لم يثر اهتمامي عنوانه بقدر ما أثار اسم مؤلفه عجبي و دفعني لاقتنائه . فالأمر أن تأليف رسائل الحجاب و الضوابط الشرعية لزي المرأة هو أمر حديث نسبيا . و يندر أن تجد كتبا أفردت لهذا الأمر من الفقهاء القدامي . فالحديث عن هذه المسألة عندهم تجده عارضا في ثنايا كتب الفقه و غالبا ما يكون ذلك في باب الصلاة , في فصل ستر العورة , في مسألة عورة المرأة في الصلاة و تثار هنا مشكلة الفارق بين عورة المرأة في الصلاة و عورتها أمام غير محارمها .
و لم تكن مسألة زي المرأة مطلبا ملحا لإفراد مؤلفات مستقلة ,لأن الأزياء التقليدية للمجتمعات الإسلامية ظلت متماهية تقريبا مع ما تم ترسيمه كضوابط لشرعية زي المرأة و فيما صار يعرف لاحقا بالحجاب .
فيما سبق دلالة لا تخفي و لكن ليس هذا وقتها , فالكتاب لم يكن موضوعه الحجاب / الزي و إنما كان موضوعه إثبات أن النساء " محجوبات " عن رؤية ربهن يوم القيامة لأن هذه الرؤية التي وعد الله المؤمنين بها في آيات القرأن و علي لسان النبي , صلي الله عليه و سلم , كنوع من الثواب , خاصة بالرجال دون غيرهم !
لست مهتما بحال بالمسألة نفسها , فاعتقادي أن مثل هذه الأمور التي تملأ كتب العقيدة الإسلامية هي مسائل لا معني لها . فهي تنتزع آيات قرأنية و أحاديث نبوية من سياقها الأدبي الذي تهدف بلاغياته إلي إثارة الوجدان و الخيال و إضفاء معني النظام علي الكون و التعبير عن العظمة و القدرة الإلهيتين و تأكيد المسؤولية الإنسانية و تدعيم الشعور الأخلاقي ,و يبدو ظاهرا فيها أنها ضرب للمثل ذو غرض تربوي... ثم يتم عبر مماحكات لغوية تحريف هدف هذا الخطاب ليستدل من ألفاظه استدلالات وجودية تتعلق بطبيعة الله أو عالم الغيب أو بالسيناريو التفصيلي ليوم القيامة !
يستوي في ذلك أهل الحديث النصيون و المعتزلة العقلانيون و ما بينهما , في تجاهل لحقيقة أن اللغة التي مردها للخبرة و الاتفاق الإنساني لا يمكن استخدامها إلا مجازا في التعبير عما يقع خارج نطاق هذه الخبرة و هذا الاتفاق !
كما لا يهمني أيضا مناقشة موضوعية استدلال المؤلف علي ما انتهي إليه .
فمنطق المؤلف ليس جديرا بالمناقشة بأية معايير علمية شرعية أو لغوية . فالسيوطي أطاح ابتداءا فيما كتب بقاعدة ثابتة في فقه اللغة العربية , و هي أن الخطاب الموجه لجماعة الذكور و الإناث يأتي عادة بصيغة المذكر , و هو يماري في هذا غير مبال بكون منطقه هذا ينتهي حتما إلي كون معظم النصوص الدينية لا تعني المرأة في شيء لأن الأمر أتي بصيغة المذكر .
ما هو جدير بالاهتمام كما يبدو لي , هو الجانب النفسي و الاجتماعي فيما يخص النظرة للمرأة , و هوما يطل من وراء منطق المؤلف و ثوبه العلمي . و هو في الحقيقة ما لا يخص المؤلف وحده بل مجتمعه كله , و في القلب منه نخبته و سلطاته المختلفة المسيطرة علي البناء الاجتماعي و المنتجة للثقافة , سواء بمعناها الواسع في اليومي المعيش أو بمعناها الضيق المدون علما و أدبا و فنا .
هذا الجانب النفسي و الاجتماعي هو هنا الذي يفرض علي " النص " الإلهي سطوته و يستخدمه لإعادة إنتاج التمييز ضد المرأة متجاوزا مجال الفقه ( القانون ) إلي مجال العقيدة ليظهر بهذا الشكل الفج .
هذا الجانب يظهر في ثنايا نقاشات المؤلف الذي استند إلي مفاهيم تقليدية جري تثبيتها كمحددات أساسية عند النظر للمرأة : مفاهيم الستر و الحجب و الصيانة , دونية المراة عن الرجل بل و عن العبد الذكر , كل ما يختص من أحكام تخص المرأة تفيد معالجة نقصها و أفضلية الرجل عليها .
اما عن مفاهيم الستر و الحجب و الصيانة فقد جري سحبها علي الدار الآخرة أيضا و اعتبر المؤلف أن حجب المرأة عن مشهد رؤية الله يوم القيامة , هو حجب صيانة لها من زحام حشد المؤمنين ,و سترا لها ! و عند هذه النقطة أضاف محقق الكتاب تعليقا لابن تيمية في الهامش مفاده أن الغيرة موجودة أيضا في الجنة ! انتهي كلام ابن تيمية و يحق لنا أن نتسائل هنا وفق هذه المفاهيم إذا كان من المحتمل أيضا ان تقع جرائم اغتصاب أو قتل في الجنة !
أما عن دونية المراة فالمؤلف لم يدخر وسعا في التذكير عقب كل دليل يذكره أن تفضيل الرجل في الإسلام و خصه بمميزات عدة يجعله لا يستبعد تفضيله أيضا بألوان من الثواب و التكريم في الآخرة كرؤية الله تعالي دونا عن المرأة .
و مما ساقه المؤلف من المميزات ساق أيضا تحريم الحلي و الحرير كشكل من أشكال تفضيل الرجال علي النساء !
بل إنه أفرد فصلا في إثبات أن العبد أفضل من المرأة لعدة أسباب سخيفة كان آخرها أن العبد يمكن أن يعتق ليصير أفضل من المرأة كما أن الرق يزول بالموت بينما الأنوثة فلا !
كلما أوغلت في تأمل مبررات المؤلف يظهر علي السطح ذلك الجانب النفسي جليا , بل ستجده أيضا في ألفاظ المؤلف فهو يسرد انتقادا ما لرأيه ثم يرد عليه بعصبية قائلا – أو كاتبا – " يا مسكين ! ذلك من غباوتك . أونسيت .... الخ "
تلك العصبية هي ملمح مميز لرد الطرف الآخر عند الحديث عن المظالم التي تتعرض لها النساء أو انتقاد التمييز ضدهن . و هذه العصبية تفضح السلوك المتسلط الراغب في الحفاظ علي الهيمنة و الذي يستند دائما في تبريره إلي حجتين : حفظ النظام (كما يراه) ,و طبيعة الأمور ( كما يعتقدها ) . و تستوي في ذلك كل خطابات التسلط .
هنا – في مسألتنا - النظام الاجتماعي يقتضي دائما وجود الطرف الأقوي و الأفضل ليحتفظ بالسلطة و يمنع الفوضي . أما لماذا هو الأقوي و الأفضل .. لأنها طبيعة الأمور ...هكذا !
مؤلف السيوطي هذا ليس أمرا عارضا , بل هو نموذج لتفكير التيار التقليدي و الرئيسي في التراث الإسلامي للأسف الشديد ,و إذا كنت لا تظن ذلك فراجع هنا تفسير الرازي لآية " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا ..." ( سورة الروم 21) و تفسير ابن كثير لقوله :" و لا تؤتوا السفهاء أموالكم "(سورة النساء 5) . و غير ذلك كثير .
مشكلة هذا الخطاب ليست فقط في أنه يلبس إفرازات نفسية و اجتماعية لواقع معين ثوب التفسير الديني لنص مقدس , بل في أنه أيضا يمارس شكلا من أشكال المصادرة و التثبيت علي الخطاب الالهي و النبوي للبشر بوصفه نصا نهائيا مغلقا . فهو يعطي للخطاب ( النصوص ) مهمة تحديد النظام ( الكوني و الاجتماعي ) و حفظه مرة واحدة و للأبد ليصير بذلك نظاما ربانيا شرعيا . كما أن هذا الخطاب يصبح منوطا به تحديد طبيعة الأمور – هنا طبيعة المرأة – كأمر جوهري و ثابت الآن و غدا و للأبد .
ما يجعل مهمة هذا الخطاب سهلة أن النصوص الدينية , إن كانت مقدسة من حيث مصدرها المتعالي عن الزمان و المكان , فهي , بوصفها خطابا , لها جوانب أخري تاريخية و مؤقتة تحمل بصمات المخاطبين و ثقافتهم و لغتهم و واقعهم و ترتيب نظامهم الاجتماعي , فكل خطاب لا يحدد سماته فقط مصدره , بل يحدد سمات هذا الخطاب أيضا طبيعة المتلقي و غرض الخطاب و العلاقة بينه و بين الموجه للخطاب بالإضافة لمحددات الخطاب الزمانية و المكانية .
النزاع حول هذه النقطة ليس هينا في الجدل الإسلامي المعاصر . و لكني لا أظن نصا يفصح عن تاريخيته مثلما أفصح القرآن عن ذلك , فهو نزل مجزئا متجاوبا مع حركة الجماعة المؤمنة ,و كان تحديه مرتبطا ببلاغيات العرب و لغتهم , كثير من آياته نزلت إجابة علي أسئلة و مشكلات آنية . يذكر هنا و هناك أسماء بشر من المؤمنين و المشركين راويا أقوالهم و رادا عليها او مؤيدا لها أو مجيبا علي تساؤلاتهم .لا يمكنك أن تتخيل أن نصا كهذا هو غير ذي صلة بالزمان و المكان و أنه كان يمكن أن يتنزل بصورته هذه في مكان و زمان آخرين .
كما أن تبدل أوامر الوحي و نسخ الآيات بتبدل أحوال الجماعة المؤمنة و مرور الزمن القصير يجعل من القول بمفارقة نصوص الوحي للزمان و المكان قولا غريبا .
و إذا كان ذلك ينطبق علي الخطاب الإلهي فهو بحال أولي ينطبق علي الحكمة النبوية .
لم يكن هناك بد من الاستطراد الطويل السابق . فمشكلات المرأة لا يمكن فصلها عن مشكلات أخري تعترض ثقافتنا . فالتمييز ضد المرأة و الهيمنة علي مصيرها باسم ضرورات ما لنظام اجتماعي تضفي علي ترتيباته قداسة أو حتمية , أو باسم طبيعة المرأة الثابتة الجوهرية التي لا علاقة لها بالقالب الذي وضعها فيه مجتمعها و ثقافته السائدة , أو بدعوي الفوارق لصالح الرجل او ما فضل به عليها .. كل ذلك يجد في الدين معينا لا ينضب لتكريس دعاواه . و هو يتخذ نفس الاستراتيجية دائما . تثبيت هيمنة واقع اجتماعي معني و إلباسه ثوب القداسة و الديمومة و الاستعانة بنص ديني للتأكيد علي ذلك . مع تثبيت النص الديني و فصله عن سياقه التاريخي و استخدامه لاضفاء الربانية و الشرعية علي هذا الواقع للدفاع عنه ضد التغيير او لاستعادته كاملا مرة أخري كما يجب ان يكون أو كما كان في اللحظة الذهبية المتخيلة .
لا بد من الاعتراف أن الخطاب الديني بصورته الحالية و الكيفية التي يتعامل بها مع النصوص و مع الواقع لا يدع مهربا من القول بأنه يقف حائلا دون وضع أفضل للنساء في ثقافتنا و مجتمعاتنا . بل لا أعتقد أنه من قبيل المبالغة أن نقول أن كثيرا من محاولات " العودة إلي الإسلام " فيما عرف بالصحوة الإسلامية أو الإحياء الإسلامي قد أدي بنا أيضا إلي عودة بعض المظاهر الاجتماعية و الثقافية للجاهلية الأولي . هذا إذا كنا تخلصنا منها أساسا . و لكن الاكيد أن هذه المحاولات التي تتجاهل جدل الوحي و التاريخ قد ألبست مظاهر الجاهلية هذه – مثل النظرة للمرأة - ثوب الإسلام و أضفت عليها شرعية بل و أثارت نحوها حنينا , في مفارقة كبيرة .
بداية الطريق في رأيي الفصل بين ما هو أساسي من قيم و دعائم أخلاقية لحياة الإنسان و وجوده . باعتبارها الموضوع الأساسي للدين و عمودا فقريا ناظما لما هو متغير من قوانين و أعراف و تقاليد و نظم إنسانية ... و بين ما هو تاريخي من أحكام و تشريعات تمثل تطبيقات لهذه القيم و الدعائم الأخلاقية في لحظة تاريخية معينة . و إذا كانت هذه التطبيقات مثلت خطوة كبيرة نحو التحقق لما تحمله من قيم . فإن معني إستخلاف الإنسان من قبل الله هو قدرته علي تفهم هذه القيم و تمثلها و السير خطوات أخري وفق هداها .
ماء النهر الذي جري منذ سنوات كان آنذاك هو النهر , لكنه الآن ليس هو . و محاولة الاحتفاظ به في مكانه بإعتراض مجري النهر يعني مستنقعا آسنا . و الحياة تتطلب دائما ماءا جديدا جاريا .