الصورة لـ«سامح مشالي» |
في الأيام الأخيرة التي سبقت الجولة الثانية من انتخابات
الرئاسة كدت أصاب بالتسمم. كان سباقا محموما على الظهور التليفزيوني قد بدأ
بين البؤس والتعاسة ممثلين في مرسي وشفيق.
كانت الرؤية المتكررة المكثفة لوجهيهما أسوأ أثرا على نفسي من انهماك الناس في تحديد أيهما أقل سوءا.
الظهور المكثف لمرسي منفردا أيضا لا يزال مثيرا للغثيان ومسببا لآثار جانبية سيئة، رغم محاولاته تشتيت انتباهنا عن طريق أصابعه الكثيرة الحقيقية والمتخيّلة، ورغم محاولات باسم يوسف الأسبوعية لصنع ملهاة مسليّة من المأساة المخجلة.
كانت الرؤية المتكررة المكثفة لوجهيهما أسوأ أثرا على نفسي من انهماك الناس في تحديد أيهما أقل سوءا.
الظهور المكثف لمرسي منفردا أيضا لا يزال مثيرا للغثيان ومسببا لآثار جانبية سيئة، رغم محاولاته تشتيت انتباهنا عن طريق أصابعه الكثيرة الحقيقية والمتخيّلة، ورغم محاولات باسم يوسف الأسبوعية لصنع ملهاة مسليّة من المأساة المخجلة.
ولأن الحرص على سلامتنا النفسية ضرورة أنصح من حين لآخر أن يكون هدفا
لنا أن نتعرض لوجوه قد تعني لنا شيئا أجمل وألطف من رؤية وجوه البؤس التي
تتسلط على واقعنا.
ولذلك فإني مدين بالكثير من اللحظات الجميلة لرفاق الثورة
الذين أبدعوا الأعلام البيضاء الضخمة الجميلة لوجوه الشهداء: خالد سعيد،
سيد بلال، عماد عفت، مينا دانيال، أنس، جيكا. ومؤخرا: الحسيني أبو ضيف.
رأيت العلم الذي يحمل وجه الحسيني أبو ضيف لأول مرة أمام
محكمة المنشية في الإسكندرية السبت الماضي في الوقفة التضامنية مع حسن
مصطفى، المحكوم عليه بالحبس سنتين لأن يده طالت وجه وكيل نيابة فيما زعموا.
ولكنني مدين أكثر لوجوه رفاق الثورة أنفسهم الذين مازالوا على
قيد الحياة والثورة، وأتوا من كل محافظات مصر ليجددوا الولاء لحرية وكرامة
الجميع وكل واحد منهم، ويرفعوا الأعلام التي تحمل وجوه الذين فارقوا
عالمنا على طريق الحرية والكرامة والعدل، لكي لا تسر الناظرين ممن فارقوا
طريق الحرية والكرامة والعدل، ولكن لا يزالون يعكرون عالمنا.
ابتسمت لمرأى وجه الراحل محمد يسري سلامة معنا هناك أمام
محكمة المنشية. تخيله أحبابه لو كان حيا لكان معنا أمام المحكمة وليس مع
المجموعات التي توزّع مطويات كراهية الشيعة في شوارع الإسكندرية. فصنعوا من
وجهه قناعا ورقيا ارتدوه ورفعوه.
منذ رحيل يسري سلامة وأنا أفكر في مراجعة مقالاته وما كتبه.
كان انطباعي دائما أنه معلّق في منطقة تفكير وحيرة يعبر عنها في مقالاته
التي لم يعجبني معظمها أو أستوعب ما ترمي إليه بوضوح.
ولكني الآن على ضوء ذلك الحب والامتنان الذي أظهره كل من شاركوا وداعه
أعرف أن تجربته وحضوره الشخصي في ساحات ثورة لم أشهدها في الإسكندرية ووسط
أعضاء حزب الدستور هي أشياء أكثر دلالة من الكلمات والمقالات. لها نفس
الدلالة التي لوجوه رفاق الثورة المؤتنسين بأخوتهم الجديدة التي يصنعونها
بحضورهم الجسدي وسط وجوه الشهداء على الأعلام البيضاء الشفيفة المرفرفة
حولهم.
تذكرت ما قاله محمد يسري سلامة في أحد مقالاته
عن الشد والجذب بينه وبين صديق مسيحي بسبب عدم اهتمام سلامة بالاحتجاج على
ما حدث لمسيرة ماسبيرو. وكان أجمل ما في المقال اعترافه بالشد والجذب بين
رفيق الثورة المسيحي - بدلا من الإنكار الذي يغطي واقعنا القبيح بأغلفة
الوحدة المزيفة – بل اعترافه بأن صديقه المسيحي «كان معه كل الحق». نادرا
ما يقول الناس في مقالاتهم تلك العبارة.
إعلان سلامة عدم ارتياحه لاحتجاج الأقباط وحدهم بشعارات
مسيحية – الذي وضعه قيد التفكير – كان قرين إعلانه رفض تظاهر الإخوان
والسلفيين وحدهم تحت شعارات إسلامية، وليس كالسلطويين الطائفيين
الذين دافعوا عن استخدام الشعارات الدينية في الانتخابات وبعد أيام
انتقدوا المسيحيين لأنهم ليسوا كمسيحيي السويد يمكنهم أن يحتجوا ضد
اعتداءات طائفية عليهم تحت شعارات وطنية علمانية.
ربما لهذا كانت رحلة سلامة من حزب النور لحزب الدستور إعلانا
عن سلفي يقرر خوض مغامرة أن تكون مسلما سلفيا، ولكن تضع تحت مجهر التفكير
والتجريب والتساؤل التراث الممتد للتفكير السلطوي الطائفي المرتبط بالتدين
السلفي. يمكنك أن تكون سلفيا، متشددا أو متطرفا - كما يقال – ولكن ذلك
اختيارك لنفسك، أما الآخرون فلهم اختيارهم، وأنت وهم شركاء هذه اللحظة وهذا
المكان.
وجه سلامة الذي أراه صورة بروفايل في صفحات أصدقاء مسيحيين
ومسلمين وغير متدينين هو إعلان آخر أن هذا الاستقطاب وهذه المعركة التي
تجري الآن ليست بين أنصار الدين وآخرين، ولكنها بين أنصار تفكير سلطوي
طائفي وآخرين. تشبثهم بصورة سلامة ليس كيدا للسلطويين الإسلاميين – الذين
هزّهم ذلك وكان واضحا في تعامل بعضهم مع رحيله – ولكنه كان احتفاء بالأخوة الجديدة التي بدأت تتشكل في ساحات الثورة.
ظهور زوجته كان ملمحا آخر بدا لي بالغ الدلالة، وكان أيضا سببا في تخبط أبلغ في ردود فعل السلطويين الإسلاميين. فالزوجة التي تحدثت عن خلافها في الرأي مع زوجها في مسألة "الحجاب" واحترامه لحريتها في عدم ارتداء غطاء الرأس، كانت صدمة للسلفيين، الذين أعتقد أن معظمهم لا تزال لديه مسألة سلطة الرجل على المرأة من قبيل الثوابت الأهم - راجع "لو كفر زوجها كفرت معه" - ومسألة جسد المرأة وما ترتديه هي عندهم أهم ما نزلت من أجله الأديان والرسالات والأنبياء.
تخلي سلامة السلفي عن الجانب السلطوي في علاقته بزوجته واحترامه لحريتها كانا صدمة بالغة لمن يعتنقون السلطوية مع وراثتهم للإسلام، وكانا استثناء فريدا ودالا على أصالة ما يحاول أن يختبره ذلك الرجل ويعلن انحيازه له.
تخلي سلامة السلفي عن الجانب السلطوي في علاقته بزوجته واحترامه لحريتها كانا صدمة بالغة لمن يعتنقون السلطوية مع وراثتهم للإسلام، وكانا استثناء فريدا ودالا على أصالة ما يحاول أن يختبره ذلك الرجل ويعلن انحيازه له.
يعتقد فيلسوف يهودي اسمه إيمانويل ليفيناس أن تجربة "وجه الآخر"
هي التجربة المؤسسة لفكرة «الأخلاق». ذلك الوجه المحدق فيك عندما تحدق فيه
هو ما يخبرك أن هذا الآخر هو مثلك تماما. وأن ما بينكما هو علاقة نديّة
والتزام متبادل.
من لم ينزل بجسده وقلبه في ساحات الثورة ويتعلم ذلك المعنى:
«أنه واحد وأن الآخر مثله وأخوه»، لم يتعلم شيئا غالبا، وعاد إلى بيته
محتفظا بعقيدته الطائفية وفخره بكثرة «إخوانه» من نفس الدين والطائفة
والتنظيم، وعاد مخلصا لمشاريع سيادة العالم كما تخبره الكتب التي على رف
مكتبه أو كما أخبره شيخه.
أما الشيخ محمد يسري سلامة فقد تعلم شيئا واختبره وأعلن
انحيازه لما ذاق وعرف، وعبّر عن حيرته وتحيّره أمام بعض ما ورثه من أفكار
لم يجد حلاوتها في وجوه الآخرين.
No comments:
Post a Comment