20 April 2006

" المدينة خلفنا متلألئة "






" حين يشتد علي الجوع أخرج إلي حي " عين قطيوط " . أفتش في المزابل عن بقايا ما يؤكل . وجدت طفلا يقتات من المزابل مثلي . في رأسه و أطرافه بثور . حافي القدمين و ثيابه مثقوبة ....
عثرت علي دجاجة ميتة. ضممتها إلي صدري وركضت إلي بيتنا . أبواي في المدينة , أخي في ركن ممدد, نصفه الأعلي مرفوع فوق وسادة . يتنفس بصعوبة . عيناه الكبيرتان ترقبان مدخل الباب . يري الدجاجة . تتيقظ عيناه . يبتسم . يتورد وجهه النحيل .يتحرك كأنه يفيق من إغماء .يسعل فرحا . أعثر علي السكين ....
لماذا لا يفور الدم الآن من من عنق هذه الدجاجة كما رأيته يفور من عنق الكبش ؟ شرعت أريشها .
سمعت صوتها ( الأم ) : ماذا تفعل ؟ من أين سرقتها ؟
- عثرت عليها مريضة .ذبحتها قبل أن تموت .إسألي أخي.
- مجنون ! ( خطفتها مني غاضبة ) . الإنسان لا يأكل الجيفة .
أخي و أنا تبادلنا نظرات حزينة . كلانا أغمض عينيه في انتظار ما سنأكله . "


" أسير أمام أبي . يهش علي الكلاب بالحجارة . حين تقترب منا يستعمل العصا التي التقطها . يسب الكلاب و يسبني .
- إمش أمامي يا هذا الخواف . إمش لتأكل أمك القحبة.
تعثرت و سقطت . هوي علي بالعصا . عويت . شتمته في خيالي .يدفعني برأس العصا إلي الأمام . التقطت عصية لأطرد بها الكلاب . أعفس علي الحجارة الناتئة و نبات القراص . يضربنني و يلعنني جهرا , أضربه و ألعنه في خيالي . لولا الخيال لاتفجرت . "




"جنون الجوع و القيظ يفقدانني رؤية الأشياء في وضوح . التقطت سمكة جافة ومداسة . شممتها . رائحتها مقيئة . سلختها . مضغتها باشمئزاز .طعمها نتن . أمضغها و أمضغها دون أن أقوي علي بلعها . حجارة ناتئة تؤلم أخمص قدمي . أمضغ السمكة كعلكة . تفلتها .رائحتها بقيت في فمي .ألوك فراغ فمي . ألوك و ألوك . أمعائي تبقبق . دخت و تدفق الماء الأصفر من فمي و أنفي . تنفست بعمق . قلبي يخفق بعنف . .. العرق يسيل علي وجهي . يسيل و يسيل . فكرت في الرفيق الذي أنقذني ليلة أمس من دورية حملة القبض علي المتشردين . لماذا لم يوقظني؟ ربما حاول فلم أستيقظ . لم يعرف أحدنا اسم الآخر . "



" – سرقوني !
خففنا سرعتنا . أضاف :
- أنت محظوظ
كنا نلهث
- ماذا تعني ؟
-إنهم يغتصبون إذا لم يجدوا ما يسرقون ."


" كنا نتجه إلي إحدي ضواحي المدينة . إنه حساس ( شاذ ) , هذا لا شك فيه . أوقف السيارة في مكان مظلم . في طريق مشجرة . المدينة خلفنا متلألئة .. أشعل ضوء السيارة . ها هي الجولة القصيرة تتوقف هنا . لامس فتحة سروالي بحركة لطيفة . الجولة الحقيقية تبدأ . يفك زرا تلو زر بمهل . أضاء ضوء السقف و انحني عليه ..
....
زررت فتحة سروالي . شبكت ذراعي حول صدري كأن شيئا لم يحدث . إن النساء كثيرات . لماذا هو الإنسان لوطي ؟ هكذا فكرت .
.....
في طريق عودتنا أعطاني خمسين بسيطة و أنزلني قرب المكان الذي أخذني منه .
حرفة جديدة تضاف إلي الحرفتين الأخريين : التسول و السرقة . أخرجت ورقة الخمسين بسيطة و فصحتها . أعدتها إلي جيبي .. هكذا يقحب الناس إذن . "



" بالمال يستطيع الإنسان أن ينكح العالم . هذا ما قاله حشاش في مقهي الطرانكات "



" ابتسمت و هي تفحصنا . و جهها يلمع بالمساحيق و عيناها مكحلتان . نظر إلي رفيقي . أكدت للمرأة أننا لم نشرب كثيرا . فقط نحن مرحان و نريد أن ننعس معها كما فعل رفاقنا في الحي . هي تفحصنا ينظرات باسمة و نحن نخاف أن ترفضنا . قالت لنا : طيب , من سيبدأ الأول ؟ "



" أحيانا كان ينتصب واقفا و يترك الصحيفة أو المجلة من يده و يتحول شرحه إلي خطبة سياسية , يستعرض فيها ثقافته و ذكاؤه في تحليل الأحداث و يستشهد كثيرا بآيات من القرآن و أحاديث الرسول و أقوال الصحابة . حين يطلب منه أحدهم شرحا أكثر وضوحا لإحدي الأفكار يجد الفرصة ليتعالي علينا , نحن الأميين الجهلاء , فيزداد شرحه غموضا . كان دائما علي صواب في نظرنا . لم يكن بعض الرواد يفرق دائما بين قوله و قول الله . كثيرا ما يقول أحدهم :صدق الله العظيم , فيصحح له :" أستغفر الله العظيم , هذا ليس قول الله , إنما هو قولي .... "



" قال : عمي مات .
- مسكين
- قتل نفسه هو و زوجته و أطفاله الثلاث .
- كيف حدث ذلك ولماذا ؟
-قضوا أياما بدون أكل . لم يرد هو و روجته أن يطلبا من أحد الجيران شيئا من القوت . بنيا, من الداخل , بابا آخر من الحجر و الطين و ماتوا . "



" دخل كمال ( التركي ) يترنح . حول عينه اليسري هالة بنفسجية . قال لي :
- لقد هاجمني اثنان في بورديل بن شرقي ( بيت دعارة مرخص )
- لماذا ؟
- لقد اعتبروني نصرانيا , لم يصدقوا أني مسلم . قالا لي : " كيف تكون مسلما و أنت لا تتكلم العربية " ؟
- لكن لماذا كل هذا ؟
- كنت أريد أن أدخل مع فتاة مغربية أنام معها ! "


" بدأت الجموع تتجه نحو اللافتات العمومية . كان هناك ركامات من الحجارة و طريق محفرة تعمل فيها الأشغال العمومية . أذخوا يحشون جيوبهم و قلنسوات جلابيبهم بها . تفرقوا في أربعة اتجاهات رئيسية . التخريب بدأ في كل مكان عبر السوق .. حجر يهشم ساعة كبيرة ثابتة في أعلي جانب باب متجر هندي . . واجهة متجر الأحذية يكسر . قلت للكبداني : لنأخذ بعض الساعات و آلات التصوير ...(..) انظر الآخرين كيف يأخذون الأشياء . "




"رجال الأمن يطلقون النار علي المغاربة
- لماذا
- بسبب ذكري 30 مارس "



" لقد اخترق الرصاص ظهره و بطنه
- إني أري كل شيء
- لم أر قط إنسانا يموت بهذا الشكل إلا في السينما
- ها أنت تراه الآن
- لا بد أنهم يقتلون الناس بهذا الشكل في أماكن أخري
- و ماذا تظن, هل سيوزعون عليهم الحلوي "



" - و أنت أين قبر أخيك ؟
نظرت نحو السور الذي دفن قربه أخي و قلت له :
- هناك .. لا يمكن العثور عليه . إننا لم نبن له قبرا قبل أن نرحل إلي تطوان .. كنا فقراء "


" - لقد عادت الحالة إلي طبيعتها بعد الحادث المشؤوم
- لكن الحالة السياسية ليست بخير في المغرب كله . لابد أن تحدث حوادث أخري أعنف من حادث 30 مارس "


" من المحتمل أن تظهر جثث أخري "

محمد شكري
" الخبز الحافي "
سيرة ذاتية روائية





No comments: