مختلفة .
عندما يصبح النظام بلا حرية , و يصبح مرادفا للاستبداد و التسلط , فإنه يقتل إمكانات الحرية و خبراتها و أخلاقها . فليس بعده إلا "حرية " بلا نظام ... أي " فوضى ".
(2)

أنا لا أعلم حقا , علام يتنازع الشباب في حركة " شباب من أجل التغيير " !
فهذا الزميل العزيز يعلن للصحافة انفصال حركة " شباب من أجل -لا مؤاخذة - التغيير" عن حركة " كفاية" الأم , بينما يرد عليه الزميل الآخر معلنا أن " شباب " لم تنفصل عن " كفاية " لأنها ليست تابعة لها أصلا و العلاقة بينهما لا تتعدي حنان الأم , ثم يردف الزميل الأخير أن الزميل الأول الذي أعلن الانفصال هو نفسه مفصول من حركة " شباب " لمخالفات ارتكبها أوجبت إحالته للتحقيق و فصله !
ما سبق يوهم أصلا أن هناك الآن حركة تسمي " شباب من أجل التغيير " , و أن لها لوائح و عقوبات . بينما يعلم كل مرتادي مقهي " البورصة " أن " الشباب " لم يعودوا يجلسون معا . و أن المجموعات المتناحرة تفرقت علي مقاه أخري من زمن .
و لكن ما تبقي من مرتادي البورصة - و أنا منهم أحيانا - لا يعلمون علام التناحر أصلا .. فلا الحركة حزب مرخص للتنازع علي الشرعية صعبة المنال , و لا هي لديها مقرات أو صحيفة ... و لا حتى يا ربي جماهير من أي نوع ارتبطت بالاسم !
لماذا التنازع إذا , و الله خصنا بلغة غزيرة الاشتقاق و تواريخا و رموزا وطنية عديدة , تمكن كل مجموعة أن تبتكر لنفسها اسما جديدا بلا مشاكل . و لهم في مجموعة 30 فبراير أسوة .
وهل الحل لمشاكل الحركة و حالتها المتردية هو الحديث عن " كفاية " و التبعية لها بينما كان داعي نشأة الحركة بالأساس جمع شباب " كفاية " للعمل بشكل لا مركزي و ديمقراطي بعيدا عن صيغة " كفاية " التوافقية و المتمركزة حول لجنة تنسيقية من " الرموز الوطنية " .
من البداية رفض مؤسسو " شباب " التبعية لكفاية , رغم اهتمامهم بالتنسيق معها . و بالفعل شاركت حركة " شباب " في بعض الأنشطة التي تحفظت " كفاية " عليها . مثل سلسلة مظاهرات الأربعاء في الأحياء الشعبية التي شاركت " شباب " فيها إلي جنب " الحملة الشعبية من أجل التغيير" رغم تحفظ " كفاية " .
الحقيقة أن فكرة تأسيس " شباب من أجل التغيير " واجهت المشكلة و لم تلتف حولها . و حاولت أن تقدم نموذجا للعمل الجماعي الديمقراطي في تجمع علني و مفتوح يضم أفرادا من تيارات عدة و مستقلين .
و كان ذلك متسقا مع مطالبة حركة التغيير بالديمقراطية و الحريات و التعددية الحقيقية و احتجاجها ضد الاستبداد و المركزية و انفراد رئيس الجمهورية بالسلطات.
و لكن كانت النتيجة علي النحو التالي .. فشلت " شباب" في إدارة اجتماعات فعالة باستنثاء الاجتماعات الأولي . الاجتماعان اللذان حاولت حضورهما - بعد ما حاول شباب ناشطون كثر إثنائي عن هذا حفاظا علي صورة " شباب " لدي - أحدهما ضم خمسة زملاء غيري لأن الأهلي كان يلاعب فريقا إفريقيا , بينما الاجتماع الثاني الذي كان حاشدا و منتظرا " للم الشمل " بعد طول غياب , كاد ينتهي إلي " لم الجيران " لفك اشتباك بالأيدي وقع علي إثر اختلاف اثنين من القادة التاريخيين للحركة !
و كانت نتيجة هذه الاجتماعات أن الحركة انقسمت لعدد من الشلل , أعلنت كل مجموعة منها أنها تمثل " الشباب " الرسميين . و بينما أمل البعض في أن الحوار سيسهم في رأب الصدع , انشقت المجموعة البريدية التي تجمع الأعضاء إلي مجموعتين بريديتين , هذه و تلك , و كلا منهما تدعي أنها المجموعة البريدية الرسمية لشباب من اجل التغيير .
هذه النتيجة المؤسفة لتجربة بدأت واعدة , و ضمت بالفعل عددا من الشباب المخلص و الرائع , ليست في رأيي إلا نتاج مواجهة المشكلة الحقيقية : المعارضة تطالب بالديمقراطية و تفتقر إلي قيمها , و تطالب بالتعددية و اللامركزية و تفتقر إلي أخلاقيات العمل الجماعي .تطالب بحق الناس في إدارة شؤونهم بلا تسلط و تفشل في إدارة عدة اجتماعات و مجموعة بريدية .
المعارضة فيما بينها تقدم مبررا لادعاءات السلطة بأن للمجتمع المصري خصوصية لا تجدي معها الديمقراطية و الحريات و أنه لا يزال يحتاج للوصاية و الرعاية الأبوية من نظام مركزي قوي .
يمكنك أن تعترض أن هذه الأخلاقيات هي نتاج الحياة في ظل الاستبداد و ليس العكس , و لكن ماذا عن هؤلاء المتحدثين عن الديمقراطية و الحرية , و أنا منهم , .. أعتقد أن علينا إعادة المحاولة مرة أخري , فما حدث ليس إدانة لأحد بعينه بقدر ما يعني أننا بدأنا نحاول التعلم متأخرا ,و لم نخلص أو نجتهد في المحاولة .
علينا إثبات أننا نتحرك و نتظاهر من أجل " نظام " أفضل و أكثر عدلا و حرية .. لا من أجل فوضي , و لا من أجل استبدال شخوص بأخري فوق الكراسي .
إذا لم نعي و نتعلم و نتمثل في حركتنا القيم التي نتحرك لأجلها , فلا يجب أن نلوم الناس لأنهم لا يتحمسون لنا و لا لها .
لا يجب أن نلومهم لأنهم لا يحبون " الحرية " التي لا نعرفها حقا ... و لا لأنهم يخافون من " الفوضى " .
-------
علي الهامش
* ينوي يوسف شاهين اقتباس هذا العنوان" هيّ فوضي " لاسم فيلمه الجديد الذي يصوره حاليا .