لخمس سنوات , قضيتها في كلية الهندسة, كنت أمر عليه يوميا باسثناء أيام العطلات , أعطيه جنيها و أوجه اليه, بعد السلام الذي لا يرده , كلمة واحدة : " الحياة " ... و احيانا كنت أزيد المبلغ و عدد الكلمات مضيفا " العربي " , " آفاق عربية " أو " الأهالي " .. و لكن وجهه كان دائما ثابتا علي تعبير واحد جهم و لا مبال ...يمكن أن يردك اذا لم يكن يريد ان يقلب في " الكرتونة " ليبحث لك عن فكة للباقي .
فكرت أحيانا أنه ربما يتاجر في أشياء أخري و يتخذ من بيع الصحف ستارا , و حفز خيالي كثيرا مرأي وجهه القاسي و صرامته و زهده في جنيهاتي .
اعتدت بالعشرة علي سلوكه الخشن فلم يعد يضايقني كثيرا أن يردني بالعشرين أو الخمسين جنيها , كنت غالبا ما أعود اليه مرة أخري بين أوقات المحاضرات التي كنت أقضي معظمها جالسا في الكافيتريا , أقرأ أو أفكر أيا من الكليات كان يجب ان أكون فيها آنذاك.
مروري اليومي المنتظم عليه جعله , بمرور الوقت و الجينهات , يضعني في منزلة خاصة .. فسمح لي - تدريجيا - دونا عن " العامة" من طلبة الجامعة , بتصفح الكتب و المجلات و النظر في فهارسهم علي مهل , بينما مصير أسود ينتظر الآخرين ممن يحاولون فقط لمس الكتب او المجلات او الوقوف لمدة قد يراها أطول من اللازم أمام عناوين الجرائد و أغلفة المجلات .
هذه المعاملة الخاصة التي يحتفظ بها لزبائنه الجادين لا تتضمن أي تخفيف من ملامح وجهه الصارم أو لامبالاته بهم و بنقودهم .. و لكنه أحيانا ما كان يتبسط معي و مع غيري و يقلب في "الكرتونة " ليجمع الباقي في حالة شراء المجلات الفصلية أو الكتب ذات الثمن " المحترم" .
المدهش حقا هو ذلك التوحد الذي بينه و بين مساعديه , ربما يعرفون رد الفعل المناسب تجاه الزبون من تعبيرات وجهه ... فاذا ثبتت علي مستوي جهامتها المعتاد فالأمور علي ما يرام , و لكن اذا ما تحولت الي الامتعاض فان المساعد يبدأ في اتخاذ اللازم و ردع المتطفلين .
لثلاث سنوات أخري , أمر جيئة و ذهابا, من وإلي كلية الآداب , في الأغلب مرة كل أسبوع , أصبحت " الحياة " بجنيهين , و تغيرت أسعار كل الجرائد و المجلات , و أصبح مساعديه أكبر سنا و أقل عدوانية مع الطلاب و أكثر تهاونا و ودا معي .
أحد مساعديه اعتاد أن يأتي لي بالحياة فور ان يراني قادما , أضيف أنا مؤخرا : " و المصري اليوم " . ... بينما كبيرهم – عند الكلمة السابقة اكتشفت فجأة أني لا أعرف اسمه – لا يتزحزح , و كأنه تمثال مصري قديم يجلس هكذا منذ فجر التاريخ عند مدخل جامعة القاهرة .
صباح الأمس بعد أن قلت له كلمتي المعتادة :" الحياة " –كنت قد اشتريت المصري اليوم مساءا – وبعد أن تقبل مني الخمسين جنيها بلا مناقشة ثم جمع الباقي من " كرتونته ".... رفع بصره الي و ابتسم و هو يسألني : " انت لسه ما خلصتش ؟"
ليس من عادتي أن أحسن رد الفعل تجاه المفاجآت .. ولكن من حسن الحظ أن ابتسامتي اتسعت من الدهشة - و ليس حدقتاي - و أجبته في سعادة شارحا له قصتي و لكن باختصار ... لا يجب ان أتمادي مع تبسطه معي .
بدأت قسمات وجهه المتغضن تلين مفصحة عن حنو أبوي و هو يقول بصوت أجش غليظ : " أصلك ما بقتش تعدي كتير زي زمان "
اتسعت ابتسامته هو الآخر , تبادلنا جملتين أو أكثر, ثم تبادلنا السلام ., بل انه حياني بهزة من برأسه و أنا راحل .
توقفت قليلا أطالع أغلفة بعض الكتب المعروضة و انا أتابع خلسة كيف يعود وجهه ثانية كما كان, و كيف يرد طالبا بيده جريدة " المساء " و بيده الأخري الممدودة عشرون جنيها , قائلا في صرامة و اقتضاب " مفيش فكة " . .. ألمحه يلقي نظرة خاطفة الي مملكته قبل أن يشيح بوجهه مصوبا بصره الي بقعة ما بعيدا عني و عن الطالب الغاضب الذي لا يزال واقفا مادا يده في حنق .