هل هو تأثير " الواقعية السحرية " للعم ماركيز و رفاقه , الذي جعلني أتخيل أن ذلك الصوت الآتي من الشارع, و المتكرر يوميا, هو صوت رفرفة أجنحة طائر ضخم يمر سريعا بجانب الشرفة ! المرات التي هرعت فيها لأتحقق من أمر الصوت , لم أر شيئا و لكن أضفت ملاحظة لتفسيري : هذا الطائر سريع حقا رغم ضخامته . اقتربت من التحقق من الأمر أيام الإجازات التي بدا لي فيها أن أقضي صباحي أقرأ أو أكتب في الشرفة, و لكن خلف ستار كبير يحجب الشمس, و لي فيه مآرب أخرى . إنه الصوت , و أنا هذه المرة أسرع .. أزحت سريعا الستار و رأيته ! هو أسود و متوسط الحجم .. يهوي بالقرب من طابق عال في البناية المقابلة , و يتقلب في الهواء محدثا ذلك الصوت الذي يخفت حتي ينتهي بصوت اصطدام مكتوم عند استقراره في وجهته , في مساحة الأرض الخالية بجوار البناية التي أسكنها ... لم يكن طائرا, إنه كيس زبالة ! و لم تعد قطعة أرض فضاء , هي الآن " خرابة " . تابعت الكيس حتي استقراره علي حافة الخرابة, ثم انفجاره و تبعثر محتوياته علي مساحة لابأس بها من الرصيف .. كنت معلق النظر تماما بالكيس, فلم أنتبه , إلا بعد انتهاء رحلته , لصوت إغلاق النافذة في ذلك الطابق العالي الذي لم أستطع تحديده . وقفت مشدوها لفترة أنقل بصري غير مصدق بين الشرفات و النوافذ المغلقة و بين ما يمكنني رؤيته من الخرابة .. مستاءَ حاولت أن أعود لما أفعل, و أنا أفكر فيما ينبغي حقا أن أفعل, و قد خلا ذهني من كل شيء ما خلا أفكار تنتمي كلها لـ" الواقعية القذرة " . انتشلني من أفكاري كيس آخر, و لكن هذه المرة أزحت الستار و ثبتت بصري علي مصدره .. كانت فتاة – في ظروف أخري ربما وصفتها باللطيفة – و كانت في كامل هندامها فيما عدا غطاء شعرها الذي تركته منحسرا قليلا عن بعض رأسها و منسدلا علي كتفيها . انشغلتْ هي للحظة بمتابعة الكيس تختبر دقة تصويبها, و عندما انتهت و انتبهت لوجودي جالسا في في الشرفة المقابلة مزيحا الستار قليلا لأتمكن من رؤيتها و التحديق مباشرة في عينيها بنظرة متسائلة ... اسودّ وجهها فزعا من صورتها في عيني, أو هكذا تخيلت , و ما يدفعني للشك في تخيلي هذا أن رد فعلها كان سريعا جدا و هي تعدل من وضع غطاء رأسها و تتأكد من أن لا خصلة شعر أو شيئا من العنق يظهر . الكيس التالي .. كهل, يبدو أنه أحمق , لأنه نظر لي مبتسما مغتبطا, ربما فرحا بتصويبه أو ربما سولت له نفسه أن يتعرف عليّ الآن مستغلا هذه الفرصة السعيدة . و هكذا .. ربة منزل استاءت من نظرتي و امتعض وجهها بنفاذ صبر و كأنها تلومني و تعاتبني كوني مترفا لدرجة أن أهتم بهذا الأمر . فتاة أخرى متحررة بعض الشيء عن الأولى , عموما و في ملابسها , نظرت لي بابتسامة ساحرة مسرورة كأنها اكتشفتني, ثم أولتني ظهرها و خرجت من الشرفة بدلال و ألقت إليّ نظرة أخيرة و هي مسبلة أجفانها و مباعدة بين شفتيها قليلا , و لم تنس أن تسحب رمشها و هي ترد الباب .. فعلت كل ذلك برقة بالغة تقول أنه لا وجود علي الإطلاق في عالمها للزبالة و لا الخرابة , و كأنني غازتلها ساعة عصاري و هي تملأ القلل في المشربية . الكيس الأخير لهذا اليوم من فتى بدين , هو أيضا أسبل جفينه و باعد بين شفتيه, و لكن مع نظرة عينه المتحدية فإن تعبيره المتكامل كان مختلفا و نموذجيا و دقيقا في تصريحه الصامت بأنه فتى قذر و هذه منطقة قذرة و أنا أيضا قذر لو حاولت أن أعترض علي شيء من كل هذه القذارة . حصيلة لا بأس بها بالنسبة لصباح يوم واحد , لنحمد الله أن الخرابة لم تتحول بعد جبلا من زبالة . و لكن هل ما فعتله كان مجديا .. التحديق فيهم ؟ لا تبدو النتيجة اللحظية لما فعلت مشجعة و لكن لنر .. لقد ذكرني ذلك كله بسيدة غريبة الأطوار في شارعنا القديم , حيث بيت أبي , الذي بالمناسبة لا يبعد عن هنا سوى مائة متر تقريبا . لقد نجحت هذه السيدة في إيقاف جهود إنشاء خرابة أمام بيتها . هذه السيدة كانت تخرج بملابس بيت رثة شعثاء الشعر,لا تهتم بغسل وجهها صباحا, و لا تهتم إجمالا بنظافتها العامة قدر اهتمامها بنظافة الشارع . و لكن غرابتها جعلت منها أكثر نساء الشارع شعبية , حيث كانت تحظي بتهنئة الجيران لو نزلت يوما و قد صففت شعرها الخشن – أو حاولت – و ارتدت شيئا نظيفا . هذا بالإضافة لابنتها الصغيرة , التي كانت صارمة في تربيتها .. لو أساءت السلوك, تحلق لها شعرها بالكامل ! كانت غير تقليدية في حلها لما يعترضها من مشاكل , فكانت تذهب لبقال و تجعل ابنتها تذاكر دروس الحساب واقفة أمامه و تحت إشرافه – كان يدخن الشيشة أثناء شرحه - بينما تنشغل هي في إعداد سندوتشات جبن و بسطرمة .. هي في النهاية يجب أن تكافيء البقال الذي تعتقد أنه أكثر الناس علما بالحساب . هذه السيدة العظيمة التي لا أذكر اسمها واجهت إنشاء الخرابة بصرامة .. في الصباح الباكر لأحد الأيام , عقب صلاة الصبح مباشرة و الشوارع لا تزال هادئة و خالية تقريبا , سمعت صوتها المميز يصدح :" بتعمل إيه يا راجل يا ناقص ؟ " سمعت بصعوبة صوتا خافتا لرجل يحاول أن يرد , قاطعته هي : " بتعمل إيه يا راجل يا ناقص يا واطي ؟" ثم :" ... يا ناقص يا واطي يا وسخ ؟ " و هكذا في متوالية حسابية تصعد من هجومها , و عندما وصلت للشرفة كانت متتاليتها قد بلغت حدا بذيئا , بينما الحاج – لا أذكر اسمه أيضا – الذي فرغ لتوه من صلاة الصبح جماعة , مرتديا جلبابا أبيض ناصعا و طاقية بيضاء " شبيكة " , واقف بجوار الخرابة رافعا بصره لشرفة السيدة و يحاول أن يوقفها متسائلا باستعباط : " فيه إيه يا ست ؟ " . لم أكن وحدي , كان جمهورا لا بأس به قد تجمع في الشرفات . و عند هذه اللحظة طورت السيدة هجومها بحس إعلامي مميز :" بترمي الزبالة في الشارع ليه يا راجل يا زبالة ؟ " كان موقفه حرجا , كان وحده في المشهد علي خلفية من الخرابة الصغيرة التي بدأت في التكون عند مدخل بناية خالية من السكان , و كيسه يرصع قمة تل صغير من الأكياس . بينما جمهور في الشرفات ينظر إليه ينتظر كلمته التالية – و الجمهور دائما ما ينحاز للخير حتي لو كان معظمه من الأشرار – لذا فإنه حاول التبرير مبديا بعض الصلابة : - " بس يا ولية, أنا سايب الكيس هنا , هاجيب عيش من الفرن و أرجع آخذه " لقد كان ذلك بالغ الحمق , لقد تقدم بشكل خاطيء و وجهه مكشوف تماما , و لم يكن عليها إلا أن تسدد القاضية : - " وحياة أمك ؟ " قالتها بلهجة بارعة , الأسلوب وحده يكفي بدون كلمات لكي يعبر ببلاغة عن مدي سخافة ما قاله . انهار تماما, و من تلقاء نفسه خطا خطوتين داخل الخرابة الصغيرة, و التقط كيسه منكس الرأس و عاد أدراجه - لم يذهب للفرن – بينما الجمهور تند عنه ضحكات مرحة شامتة ممتزجة ببعض الشفقة علي الحاج الذي تم سحق هيبته تماما هذا الصباح . أُغقلت النوافذ, بينما ظلت السيدة مرابطة في شرفتها .. بعد قليل سمعت حوارا آخر مماثلا, و أعجبت جدا بذكائها و تطويرها لأداءها . هذه المرة أضافت اسم الأستاذ في نهاية سؤالها الاستنكاري - بعد الأوصاف اللائقة بالطبع - و أتاحت لجمهور أكثر أن يشهد سماعا ما حدث , و ليعرف أن الأستاذ فلان من جماعة المؤسسين للخرابة .. استمرت على هذا المنوال يوميا لمدة ليست بالقصيرة, و في نهايتها رأيتها واقفة وحدها , بجلباب بيتي رث و شعر أشعث, يديها في خصرها , تشرف علي عمال شركة النظافة و هم يزيلون نهائيا أي أثر للزبالة من موقع " الخرابة " المجهضة . تخيلت جهودها, و طريقتها في بذل هذه الجهود , التي دفعت شركة تتقاضى أجرها مقدما من فواتير الكهرباء, لتقوم بما تعتبره عملا إضافيا . يا لها من سيدة عظيمة, دافعت ببسالة عن الأمتار التي تواجه شرفتها, و أعلنت للأوغاد أن هذه منطقة تخصها .. و أنا لا زلت أحدق فيهم ! العنوان مستوحى من مقطع لـ " ت.س. إليوت " من مسرحية " الصخرة " .
احتشد مساء أول أمس المئات, و ربما الآلاف, من رجال الشرطة و قوات الأمن المركزي في مساحة واسعة من شارع الهرم يتوسطها قسم العمرانية , مما تسبب في أن يطلب مني سائق التاكسي خمسة عشر جنيها نظير المشوار من الدقي إلي مكان ما بين شارعي فيصل و الهرم , فضلت إنهاء الرحلة عنده توفيرا للمزيد من وقت محاولة الوصول لشارع الهرم في ذلك الوقت . كانت توقعاتي متعادلة بين نجاح و إخفاق وقفة " مصريون ضد التعذيب " أمام قسم العمرانية . و تأكدت من فشلها أول ما شاهدت التحصينات في شارع الهرم . و أعذر الرفاق المنظمين و المشاركين, فالحشود الأمنية كانت فائقة للتصور . المارة في شارع الهرم كانوا ينظرون بعجب إلي الصفوف القصيرة من جنود الأمن بملابس عادية, و التي تتكرر بالتبادل مع آخرين بزي الأمن المركزي التقليدي, من محطة " الخزان " و حتي النفق في أول شارع الهرم . مجموعات من البؤساء يرتدون ملابس رثة و في أعينهم دهشة و تيه و يقظة مذعورة , يبحثون في وجوه المارة عن عدو لا يعرفون ملامحه. هذا الجزء من شارع الهرم تحول مسرحا هزليا, المارة يسألون الجنود عن سبب وجودهم, و الجنود يردون بلهجتهم الريفية, و بغُلب صبور يقسمون أنهم لا يعرفون أي شيء . الضباط الممسكون باللاسلكي المتناثرين بطول الشارع , بينما لا أحد يري حتى فلول الوقفة التي تجمعت في شارع جانبي بعيدا عن الشارع. رجال الشرطة السريون المنتظرون على المحطة بملابس عادية و يحاولون أن يبدوا كمواطنين عاديين , و لكنهم لا يستطيعون نسيان سلطاتهم و مهماتهم المقدسة, فيبدأون في توجيه الأوامر لسائقي السيارات بسرعة المرور أو سؤال بعض الشباب عن سبب تجمعهم ,و يبدأ الباقون على المحطة في التلفت حولهم و يكاد يسأل الواقف منهم نفسه إن كان هو نفسه "مخبرا" ! الأمر اكتسي ببعض المنطق, بعيدا عن خشبة المسرحية الهزلية,للذين لم يتمكنوا من الوصول إليها . فالتأويلات الشعبية لما حدث, و التي مصدر معظمها سائقي التاكسي و من تفاعل معهم من الركاب, لم تصدق حتى بعد أن أخبرها بعض المتوجهين للوقفة أن كل ذلك بسبب وقفة احتجاجية لناشطين , و كانت تفسيرات الأمر بأنه :" عادي , قتيل آخر في قسم العمرانية ! " , أو " هي مظاهرة لسائقي "التوك توك" ضد مصادرة عرباتهم و قرار منعهم من العمل " و هو ما حدث بالفعل و لكنه كان في الليلة السابقة على الوقفة , أو هي - و هذا التفسير لسائق التاكسي الأكثر أصالة و العالم بطبعه ببواطن الأمور - " زيارة مسئول كبير في وزارة الداخلية لقسم العمرانية بعدما فاحت رائحته القذرة, و صار من الواجب وضع حد لما يحدث بداخله , و الدنيا مقلوبة و لن يمر الأمر علي مأمور و ضباط القسم بسلام ". الوقفات الاحتجاجية لم تدخل بعد في دائرة آليات الخيال الشعبي, أو ربما لأنها تستخدم فقط بحكم العادة في تفسير الأزمات المرورية لوسط البلد حيث يعيش المثققون و الناشطون . لا يزال التفسير الشعبي يراوح في معظمه بين " لا جديد, إنه الخراء الذي نعيشه ! " أو أن القدر أرسل من عليائه أحد الكبار ليرفع بعضه عنا . و لكن الجديد فعلا و المثير للتفاؤل هو أن احتجاجات المدافعين عن قوتهم اليومي, و لو عرضوا حياتهم و أمنهم للخطر – و ليس العكس, لاحظ ! - أصبحت ضمن دائرة التفسير الشعبي بعد أن دخلت دائرة الفعل بالاحتجاجات الواسعة التي قام بها العمال و الموظفون الفترة الماضية,و بعد سنوات عجاف لم نشهد خلالها إلا حشودا في حالة رثة تزحف مهتاجة و يسقط منها شهداء في مواجهة مستميتة ضد محتويات أوراق لم ترها : روايات و رسوم و تصريحات ! احتجاجات سائقي " التوك توك " تبهجني و تهمني من هذا الجانب, و من جانب آخر شخصي. فأنا الآن أستقل يوميا من العمل إلى المنزل الميكروباص إلي حدود إمبابة ثم أستقل " التوك توك " باقي الطريق, و أغدق عليه في الأجرة لاعنا في سري التاكسي و من والاه . خمسة عشر جنيها من الدقي للهرم يا ناس !
مدونة نورا يونس, الصديقة و الرفيقة المؤسسة بحركة 30 فبراير المجيدة العابرة لكل الانتماءات, تخوض الآن المنافسة علي جائزة " مراسلون بلا حدود " ضمن مسابقة البوبز 2007 . هذه الجائزة أفلتت العام الماضي من 30 فبرايربخسارة الجناج الحقوقي للحركة " موقع التعذيب في مصر " لها , بعد أن كانت في العام قبل الماضى لمدونة منال و علاء الأبوين الروحيين للحركة . نورا تتصدر تصويت الجمهور حتى الآن , و لا يمنع ذلك أن يلتزم كل أعضاء و أنصار الحركة الحيطة و أن يكونوا علي أهبة الاستعداد لنجدة نورا . نورا قدمت خدمات جليلة كمراسلة للحركة و الوطن, وكتبت تغطيات هامة تستحق عنها الجائزة بجدارة ... من تقرير مذبحة اللاجئين السودانيين إلي توثيق إضراب عمال غزل المحلة . موقع " التعذيب في مصر " يعاود هذا العام المنافسة و لكن في فئة " أفضل مدونة عربية " و لكن يشاركه تأييد 30 فبراير مدونة ابن عبد العزيز" العدالة للجميع " التي تحسب جناحا إسلاميا للحركة بعد مشاركتها الفعالة في معركة الاحتجاج على التمييز ضد البهائيين . هذا فضلا عن دور المدونة الكبير في المناقشة " الأصولية " لمفاهيم و ممارسات إسلامية سائدة , بقل أن تجد نقدا لها من على نفس الأرضية بالشكل الذي يقدمه ابن عبد العزيز و يقرنه بحركته و مواقفه العملية و نشاطه المتسق مع أفكاره .
الخيارات الديمقراطية المتاحة حصرا هي التصويت لنورا يونس في فئة " مراسلون بلا حدود ", و التصويت لأي من " العدالة للجميع " أو " التعذيب في مصر " في فئة " أفضل مدونة عربية " , أو لكليهما نظرا لفوضوية نظام التصويت التي تتيح للمستخدم التصويت لعدد لا نهائي من المرات مثل أنصار الحزب الوطني في الانتخابات علي الطريقة المصرية . و فيما عدا ذلك, فلكم مطلق الحرية في التصويت لمن تشاؤون في فئات المسابقة الأخري . الحرية و الديمقراطية بالنكهة الوطنية لا تخلوان من الثوابت, و المتغيرات هي التي لا تضر و لا تنفع غالبا .